شمسولوجي - منتدي طلبة طب عين شمس
السلام عليكم

نورتنا يا ....

لو هتتصفح المنتدي كزائر .. توجة للقسم اللي انت عايزة من المنتدي ...

للتسجيل .. اتفضل افعص علي زرار التسجيل ..

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

شمسولوجي - منتدي طلبة طب عين شمس
السلام عليكم

نورتنا يا ....

لو هتتصفح المنتدي كزائر .. توجة للقسم اللي انت عايزة من المنتدي ...

للتسجيل .. اتفضل افعص علي زرار التسجيل ..
شمسولوجي - منتدي طلبة طب عين شمس
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

قصة المدينة

صفحة 3 من اصل 4 الصفحة السابقة  1, 2, 3, 4  الصفحة التالية

اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 3 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:41 pm

إجلاء بني النضير وعودة الهيبة للمسلمين


خيانة بني النضير

إجلاء بني النضيرأخذ الرسول مجموعة من الصحابة فيهم أبو بكر وعمر وطائفة من الصحابة، وذهبوا يطلبون من بني النضير أن يساعدوهم في دفع دية الرجلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري - - عن طريق الخطأ؛ لعهد الأمان الذي كان الرسول أعطاهما، وكان بين بني النضير وبني عامر عهدٌ وحلف، فلما أتاهم ، قالوا: "نعم يا أبا القاسم، نعينك على ما أحببت".



واتفق اليهود على قتل الرسول قائد الدولة الإسلامية، وهو بين أيديهم ومن السهل أن يتخلصوا منه، والمسلمون في أزمة، فهم يرون المسلمين وقد أصابهم عدة مصائب، منها مأساة بئر معونة والرجيع، وفي فعلتهم هذه مخالفة صريحة للعهد الذي بينهم وبين الرسول .



قالوا: "فمن يعلو على هذا البيت؛ فيلقي عليه صخرة ويريحنا منه؟" فانتدب لذلك عمرو بن جِحَاش، فقال: "أنا لذلك". فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال، والرسول في نفرٍ من أصحابه، فيهم أبو بكر وعمر وعليّ جميعًا، فأتى رسول الله الخبر من السماء بما أراد القوم؛ فقام وخرج راجعًا إلى المدينة حتى لا يلفت الأنظار إليه. فلما رآه الصحابة يسير نحو المدينة قاموا في طلبه، فلقوا رجلاً مُقبِلاً من المدينة فسألوه عنه، فقال: رأيته داخلاً المدينة. فأقبل أصحاب رسول الله حتى انتهوا إليه، فأخبرهم الخبر بما كان اليهود يريدون من الغدر به، فبعث رسول الله محمد بن مسلمة يأمر بني النضير بالخروج من جواره وبلده، ولا يساكنوه، وقد أجَّلهم عشرة أيام، فمن وجده بعد ذلك ضرب عنقه. فبعث إليهم أهل النفاق بقيادة عبد الله بن أُبيّ بن سلول يحرضونهم على المقام ويعدونهم النصر[1]، يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لاَ يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ} [الحشر: 11، 12].



المنافقون خطر كبير على المسلمين؛ لأنهم يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان، يقول تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145].



فالمنافق أشد عذابًا يوم القيامة من الكافر.



وقد قص علينا القرآن الكريم بعض صفات اليهود حتى نكون على حذرٍ عند التعامل معهم، يقول الله تعالى: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ} [الحشر: 13]. إنهم لا يخافون الله، ولا يجلونه، وهو الذي خلقهم ورزقهم، ولكنهم يهابون المسلمين أكثر منه عزَّ وجلَّ.



أيُّ نوعٍ من الناس هؤلاء اليهود؟! يقول تعالى عنهم أيضًا: {لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ} [الحشر: 14]. ويقول تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 96]. لتجدن حرص اليهود على الحياة وإنْ كانت هذه الحياة ذليلة ومهينة، المهم أن تكتب لهم الحياة.



الموقف صعب للغاية، ولكن لا بد من المواجهة مع بني النضير مهما تكن النتائج. وبعد بني النضير هناك لقاء بين المسلمين وقريش عند بدر في شوال 4هـ.


حصار بني النضير

فلما أرسل المنافقون إلى اليهود قويت عند ذلك نفوسهم، وحمي حُييّ بن أخطب، وبعثوا إلى رسول الله أنهم لا يخرجون، ونابذوه بنقض العهد، فعند ذلك أمر الناس بالخروج إليهم، وأمر بالتهيؤ لحربهم، والمسير إليهم؛ لتأديبهم جزاء غدرهم وحقدهم، فحاصرهم المسلمون ست ليال، وفي رواية خمس عشرة ليلة، ولكن الأصح أنه ست ليال، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم وذلك في شهر ربيع الأول، وانسحب المنافقون ولم ينصروا اليهود، وتركوهم يواجهون المصير المحتوم، وتحصنوا في الحصون، فأمر رسول الله بقطع النخيل وحرقها، فنادوه: "أن يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد، وتعيب من صنعه، فما بال قطع النخيل وتحريقها".



وقذف الله في قلوبهم الرعب، فقد نصر الله المسلمين في ذلك اليوم بالرعب، فهو جندٌ من جنود الله، فسأل يهود بني النضير رسولَ الله أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة. ولم يؤمن من اليهود من قبيلة بني النضير إلا يامين بن عمير، وأبو سعد بن وهب[2]، من هذه القبيلة الكبيرة لم يؤمن إلا رجلان فقط! فحقًّا هؤلاء هم اليهود، وصدق قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82].



وهذا هو عداؤهم للإسلام، وخرج اليهود من المدينة إلى خيبر في شمال الجزيرة العربية، وخرج المسلمون من حصار بني النضير أكثر قوة، وارتفعت مكانتهم في شبه جزيرة العرب.


استعادة المسلمين لهيبتهم في الجزيرة
تأديب أهل نجد

بعد إخراج بني النضير من المدينة بعث الرسول السرايا إلى بعض جهات الجزيرة، وخرج الرسول بنفسه على رأس جيش لتأديب أهل نجد الذين أوقعوا بالمسلمين في بئر معونة وماء الرجيع، وسبحان الله! لقد فرَّ أهل نجد من أمام جيش المسلمين، وعندما عاد الرسول إلى المدينة بدأ يُعِدّ العُدَّة للخروج للقاء قريش عند ماء بدر، حسب الاتفاق السابق مع المشركين، فقد اتفقوا مع أبي سفيان على هذا الموعد.


لقاء أبي سفيان والذهاب لدومة الجندل

وخرج رسول الله إلى بدر ومعه ألف وخمسمائة من أصحابه وعشرة أفراس، وذلك في شهر شعبان لميعاد أبي سفيان، واستعمل على المدينة عبد الله بن رواحة الخزرجي ، وحمل اللواء علي بن أبي طالب .



وخرج أبو سفيان في قريش وهم ألفان، ومعهم خمسون فرسًا حتى نزل موضعًا قريبًا من مَرِّ الظَّهْران، ثم بدا له الرجوع، فقال: "يا معشر قريش، إنه لا يصلحكم إلا عام خصب، ترعون فيه الشجر، وتشربون فيه اللبن، وإن عامكم هذا عام جَدْبٍ، وإني راجع فارجعوا". فرجع، ورجع الناس، فسمَّاهم أهل مكة جيش السَّوِيق، يقولون: إنما خرجتم تشربون السَّوِيق[3].



هذه حيلة دبرها أبو سفيان لأنه لم يكن يريد حربًا، بل خرج لئلاّ يقال أخلف وعده، ولم يعارضه أحد من قريش في الرجوع، فكان الجيش كذلك لا يريد الحرب، وكان أبو سفيان قد بعث إلى المدينة رجلاً اسمه نُعَيم؛ ليرجف أصحاب رسول الله بكثرة العدو، ويحملهم على عدم الخروج؛ وذلك ليكون له عذر في الرجوع إلى مكة، ولكن رسول الله لم يبالِ بما سمع من كثرة عدد الجيش، وعلم ما يريده المشركون من تثبيط همة الناس، فقال: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ لَمْ يَخْرُجْ مَعِي أَحَدٌ لَخَرَجْتُ وَحْدِي"[4].



وأقام ببدر ثمانية أيام ينتظر أبا سفيان ليثبت للجميع أن المسلمين لا يخافون من قريش أو أي قوة أخرى تريد الوقوف أمام المسلمين، وفي هذه المدة باع المسلمون ما معهم من التجارة فربحوا كثيرًا، وسمع الرسول أن بعض القبائل في دومة الجندل تُغِير على المسلمين وتقتل منهم، فقرر الذهاب إلى دومة الجندل، والمسافة بين المدينة ودومة الجندل أكثر من أربعمائة وخمسين كيلو مترًا. وهناك قام الرسول بتفريق مجموعات من الصحابة رضوان الله عليهم لتأديب هذه القبائل، ومع أنه لم يلق كيدًا، ولم يدخل في قتال مع القبائل، إلا أن الذهاب إلى دُومة الجَنْدل وفرار القبائل يُعَدّ انتصارًا للمسلمين دَوَّى في الجزيرة؛ وبذلك عادت الهيبة إلى المسلمين في الجزيرة العربية كلها، وثبتت دعائم الدولة الإسلامية مرة أخرى، وسمع الناس بالجيوش الإسلامية التي تتحرك هنا وهناك، تُعاقب من يتعدى عليها أو ينقض العهد معها.



د. راغب السرجاني

[1] ابن كثير: السيرة النبوية 3/146.

[2] ابن كثير: السيرة النبوية 3/148.

[3] ابن سيد الناس: عيون الأثر 2/31.

[4] الواقدي: المغازي، تحقيق مارسدن جونس، عالم الكتب، بيروت، 1/327.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 3 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 3 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:42 pm

تحالف الأحزاب وأثره على المدينة


اليهود وتكوين هذا التحالف

غزوة الاحزابتحرك الغل والحقد والحسد في قلوب اليهود، وبالذات أولئك الذين أجلاهم الرسول مؤخرًا من بني النضير، وكانوا كما وصفهم الله تمامًا في سورة المائدة: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82].



فهم الأشد مطلقًا في عداوتهم للمؤمنين، وقدم الله عداوتهم على عداوة المشركين (على فظاعة عداوة المشركين)؛ لأن اليهود لا يكتفون بكرههم وحقدهم، بل يؤلبون الفتنة في كل مكان، ويحركون غيرهم لحرب المسلمين، وغزوة الأحزاب خير مثال على ذلك.



قام فريق من يهود بني النضير والذين كانوا يستقرون في خيبر، وعلى رأسهم حيي بن أخطب النضري، وسلام بن أبي الحقيق النضري، وكنانة بن الربيع النضري، وغيرهم من زعماء اليهود، وكان الوفد يزيد على عشرين يهوديًا، واتجه هذا الوفد إلى قبائل العرب يجمعها ويحزبها ويشجعها على الائتلاف والتحالف لحرب المسلمين.



وكان هدفهم استئصال المسلمين تمامًا, وإنهاء الوجود الإسلامي من الأرض بالكلِّيَّة، لا مجرَّد الانتصار في غزوة عابرة، ذهب هذا الوفد الشيطاني إلى قريش، ودارت بينه وبينها مفاوضات خطيرة، فالوفد اليهودي طلب صراحة من قريش أن يتجمعوا لحرب المسلمين في المدينة المنورة، وأن على قريش أن تجمع حلفاءها وأنصارها من القبائل المختلفة، وسيتولى اليهود جمع القبائل الأخرى البعيدة عن قريش في المكان والبعيدة عن قريش في النسب، وسيقوم اليهود أيضًا بالمساعدة والنصرة للجموع المشركة في حربها ضد المسلمين.



هنا استغلت قريش الفرصة لتسمع من اليهود إجابة عن سؤال حيّر قريش قبل ذلك كثيرًا وما زال يحيرها، وهو أي الفريقين خير مقامًا وأحسن منهجًا؟ أهم أم المسلمون؟



والمشركون في قرارة أنفسهم يعلمون أن محمدًا جاء بالحق، وأن دينه هو الدين الذي يجب أن يتبع، لكنهم اتبعوا أهوائهم، وأفسدوا فطرتهم، وخافوا على مصالحهم، فقرروا أن يحاربوا الإسلام إلى النهاية ويصدوا عن سبيل الله إلى آخر مدى.



وهم مع ذلك لا يقتنعون بما في أيديهم من مناهج، وأين الثرى من الثريا؟ وأين السماء من الأرض؟ وأين عبادة الله I ملك السموات والأرض وما بينهما من عبادة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى؟



ولذلك فهم أحوج ما يكونون إلى من يقول لهم: مناهجكم صحيحة، ومعتقداتكم سليمة، فانتهزوا الفرصة وقالوا لليهود: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟



سؤال مباشر يعبر عن مدى الاضطرابات الداخلية في نفوس الكافرين.



واليهود هم اليهود، يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هو من عند الله، واليهود أهل بهت وكذب وضلال، لقد قالوا في وقاحة وجحود: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه.



ووالله إن المرء ليعجب من هؤلاء وهؤلاء، فالعجب كل العجب من اليهود الذين حالفوا المشركين على وثنيتهم، وتركوا المسلمين وهم أقرب إليهم، وأيدوا باطل الأصنام وخذلوا حق الإسلام، وصدوا عن سبيل الله وهم يعلمونه، وكذبوا رسول الله وهم يرون دلائل نبوته وآيات صدقه كما جاءت بذلك كتبهم.



والعجب أيضًا كل العجب من هؤلاء المشركين الذين عايشوا رسول الله عن قرب، وامتحنوا بأنفسهم أخلاقه وصدقه وأمانته وعفافه، وعلموا علمًا يقينيًا أنه لم ولن يكذب أبدًا، وشهدوا جميعًا بذلك في أكثر من موقف، ثم هم الآن يكذبونه، ويصدقون اليهود مع علمهم التام بأنهم قوم بهت وخيانة.



وفي هذا الموقف المزري الذي وقفته قريش مع اليهود أنزل الله آيات بينات تكشف لنا خبايا نفوسهم.. قال I: {أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء:51، 52].


وقفات مهمة

واتفق اليهود مع مشركي قريش، واجتهد كل فريق في إتمام مهمته على الوجه الأكمل، لكن قبل أن نترك هذه النقطة لنا فيها ثلاث وقفات مهمة:



أولاً: وضح لنا في هذا الموقف أحد أساليب اليهود الرئيسية في الكيد والمؤامرة، وهو الكذب وتزييف الحقائق وتزيين المنكر، وإن كان هذا قد حدث بهذه الصورة البسيطة في هذا الموقف، فهو يحدث بصورة أكثر تعقيدًا في زماننا الآن، وذلك عن طريق امتلاك وسائل الإعلام المختلفة في العالم، ومحاولة تزييف الحقائق عن طريقها، والذي يراجع تاريخ اليهود وواقعهم يجد اهتمامهم بجمع الوسائل الإعلامية من صحافة ومجلات وفضائيات ووكالات أنباء ومواقع إنترنت وجهات إعلامية بحثية وغير ذلك، يجد هذا الاهتمام مكثفًا وهائلا، وعن طريق هذا الزخم الإعلامي الضخم يغيرون أفكار الناس حسبما يريدون، ولا بد كما كشف القرآن ضلالهم بهذه الآيات أن يركز المسلمون الآن جهودهم لكشف هذه الادعاءات اليهودية، والرد عليها.



ثانيًا: أن اليهود وضعوا أيديهم في يد المشركين على اختلاف أيدلوجياتهم وسياساتهم ومناهجهم الفكرية وعقائدهم الدينية، وقبل المشركون بهذا التحالف مع كونهم لا يؤمنون باليهودية ولا بالرسالات السماوية بصفة عامة، ولكن كما يقولون: الكفر ملة واحدة. واجتماع الأحزاب المختلفة على اتساع مشاربها، واختلاف هويتها سنة من سنن مقاومة الحق، والأمثلة في التاريخ أكثر من أن تحصى، وكذلك في واقعنا الآن، وعلى المسلمين أن يفقهوا ذلك جيدًا، وليس أدل على ذلك من اتحاد اليهود والنصارى في حرب المسلمين مع شدة كراهية اليهود للنصارى، وشدة كراهية النصارى لليهود.. قال I: {وَقَالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ اليَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الكِتَابَ} [البقرة:113].



ومع ذلك فعند حرب الإسلام تذوب هذه الفوارق والعداوات، وتبقى الرغبة المشتركة في هدم الإسلام والكيد لأهله.



ثالثًا: أن اليهود حركوا قريشًا وسيحركون غطفان، وسيجمعون عشرة آلاف مقاتل، ومع ذلك فهم لن يشاركوا في الحرب بصورة مباشرة إلا عند الاضطرار في النهاية.



وهذا أسلوب يهودي قديم، وما زال يستخدم إلى الآن، فهم يحركون جيوش الغير، وطاقات الدول الأخرى، ولا يظهرون هم في الصورة، وهذا يحفظ لهم البقاء، ويحمي أرواحهم وأموالهم.. {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة:96].



فها هم المشركون يضحون بأرواحهم وأموالهم لحرب المسلمين، واليهود الأشد عداوة يراقبون عن بعد، ويحركون الأحداث بأصابع خفية.



وهكذا بدأت قريش تنشط في جمع حلفائها ومعاونيها من كنانة ومن أهل تهامة ومن بني سليم، فيتجمع لديها أربعة آلاف مقاتل.



ثم انطلق اليهود إلى مجموعة ضخمة من القبائل تعرف بقبائل بني غطفان في شرق المدينة، وعلى مسافة بعيدة من مكة، فالتقوا بزعمائها، وطلبوا منهم تجميع الجيوش والتحالف مع قريش لحرب المسلمين.



لكن قبائل غطفان لم يكن عندها من الحماسة ما كان عند قريش، وليس لها تاريخ طويل من العداء مثل الذي عند أهل مكة، فلم يتحركوا التحرك الذي أراده اليهود، ولم ينفع كذب اليهود وتحريفهم للحقائق في إقناع بني غطفان في الخروج، فماذا يفعل اليهود؟



لقد استخدموا سلاحهم التقليدي الثاني بعد الكذب وهو المال، فالذي لا يتغير فكره واعتقاده نتيجة التزوير الإعلامي من الممكن أن يُشترى بالمال، فتعامل اليهود مع بني غطفان كما يتعاملون مع أي مرتزقة مأجورين، لقد عرضوا عليهم ثمار خيبر لمدة سنة كاملة نظير تجميع ستة آلاف غطفاني، للتحالف مع قريش ضد المسلمين.



وقبلت غطفان العرض المغري وسال لعابهم للمال اليهودي، وبدءوا في تجميع الجيوش من قبائلهم وبطونهم المختلفة.



وخرج زعماء غطفان يطلبون دنيا اليهود، فخرج عيينة بن حصن في بني فزارة، وخرج الحارث بن عوف في بني مرة، وخرج مسعر بن رخيلة في أشجع، وغيرهم وغيرهم، وجمعوا بالفعل ستة آلاف مقاتل.



والشاهد في هذا الموقف أن اليهود مع حبهم الشديد للمال وحرصهم عليه واتصافهم على العموم بالبخل، إلا أنهم ينفقون هذا المال بغزارة إن كانوا سيستخدمونه في حرب الدين وتزييفه، ومقاومة العقيدة السليمة، ونشر الإباحية والمجون، فهذه مجالات لا يبخل فيها اليهود بأموالهم، بل ينفقوها بسخاء، ويتنازلون عنها بشكل قد يستغربه من لا يعرف حقيقة اليهود من الداخل.



وبهذا الإعداد والتنسيق جمع اليهود من مشركي العرب عشرة آلاف مقاتل لحرب المسلمين، وهو رقم لم تسمع به الجزيرة العربية قبل ذلك، وكان العرب إذا أرادوا التفاخر بكثرة العدد قالوا: إنا لنزيد على الألف، ولن تغلب ألف من قلة. فكيف بعشرة آلاف؟!



لا شك أن هذا اختبار لأهل المدينة يفوق كل ما سبقه من اختبارات.


أثر هذا التحالف على المسلمين

والحقيقة التي يجب أن يفقهها المسلمون، هو أنه إذا كان الله يريد نصرًا وتمكينًا للمسلمين فإنه يسبق هذا النصر بفترة امتحان وابتلاء للتفرقة بين المؤمنين والمنافقين، وكلما اقترب النصر ازداد البلاء، حتى إذا وصل المسلمون إلى مرحلة الذروة في الابتلاء جاء نصر الله في وقت لا يتوقعه مسلم ولا كافر. يقول الله I: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].



متى يكون النصر قريبًا؟



يكون قريبًا إذا وصل المسلمون إلى مرحلة الزلزال.



يكون قريبًا عندما تصل الفتنة إلى ذروتها.



يكون قريبًا عندما يعلو نجم الباطل، وتنتعش قوته، وتتعاظم إمكانياته.



يكون قريبًا عند تجمع الأحزاب وعند تحالف شياطين الإنس والجن لاستئصال المؤمنين.



عند هذه الأحداث يكون النصر قريبًا فعلاً.



لذلك إذا ادلهمت الخطوب وأظلمت الدنيا، وتكالبت قوى الشر والبغي على المسلمين، فإن كل هذه الأحداث لا يجب أن تحبط المسلمين، أو تشعرهم أنه لا فائدة، بل على العكس من ذلك تمامًا، فإن هذه الأحداث توحي بقرب النصر والتمكين، ومن ثم فهي تؤيد المؤمن وتثبته، والأمر في النهاية مربوط بيقين الإنسان وقوة إيمانه، فالذي يعتقد تمام الاعتقاد في قدرة رب العالمين وجبروته وعزته وصدقه يعلم أن الله وعد بتجمع الأحزاب حول المسلمين، كما وعد بتحقق النصر للمؤمنين بعد تجمع الأحزاب، فالمؤمن حقًا عندما يرى تجمع الأحزاب يعلم أن هذه أمارة لقرب النصر، ومن ثَمَّ يطمئن ويسكن ويعلم أن الخير قادم.



وهذا ما فعله المؤمنون في المدينة المنورة عندما وصلتهم أنباء تجمع الجيوش الكافرة، فقد علموا أن هذه أمارة النصر، وتبين لهم صدق موعود الله في الجزئية الأولى وهي تجمع الأحزاب، وحتمًا سيتحقق وعد الله في الجزئية الثانية وهي نصر المؤمنين، لذلك استقبلوا الأمر بثبات، وازداد يقينهم وإيمانهم بالله.



وفي هذا يقول الله I في كتابه الكريم: {وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22].


أثر هذا التحالف على المنافقين

أما المنافقون فمساكين، هم لا يعرفون إلا حسابات الورقة والقلم، ولا يقدرون لله قدره، ولا يؤمنون بوعده، بل يحكمون عقولهم في كل صغيرة وكبيرة، فينظر هؤلاء المنافقون إلى أعداد المشركين الهائلة فيقولون: هذه أعداد لا تغلب!! وقوة لا تهزم!! فالفجوة بيننا وبينهم هائلة، ولا طاقة لنا بهم، ومهما وعدنا بالنصر فهذا وعد مكذوب، وأوهام لا وجود لها على أرض الواقع.



يقول ربنا في وصف هؤلاء المنافقين: {وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا} [الأحزاب:12].



فتنطق ألسنتهم بما في قلوبهم من أن هذا الوعد بالنصر مستحيل، ويجاهرون بذلك، وقد يسارعون إلى الانضمام إلى أعداء الأمة، والتبرؤ من الأمة الإسلامية.



ظهر على المنافقين نفاق معظمهم، وقالوا لا طاقة لنا أبدًا بحربهم، وظهر على بعضهم علامات الهلع والخوف، لم يكتفوا بإظهار ذلك على أنفسهم بل حاولوا أن يثبطوا همم الآخرين، بأنها حرب لا طائل من ورائها، قال الله : {قَدْ يَعْلَمُ اللهُ المُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ البَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ} [الأحزاب: 18، 19]. هذا رد فعل المنافقين.



وهذا الوضوح في الأمر ما كان ليحدث لولا أن الخطب جلل، والحدث عظيم، والفتنة كبيرة، وإلا فلو كانت صغيرة أو عابرة لكتم المنافقون نفاقهم في قلوبهم، وظهرت على ألسنتهم كلمات الشجاعة والإقدام، وهذا من أهم فوائد الابتلاءات الكبرى، والامتحانات العظمى، أنها تفرق بين المؤمن والمنافق.. {مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179].



فإذا تميز الصف، وخلص الفريق المؤمن من الخبث المنافق حدث الصدام المروع مع أهل الباطل، وهذا الصدام إذا تم بفريق مؤمن خالص الإيمان خال من النفاق فإنه يتبع بنصر بين، ومجد عظيم للإسلام والمسلمين.



فهذه مراحل حتمية تمر بها الأمة قبل النصر؛ ارتفاع مطرد في معدل الابتلاء والاختبار، ثم الوصول إلى مرحلة الزلزال، وهي أعلى درجات الابتلاء والفتنة، ثم تمايز الصف إلى مؤمن ومنافق، ثم إقدام المؤمنين ثابتين وقد خلص صفهم من المنافقين، ثم نصر من الله وفتح مبين.



وليس معنى هذا أن المسلمين يتلقون أنباء الحصار وتجمع الأحزاب بفرح وسعادة لقرب النصر، فإن قوة إيمان المؤمنين لا تخرجهم عن كونهم من البشر.



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 3 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 3 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:42 pm

حفر الخندق


فكرة الخندق

غزوة الخندقأخذ المسلمين الأمر بمنتهى الجدية، وبدءوا يفكرون في الأزمة القادمة بإيجابية، وكان أول ما فعلوه تكوين (مجلس الشورى)، هكذا تكون البداية الصحيحة، وإذا راجعنا صفات الجيش المنصور التي ذكرناها في غزوة بدر، سنجدها تنطبق تمامًا على جيش الأحزاب؛ لأن هذه سنن وليست مصادفات.



عقد مجلس الشورى، مجلس من المهاجرين القرشيين والأنصار الأوس والخزرج، وغيرهم من القبائل المختلفة، بل إن فيهم من ليس عربيًا أصلا مثل بلال الحبشي ومثل سلمان الفارسي ، وهنا تتجلى عظمة الدين الإسلامي، ونلاحظ هنا كيف تتراكم الخبرات داخل الأمة الواحدة نتيجة تجميع كل العناصر والقبائل والأجناس والبلاد تحت راية واحدة.



وسنرى كيف كان حل أزمة الأحزاب بيد رجل ليس من العرب أصلا، ولكنه من المسلمين، إنه سلمان الفارسي ، وهكذا يستفيد الجيش الإسلامي من خبرات الجيش الفارسي، ويستفيد من تجارب شعب كامل كشعب الفرس، وهذا سلمان الفارسي في المشاركة الأولى له مع صفوف المسلمين، لم يشعر أبدًا أنه غريب، هذه هي دولته، وهذه هي أمته، وهذا دينه.



قال سلمان: يا رسول الله، إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا. سمع رسول الله وصحابته الفكرة فأعجبتهم، وعلى الفور ظهر الحسم وعدم التردد، فأخذوا قرارهم مباشرة بالبدء بحفر الخندق.


واقعية المنهج النبوي

وهنا نتوقف عند واقعية المنهج النبوي، إذ قد يتساءل أحدهم: كيف يجبن المسلمون عن اللقاء فيحفروا الخندق، ولا يحاربون؟! والإجابة هنا أن الإسلام دين واقعي، فمع قناعتنا التامة أن الله معنا وسينصرنا إن نحن أخذنا بأسباب النصر ونصرناه، إلا أننا يجب أن نأخذ بكل الأسباب، فلقاء 10 آلاف مقاتل مشرك أمام 3 آلاف مقاتل مسلم هم كل رجال المدينة لقاء غير متكافئ، وخاصة أن هؤلاء العشرة قابلون للزيادة؛ إذ من المحتمل أن يضم إليهم يهود خيبر، أو تنضم إليهم قبائل مشركة أخرى غير قريش وغطفان وبني سليم، كل ذلك يجعل الرسول يتجنب اللقاء قدر المستطاع، فكانت فكرة الخندق فكرة متميزة فعلاً.



لم نهرب من أرض الموقعة، لم نتنازل عن شيء، وسيوضع العدو في مأزق؛ لأنه لن يستطيع أن يعيش طويلا بعيدًا عن بلاده وطعامه وشرابه وتجارته، فسيصبح عامل الزمن في صالح المسلمين.



وفعلاً كانت فكرة ممتازة، وعلى وجه السرعة أخذ رسول الله مجموعة من الصحابة، وتفقد أطراف المدينة، ليحدد المكان الملائم لحفر الخندق، آخذًا بكل الأسباب، ووجد أن لشرق المدينة المنورة وغربها حماية طبيعية، وهي مرتفعات الحرة الشرقية والغربية، وكذلك كان جنوب المدينة محميًّا بغابات طبيعية وأحراش، فلم يتبق إلا منطقة الشمال ومنطقة الجنوب الشرقي، وفي الأخيرة ديار بني قريظة، وهم إلى الآن على العهد مع رسول الله ، والعهد لا يقضي فقط بعدم معاونة قريش، بل يقضي أيضًا بالدفاع المشترك مع المسلمين عن المدينة المنورة، إذا دهمها عدو، أيًا كان هذا العدو؛ لذلك أرسل رسول الله لهم رسالة؛ ليؤكد العهد معهم، فأكدوا العهد، وتأكيدهم للعهد مهم جدًّا؛ لأن دخول جيوش المشركين من خلالهم قد ينتج عنه إنهاء الوجود الإسلامي تمامًا، واستئصال شعب المسلمين بكامله.


تحديات حفر الخندق

لم يتبق إذًا إلا منطقة الشمال مفتوحة، ولذلك أخذ رسول الله القرار بحفر الخندق في الشمال، ليغلق المنطقة ما بين الحرة الشرقية والغربية، وإذا كان القرار قد تم اتخاذه بسهولة ويسر، إلا أن تنفيذه يُعدُّ مما يقارِبُ المستحيل؛ فمشروع حفر الخندق مشروع لا يتخيله عقل أبدًا؛ ذلك أن عمق الخندق يبلغ خمسة أمتار، بينما يصل عرضه في أقل التقديرات إلى خمسة أمتار أيضًا (بعض التقديرات تذهب به إلى 10 و12 مترًا)، ويبلغ طوله اثني عشر كيلو مترًا. وهذه الأبعاد تدل على أن الأرض المفروض حفرها يبلغ حجمها 300 ألف متر مكعب!!



ولكي نتصور هذا الجهد المبذول لحفر هذا الخندق العظيم قمت باستطلاع آراء العديد من المهندسين فأصابنا جميعًا الذهول! لأن أفضل عامل اليوم، لا تتعدى قدرته على الحفر في اليوم الواحد خمسة أمتار مكعبة، هذا إذا كانت الأرض التي يحفرها أرضًا رملية، وبعمق متر واحد فقط، وكلما زاد العمق قلَّت قدرة العامل على الحفر.



إن عدد الصحابة في المدينة المنورة جميعًا ثلاثة آلاف، وليس من الممكن أن يشتغل جميعهم في الحفر، فهناك فرق للحراسة، وفرق للخدمة، كما يوجد كبار السن، ومرضى... ومع ذلك فلو افترضنا أنهم جميعًا يعملون في الحفر، فإنه يستحيل حفر الخندق في الزمن القياسي الذي استغرقه بالفعل, حيث استغرق أسبوعين فقط!!



وإذا افترضنا أن كل صحابي سيعمل ست عشرة ساعة يوميًا، فإنه من الصعب جدًّا أن ينتهي الحفر في هذا الزمن، وهذا كله، مع افتراض أن الأرض رملية، وسهلة الحفر، فإذا علمنا أن الأرض التي تم فيها الحفر صخرية تحتاج في زماننا الآن إلى معدات خاصة جدًّا لحفرها، لأدركنا بيقين كم كانت هذه المهمة شاقة وعسيرة، وكم كان إنجازًا جبارًا بحق، فإذا أضفنا إلى ذلك أن الحفر كان لعمق خمسة أمتار، وليس مترًا واحدًا، وأن نقل كميات التراب المستخرج من الأرض إلى أماكن بعيدة عن الحفر هي أيضًا مهمة ثلاثة الآلاف من الصحابة، ولو أضفنا أن الخندق متسع في بعض الأماكن إلى أكثر من خمسة أمتار، ولو أضفنا نقص خبرة المسلمين بشكل عام في هذا العمل؛ إذ إنها المرة الأولى التي يحفرون فيها خندقًا، ولو أضفنا كثرة الأيدي العاملة، وتوزعها على اثني عشر كيلو مترًا، وكيف يمكن أن تُدار فِرَق بهذه الضخامة، وإذا أضفنا إلى كل ذلك أن هؤلاء يعملون في ظروف بالغة الصعوبة، من جوع وبرد وخوف من قدوم الأعداء في أي لحظة.



لو تخيلنا كل ذلك لتيقنَّا أن هذه المهمة كانت مهمة مستحيلة فعلا، مستحيلة بكل المقاييس، إذ إن عملا كهذا لو تم في زمننا هذا في أسبوعين لاحتاج إلى أكثر من مائتي رافعة أثقال، وآلاف المعدات الإلكترونية، وعشرات سيارات النقل الكبيرة، كما يحتاج إلى إدارة هندسية كاملة، ومجموعة من الاستشاريين المتخصصين في الحفر، ولكي نعرف صعوبة هذا المشروع، من الممكن أن نقارنه مثلاً بمشروعات مترو الأنفاق في المدن الكبرى ومدى صعوبتها، واستغراقها لسنوات طويلة حتى تتم.



وهكذا كان مشروع حفر الخندق خرافيًّا بحق.



ولا يمكننا أبدًا توقع أو تصور حدوثه، وهكذا في العديد من وقائع التاريخ الإسلامي، هناك الكثير من الأمور يستحيل أن نفهمها إلا إذا كنا مؤمنين بالله حقًّا، ولنتذكر مثلا حديثنا عن غزوة بدر، وكيف تم نصر المسلمين فيها، ونتذكر جند البركة وكيف أن الله يضخم جهد المؤمنين البسيط؛ فتنتج عنه نتائج عجيبة.



وهكذا فإن مشروعًا كحفر الخندق لا يمكن للبشر أبدًا أن يتموه، ولكن الله إذا أراد أعانهم على ذلك، وذلل لهم كل الصعاب، سواء بأيديهم أو بمدد من الملائكة، أو جنود لم يروها، ولكن هذا واقع نراه، ونشعر به إلى يوم القيامة، ما دام هناك أقوام يستحقون نصر الله ، آخذين بأسباب النصر ذاك.



وهكذا تم حفر الخندق العملاق، تم هذا المشروع الجبار، وهنا يحق لنا أن نقف وقفة.



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 3 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 3 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:44 pm

ضوابط نجاح العمل الجماعي في حفر الخندق


ضوابط لنجاح العمل الجماعي

غزوة الخندقنجح هذا المشروع تمامًا، وهو عمل جماعي يجب أن يكون له ضوابط حتى ينجح على هذا المستوى، فكيف استطاع رسول الله أن يُتم هذا العمل بأكبر فرص النجاح التي تحققت فيه؟



لقد أدار رسول الله هذا المشروع بكفاءة غير متخيلة، ووضع لنا قواعد نجاح الأعمال الجماعية، تلك القواعد التي إن أخذ بها المشركون نجحوا في عملهم، فما بالكم بالمؤمنين الذين يؤيدهم ربنا ، ويبارك خطواتهم.



هناك في الحقيقة العديد من الضوابط، ولكننا نكتفي بذكر أربعة ضوابط فقط:


الضابط الأول: مشاركة القائد لجنوده

لو شارك القائد جنوده فإنهم لا شك سيُخرجون أقصى طاقاتهم، وليس ذلك نتيجة خوفهم من القائد، وإنما نتيجة شعورهم بوجود قضية مشتركة مهمة.



وهكذا وجدنا الرسول وهو النبي المطاع وهو الحاكم لدولة المدينة وهو القائد الأعلى لجيش المسلمين، ينزل بنفسه لحفر الخندق مع المسلمين، ليس فقط للإشراف على الحفر، بل يحفر بنفسه، يضرب بالمعول بنفسه يحمل التراب بنفسه كاشفًا بطنه حتى لا تعيق الملابس حركته.



هل يمكننا أن نتخيل ذلك؟!



هذه من ضوابط نجاح العمل الجماعي، الجيش كله يعاني من الجوع، انتهى ما لديهم من زاد، ولنترك أنس بن مالك ، يحكي لنا -فيما رواه البخاري- ما كان أهل الخندق يَطعمون أيام الأحزاب يقول: "... يُؤْتَوْنَ بِمِلْءِ كَفِّي مِنْ الشَّعِيرِ (وأنس طفل صغير آنذاك، فتخيل كم حجم كفيه) فَيُصْنَعُ لَهُمْ بِإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ (أي دهن تغير لونه وطعمه من القِدم) تُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْ الْقَوْمِ وَالْقَوْمُ جِيَاعٌ وَهِيَ بَشِعَةٌ فِي الْحَلْقِ وَلَهَا رِيحٌ مُنْتِنٌ".



هكذا كان أكلهم، هذا هو طعامهم، فماذا يأكل القائد إذًا؟



يذكر أبو طلحة الأنصاري : شكونا إلى الرسول الجوع فرفعنا عن بطوننا عن حجر فرفع عن حجرين!!



فإذا كان الشعب جائعًا، فإن قائده يعاني من الجوع أكثر منهم. هذا هو المجتمع الذي ينجح -ولا شك- في الأعمال الجماعية. كثيرًا ما نفشل في أعمالنا الجماعية؛ لأننا نستمع إلى خطب رنانة، وكلمات براقة، تدعو إلى الكفاح، وبذل الجهد، والعمل، ثم لا نجد من يستثير الحماس، ويلقي الكلمات في الخندق مع عامة الشعب، بل على العكس نجد الشعب يكدح، وقادته ينعمون بالراحة، الشعب يجوع، وقادته يعانون من التخمة، فكيف يمكن أن ينجح عمل في وضعٍ كهذا.



يروي لنا جابر بن عبد الله أنه كان عنده طعام قليل جدًّا (قليل من اللحم وقليل من الخبز) يكاد لا يكفي لرجلين أو ثلاثة، ذهب إلى رسول الله ، لأنه لاحظ أنه قد أضناه الجوع أكثر من الجميع، يقول: رأيت في النبي خمصًا شديدًا (جوعًا شديدًا) فأحب أن يطعم الرسول واثنين من الصحابة، فعندما علم رسول الله بذلك، لم يذهب ليأكل مع جابر وحده، بل هتف في الخندق بأعلى صوته، وقال لهم أن جابرًا قد أعد لهم وليمة، هنا أسقط في يد جابر ، وذهب يركض إلى زوجته لتعد الطعام كله، تقول له زوجته: هل أعلمته أن الطعام يكفي رجلين أو ثلاثة؟ فقال: نعم. فقالت: الله ورسوله أعلم. منتهى اليقين، وجاء رسول الله بألفٍ من أهل الخندق، وبمعجزة من معجزاته أخرج لهم الطعام من البرنة، والخبز من الفرن، وأخذ يطعمهم عشرة عشرة، حتى انتهى منهم جميعًا ثم أكل هو في النهاية.



هكذا يكون الإيثار، وإنكار الذات تمامًا، لا يرى -عليه الصلاة والسلام- إلا شعبه، ولا يهتم إلا بهمومهم.



وهكذا، فأهم ضوابط العمل الجماعي وعلى أي مستوى سواء كان العمل هذا العمل مكونًا من ثلاثة، أو عشرة، أو ألف، المهم أن يشارك القائد جنوده.


الضابط الثاني: توزيع الأعمال على الجميع

كثيرًا ما تفشل أعمالنا الجماعية، لأن الذين يقومون بها ويحملون عبئها 4 أو 5 فقط، أما البقية فمتراخين عن العمل، ولذلك اهتم الرسول بتوزيع الأعمال على الجميع، وتوزيع المهام لكل رجل حسب طاقته، فلم ير في الصف أحد متراخٍ أو متهاون، إن رسول الله يعطي كل رجل مسافة أربعين ذراع، إذا أنهاها أخذ غيرها. وهكذا، وبذلك يظل الجميع في عملٍ دءوب، ما إن يتمه الأول حتى يأخذه الثاني، حتى يتم العمل على أكمل وجه.


الضابط الثالث: الجمع في الإدارة بين الحزم والرفق

يتم وضع حدود وضوابط للعمل والاستئذان عنه، تلك الضوابط إلزامية على الجميع، لا يتهاون بها أحد كبيرًا كان أو صغيرًا، والجميع يأتمر بأمر القائد ويخضع لأحكامه، فلا جماعة بغير إمرة، ولا إمرة بغير طاعة، إذا لم تتضح قضية الطاعة في ذهن العامل، يفقد العمل الجماعي أهميته.. يقول رسول الله : "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني". كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة.



هذا كلام الرسول ، وهذا ما علمه إياه ربنا ، حينما قال له في قضية الحزم في الإدارة: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 62].



فمن ترى أن العمل لن يتأثر بغيابه، أو ترى لديه ظرف قهري فائذن له, أي أن الإذن ليس مجرد إعلام لقائد العمل، كلا، إنه طلب يحتمل الرفض ويحتمل القبول، ومع ذلك فالرسول ، لم يكن يتعسف في استخدام هذا الحق بل كان فعلاً يأذن لبعض الصحابة إن رأى أن لهم ظرفًا قهريًّا طارئًا، وكان الجميع ينظر بصدق إلى أهمية إنجاح العمل الجماعي الذي يقوم به، وفي نفس الوقت لم يكن هذا الحزم يعني الغلظة والجفاء والقسوة، حاشا لله، ولكن الرسول علمنا كيف يمكننا أن نجمع بين الحزم والهيبة والاحترام باللطف في المعاملة وبالرقة في الحديث بل بالدعابة والمرح والترفيه، وها هم الصحابة مع رسولهم الكريم أثناء حفر الخندق ينشدون شعر ابن رواحة:

اللَّهُمَّ لَوْلا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا *** وَلا تَصَدَقَّنَا وَلا صَلَّيْنَا

فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَــا *** وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاقَيْنَا

إِنَّ الأَُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا *** وَإِنَّ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَـا



ويحفزهم رسول الله وهم يحفرون في البرد والجوع فيقول: "اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الآخِرَةِ، فَاغْفِرْ لِلأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَةِ".



فيرد عليه الصحابة ويقولون: نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدًا عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدًا.



وهكذا، مع النظام والحزم، والترتيب تسود مشاعر الألفة والسعادة والمشاركة، وبذلك ينجح العمل الجماعي بامتياز.


الضابط الرابع: رفع الهمة وبث الأمل في النفوس

وقد كان الرسول يرفع من همة الصحابة في كل المواقف الصعبة، هذا كان منهج حياته ، وما فعله أثناء حفر الخندق يفوق التصور، فإنه لم يعطهم أمل في حفر الخنق فحسب تلك المهمة العسيرة، أو أنهم سيتنصرون على هذه الأحزاب المتجمعة فقط، أو أنهم سينتصرون على العرب قاطبة، بل يرفع همتهم لما هو أعلى من أحلامهم، يزرع بداخلهم الأمل في سيادة العالم بأسره.



قال ، وهو يضرب صخرة صعبة اعترضت الصحابة فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ، فَقَالَ: "بِاسْمِ اللَّهِ". فَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ وَقَالَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ مِنْ مَكَانِي هَذَا". ثُمَّ قَالَ: "بِاسْمِ اللَّهِ". وَضَرَبَ أُخْرَى فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ، فَقَالَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ الْمَدَائِنَ وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الْأَبْيَضَ مِنْ مَكَانِي هَذَا". ثُمَّ قَالَ: "بِاسْمِ اللَّهِ". وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ فَقَالَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي".



وهكذا يعلمنا رسول الله أن نعظم من أحلامنا، ونكبر أهدافنا، لم تعد قضيته هي الحصار، أو الدولة المدينة الصغيرة التي يعيشون داخلها الآن، بل قضيته الكبرى نشر رسالة الإسلام إلى الأرض قاطبة، وهذه المبشرات ليست أوهامًا يعلق قلوبهم بها، وإنما هي قول من لا ينطق عن الهوى، ووعد الله الذي لا يخلف الميعاد.



لهذا كله، نجح الصحابة في حفر الخندق العملاق.. لم يصبهم اليأس، أو ذرة إحباط، بل واصلوا العمل حتى أتموه، وفي زمن قياسي، ونجح المشروع، لتبدأ المعركة.



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 3 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 3 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:45 pm

غزوة الأحزاب


مجيء الأحزاب ومقاومتهم

غزوة الأحزابوصل في شوال عام 5هـ إلى حدود المدينة المنورة عشرة آلاف مقاتل مشرك من قريش وغطفان وبني سليم وغيرهم، ولم يكتف رسول الله بحفر الخندق، بل جمع الصحابة ثلاثة آلاف، ونظم نقاط الحراسة للخندق، وفرق للقتال، وكتائب للمقاومة، حتى يمنع المشركين من تخطي الخندق تحت أي ظرف.



وكان وقع المفاجأة مهولا على المشركين، إنها مكيدة ما عرفها العرب من قبل في فنون القتال، لقد أعدوا العدة لكل شيء، إلا أمر هذا الخندق المدهش.



بدأ المسلمون في رشق المشركين بالنبال لكي يمنعوهم من عبور الخندق أو ردمه، وحاول المشركون بكل ضراوة أن يقتحموا الخندق, ونجح بعضهم فعلا في العبور من مكان ضيق في الخندق بفرقة على رأسها أحد أبطالهم اسمه عمرو بن عبد ود, ومعه عكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب وغيرهم، ولكن تصدى لهم المسلمون, حيث حدثت مبارزة رهيبة بين عمرو بن عبد ود وعلي بن أبي طالب حتى قتله البطل الإسلامي العظيم علي بن أبي طالب، وهرب بقية الرجال الذين جاءوا معه، وتكررت محاولة المشركين مرة واثنتين، وعشرة، وتصدى أسيد بن حضير في كتيبة من مائتي مسلم لفرقة فرسان خالد بن الوليد واستطاع أن يردهم منهزمين.



كان الصراع يدور لفترات طويلة حتى أنه في أحد الأيام ظل المسلمون يدافعون عن الخندق من قبل صلاة العصر إلى ما بعد المغرب فضاعت عليهم صلاة العصر، وكان هذا الحدث فريدًا في السيرة، وانزعج المسلمون بشدة لأنهم أضاعوا الصلاة، وقال كما جاء في البخاري عن علي : "مَلأَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهَمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا كَمَا شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ".



بل إن مسند أحمد والشافعي ذكرا أن الكفار أضاعوا على المسلمين في يوم آخر صلاة الظهر والعصر والمغرب، فصلاها المسلمون جميعا مع صلاة العشاء.



كانت المقاومة فعلاً شرسة, وأصيب فيها بعض الصحابة، وطال الحصار.



لم يكن يومًا أو اثنين، ولا أسبوعًا أو اثنين، بل لمدة شهر كامل، وكان الموقف صعبًا على المسلمين، كما كان صعبًا على الكافرين.. {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:104] .


خيانة بني قريظة

وأسقط في أيدي الكافرين، واحتاروا في كيفية حل موقفهم ذلك، حتى جاءهم الحل أخيرًا، وكان من عند اليهود.



فاليهود مثلما جمعوا هذه الأعداد كلها ما زالوا يفكرون في استئصال المسلمين، وبدءوا يفكرون في الطريقة التي تمكنهم من ذلك، وكان مع المشركين أحد زعماء اليهود، وعتاتهم وهو حيي بن أخطب، وكان من أشدهم كفرًا وحقدًا وغلاًّ وحسدًا، فكر في الأمر، فلم يجد له مخرجًا إلا في يهود بني قريظة.



بنو قريظة كما ذكرنا كانوا في الجنوب الشرقي للمدينة، فلو فتحوا الباب من جهتهم لدخول المشركين المدينة، لانتهت المدينة، فماذا يحدث لو حاربوا مع المشركين، وراقت تلك الفكرة للمشركين جدًّا، ولم يتبق إلا إقناع بني قريظة بمخالفة العهد مع رسول الله، والسماح للمشركين بدخول المدينة لاستئصال الشعب المسلم بكامله، وذهب حيي بن أخطب لأداء مهمته القذرة والتقى بزعيم بني قريظة كعب بن أسد، فقال حيي: إني قد جئتك يا كعب بعز الدهر, جئتك بقريش على قادتها وسادتها, وبغطفان على قادتها وسادتها، وقد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يرجعوا حتى نستأصل محمدًا ومن معه.



قال كعب: جئتني والله بذل الدهر، ويحك يا حيي، فدعني وما أنا عليه فإني لم أر من محمد إلا صدقًا ووفاءً.



لكن حيي ظل يكلم كعبًا ويزين له، ثم وعده إن تخلت قريش وغطفان عنه أن يدخل معه في حصنه، ويتحمل معه ما يحدث بعد ذلك.



وتحت تأثير شيطان بني النضير وقع شيطان بني قريظة، وقرر التحالف مع المشركين لتنفيذ ما ذكره حيي: لا نبرح حتى نستأصل محمدًا ومن معه.



وقضى التحالف ليس فقط بفتح باب للمشركين لدخول المدينة, بل وتجهيز فرق عسكرية للحرب ضد المسلمين. كارثة! المدينة على أبواب هلكة قريبة.. ماذا يحدث لو تمكن عشرة آلاف مسلح إضافةً إلى يهود بني قريظة من اقتحام المدينة؟ لا أحسب أن أحدًا كان سيبقى حيًّا في المدينة آنذاك.



يجب أن نضع هذا الأمر في اعتبارنا لكي نفهم رد فعل الرسول على بني قريظة لِمَا بدر منهم من خيانة.



على الفور نقلت المخابرات الإسلامية إلى رسول الله نبأ خيانة اليهود له، نعم، كان رسول الله على حذرٍ من اليهود، يعلم أنهم لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة، ولذلك وضع عليهم هذه المراقبة.



وخبروني بالله عليكم: هل من قبيل المصادفة أن يخون مائة بالمائة من اليهود في تعاملهم مع الرسول ؟ هل من قبيل المصادفة أن يظهر الانحراف في بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة؟



لا شك أن هذه ليست مصادفة ولا شك أن هذا الواقع لا بد أن ندركه جميعًا، ذكره ربنا I في كتابه حيث قال: {أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة:100].



هكذا في كل مرة، يجب أن يخونوا، ويغدروا، وهذه ليست مصادفة، هذه قاعدة، وطبيعة متأصلة في نفوسهم، لا عهد لهم ولا ذمة.



وصل الخبر للرسول ، وقبل أن يتخذ أي قرار أراد أن يستوثق من الخبر، أرسل مجموعة من الصحابة للتأكد، فيهم سعد بن معاذ, وسعد بن عبادة، وعبد الله بن رواحة وغيرهم، وقال لهم أمرًا في غاية الأهمية قال: "انْطَلِقُوا حَتَّى تَنْظُرُوا أَحَقٌّ مَا بَلَغَنَا عَنْ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ أَمْ لاَ؟ فَإِنْ كَانَ حَقًّا فَالْحَنُوا لِي لَحْنًا أَعْرِفُهُ وَلاَ تَفُتُّوا فِي أَعْضَادِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى الْوَفَاءِ فَاجْهَرُوا بِهِ لِلنَّاسِ".



هذه هي الحكمة النبوية، والقيادة الذكية، كثيرًا ما ينشر المسلمون أخبار خطط وتسليحات وإمكانيات العدو على صفحات الجرائد وشاشات التلفزيون، فيشعر المسلم المشاهد لذلك أنه لا أمل، ويحبط، وييئس من المقاومة، لكن الرسول يعلمنا أنه ليس كل ما يعرف يقال.



ذهبت المجموعة الإسلامية إلى بني قريظة, ولما تكلموا معهم جهر يهود بني قريظة بالسوء, وسبوا الرسول وقالوا: من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد.



رجع الصحابة بسرعة إلى رسول ، وقالوا: عضل وقارة. أي غدر كغدر عضل وقارة بالصحابة عند ماء الرجيع.



حزن الرسول حزنًا شديدًا لهذا الخبر لدرجة أنه تقنع بثوبه (غطى رأسه بالثوب) ومكث طويلاً، وفكر فيما سيحدث.



ثم رفع رأسه فجأة وقال للمسلمين بصوت عال: "اللّهُ أَكْبَرُ, أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرِ الْمُسْلِمِينَ بِفَتْحِ اللَّهِ وَنَصْرِهِ".



يحاول قدر المستطاع أن يرفع من همة الصحابة .


انتشار خبر خيانة بني قريظة

وعلى الرغم من محاولاته لتجنب انتشار الخبر إلا أن الله شاء للخبر أن ينتشر، وهذا لحكمة واحدة، الابتلاء والتنقية والتمييز بين صفوف المؤمنين وصفوف المنافقين.



كل ما حدث من الأحزاب وحصار المدينة كان درجة من درجات الابتلاء، أما الآن فقد وصل المسلمون إلى ما أسميه بمرحلة الزلزال، المرحلة التي يزلزل فيها المسلمون زلزالاً لا يثبت فيه إلا الصادقون حقًّا، أما المنافقون مهما كانت درجة نفاقهم فلا شك أنهم سيقعون، وصف الله هذا الأمر في سورة الأحزاب حيث قال: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:10، 11].



مرحلة الزلزال، مرحلة خطيرة، لا بد منها قبل أن يأتي النصر، ولكن إذا أتت فمعناها أن النصر قريب إن شاء الله.



وفي الآية الأخرى، يقول : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].



لكن المنافقين طبعًا وضعهم مختلف، المشركون من حول المدينة واليهود. لا أمل مطلقًا في نظرهم في النجاة {وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا} [الأحزاب:12].



وكان أحدهم يقول: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط.



وبدأ المنافقون في التسرب من الصف.. الفرار {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب: 13].



بدأ الصف المسلم، والحمد لله، ينقى من الشوائب، من المنافقين، وهذا كله من مبشرات النصر.



والرسول قائد عملي، يجب أن يأخذ ردود أفعال واقعية، الجيش الإسلامي في حراسة الخندق في شمال المدينة، في منطقة خارج المدينة المنورة، النساء والأطفال في داخل المدينة, واليهود إلى جوارهم، فأول ما فكر فيه رسول الله إرسال مجموعة من الجنود لحماية النساء والأطفال.



والجدير بالذكر أن ما يروى من قصة دفاع السيدة صفية -رضي الله عنها- عن الحصن ضد اليهود, ورفض حسان بن ثابت أن يهاجم اليهودي هذه القصة لا أساس لها من الصحة، السند فيها منقطع، وفيها طعن لا يصح في صاحبي جليل.



أرسل رسول الله فرقة لحماية لجبهة الداخلية للمدينة المنورة، ويجب أن نفكر في الموقف الجديد بسرعة، لقد أصبح الحصار الآن من قريش وغطفان واليهود ماذا نفعل؟



يتوجب على المسلمين بدايةً فك هذا التحالف الرهيب، فكيف يتم ذلك الأمر؟ ومع أي جهة نبدأ؟ مع قريش أم مع اليهود أم مع غطفان؟


محاولة الرسول فك التحالف

فكر رسول الله في فك التحالف من خلال العرض المادي، والإغراء بالمال. المنطق يقول إن أي محاولة مع قريش ستفشل، فالعداء طويل، وهم أصلاً لم يأتوا من أجل المال، وكذلك الوضع مع اليهود؛ لأن حقدهم على الرسول كبير جدًّا، كما أنهم خونة، لا يمكن الاطمئنان إلى كلامهم، لم يتبق إلا غطفان، هذه القبيلة التي لم تأتِ ناقمة على رسول الله، وليس بينه وبينها عداء، وإنما جاءت من أجل مال خيبر، أي أنه من الممكن أن تنسحب، أو تفك ارتباطها بالباقين إذا أعطيت مالاً.



وفعلاً عقد لقاءً مع زعماء غطفان: عيينة بن حصن، والحارث بن عوف، لا تذكر المصادر تفاصيل ذلك اللقاء، لكنه يبدو أنها كنت فرصة، فرصة سريعة جدًّا، لدرجة أن الرسول لم يجد وقتا لإشراك الصحابة في اللقاء أو أن اللقاء كان على مستوى عالٍ جدًّا من السرية، فلم يشرك فيه أحد من الطرفين، المهم أن اللقاء تم بين الرسول ممثلاً للمسلمين، وعيينة بن حصن والحارث بن عوف ممثلين عن غطفان، وبعد مشاورات ومداولات، استقر الطرفان على إعطاء غطفان ثلث ثمار المدينة لسنة كاملة على أن تعود غطفان وتترك حصار المسلمين، لكن الرسول علق هذه المفاوضات على قبول مجلسه الاستشاري للفكرة، وخاصةً سعد بن معاذ وسعد بن عبادة سيدي الأوس والخزرج، فلماذا هذان الرجلان بالذات؟



أولاً: لأنهما قريبان في مساكنهما في المدينة من غطفان، ومن ثَمَّ فهما أدرى الناس بهم وبما يصلح معهم.



وثانيًا وهو الأهم: أن ثمار المدينة هذه التي ستكون ثمنا لفك الحصار ليست ملكًا للرسول ، وإن كان هو زعيم الدولة، وإن كان هو النبي ، ولكنه يحترم تمامًا الملكية الشخصية للأفراد، وهذه الثمار ملكية شخصية للأوس والخزرج.



ولهذا بعد اجتماع الرسول مع زعماء غطفان، قام باجتماع آخر بسرعة مع السعديْن: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، وعرض عليهما الاتفاق الذي وصل إليه مع زعماء غطفان، وكان رسول الله يعتقد أن هذا العرض عرض مغرٍ لإنقاذ المدينة من الحصار (كان هذا بعد نحو شهر من الحصار)، فماذا كان رد فعل زعيمي الأوس والخزرج؟



لقد رحبا بالعرض بدايةً، ثم قال سعد بن معاذ بمنتهى الحكمة: يا رسول الله أمرًا تحبه فنصنعه، أم شيئًا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به، أم شيئًا تصنعه لنا؟



إذ إنه لو كان أمر من الله أو رسوله لما جاز له أن يفكر فيه أو يناقشه أصلا، فلا بد من السمع والطاعة، أما إن كان رأيًا بشريًّا فيمكننا حينئذٍ مناقشته، وعرض الرأي فيه.



فقال لهم رسول الله : "بَلْ شَيْءٌ أَصْنَعُهُ لَكُمْ, وَاللَّهِ مَا أَصْنَعُ ذَلِكَ إِلاَّ لِأَنِّي رَأَيْتُ الْعَرَبَ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَكَالَبُوكُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَكْسِرَ عَنْكُمْ مِنْ شَوْكَتِهِمْ". فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنا وهؤلاء مع الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه, وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قرى أو بيعًا أو فيضًا، أفحينما كرمنا الله بالإسلام، وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف وحتى يحكم الله بيننا وبينهم.



هكذا تكون عزة المسلم، أعجب الرسول برأي سعد جدًّا على الرغم من مخالفته لرأيه، وقال له: "أَنْتَ وَذَاكَ".



فأمسك سعد بن معاذ بالصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب, ثم قال: ليجهدوا علينا.



وراسل رسول الله زعماء غطفان، وأعلمهم برأي المجلس الاستشاري ورفض المساومة.



والحقيقة أن رأي السعدين كان في منتهى العمق والحكمة، ليست نظرة عنترية غير مدروسة بل هي رؤية إستراتيجية رائعة، فمستقبل المدينة قد يتحدد بهذه المفاوضات فليست المشكلة فقد ثلث ثمار المدينة، ولكن المشكلة أن غطفان ستحقق انتصارا غير مقبول على الدولة الإسلامية, وستهتز صورة الدولة الإسلامية أمامها وستهتز أمام الجزيرة العربية بكاملها، وهؤلاء ليسوا من الزعماء النبلاء الشرفاء، بل هم مجرد مرتزقة مأجورين, وسيفتح هذا الباب الابتزاز المستمر للمدينة المنورة كلما احتاجوا إلى مال جاءوا المدينة. أما هذه الوقفة الصلبة الجريئة فإنها -ولا شك- ستهز غطفان من الأعماق، وبالذات أنهم لا يفكرون إلا في المال والدنيا، وطالِب الدنيا ضعيف، ضعيف جدًّا أمام طالب الآخرة.



ويجب ألا ننسى أن ديار غطفان قريبة من المدينة، وقريش إن آجلاً أو عاجلاً ستعود إلى ديارها بمكة, أما غطفان فباقية، ولهذا يجب أن نحافظ جيدًا على صورة قوية راسخة أمامهم، وهكذا كان القرار في منتهى الحكمة، وأقره الرسول دون تردد، وليعلم الجميع أن الشورى أصل من أصول الحكم في الإسلام, وكان من الممكن جدًّا أن يوحي الله I بهذا الرأي إلى رسوله مباشرة، ولكن حدوث هذه القصة بهذه الصورة يفتح للمسلمين أبواب الفكر والإبداع وإبداء الرأي لمصلحة الأمة الإسلامية.


ابتلاء سعد بن معاذ

وكأن الله أراد أن يختبر الصدق في كلام سعد بن معاذ ، فحدث أمر شاق على المسلمين كثيرًا, ولكنه كان حلمًا لسعد بن معاذ.



لقد أصيب سعد بن معاذ البطل الإسلامي الشاب ، أصيب بسهم في ذراعه أو كتفه وكانت الإصابة شديدة خطيرة.



وكانت أزمة فوق الأزمات، وهذا زعيم الأوس وهذا حكيم المسلمين وهذا المطاع في قومه وهذا الحبيب ليس فقط لرسول الله بل لله رب العالمين، سعد بن معاذ قيمة كبيرة جدًّا في الإسلام، كانت أزمة كبيرة جدًّا، فماذا كان رد فعل سعد لهذه الإصابة؟ شاب يصاب إصابة قاتلة وهو في السابعة والثلاثين من عمره، ماذا يقول؟



قال سعد يدعو الله: "اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدًا أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أُجَاهِدُهُمْ فِيكِ مِنْ قَوْمٍ كَذَّبُوا رَسُولَكَ وَأَخْرَجُوهُ، اللَّهُمَّ فَإِنَّنِي أَظُنُّ أَنَّكَ قَدْ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَإِنْ كَانَ بَقِيَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْءٌ، فَأَبْقِنِي لَهُمْ حَتَّى أُجَاهِدَهُمْ فِيكِ, وَإِنْ كُنْتَ وَضَعْتَ الْحَرْبَ فَافْجُرْهَا وَاجْعَلْ مَوْتَتِي فِيهَا".



يا الله! شاب عنده 37 سنة يرجو الله ألا يموت حتى يجهز على قريش، ويتمنى ألا يلتئم جرحه لكي يموت شهيدًا، عندما يصبح الموت أمنية.



هذه موتة شهيد، يدعو الله ألا تفوته فرصة الشهادة في سبيل الله.



ثم قال في آخر دعائه: "وَلاَ تُمِتْنِي حَتَّى تُقِرَّ عَيْنِي مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ".



حتى في لحظاته الأخيرة لا ينسى غدر بني قريظة، ولا ينسى هموم الأمة الإسلامية.


وكفى الله المؤمنين القتال

تأزم الموقف جدًّا لم يعد في الصف المسلم أحد من المنافقين، وبذل المسلمون جهدهم كله، حفروا الخندق في وقت قياسي، تحملوا في سبيل الله الجوع والبرد، حموا الخندق، ودافعوا عنه بأرواحهم، قاتلوا بضرواة، تعبوا، كافحوا ، قاموا بالمشاورات، واجتهدوا في الدعاء؛ لأن النصر من عند الله.



كان المسلمين يدعون الله تعالى أيام الأحزاب يقولون: اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا. وكان الرسول يقول: "اللُّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ اهْزِمِ الْأَحْزَابَ, اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ".



بعد أن بذل المسلمون كل طاقتهم، ووسعهم ومحاولاتهم، يأتيهم نصر الله، ولا شك، ويأتيهم بطريقة إلهية، وترتيب رباني، حتى يعلم الجميع، ويوقنوا أن النصر من عند الله، وجاء جنود الرحمن في الأحزاب، وسأختار منهم ثلاثة جنود فقط من جنود الرحمن نتحدث عنهم.


الجندي الأول: نعيم بن مسعود

نعيم بن مسعود رجل من المشركين لا يتوقع إسلامه أبدًا في هذا التوقيت، بل يكاد يكون مستحيلا، ذلك أنه من قبيلة غطفان المحاصرة للمسلمين، كيف لرجل من الجيش القوي المحاصر للمسلمين، بعد أن مر شهر على الحصار، وقد ينهار المسلمين في أي لحظة وخاصة بعد خيانة اليهود، كيف له أن يترك جيشه القوي لينضم لجيش المسلمين الضعيف المهدد بالانهيار في أي لحظة؟!



جاء نعيم بن مسعود إلى الرسول يقول له: يا رسول الله، إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي, فمرني ما شئت.



فقال رسول الله : "إِنَّمَا أَنْتَ رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَخَذِّلْ عَنَّا مَا اسْتَطَعْتَ، فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ".



ولم يأمره بشيء يعمله، ولكن يشاء الله أن يلهمه بفكرة لم ترد على ذهن أحد من المسلمين، ولا رسول الله نفسه، ونعيم بن مسعود شخصية معتبرة قيادية معروف عند اليهود وعند قريش، فذهب مباشرة إلى يهود بني قريظة وقال لهم، وهم يحسبونه مشركًا, ويعلمون أنه من قادة غطفان، فله معرفة بواقع الأمور وما يجري خلف الأبواب، قال لهم: قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم. قالوا: صدقت. قال: فإن قريشًا ليسوا مثلكم، البلد بلدكم, فيه أموالكم ونساؤكم وأبناؤكم، ولا تقدرون أن تتحملوا منه إلى غيره، وإن قريشًا قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه, وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره, فإن أصابوا فرصة انتهزوها، وإلا لحقوا ببلادهم وتركوكم ومحمدًا، فانتقم منكم.



فقالوا: وما العمل يا نعيم؟ قال: لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن. قالوا: لقد أشرت بالرأي.



ثم ذهب نعيم إلى قريش مباشرةً، وقال لهم: تعلمون ودي لكم ونصحي لكم. قالوا: نعم. فقال: إن يهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمدٍ وأصحابه, وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه, ثم يوالونه عليكم, فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم.



ثم ذهب إلى غطفان وقال لهم نفس الكلام.



قريش شعرت بالقلق وكذلك غطفان، أرسلوا رسالة سريعة إلى اليهود وبتدبير رب العالمين كانت يوم السبت، قالت قريش لليهود: إنا لسنا بأرض مقام, وقد هلك الكراع والخف, فانهضوا بنا حتى نناجز محمدا. فاعتلت اليهود بالسبت وقالوا: لا نقاتل معكم حتى تبعثوا إلينا رهائن.



قالت قريش وغطفان: صدقكم والله نعيم, فبعثوا إلى اليهود, وقالوا: إنا والله لا نرسل إليكم أحدًا, فانهضوا معنا نناجز محمدًا.



فقالت اليهود: صدقكم والله نعيم.



فدبت الفرقة بين الفريقين، وتفتت الأحزاب، وهكذا، بحكمة الله وتدبيره، يسلم نعيم بن مسعود في هذا الوقت، ويلهمه الله بالفكرة التي ينجح بها في تفتيت الأحزاب، ورد كيدهم.. {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82].


الجندي الثاني: الريح

والريح جندي هائل من جنود الرحمن، وربنا I بعث ريحًا شديدة وقاسية البرودة على معسكر الكافرين لم تترك لهم خيمة إلا واقتلعتها، ولم تترك قِدرًا إلا قلبته، ولم تترك نارًا إلا أطفأتها، ووصلت شدة الريح وخطورتها إلى الدرجة التي دفعتهم لأخذ قرار العودة دون قتال وفك الحصار.. {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82].



لماذا لم تأت الريح منذ اليوم الأول؟! لماذا انتظرت شهرًا كاملا؟!



كان ذلك لكي يمتحن المؤمنين، ويتميز الصادق من الكاذب، والمؤمن الصادق من المنافق.



ولماذا لم تهلكهم هذه الريح تمامًا مثلما أهلكت عادًا وثمود؟ لأن كثيرًا من هؤلاء الكفار سيسلمون بعد ذلك، ويتكون منهم جيش الإسلام.



سبحان الله! الكون يجري وفق نواميس غاية في الدقة والإعجاز.


الجندي الثالث: الملائكة

يقول الله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب: 9].



وسنرى فيما بعد في حديث بني قريظة أن الملائكة شاركت في الحرب بل شارك جبريل بنفسه.


هزيمة الأحزاب

وتم نصر الله وأرسل رسول الله حذيفة بن اليمان إلى معسكر الكفار ليطمئن على سير الأحداث, وعلى فعل الرياح بهم وعلى أثر الفرقة التي أحدثها نعيم بن مسعود ، فعاد حذيفة بالخبر الجميل وبالنصر العظيم.



لقد عزم الجميع على الرحيل.



كل ذلك بدون قتال.



قال I: {وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ المُؤْمِنِينَ القِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب:25].



وانتهت واحدة من أعظم معارك المسلمين مع أنه لم يحدث فيها قتال، وكان الله يريد أن يقول لنا، ليس المطلوب هو تحقيق النصر، ولكن المطلوب هو العمل من أجله، المطلوب هو قرار الجهاد، والثبات في أرض المعركة، المطلوب هو صفات الجيش المنصور، أما النصر فينزل بالطريقة التي يريدها رب العالمين، وفي الوقت الذي يريده الله .



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 3 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 3 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:46 pm

نشاط المسلمين عقب غزوة الأحزاب (2-3)

استغلال الانتصارات الأخيرة

وما النصر إلا نوع من الرزق، وكثيرًا ما يأتي النصر من حيث لا نحتسب.



غزوة بني لحيانبعد سرية محمد بن مسلمة ، وبعد هذه الآثار العظيمة ، وبعد ارتفاع معنويات المسلمين، وبعد خوف الأعراب وبعد هزة قريش وبعد إسلام ثمامة ، وقبل ذلك التخلص من زعماء اليهود الكبار وعلي رأسهم حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق، وبعد كل هذه الآثار الحميدة كان لزاما على المسلمين أن يستغلوا هذه الآثار الضخمة بسلسلة منظمة من الحملات العسكرية هنا وهناك، لقد وضح أن قريشًا سوف تتقوقع في داخل مكة وستنشغل بنفسها، ولن تقدم معونة لأحد في حرب المسلمين.



ومن هنا بدأ الرسول يرسم خطة لبسط السيطرة الإسلامية على الجزيرة العربية ومن يشاهد خريطة تحركات الجيوش والسرايا بعد غزوة الأحزاب يدرك بجلاء أن الرسول كان على دراية تامة بجغرافية وظروف الجزيرة العربية، فقد كانت الغزوات والسرايا متنوعة في كل الاتجاهات في شكل شبكة منظمة رائعة طوقت كل دروب الجزيرة العربية تقريبًا؛ شمالاً وجنوبًا وشرقًا وغربًا.



لقد كان شعار المرحلة بحق: "الآنَ نَغْزُوهُمْ وَلاَ يَغْزُونَا، نَحْنَ نَسِيرُ إِلَيْهِمْ".


غزوة بني لحيان

أول ما بدأ رسول الله جهاده هو محاربة قبيلتي عضل وقارة، وبدأ الرسول بهاتين القبيلتين لغدرهما بأصحاب الرسول عند ماء الرجيع, فقد قتلا من أصحاب الرسول عشرة بعد أن أوهموا المسلمين أنهم يريدون هؤلاء الصحابة لتعليمهم الإسلام، وكانت هذه الحادثة في صفر من السنة الرابعة من الهجرة, وكان وقع هذه المصيبة على الرسول وعلى المسلمين كبيرًا، لدرجة أن الرسول ظل يدعو عليهم في قنوته في الصلاة حوالي شهر كامل؛ ولذلك فبمجرد أن وجد الفرصة مهيأة لقتالهم أعد العدة لذلك، بل قرر الخروج بنفسه على رأس الجيش، فكانت الغزوة التي عرفت في التاريخ بغزوة بني لِحيان، وبنو لحيان هي القبيلة التي تنتمي إليها قبائل عضل وقارة.



خرج الرسول بالفعل في جيشه إلى بني لحيان في ربيع الأول سنة ست من الهجرة، وهذا الخروج خطير جدًّا؛ وذلك لأن قبائل بني لحيان قوية ومقاتلة، واشتهرت بالغدر وقطع الطريق، لذلك نصبوا لهم عدة كمائن على الطريق، ومساكن بني لحيان كانت بعيدة عن المدينة المنورة فهي على مسافة أربعمائة كيلو متر تقريبا إلى الجنوب, وهي بذلك تقع بالقرب من مكة المكرمة على بُعد تسعين كيلو متر تقريبًا عن مكة المكرمة، ولا يستبعد أن تدرك قريش أن جيش المدينة على مقربة منها فتخرج له.



فكل هذه الأمور تجعل هذه الغزوة فعلا خطيرة، ولعل هذه من الأسباب التي جعلته يخرج بنفسه على رأس الجيش، وقد كانت هذه الغزوة في شهر ربيع الأول 6هـ، بمجرد رجوع سرية محمد بن مسلمة من القرطاء, فخرج رسول الله في مائتين من الصحابة، وكان معه مجموعة من الفرسان أيضا, وأوهم الناس أنه يتجه إلى الشمال في ناحية الشام، ولكنه بعد ذلك غير اتجاهه إلى الجنوب, وقد فعل ذلك ليضلل عيون العدو, ووصل إلى ديارهم بالفعل، ولكنه فوجئ بأنهم قد اكتشفوا قدومه، فهربوا في رءوس الجبال، وتركوا ديارهم خالية وهذا وإن كان غير مراد الرسول ، إلا أنه ترك أثرًا إيجابيًّا في المنطقة كلها, لأن العربي لم يكن من شيمته الهروب وكان هذا الجبن صفة ممقوتة تماما لا يجب أن يوصف بها أبدًا, وخاصة أن القبيلتين قويتان ولهما تاريخ في الحروب والقتال والغزو, ولكن الله ألقى الرعب في قلوبهم فلم يفكروا أصلاً في المقاومة, ولم يفكروا في صورتهم أمام القبائل العربية الأخرى، وكان هذا انتصارًا كبيرًا للمسلمين -لا شك- في ذلك.



ولكن الرسول لم يكتف بهذا الانتصار بل مكث في ديار بني لحيان يومين كاملين يبث السرايا للبحث عنهم في كل مكان, ولكنه لم يعثر على أحد منهم، بل فعل رسول الله ما هو أكثر من ذلك جرأة, فقد أرسل سرية من عشرة فوارس في اتجاه مكة حتى بلغت كُراع الغميم على بعد حوالي أربعة وستين كيلو مترًا من مكة، وأمرهم أن يظهروا أمرهم وأن يعلم بهم أهل مكة, ويوهموا أهل مكة بغزوهم ليلقي الرعب في قلوب القرشيين.



وقد حدث ما تمناه الرسول وفزعت قريش, ونفرت إلى السلاح، ولكن الرسول عاد إلى المدينة، فلم يكن مستعدا لقتال ضخم مع جيش مكة، وإنما فقط أراد الرسول إرهابهم وقد تحقق له ما أراد.


غزوة ذي قرد

وعاد رسول الله إلى المدينة بعد غياب أسبوعين كاملين وبمجرد عودته أغار عيينة بن حصن الفزاري من فرع فزارة من قبائل غطفان، أغار على منطقة تابعة للمسلمين خارج المدينة تسمى (الغابة) فأخذ منها إبلا وشياه للمسلمين، وقتل ابن أبي ذر الغفاري ، واختطف امرأة أبي ذر الغفاري, وهرب عيينة بن حصن في اتجاه الشمال الشرقي للمدينة في ناحية منازل غطفان، ووصل النبأ بسرعة إلى رسول الله ، وكان الذي حمل النبأ هو سلمة بن الأكوع ، وكان من أعظم الرماة في الإسلام، فأخبر الرسول ، وعاد مسرعا إلى منطقة الغابة، وظل يرمي الفرقة المغيرة، فقتل بعضهم وأخرج الرسول فرقة سريعة الحركة من الفرسان وأمر عليهم سعد بن زيد الأنصاري ، وكان فيها المقداد بن عمرو، وعباد بن بشر، وأبو قتادة، وعكاشة بن محصن، ومجموعة من خيار فرسان الصحابة، وقال رسول الله لأميرهم سعد بن زيد وهو من الأنصار: "اخْرُجْ فِي طَلَبِ الْقَوْمِ حَتَّى أَلْحَقَكَ بِالنَّاسِ".



وبالفعل خرجت هذه الفرقة السريعة وتبعها الرسول بجيش من المسلمين وأدرك هذه الفرقة عند منطقة تسمى ذا قرد على بعد خمسة وثلاثين كيلو مترا شمال شرق المدينة، وقتل أبو قتادة رجلا من المشركين، وقتل عكاشة بن محصن رجلين، واستنقذ المسلمون بعض الإبل والشياه, وفرت المرأة المسلمة امرأة أبي ذر ونجت بنفسها إلى المدينة المنورة, وهرب عيينة بن حصن ومن معه ببعض الإبل, وطلب سلمة بن الأكوع من رسول الله أن يعطيه مائة من الرجال يغزو بهم قبائل غطفان ليسترد ما بقي من الإبل, ولكن رسول الله رفض؛ وذلك لأن قبائل غطفان قوية جدًّا، ومنازلها بعيدة، ولا يريد أن يدخل في صراع معهم وهو لم يعد العدة الكافية لذلك.



وبذلك نرى واقعية رائعة جدًّا في رد فعل رسول الله , فهو يكافح ويجاهد ويستخلص الإبل قدر المستطاع، ولكن كل ذلك في حدود المدينة المنورة وفي نفس الوقت هو لا يتهور بإرسال جيشه إلى مغامرة غير مأمونة, وعلى عكس ذلك أخذ جيشه قبل أيام وذهب إلى ديار بني لحيان في جنوب المدينة وذلك؛ لأنه شتان بين قوة بني لحيان وقوة غطفان, فالرسول يعط لكل أمر قدره, ويحسب حساباته بدقة ويتصرف على ضوء الحسابات في توازن رائع، وفقه عميق، وتعرف هذه الحملة الأخيرة التي قادها رسول الله بغزوة الغابة المكان الذي أغار عليه عيينة بن حصن، أو غزوة ذي قرد وهو المكان الذي وصل إليه الرسول في مطاردة المشركين، وكانت هذه الغزوة في ربيع الأول أو ربيع الآخر سنة 6هـ .


بث السرايا في أنحاء الجزيرة العربية

وبمجرد عودته بدأ في إخراج سرايا منظمة إلى كل بقاع الجزيرة العربية تقريبًا، وذلك إلى القبائل التي شاركت في حصار الأحزاب، أو القبائل التي اشتركت في قتال المسلمين قبل ذلك، أو إذا سمع بتجمع يعد لغزو المدينة المنورة، وهكذا أخرج السرايا الآتية:



- سرية عكاشة بن محصن إلى غَمْر مرزوق تجمع لفرع من فروع بني أسد، وهي على مسافة من المدينة المنورة على بعد ليلتين من فيد، وهذه السرية كانت في نفس الشهر الذي تمت فيه غزوة ذي قرد، وهو ربيع أول أو ربيع آخر سنة 6هـ.



- سرية محمد بن مسلمة إلى ذي القصة لقتال بني ثعلبة، على مسافة 55 كيلو مترًا شمال المدينة، وذلك في ربيع الثاني سنة 6هـ.



- سرية أبي عبيدة بن الجراح في ربيع الثاني إلى نفس المنطقة، ولنفس الهدف.



- وفي نفس الشهر خرجت سرية أخرى بقيادة زيد بن حارثة إلى منطقة تعرف بالجموم على بعد حوالي مائة كيلو متر من المدينة المنورة، وقد خرجت لقتال بني سُليم.



- وبعد هذه السرية بأيام وفي شهر جمادى الأولى خرجت سرية مهمة بقيادة زيد بن حارثة أيضا إلى منطقة أخرى تعرف بالعيص في شمال غرب المدينة على طريق القوافل المتجهة إلى الشام لاعتراض قافلة قرشية متجهة إلى الشام، وقد تم بالفعل الإمساك بالقافلة بكاملها.



- وفي شهر جمادى الآخرة، خرج زيد بن حارثة مرة ثالثة على رأس سرية إلى منطقة تسمى الطرف على بعد ستة وثلاثين ميلاً من المدينة على طريق العراق للإغارة على بني ثعلبة.



ويبدو أن الرسول يعد زيد بن حارثة لأمر عظيم، وهو توجه زيد لقتال الروم في مؤتة.



- وفي نفس الشهر، جمادى الآخرة سنة 6هـ خرج زيد بن حارثة للمرة الرابعة على رأس سرية في غاية الأهمية إلى منطقة حسمى في شمال الجزيرة العربية ووجه الأهمية هو سبب السرية ومكانها، أما السبب هو أن الرسول كان قد أرسل دحية الكلبي إلى قيصر برسالة، ورد عليه قيصر الروم برسالة أخرى وحمل دحية الكلبي بعض الهدايا للرسول، ولكن عند عودة دحية الكلبي إلى المدينة اعترضه أحد زعماء قبيلة جذام التي تسكن في هذه المنطقة، وهو الهنيد بن عوص وابنه ومجموعة من رجال القبيلة وأخذوا منهم الهدايا ولكن سمع بذلك مجموعة من بني الضبيب وهم من المسلمين هبوا لنجدة دحية الكلبي.



وبالفعل استردوا له الهدايا وحملها إلى الرسول ، وعندما أخبر دحية الرسول بهذا الأمر قرر رسول الله أن لا يجعل هذا الموقف يمر دون وقفة حتى وإن كانت الهدايا قد استردت، وذلك ليعلم الجميع أن هيبة الأمة الإسلامية لا يجب أن تنتقص أبدا، وأن أي إنسان أو قبيلة تسول لها نفسها التعدي على حرمة الأمة الإسلامية ولو كان هذا التعدي على رجل واحد أو امرأة واحدة؛ ولذلك قرر رسول الله أن يخرج جيشًا لعقاب قبيلة جذام وبخاصة الهنيد بن عوص وابنه اللذيْن تزعما الفرقة التي هجمت على دحية الكلبي .



رأينا الرسول قبل ذلك ينتفض لانتهاك حرمة امرأة واحدة أهينت على يد يهود بني قينقاع فحاربهم وأجلاهم من المدينة تماما، وها هو الآن ينتفض لانتهاك حرمة مسلم واحد اعتدي عليه من قبيلة قوية في شمال الجزيرة العربية، ولا تسل عن مدى إحساس رعايا الدولة الإسلامية بالأمان والطمأنينة، وهم يوقنون أن دولتهم بكاملها تقف وراءهم وتحفظ كرامتهم وتدافع عن حقوقهم وترفع رأسهم في العالم أجمع.



وتزداد قيمة الموقف ارتفاعًا عندما تعلم أن القبيلة التي اعتدت على دحية الكلبي هي قبيلة جذام القوية، وتقع مساكنها على بعد حوالي ثمانمائة كيلو متر تقريبًا إلى الشمال من المدينة المنورة، مسافة طويلة صعبة، وفي الصحراء وسيتم فيها لقاء صعب، ولكن كرامة الأمة الإسلامية فوق كل الاعتبارات.



هكذا يكون التعامل مع هموم وقضايا الأمة، جهز رسول الله جيشا بقيادة زيد بن حارثة وهذه هي السرية الخامسة التي يقودها زيد بن حارثة في هذه السنة، في خمسمائة رجل وهذه من أكبر السرايا التي خرجت من المدينة المنورة، وأخرجها الرسول بهذا الحجم لأن مهمتها صعبة، ولا مدد لها من المدينة لبعد المسافة.



وبالفعل خرج زيد بن حارثة بهذا الجيش الكبير وكان يسير ليلاً ويمكث نهارًا حتى لا تكتشفه عيون العدو، وباغتت هذه السرية الكبيرة قبيلة جذام في الصباح فقتل منهم عددا، وكان من بين القتلى الهنيد وابنه، وساق زيد بن حارثة من ماشيتهم ألف بعير وخمسمائة ألف شاة، ومن السبي مائة من النساء والصبيان.



لقد كان هذا انتصارًا هائلاً، وحدثًا مدويًا، لقد عرف الجميع أن انتقاص هيبة الدولة الإسلامية يعني الحرب والقتال والجهاد, ولا بد لكل أهل الجزيرة أن يعلموا هذا الأمر جيدا ويدركوا هذه القيمة العالية للدولة الإسلامية الناشئة في المدينة، ومع كون المسلمين يعيشون أزمة اقتصادية كبيرة بعد الأحزاب إلا أن الرسول أعاد كل هذه الغنائم مرة ثانية إلى جذام، فلماذا أعادها؟!



لقد جاء إليه زيد بن رفاعة الجذامي أحد أفراد قبيلة جُذام وكان قد أخذ قبل ذلك كتابًا بالأمان من رسول الله عندما أسلم هو وبعض أفراد قبيلته ومع أن الكتاب قد نقضه عندما غدرت قبيلة جذام بدحية الكلبي إلا أن الرسول قد آثر أن يكسب قلوب القبيلة بإعادة الأموال والغنائم وإطلاق النساء والصبيان، وخاصة وقد ظهرت للجميع هيبة الدولة الإسلامية وقوتها وعزتها وتحقق الهدف من السرية، وقد تكون إعادة الغنائم والسبي سببًا في ثبات المؤمنين في القبيلة على الإيمان وسببًا في إسلام من لم يسلم بعد.



لقد كان تصرفًا سياسيًّا حكيمًا من رسول الله أثبت للجميع أنه لا يقاتل من أجل المال والغنائم والسبي والدنيا بكاملها، وإنما يقاتل لأجل إعلاء كلمة الله ، ولأجل تعبيد الناس لرب العالمين.



وكانت هذه السرية كما ذكرنا في شهر جمادى الآخرة سنة 6هـ.



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 3 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 3 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:46 pm

نشاط المسلمين عقب غزوة الأحزاب (3-3)

سرية وادي القرى

بعد عودة زيد بن حارثة إلى المدينة مكث بها عدة أيام ثم أخرجه الرسول مرة أخرى إلى سرية جديدة للمرة السادسة في منطقة وادي القرى وذلك في شهر رجب سنة 6هـ لقتال قبيلة بني فزارة، وهي قبيلة عيينة بن حصن الذي أغار على المدينة المنورة قبل ذلك بثلاثة أشهر.


غزو الرسول لبني المصطلق

غزوة بني المصطلقسمع رسول الله بتجميع قبيلة بني المصطلق استعدادها لغزو المدينة، فما كان منه إلا أن جمع جيشه وانطلق إليهم مسرعا، وكان خروجه من المدينة في 2 شعبان سنة 6هـ باغتهم عند منطقة تعرف بماء المريسيع، وعندها انتصر المسلمون انتصارًا كبيرًا وغنموا غنائم ضخمة وسلبوا عددًا كبيرًا من نساء القبيلة كان منهم جويرية بنت الحارث ابنه زعيم بني المصطلق الحارث بن ضرار، وكانت ضربة هائلة للقبيلة.



ثم إن رسول الله تزوج من جويرية بنت زعيم القبيلة، وذلك بعد أن أدى عنها كتابها لثابت بن قيس ، وكانت من نصيبه في السبي وكانت جويرية قد أسلمت، ورأى الرسول أنه بهذا الزواج سيقرب قلوب بني المصطلق له، وبخاصة إذا أعتق المسلمون سباياهم من نساء بني المصطلق إكرامًا لرسول الله ، وقد حدث ما توقعه الرسول الحكيم ، وأعتق الصحابة سبايا بني المصطلق، وقالوا: أصهار الرسول . فأعتق في ذلك اليوم يوم زواج رسول الله من جويرية بنت الحارث أهل مائة بيت وكان ذلك سببًا في إسلام قبيلة بني المصطلق، فكان نصرًا عزيزًا للإسلام والمسلمين.


أهمية غزوة بني المصطلق

ومع كون غزوة بني المصطلق أو غزوة المريسيع ليست من الغزوات الكبرى لرسول الله ، ولم يكن فيها الصراع طويلا، ولا القتلى والشهداء كثيرا، إلا أن هذه الغزوة اكتسبت أهمية خاصة في السيرة النبوية لخطورة الآثار الخبيثة التي تسبب فيها المنافقون المشاركون في هذه الغزوة، فمن بين المنافقين من رأى الانتصارات المتعددة والغنائم الكثيرة التي جاءت في السرايا والغزوات التي أعقبت الأحزاب، فقرروا الخروج مع المسلمين وفي هذه الغزوة قد تسببوا في أكثر من أزمة كادت كل واحدة منها أن تطيح بكيان الدولة الإسلامية، وصدق إذ يقول في حق المنافقين: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: 47].



وهذا عين ما حدث في غزوة بني المصطلق فقد تسببوا في مجموعة متتالية من الفتن وللأسف الشديد فكما قال الله : {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47]، أي فيكم أيها المؤمنون الصادقون من يلتبس عليه الأمر فيشارك في الفتنة ويقع فيها، والحق أن الأزمات التي أثارها المنافقون في هذه الغزوة من الضخامة بحيث إنها تحتاج إلى تفريغ وقت وإلى تحليل طويل، وتدبر عميق مما قد لا يتسع له المقام في هذه السطور، وإنما سنفرد لها إن شاء الله حديثًا خاصًّا في مجموعة أخرى من الأبحاث, سنجمع فيها أخطاء الصحابة ونرى فيها رد فعل الرسول لهذه الأخطاء وكيف عالجها وكيف خرج المسلمون من أزمتهم، أما في هذه السطور التي نحن بصددها الآن فإننا نكتفي بالإشارة إلى هذه الأزمات دون تفصيل.


فتن أثارها المنافقون

أما الأزمة الأولى فكانت صراع قام بين المهاجرين والأنصار على السقاية من بئر من آبار المنطقة، وهذا الحدث نادر في السيرة ولعله الوحيد وكانت أزمة كبيرة كادت أن تتفاقم لولا حكمة الرسول في السيطرة عليها.



ثم نجمت عن هذه الفتنة فتنة أخرى خطيرة، وهي فتنة نداء المنافقين في أوساط الأنصار بأن يخرجوا المهاجرين من المدينة، وقال عبد الله بن أُبي بن سلول كلمته الفاجرة يعلق فيها على المهاجرين بقوله: والله ما نحن وهم إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منا الأذل. وكانت أزمة خطيرة توشك أن تقضي على الأمة، لولا أن الله سلم.



ثم حدثت فتنة ثالثة شنيعة وهي حادث الإفك، وفيه اتهم المنافقون السيدة عائشة بالفاحشة، وللأسف الشديد وقع بعض المؤمنين في الأمر، واتسع نطاق الأزمة حتى شمل المسلمين كلهم ما بين مدافع ومهاجم وما بين مبرئ ومتهم، ولم ينزل وحي في القضية إلا بعد شهر كامل حين نزل الوحي بتبرئة السيدة عائشة الطاهرة من التهمة الشنيعة التي أثارها المنافقون حولها، واشترك فيها بعض المؤمنين، وكان حادث الإفك هذا من أشد الأزمات التي مرت بالمسلمين، ليس في هذه الفترة فقط ولكن في كل فترات السيرة.



المهم الذي نريد أن نذكره في هذا المقام أنه بالرغم من الأزمات والفتن التي حدثت في غزوة بني المصطلق إلا أن أسهم المسلمين كانت في ارتفاع، وكان الجو العام في الجزيرة العربية يشير بوضوح إلى نمو الدولة الإسلامية نموًّا سريعًا، وأن هذا النمو يسير بشكل طبيعي ومتدرج ومدروس، وكل هذا يكون له آثار كبيرة جدًّا على الأحداث المستقبلية للدولة الإسلامية، وسنفهم أثره بصورة أكبر عند الحديث عن صلح الحديبية إن شاء لله.


استمرار النشاط العسكري للمسلمين

كانت غزوة بني المصطلق هذه في شهر شعبان سنة 6هـ، ومع أن المدينة كانت تغلي بالأحداث الأخيرة وخاصة حادث الإفك، إلا أن حركة الجهاد لم تتوقف،



- فقد أخرج الرسول في نفس الشهر شعبان 6هـ سريتين هامتين جدًّا، أحدهما بقيادة عبد الرحمن بن عوف إلى ديار بني كلب بدُومة الجندل على مسافة ضخمة جدًّا من المدينة المنورة.



- والأخرى إلى ديار بني سعد بفدك، والذين كانوا يعدون قوة للتعاون مع يهود خيبر لحرب المسلمين، وكانت هذه السرية الأخيرة بقيادة علي بن أبي طالب .



- وفي شهر رمضان سنة 6هـ أرسل الرسول سرية أخرى إلى بني فزارة في منطقة وادي القرى، وكان على رأسها أبو بكر الصديق أو زيد بن حارثة ، وكانت هناك امرأة تدعى أم قرفة قد أعدت فرقة من ثلاثين فارسًا لاغتيال رسول الله ، وقد واجهت السرية الإسلامية هؤلاء الفرسان الثلاثين فقتل المشركون جميعًا.



ثم ازداد نشاط المسلمين جدًّا في شهر شوال سنة 6هـ، فأخرج الرسول ثلاث سرايا خطيرة.



- أما الأولى فكانت إلى مجموعة من المشركين من قبائل عكل وعرينة، وكانوا أظهروا الإسلام ثم غدروا بأصحاب الرسول وقتلوا واحدا منهم وسرقوا كمية من الإبل، فأرسل رسول الله في أثرهم سرية بقيادة كرز بن جابر الفهري واستطاع الإمساك بهم وقتلهم، وتمكن من استرداد الإبل.



- وأما السرية الثانية في شهر شوال فكانت سرية بقيادة عبد الله بن رواحة وكانت مهمتها اغتيال اليُسير بن رِزام أمير خيبر وهو من أكابر اليهود، ومن الذين أخذوا يجمعون اليهود في خيبر ووادي القرى لحرب المسلمين، ولم يكتف بذلك، بل بدأ يجمع غطفان من جديد لحرب المسلمين ويقوم بالدور الذي قام به قبل ذلك حيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق؛ ولكي لا تتكرر مأساة حصار المسلمين في داخل المدينة وحرص الرسول على التخلص من هذا الطاغية، وبذلك يجنب المسلمين ويلات أزمة ضخمة قد تحدث، فكانت هذه السرية المكونة من ثلاثين مسلم في شوال سنة 6هـ، تمكنت هذه السرية فعلا من قتل اليسير بن رزام، وأمن المسلمون بذلك شر خيبر بصفة مؤقتة.



ولا شك أن العلاج النهائي لمشكلة خيبر، وتأليبها المستمر على المسلمين هو الغزو المباشر لخيبر وحربها حربا فاصلة كتلك الحروب التي تمت قبل ذلك مع يهود بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة كان هذا الحل النهائي، ولكن الرسول لم يكن يستطيع أن يغزو خيبر دون أن يؤمن ظهره وأخطر ما يهدد ظهره هو غزو قريش للمدينة، وبالذات أنه لم يمر على غزو المدينة إلا عام واحد فقط، وإذا خرج الرسول لحرب خيبر حربًا شاملة فقد يستغرق ذلك قترة طويلة من الزمان قد تصل إلى شهر لشدة بأس المقاتلين من أهل خيبر ومناعة حصونهم، ولا يستطيع الرسول أن يترك المدينة خالية من الجند فترة طويلة غير محسوبة؛ لذلك اكتفى الرسول باغتيال رأس الفتنة ومحرك الجموع اليسير بن زرام إلى أن يصل إلى وسيلة لتأمين جانب قريش، ثم بعدها يتفرغ لقضية خيبر. ولا شك أن كل هذه الأحداث تفسر لنا ما سيحدث بعد ذلك من صلح الحديبية من اتفاق المسلمين وقريش على فترة من الزمان، كما سيأتي بالتفصيل إن شاء الله عند الحديث عن صلح الحديبية.



- أما السرية الثالثة والأخيرة في هذا الشهر فكانت سرية خطيرة أخرى ووجهتها إلي مكة المكرمة عقر دار قريش ومهمتها في غاية الخطورة وهذه المهمة هي اغتيال أبي سفيان شخصيًّا، وكانت هذه السرية ردًّا على تجميع أبي سفيان للجموع الضخمة لحصار المسلمين في الأحزاب، ومحاولة إهلاك أهل المدينة جميعًا، وكذلك ردًّا على محاولة أبي سفيان لاغتيال الرسول عندما أرسل أعرابيًّا إلى المدينة لهذا الغرض وفشلت محاولة الأعرابي وكما فشلت محاولة الأعرابي، فشلت أيضًا محاولة السرية الإسلامية التي كانت بقيادة عمرو بن أمية الضمري في اغتيال أبي سفيان، والحمد لله أنها فشلت في ذلك؛ لأنه أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، لكن المهم في هذا الموقف أن قريشًا علمت أنها مهددة بجدية في عقر دارها، ولا شك أن ذلك أفزع زعماءها جدًّا، ولأن الزعماء من أهل الدنيا لا يرون أن هناك شيئًا أغلى من حياتهم وكراسي حكمهم، فإذا فقدوها كانت لهم الطامة الكبرى.


وقفة مع سنة 6هـ

لقد كانت هذه سرية عمرو بن أمية كما ذكرنا في شوال سنة 6هـ، وبذلك مرت سنة كاملة على غزوة الأحزاب والتي كانت في شوال سنة 5هـ، ونحتاج هنا لوقفة مع هذه السنة لنحللها:



لقد تميزت هذه السنة المباركة السنة السادسة من الهجرة بأنها كانت سنة جهادية من الدرجة الأولى، انتشرت فيها جيوش الإسلام في كل أنحاء الجزيرة العربية تقريبًا، وتمت فيها عشرون حملة عسكرية، ويعني هذا أن هناك حملة عسكرية كل عشرين يوم، كان منها سبع عشرة سرية بقيادة الصحابة ، وثلاث غزوات بقيادة الرسول ، ومع أن هذه الغزوات والسرايا بصفة عامة لم تكن من المعارك الضخمة إلا أن تأثيرها كان عميقًا على أهل الجزيرة سواء من المسلمين أو المشركين أو اليهود أو المنافقين أو الأعراب.


آثار الغزوات والسرايا

1- تحسن الوضع الأمني للمسلمين في الجزيرة العربية سواء في المدينة المنورة أو في القبائل المسلمة في أي مكان، أو حتى للمسلمين العابرين، أو المسافرين من مكان إلى مكان، فقد أصبح للمسلمين هيبة عظيمة في قلوب الجميع.



2- تحسن المستوى العسكري والأداء القتالي للمسلمين تحسنًا ملحوظًا، فهذه كانت دورات عسكرية تدريبية عملية تختلف كثيرًا عن التعليم النظري، وتختلف حتى عن التدريب الاصطناعي غير الواقعي. وسيظهر أثر هذه التدريبات المكثفة على مستقبل الجيش الإسلامي في المعارك اللاحقة كخيبر ومؤتة وفتح مكة وحنين والطائف وغيرها.



3- تحسن الوضع الاقتصادي للدولة الإسلامية؛ وذلك نتيجة لعدة عوامل منها الاستقرار الأمني الذي يشجع المناخ التجاري، ومنها العلاقات المنتشرة للمسلمين في كل مكان، ومنها كثرة الغنائم من السرايا والغزوات، ومنها اعتماد المسلمين تجاريًّا على أنفسهم بعد قطع العلاقات التجارية مع اليهود.



4- أقام المسلمون علاقات دبلوماسية قوية مع الكثير من موازين القوة في الجزيرة العربية، سواء على المستوى القبلي أو على مستوى الأفراد الزعماء، فعلى سبيل المثال أقام المسلمون علاقات دبلوماسية قوية مع قبائل بني المصطلق، وبني كلب بدومة الجندل، وكذلك مع بعض الزعماء الكبار أمثال ثمامة بن أثال .



5- في مقابل هذه العلاقات حدث تفكك ملحوظ في علاقات قريش بكثير من القبائل العربية، فالقبائل التي عقدت علاقات مع المسلمين فقدتها قريش، وآثرت أكثر القبائل أن تبقى على الحياد، فلا هي مع قريش ولا هي مع المسلمين، وهذا انتصار للمسلمين؛ لأن قريشا مع ما لها من تاريخ وقوة وسيادة لم تعد مقنعة لعموم القبائل العربية كحليف، وهذا -لا شك- سيكون له بُعد مهم في صلح الحديبية القادم.



6- شعرت قريش بالقلق الشديد نتيجة نمو الدولة الإسلامية بهذه الصورة وأحست أن المسلمين قادرون على تهديدها في عقر دارها، ورأينا اقتراب سرية إسلامية خرجت أثناء غزوة بني لحيان من صدور مكة المكرمة، ورأينا محاولة اغتيال أبي سفيان. ولا شك أن هذا وغيره كان له أثر كبير على الحالة النفسية للقرشيين جعلهم يشعرون أن البساط يسحب من تحت أقدامهم، وأن الأيام القادمة ليست لهم، وهذا -لا شك- سيكون له أثر واضح في تحديد بنود صلح الحديبية.



7- نتيجة التقدم الإسلامي الملموس، والتأخر القرشي الواضح ارتفعت معنويات المسلمين جدًّا وزادت ثقتهم بأنفسهم، وهذا سيعطيهم القدرة على الانطلاق إلى قرارات جريئة تكون لها تبعات كبيرة ولن يقف أمام أحلامهم أحد، بل إننا سنشاهد مواقف لعلها لم تكن تخطر أصلاً في أحلام المسلمين.



8- نتيجة هذا المستوى الإسلامي المتميز سارع المنافقون بكتم نفاقهم، ومن كان يجاهر بالسوء أيام الأحزاب فإنه الآن يداهن ويتخفى، وليس معنى ذلك أنهم سيكفون عن أذاهم، ولكن معناه أنهم سيكيدون كيدهم بحذر أكثر وحرص أعظم، وهذا قد يضاعف من خطرهم، وما أحداث غزوة بني المصطلق بخافية على أحد، فهم دبروا هذه الفتنة التي حدثت بها في الظلام دون أن يجهروا بشيء، بل إنهم عندما سئلوا مباشرة عن هذه الأحداث أنكروها وحلفوا بالله تعالى ما قالوا. ولا شك أن فتنة المنافقين ستزداد كلما ازدادت قوة الدولة الإسلامية، وستتفاقم هذه الفتنة بعد ثلاث سنوات، وأثناء غزوة تبوك، وعلى المسلمين أن يكونوا على حذر تام من هذه الثعابين التي تسعى في الظلام.



9- ضعفت قوة اليهود إلى حد كبير، فقد قتل أكابر مجرميهم بدءًا بحيي بن أخطب وسلام بن مشكم أثناء غزوة بني قريظة، ومرورا باغتيال الزعيمين الجدد سلام بن أبي الحقيق واليسير بن رزام، ثم إنهم قد هوجموا في وادي القرى وفدك وهددوا تهديدًا خطيرًا، وفوق ذلك فقد فقدوا الكثير من أحلافهم في الجزيرة العربية بعد الحملات الإسلامية المتكررة هنا وهناك، فلقد كانت هذه الحملات بمنزلة تقطيع الأوصال ليهود خيبر تمهيدًا للقاء فاصل يريح الناس من أذى اليهود.



10- نتيجة هذه الحملات العسكرية هنا وهناك سمع أهل الأرض بهذا الدين الجديد وهذه الدولة الإسلامية الحديثة، وتحولت الدعوة من المحلية إلى العالمية ومن الجزيرة العربية إلى القارات المختلفة، ومن العرب إلى كل أجناس الأرض والعناصر، وسوف يكون لهذا أثر في الخطة المستقبلية للدولة الإسلامية، وبخاصة بعد صلح الحديبية، وسيبدأ الرسول في مراسلة زعماء العالم أجمع والذين سمعوا عن هذه الدولة في الجزيرة العربية في هذه السنة السادسة من الهجرة.



كان هذا الأثر العاشر لهذه الحملات الجهادية، ولا شك أن هذه الآثار الكثيرة كانت تشير إلى أن هناك حدثًا كبيرًا ستمر به المنطقة سيكون له أبلغ الأثر في تغيير الأوضاع، وهو الانتقال إلى مرحلة جديدة تتبدل فيها موازين القوى في الجزيرة العربية، بل في العالم أجمع، وهذا الحدث هو صلح الحديبية.



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 3 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 3 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:48 pm

السفارات المتبادلة بين الرسول والمشركين عند الحديبية

قريش تبعث بديل بن ورقاء الخزاعي

السفارات والسفراء في الإسلاموبعد قليل من بقاء المسلمين في منطقة الحديبية وجدوا أن قريشًا أرسلت لهم رسولاً, والرسول هو بُديل بن ورقاء الخُزاعي، وأرسلت قريش رجلا من خزاعة، وهي قبيلة قريبة من النبي ومعروف أنها قبيلة حليفة لبني هاشم وبينهما علاقات طيبة، وهذا يدل على أن قريشًا لا تريد الحرب لأنها تعلم أنها في موقف ضعيف، ولم يرسلوا زعيمًا من زعماء قريش يهدد ويتوعد؛ لأن قريشًا تريد أن تعامل الرسول بنوع من السلم والحسنى، وتريد أن تتجنب القتال قدر المستطاع. وهكذا نرى قريشًا العزيزة المنيعة القوية القبيلة الكبيرة في العرب المعظمة عند جميع قبائل العرب بلا استثناء، كيف تقبل هذه القبيلة الكبيرة بالجلوس مع الرسول على طاولة مفاوضات ليس فيها نوع من الضغط المباشر على الرسول ؟



وهذا يبين لنا أهمية النشاط العسكري في السنة السادسة من الهجرة، فقد أثر تأثيرًا كبيرًا على سلوك قريش وأضعف موقفها، وكان له تأثير معنوي واضح جدًّا على المسلمين.



والمسلمون الآن على بعد عدة كيلو مترات من مكة المكرمة بهذه العزة، وقريش لا تستطيع أن ترسل زعيما من زعمائها لكي يتوسط عند المسلمين أن يعودوا، فأرسلوا بديل بن ورقاء الخزاعي للرسول ليمنعه قدر المستطاع من دخول مكة، فقريش لا تريد من الرسول دخول مكة المكرمة، لكن في الوقت نفسه لا تريد أن يحدث قتال مع المسلمين؛ لأنها أضعف من المسلمين، وإن كان المسلمون يسيرون إليهم بسلاح المسافر فقط، وليس بعدة الحرب، فوقف بديل بن ورقاء وحاول أن يهدد الرسول تهديدا خفيفا فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. فقال النبي : "إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنْ جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَإِنَّ قريشًا قَدْ نَهَكَتْهُمُ الْحَرْبَ وَأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً، وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ، فَإِنْ أَظْهَرَ فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا، وإِلاَّ فَقَدْ جموا، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقاَتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفْرَدَ سَالِفَتِي، وَلَيَنْفَذَنَّ أَمْرُ اللَّهِ".



يقول بديل بن ورقاء إنه ترك قريشًا ومعهم أبناؤهم وسلاحهم، وأن الحرب لن تكون سهلة.



فقال الرسول "إنـا لـم نجـئ لقتـال أحـد، ولكن جئنا معتمرين"، فإن موقفنا القانوني والشرعي في الجزيرة العربية على الحق، فنحن لا نخالف قوانين الجزيرة العربية، وقوانين قريش نفسها تقضي بأن ندخل إلى مكة المكرمة لأداء العمرة إذا أردنا ذلك، بل تحمينا قريش بسيوفها، هذا هو القانون، وقريش هي التي تخالف الأعراف والقوانين المعروفة في ذلك الوقت، "وإن قريشًا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم"، فقريش لن تحارب المسلمين لأنها أضعف من أن تحارب؛ لأنها عادت من الأحزاب في خزي واضح بعد أن فشلت في غزو المدينة المنورة. وقريش لم تحرك جيشًا واحدًا لقتال المسلمين في خلال السنة السادسة من الهجرة مع اقتراب المسلمين أكثر من مرة لحدود مكة المكرمة، فهذا واضح جدًّا والرسول يفاوض من هذا الوضع القوي، لذلك كلماته مسموعة وكلماته مرهوبة عند بديل بن ورقاء وعند القرشيين جميعًا؛ فلذلك قال هذه الكلمات: "إن قريشًا قد أنهكتهم الحرب وأضرت بهم".



وبدأ الرسول يعرض مطالبه علي الوسيط، حتى يخبر بها قريشًا، فقال "فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس". فالرسول يطلب من قريش أن تمادده أي تضع الحرب بينها وبينه مدة من الزمان، "ويخلوا بيني وبين الناس" أن أدعو الناس وهم يدعون الناس كل طرف يتصرف دون خشية من الطرف الآخر في أن يدخل معه في حرب.



إن ما حدث في صلح الحديبية كان مطلبًا إسلاميًّا فإن الدعوة في الجو السلمي أكثر إنتاجًا وأعظم تأثيرًا في قلوب الناس عنها في جو الحروب؛ لذلك كان يطلب أن تضع قريش الحرب بينه وبينها مدة من الزمان يسمح له فيها بالدعوة فيها دون قتال. والعرض الثاني "فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا"؛ أي إن أرادوا الإسلام والدخول في نوره فليسلموا، ولهم ما لنا وعليهم ما علينا، ويقول الرسول هذا الكلام وهو يقف على بعد خطوات من مكة المكرمة وبسلاح المسافر، وهو في منتهى القوة، هذا هو الإسلام وهذه هي عزة الإسلام. أما العرض الثالث وإن أبوا إلا القتال، "فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذن الله أمره". إنه قتال إلى النهاية، حتى الموت فنحن لا نخشى القتال بل نطلبه؛ لأنه في سبيل الله تذهب الروح وتقطع السالفة؛ أي الرقبة هذا أمر لا نرهبه أبدًا.



وضع الرسول عروضه الثلاثة واضحة أمام الوسيط فقال بديل بن ورقاء الخزاعي سأبلغهم ما تقول، وانطلق إلى مكة المكرمة وعندما ذكر بديل هذه الأمور لزعماء مكة كان المتوقع منهم أن يثوروا ويغضبوا كيف يقول الرسول هذه الكلمات وهو على بعد خطوات قليلة من مكة المكرمة وهم في عقر دارهم ومعهم الجيوش، ولكن هذا لم يحدث فقد ألقى الله الرعب في قلوب القرشيين؛ لأن من سنة الله في كونه عندما يتمسك المسلمون بحقوقهم وعندما يرفع المسلمون رأسهم وعندما يعتز المسلون بدينهم فلا بد أن يكون هذا هو الموقف، وأمام هذه العروض قررت قريش إرسال رسول آخر؛ لأن قريشًا تحاول قدر المستطاع أن يتجنبوا اللقاء والصدام مع رسول الله وإن كان بسلاح المسافر.


قريش ترسل الحليس بن علقمة

أرسلت قريش الحليس بن علقمة وهو من بني الحارس بن عبد مناة بن كِنانة من رءوس الأحابيش من رءوس القبائل الحليفة لقريش، ليس قرشيًّا، للمرة الثانية ترسل قريش زعيمًا ليس قرشيًّا، فهي لا ترسل أحد زعمائها حتى لا يتهور في قرار لا يستطيع القرشيون تحمله وعندما رأى الرسول الحليس قال: "هَذَا مِنْ قَوْمٍ يُعَظُّمَونَ الْبُدْنَ". فهم قوم متدينون يحترمون قواعد البيت الحرام وأعراف البيت الحرام، و"يعظمون البدن" يعظمون من جاء إلى الحج أو العمرة في مكة المكرمة.



فالرسول عاملَه بما هو أهله أرسل إليه البدن في وجهه، ليشعره أنه ما جاء إلى هنا إلا ليقوم بما يعظمه هو، بما يعظمه الحليس وقومه، أرسل البدن في وجهه واستقبله الصحابة وهم يلبون: لبيك اللهم لبيك، ولما رآهم الحليس قال: سبحان الله!! ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت. فالرسول استطاع أن يكسب قلب الحليس بن علقمة حتى قبل أن يتم بينهما كلام، فهذا من بُعد نظر الرسول ؛ لأن الحليس بن علقمة كافر وأبو سفيان كافر وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وكل هؤلاء كفار، ولكن كل واحد من هؤلاء له طريقة تعامل فهناك كافر غادر، وهناك كافر من نبلاء القوم، وهناك كافر لا ينظر إلى الدين أيًّا كان، وهناك كافر يعظِّم الدين وإن كان دينًا باطلاً.



وهكذا كل واحد له طريقة في التعامل والرسول يتعامل مع الرجل على قدر علمه وقدر ظروفه، وهذه هي الحكمة في حقيقتها، رجع الحليس بن علقمة للمشركين يقول لهم: أدخلوه مكة يؤدي عمرته، ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت. ولكن قريشًا ضربت بكلامه عُرض الحائط، تأزم الموقف عند قريش وبحثت عن حل آخر.


إرسال عروة بن مسعود

فأرسلت قريش الرسول الثالث وبذلك نرى مدى الخزي والذل الذي تعيشه قريش فقد أرسلت وسيطًا ثالثًا وهو عروة بن مسعود الثقفي، وهو من قبيلة ثقيف، وتعتقد قريش اعتقادًا جازمًا أن المسلمين سيحترمون رأيه، ويسمعون كلامه؛ لأنه كان معظمًا في كل الجزيرة العربية، لدرجة أنه عندما نزل القرآن الكريم على رسول الله وبلغ به الناس وقف القرشيون وقالوا قولتهم الفاجرة قالوا: {وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا القُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزُّخرف: 31].



فهم يسحبون العظمة من الرسول وينسبونها إلى أولئك الذين كثرت أموالهم وعظمت قوتهم في الجزيرة العربية، والقريتين هما مكة والطائف والرجل الذي يقصدونه من مكة هو الوليد بن المغيرة، والذي يقصدونه من الطائف هو عروة بن مسعود الثقفي هذا يدل على أن جميع أهل مكة، وجميع أهل الجزيرة العربية يدركون أن هذا الرجل رجلاً عظيمًا داخل الجزيرة العربية بكاملها؛ لذلك أرسلوه للتفاوض مع رسول الله . وطبعًا عروة بن مسعود لكونه عزيزًا، ولكونه سيدًا جاء بكلمات تهديدية لرسول الله . وفي نفس الوقت هو من ثقيف إن هدد ولم يقبل الرسول بكلامه، لن يكون ذلك مؤثرًا على قريش، فذهب إليه، وقال له: أرأيت لو استأصلت قومك.



وانظر إلى عروة بن مسعود الثقفي كيف يقلب الحقائق كيف يصور الرسول ، وكأنه هو الذي يريد أن يقتل أهله وليس العكس، فالرسول أكثر من مرة أعلن أنه لم يجئ لقتال، وإنما جئنا للعمرة فقط، يريد حقًّا أن تهدأ قريش، ولكن قريش هم الذين يخالفون ويعتدون، ولكن قلب الحقيقة وتصوير المظلوم بأنه هو الظالم وتصوير الظالم بأنه معتدى عليه هذا أمر قد اعتدنا عليه كثيرًا في التاريخ، وتذكروا كلام فرعون لأهل مصر عن موسى : {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ} [غافر: 26].



فجاء عروة بن مسعود الثقفي فقال: أرأيت لو استأصلت قومك. لو دخلت وحاربت قومك وانتصرت واستأصلت قومك وقتلت كل من في مكة هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك، والرسول إنما جاء لأداء العمرة، وأتى بعدة المسافر، وإن استطاعت قريش أن تغلب المسلمين فماذا سيكون موقفك، وإن غلبة قريش على المسلمين ستكون هي النتيجة الحتمية، قال: فوالله إني أرى وجوهًا وأرى أوباشًا من الناس خليقًا أن يفروا ويدعوك.



كلام طبعًا في منتهى سوء الأدب، يقصد أن الصحابة الذين معك مجرد أن تبدأ الحرب سيفرون ويتركونك وحدك، والذي تولى الرد هو آخر إنسان نتخيل فيه الغلظة وهو أبو بكر الصديق ، كلنا نعرف الصديق في رفقه ولينه ورحمته ، وقف الصديق وتكلم بشدة وغلظة وعنف لم نعهده فيه قبل ذلك, قال بعد أن سبَّ عروة بن مسعود سبة قبيحة مباشرة: أنحن نفر عنه؟!



وعروة بن مسعود زعيم وعظيم كما ذكرنا من عظماء العرب، ومن المستحيل أن توجه له هذه السبة أو هذا القذف دون أن يحرك الجيوش والجموع، ولكنه قال كلمة تعبر عن مدى أخلاقيات بعض رجال العرب حتى في جاهليتهم قال: لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. يعني أنت كنت عملت فيَّ معروفًا، ولأجل هذا المعروف لن أجيبك على هذا السباب الذي وجهته إليَّ، وحفظ للصديق معروفه القديم. والحمد لله أنه كان هناك معروف من الصديق تجاهه؛ لأننا لا نريد الحرب، والرسول ما سعى لحرب مطلقًا في هذه الرحلة، وبفضل الله هدأ الموقف، وبدأ الرسول يتكلم من جديد، وأثناء هذا الكلام عروة بن مسعود الثقفي وهو يتحدث مع الرسول يمد يده إلى لحية الرسول ، وكان يقف بجوار الرسول المغيرة بن شعبة بن مسعود الثقفي ، ولما رأى المغيرة عمه عروة يمسك لحية الرسول أمسك السيف، وأهوى بنعل السيف على يد عروة بن مسعود الثقفي؛ ليمنعها من الوصول إلى الرسول .



وواضح أن المغيرة بن شعبة واقف في هذا المكان بغرض مهم وهو إبراز معنى الولاء عند المسلمين، الولاء لله ورسوله والمؤمنين حتى وإن كان من يتفاوض مع الرسول هو عم المغيرة بن شعبة، والمغيرة يسمع ويطيع للرسول الهاشمي ، ولا يسمع ولا يطيع لعمه الثقفي، منتهى الولاء والتجرد للإسلام والمسلمين، ووصلت الرسالة لعروة بن مسعود الثقفي، ونقلها حرفيًّا إلى قريش. ولا شك أنها كان لها أبعد الأثر في قلوب القرشيين، والموقف بكامله كان تعظيمًا وإجلالاً للرسول ، وكان إظهار هذه الأمور في ذلك الوقت، وفي هذه المحادثات مقصودًا لا شك فيه، وكان له أبلغ الأثر عند عروة بن مسعود.



ونترك عروة بن مسعود يصور ذلك الأمر لما رجع لقريش ذكر لهم ما رأى من أصحاب الرسول قال للقرشيين: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك على قيصر وكسرى والنجاشي، ووالله ما رأيت ملكًا يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمدًا. وهذا الكلام كان له أبلغ الأثر عند القرشيين وعند عروة بن مسعود نفسه، ثم بدأ يذكر أفعال الصحابة، حتى قال: وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحدون إليه النظر تعظيمًا له. ثم قال: وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. ويأمر قريشًا أن يسمعوا لكلام الحبيب هذه الخطة التي ليس فيها قتال فاقبلوها، فهو لم يأت إلا لعمرة فدعوه.



ها نحن نرى أثر تفاعل الصحابة مع رسول الله ، فقوة الصف عند المسلمين وعزة المسلمين وهيبة المسلمين ورفعة المسلمين، هذه الأمور تتضح مع رؤية الصف متحدًا، وهزمت قريش هزيمة نفسية قاتلة، وبدأت تفكر تفكيرًا جديًّا في الصلح، ولكن ما هي بنود الصلح وما هي ظروف الصلح، فهذا ما سوف يفكرون فيه. وفي البداية كانت قريش لا تفكر تمامًا في الجلوس معه على طاولة مفاوضات؛ لأنهم لا يعترفون به أصلاً ، فكيف يتفاوضون معه، أما الآن بعد هذه اللقاءات المتكررة وهذه العزة العظيمة للمسلمين، بدءوا يفكرون في الصلح.


مجموعة من المشركين لا يريدون الصلح

قامت مجموعة من شباب قريش المتحمسين المتهورين، وأرادوا أن يقطعوا كل طريق للصلح، فأخذوا أنفسهم وذهبوا يحاربون المسلمين ليقتلوا عددًا من المسلمين بحيث لا يكون هناك أمل في الصلح، فيفرض القتال فرضًا على المسلمين وعلى القرشيين، فقامت هذه المجموعة وهم حوالي خمسين من المشركين، وعلى رأسهم في بعض الروايات عكرمة بن أبي جهل وكان لا يزال مشركًا، وقاموا بالتسلل للمعسكر المسلم ليلاً. وسبحان الله! الرسول أبقى مجموعة من الحرس لحماية المسلمين وعلى رأس الحرس محمد بن مسلمة ، اعتقل محمد بن مسلمة الخمسين مشركًا، ومع أن هؤلاء الأسرى الخمسين صيد ثمين وأنت على أبواب مكة المكرمة من الممكن أن تفاوض، ومن الممكن أن تحارب، ومن الممكن أن تقتلهم، ومع ذلك أطلقهم جميعًا منًّا بلا فداء؛ لإبداء حسن النوايا ولإبداء الرغبة في الصلح.



هذه رغبة حقيقية لم نأت لقتال إنما جئنا معتمرين، ويريد الصلح، ويريد الهدنة لينتشر الإسلام في الجزيرة العربية في وضع سلمي، وقال الله I يصف هذا الموقف في كتابه الكريم: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الفتح: 24].



أي من بعد أن أسرتم الخمسين أسيرًا.



أرسلت قريش ثلاثة رسل حتى الآن، والرسول في كل مرة يبلغ الرسل بشيء حتى يخبروا به قريشًا، ولكن القرشيين حتى الآن لم يستمعوا لكلام أحد من الرسل، ومن الممكن ألا يبلغ الرسل الأمر بصورة مرضية، ربما يكون ذلك لسوء فهم قضية من القضايا؛ لذلك أراد رسول الله أن يرسل رسولاً من المسلمين يستطيع أن يصل بالمعاني التي يريدها الرسول وبالمطالب التي يطالب بها المسلمون وبالعروض الإسلامية بوضوح إلى قريش.


الرسول يرسل سفيرا إلى مكة

الرسول فكر في إرسال سفير إلى مكة ليوضح وجهة نظره أكثر، وفكر في عمر بن الخطاب وهو رجل قوي ومفاوض وله حكمة وله قوة وله رأى سديد، لدرجة أن كثيرًا من المرات كان القرآن الكريم ينزل موافقًا لرأيه فيما عرف في التاريخ بموافقات عمر ، وكان عمر بن الخطاب في جاهليته سفيرًا لقريش؛ فإن الزعامة في قريش كانت موزعة على عشر قبائل كل قبيلة لها دور تقوم به، وكان دور بني عدي قبيلة عمر بن الخطاب كان دور السفارة في قريش، وكان عمر بن الخطاب يقوم بهذا الدور. فالرسول يريد أن يرسل رسولاً قديمًا من رسل قريش تعترف به قريش كسفير فهذا الكلام في غاية الأهمية وله عمق استراتيجي واضح، فكانت وجهة نظر الرسول إرسال عمر بن الخطاب ، ولكن على غير المعتاد عمر بن الخطاب يعتذر للرسول وقال: إن هذا في رأيه ليس هو الأفضل، وقال: يا رسول الله، ليس لي أحد من عديٍّ يغضب لي إن أوذيت؛ لأن قبيلة بني عدي ضعيفة من بطون قريش، ولو قتل عمر بن الخطاب لن يتحرك له أحد، ولكن أرسل عثمان بن عفان؛ لأنه من بني أمية وهي قبيلة قوية عزيزة وشريفة ولها تاريخ ولها جنود ولها رجال، والجميع يعمل لها ألف حساب، ثم هي قبيلة أبي سفيان زعيم مكة.



ثم يقول: وإنه -أي عثمان بن عفان- مبلِّغ ما أردت. وعمر بن الخطاب من سيرته قبل هذا الأمر، وبعد هذا الأمر لا يخشى الموت، فهو لم يقل ذلك الكلام ليتجنب إيذاء يخافه من قريش وغيرها، بل كان على استعداد تام على أن يبذل روحه في سبيل الله، ولكنه يريد لهذه المهمة أن تتم بنجاح. وكان عثمان الرجل المناسب في المكان المناسب؛ فقبيلة بني أمية قبيلة قوية ولها جنود يستطيعون أن يحموا عثمان بن عفان، فأبو بكر الصديق نفسه لو أرسل لا يؤدي المهمة كما يؤديها عثمان بن عفان، وكان عثمان بن عفان مشهورًا بالحلم والحكمة، وهو رجل محبوب في داخل مكة المكرمة سواء في أيام جاهليته أو في أيام إسلامه؛ لأنه كان كريمًا واسع الكرم يعطي عطاء بلا حدود، فكل أهل مكة قد استفادوا منه، والناس كلها لن تؤذيه قدر المستطاع، وهو زوج ابنة النبي ، أي أن الرسول لا يريد أن يضحي بزوج ابنته، فهو يريد فعلاً الصلح والهدنة، وبالفعل أرسل الرسول عثمان بن عفان .



هذا الموقف كان من أعظم مناقب عثمان بن عفان الذي أوكل إليه أداء هذه المهمة العظيمة الخطيرة، والتي تعبر عن مدى حكمة وثقة الرسول في عثمان وثقة الرسول في رأيه وفي اختياره وفي تحاوره وفي تفاوضه مع المشركين، وينفي عنه كل الشبهات التي قيلت في حقه بعد ذلك من المغرضين ومن أعداء المسلمين.


خروج عثمان بن عفان لعرض مطالب المسلمين

وخرج عثمان بن عفان برسالة الرسول إلى قريش والرسالة محملة بثلاث أمور واضحة؛ أوَّلها أن يخبر قريشًا أن المسلمين لم يأتوا إلا عمارًا، وأنهم ما أرادوا القتال في هذه الرحلة إلى مكة المكرمة، وأنهم سيقبلون أي خطة تعظم فيها قريش حرمات الله وهذا أول أمر. والأمر الثاني أن يدعو قريشًا إلى الإسلام، سبحان الله! حتى في هذا الموقف الرسول يريد هداية قريش إلى الله I. والأمر الثالث أن يأتي بعض المستضعفين من المسلمين في مكة، وهم الذين لم يستطيعوا لضعفهم أن يهاجروا إلى المدينة المنورة، يذهب عثمان إلى هؤلاء سرًّا ويتحدث إليهم لتبشيرهم أن الله سيعز المسلمين يومًا حتى لا يستخفي أحد بالإسلام في مكة، وهذه بشارة نبوية ومكانها في هذا التوقيت في غاية الأهمية. تخيَّل أنت موقف المستضعفين في مكة المكرمة وهم يرون قريش تحاصر الأحزاب وتقاتل المسلمين مرة بعد مرة، والآن يمنعون المسلمين من دخول مكة، فهذا الوضع قد يؤثر سلبًا على نفسياتهم، فالرسول يهتم جدًّا بنفسيات هؤلاء مع أنهم ليسوا معه في دولته في هذه اللحظة، ولكنه يهتم بكل رعايا الدولة الإسلامية، كلٍّ بحسب ظروفه ومكانه، فكانت هذه هي مهمَّة عثمان بن عفان .



وبالفعل ذهب عثمان بن عفان إلى داخل مكة ليؤدي هذه المهمة العظيمة ومع أنه رسول، والرسل عادة في عرف هذه البلاد وغيرها لا تقتل إلا أنه لم يعتمد على هذا الأمر ولكنه أخذ بكامل الأسباب لكي لا يحدث له مصاب لكي تتم له المهمة على الوجه الأكمل، وأول شيء فعله بعد دخوله مكة طلب إجارة أبّان بن سعيد بن العاص الأموي، وأبان رجل قوي وفيه لين وفيه رحمة، وعلاقته قوية بعثمان بن عفان وسيدافع عنه بصلة الرحم وبصلة القرابة والمعرفة وبصفة اللين التي يتميز بها أبان بن سعيد، وفوق كل هذا هو توفيق رب العالمين .



وأبان بن سعيد قبل قدوم الرسول إلى الحديبية كان في رحلة تجارية إلى الشام وهناك في الشام التقى مع راهب من النصارى، وهذا الراهب ذكر له أن هذا الوقت سيظهر فيه رسول في بلادهم، سبحان الله! فأبان بن سعيد ممهد نفسيًّا بأن هذا الذي يقف خارج مكة رسول من عند الله I، وأن عثمان بن عفان رسول رسول الله ، هذا الإحساس جعله يدافع عن عثمان بن عفان بكل طاقته، فاستطاع عثمان أن يؤدي المهمة على الوجه الأكمل. فدخل عثمان بن عفان في عزة، دخل سفيرًا للرسول الذي يقف مع ألف وأربعمائة صحابي خارج مكة المكرمة يطلب الدخول لأداء العمرة، وعرض مطالبه وعرض عروضه بمنتهى القوة أمام قريش، وقريش استقبلته استقبال السفراء، وسمعت منه وعرضت عليه ما حاولت أن تمنع المسلمين منه منعًا باتًّا، عرضت عليه أن يقوم بالعمرة وأن يطوف حول البيت الحرام. وتخيل مدى اشتياق عثمان بن عفان بالطواف حول البيت الحرام، فهو لم يطف في هذه السنوات الست السابقة، ومع هذا الاشتياق الذي كان عند عثمان بن عفان ومع هذا الأجر العظيم في الطواف حول البيت الحرام، إلا أن عثمان بن عفان قال قولاً صارمًا واضحًا لقريش، عبر عن مدى ولاء المسلمين لقائدهم قال: لا أطوف حتى يطوف رسول الله .



فهو موقف من أعظم مواقف عثمان بن عفان ومن أدقها فهمًا وفقهًا لعثمان ، فهزمت قريش هزيمة نفسية عندما رأت موقف عثمان الرائع المحب لقائده ، وعرفت قريش أن الصف المسلم قوي صلب ولا يمكن أن يخترق. إنه موقف عظيم هزَّ قريشًا، وبدأت قريش بعد هذا الموقف تفكر تفكيرًا عمليًّا سريعًا في أداء الصلح مع الرسول .



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 3 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 3 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:48 pm

وقفات مع صلح الحديبية

مفاوض قريش ورجل الحمائم

صلح الحديبيةمتابعة لسير الأحداث، قررت قريش الصلح مع المسلمين، وبعثت رجلاً لإتمام عقد الصلح مع رسول الله ، فتُرى من ذا يكون؟



من المؤكد أن قريشًا لا يمكن لها أن ترسل وسيطًا، سواءٌ أكان من خزاعة أو من ثقيف أو من أي قبيلة أخرى؛ إذ إن رسول الصلح سيعبر عن قريش، وسيفاوض في بنود ستتأثر بها قريش تأثرًا مباشرًا، فلا بد إذن أن يكون رسول الصلح منها نفسها.



وإذا كان الأمر كذلك فمَن تبعث قريش؟ هل تُرسل عكرمة بن أبي جهل، أم خالد بن الوليد، أم أبا سفيان، أم صفوان بن أمية؟ وفي الحقيقة أن قريشًا لم تبعث أيًّا من هؤلاء؛ وذلك لأنهم -كما يعبرون هذه الأيام- كانوا يعدون من الصقور، فكلهم يريد محاربة المسلمين، وقريش (القاعدة العامة) لا تريد ذلك، إنما تريد أن تلطِّف جوًّا مشحونًا بالخوف ومعتمًا بالمجهول.



ومن هنا فقد أرسلت قريش رجلاً من الحمائم هو سهيل بن عمرو، ذلك الذي كانت له حياة هادئة في مكة، ولم يكن في سيرته مصادمات مباشرة مع المسلمين، الأمر الذي يمكنه من التفاوض مع المسلمين بهدوء، وهذا عين ما تريده قريش.



وبالفعل كان سهيل كذلك، حتى إن رسول الله حين رآه قادمًا استبشر وبشر المؤمنين وقال: "قَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ[1]، أَرَادَ الْقَوْمُ الصُّلْحَ حِينَ بَعَثُوا هَذَا الرَّجُلَ"[2]. والفأل حسنٌ في الإسلام.



لكن في الوقت نفسه كان لقريش أغراض أخرى من تخصيص سهيل بن عمرو بالذات، فهو رجل موتور ومصاب من المسلمين في بيته؛ إذ إنه قد أسلم أربعة من أولاده وثلاثة من إخوته، فكأن الأمر بالنسبة إليه دفاع عن قضية شخصية.



فمن أولاده الذين أسلموا: أم كلثوم وسهلة وعبد الله، وقد أسلموا منذ زمن، ويعيشون الآن في المدينة المنورة، أما الرابع فكان أبو جندل وهو مقيد في بيته من قِبل والده سهيل؛ حتى لا يخرج ويلحق بالمسلمين.



أما إخوته الذين أسلموا فهم: السكران بن عمرو، وأبو حاطب بن عمرو، وسَلِيط بن عمرو. أي أن عائلته كلها قد أسلمت ولم يعُدْ يبقى غيره، الأمر الذي يعكس مدى مصابه في كرامته، وفي عزته بين قريش؛ مما يجعله يفاوض بكل حميَّة، ويستأثر من المسلمين بكل مصلحة ممكنة من أجل قريش.


وقفة مع اتفاقية الصلح

قبل الدخول في بنود الصلح بين المسلمين وقريش نودُّ أن نقول: إذا قام فريقان بالصلح فإن هذا يعني أن القوتين متكافئتان، وأنه إذا حرص القوي (في الظاهر) على الصلح مع الضعيف، فهو يرى أن الضعيف هذا أقوى منه، الأمر الذي يسهل عليه فيه أن يقدِّم له (القوي) كثيرًا من التنازلات. فعلى الضعفاء أن يثبتوا على موقفهم، وأن يعلموا أن الحق معهم ولهم، ويتيقنوا بعد ذلك أن الله لن يخذلهم، وأن هذا مما يزلزل كيان الكافرين.



وفي تجسيد لهذا الدور فقد جلس القرشيون مع ما لهم من تاريخ وقوة وجنود وأحلاف، جلسوا مع الجماعة الضعيفة المستضعفة، تلك التي كانت تعيش عندهم، ثم هاجرت من ديارهم إلى المدينة المنورة، وقد جاءت تريد العُمْرة وهي بسلاح المسافر.



جلس الفريقان ليبرموا صلحًا من أجل مصلحتهما معًا، ويلتقوا -كما يقولون- في منتصف الطريق.


إيجابية معاهدات الصلح

وفي مثل هذه الاتفاقيات هناك إيجابية من الأهمية بمكان وهي أن كل طرف من طرفي المعاهدة قد أصبح معترفًا بالطرف الآخر، فإذا كان هناك جماعة لا دولة، وقليل لا كثير، ثُم تَمَّ معها معاهدة صلح، فهذه إيجابية كبيرة؛ وذلك لأنها بداية الاعتراف بأنها أصبحت قوة مكافئة.



وما نحن بصدده الآن هو أن قريشًا ليست في حاجة لاعتراف الرسول بها، ذلك أن تاريخها يرجع إلى أكثر من ستمائة عام، وهي قبيلة معترفٌ بها وسط مكة المكرمة، ووسط الجزيرة العربية، بل ووسط العالم آنذاك، ولها عَلاقات مع بعض الدول في العالم.



أما جماعة المسلمين فلم يكن يعترف بهم أحد؛ إذ إنها ما زالت جماعة ناشئة ضعيفة مستضعفة، وإذا اعتُرف بها من قِبل قريش فإن هذا يُعَدّ من أعظم إيجابيات صلح الحديبية.



ولعل أكبر دليل على ذلك ما نراه في أيامنا هذه، إذ دعت بعض الدول الكبرى مثل روسيا حركة المقاومة الإسلامية (حماس) -التي نجحت في الانتخابات التشريعية في فلسطين- للحديث معها والتحاور والتفاوض والتشاور، وهذا في حد ذاته هو اعتراف ضمني من قبل روسيا (من أكبر دول العالم) بشرعية حماس، الأمر الذي لم يكن ليتجاهله اليهود فغضبوا كثيرًا، حتى وإن كان سيتم في هذا التشاور وذاك اللقاء ما لا يغضبهم.



وهذا هو ما حدث مع الرسول أيام صلح الحديبية، فبمجرد أن جلست قريش على طاولة المفاوضات معه كان هذا اعترافًا منها أمام الجميع بدولة المسلمين وجماعتهم في الجزيرة العربية، وعلى رأسهم رسول الله .


سلبية معاهدات الصلح

مع وجود الإيجابية السابقة في معاهدات الصلح إلا أن هناك سلبية أيضًا لا بد منها أثناء العقد، وهي أنه إذا جلس طرفان للتفاوض والصلح فلا بد أن يتنازل كل طرف عن شيء أو أشياء من حقوقه.



ومثل هذا بحاجة إلى وقفة متأنية، حتى إذا حدث مثل هذا بين المسلمين وبين غيرهم نكون على وعي تام بطبيعة هذا التفاوض وهذا الصلح، ونعي تمامًا ما الذي يمكن أن يتنازل عنه المسلمون ثم نتغاضى نحن عنه، وما الذي يمكن أن يتنازلوا عنه ولا يمكننا السكوت عليه.



ومن هنا فلا شك أن الرسول في هذا الصلح سيقبل -لا محالة- بأمور من أجلها سيشعر المسلمون بغُصَّةٍ وألم في حلقهم، وهذا ما لا بد منه إذا ما جلس طرفان متكافئان للصلح، لا بد أن يقدِّم كل منهما تنازلاً، وإلا فلماذا التفاوض؟ وعلامَ الصلح؟!



ولو لم يكن الطرفان متكافئين من حيث القوة، وكان هناك غالب وآخر مغلوبًا، فلن يكون هناك إلا إملاء لشروط الغالب وتنفيذ لأوامره، ولن يكون هناك إلا معاهدات استسلام.



وهذه هي طبيعة المفاوضات التي تتم بين المنتصر والمهزوم، وفي هذه الأثناء يطلق عليها معاهدات فقط من أجل تسهيل الأمر على المهزوم؛ ليقبل بكل البنود والشروط، التي ما هي إلا إملاءات من المنتصر.



ولقد كان الوضع في الحديبية متكافئًا؛ فقد جاء الرسول ومجموعة من المسلمين ليس غازيًا ولا فاتحًا ولا مهاجمًا لقريش، إنما يريد الدخول للعمرة فقط، وهم ما زالوا قوة ناشئة، وقريش تريد أن تمنعهم وهي قوة كبيرة؛ ولذلك فالجلوس إلى المفاوضات -إلى حد ما- فيه نوع من التكافُؤ.



د. راغب السرجاني

[1] البخاري: كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط (2581)، ترقيم البغا.

[2] ابن كثير: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة، بيروت، 1396هـ- 1971م، 3/320.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 3 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 3 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:49 pm

وقفات مع بنود صلح الحديبية وتوثيقه

بنود صلح الحديبية

بنود صلح الحديبيةكانت معاهدة صلح الحديبية عبارة عن أربعة بنود، وإذا راجعناها وجدنا أن كل بند فيها يصب في صالح المسلمين، رغم ما كان قد ظهر لقريش من عكس ذلك، وحتى لا نستبق الأحداث نستعرض معًا كل بندٍ لنرى في أيّ كفة كان يصب.



البند الأول: رجوع الرسول وأصحابه من عامهم هذا، وعدم دخول مكة، وإذا كان العام القادم خرج منها أهلها ودخلها المسلمون بسلاح الراكب، وأقاموا بها ثلاثًا، ولا تتعرض لهم قريش.



لا شك أن رجوع الرسول هذا العام هو في صالح قريش؛ وذلك أنه يحفظ لها نسبيًّا ماء وجهها، لكن قدوم الرسول العام المقبل ودخول مكة دون مقاومة، بل وخروج أهلها منها وعدم التعرض مطلقًا للمسلمين، فهذا والله انتصار هائل للرسول وللمسلمين.



ولنا أن نتذكر الأحداث الماضية، حيث ثلاث عشرة سنة من التعذيب ومحاولة الإبادة للمسلمين في مكة، وحيث الهجرة وفرار المسلمين بدينهم وقد تركوا كل شيء، وذلك قبل ست سنوات فقط، وحيث غزوتي بدر وأُحد، وحيث تجميع قريش والأحزاب وحصار المدينة منذ أقل من سنة واحدة.



فقد انهارت كل هذه المقاومة القرشية، وقَبِل المشركون بفتح باب دولتهم للمسلمين دون مقاومة، فأيُّ نصرٍ للمسلمين هذا! وأيُّ رفع لرأس المسلمين في الجزيرة العربية بكاملها! وأيّ إراقة لماء وجه قريش وسط الجزيرة العربية!!



فأين صقور قريش؟ وأين السلاح والعتاد؟ وأين العلاقات والأحلاف؟ وأين الأموال والاقتصاد الهائل لقريش؟ أين كل ذلك؟ لا شك أنه انهار أمام دولة المسلمين الناشئة الفتية.



ومن هنا فهذا البند -لا شك- هو في صالح المسلمين، وليس فيه اعتراف من قريش بدولة المسلمين فقط، ولكن فيه اعتراف بأن دولة المسلمين دولة قوية مهيبة الجانب، تُفتح لها أبواب مكة ويخرج أهلها منها. وهذا ما لم يحدث مع أي قبيلة أخرى في تاريخ مكة بكاملها.



البند الثاني: وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض.

تُرى هذا البند يصب في مصلحة من؟ من الذي يحتاج إلى وضع الحرب ويرغب في الأمان؟ أليس هم المسلمون؟ أليس طلب الأمان كان بغية المسلمين، وكان طلبًا نبويًّا قبل المعاهدة وقبل الصلح؟ أوَليس الرسول هو الذي قال لبديل بن ورقاء الخزاعي بأنهم إن جاءوا ماددتهم؟



فطلب الأمن -إذن- كان مطلبًا إسلاميًّا؛ إذ من الذي يحتاج أن يقيم دولته ويؤسسها؟ فدولة قريش مقامة منذ مئات السنين، أما دولة المسلمين الناشئة فعمرها ست سنوات فقط، وتحتاج إلى كثير وكثير من الإعداد والتأسيس.



وتُرى هل ستكون الدعوة في الجزيرة العربية أسهل في جو الحروب والدماء والعداوات المتكررة؟ أم أنها ستكون أسهل في حالة الأمان؟ والإجابة أنها ستكون -لا شك- أسهل في حالة الأمان، وهذا عين ما يريده المسلمون.



فهم يريدون أن يتحركوا في كل مكان بسهولة آمنين من الحرب، وفي الوقت نفسه تأمن القبائل المختلفة أيضًا حالة الحرب، وهذا يجعل حركة المسلمين لدعوة القبائل البعيدة عن المدينة المنورة، بل دعوة القبائل القريبة من مكة أسهل وأيسر كثيرًا عمّا إذا كانت الحرب معلنة بين المسلمين وقريش، ومن ثَمَّ تزداد قوة المسلمين.



فالناس يحتاجون إلى تعريفهم معنى الإسلام، إذ إنه بمجرد معرفتهم إياه معرفة صحيحة فإن الفطرة السليمة -وما أكثرها- سرعان ما تتقبله وبلا تردد، فهم كانوا يخشون سماع كلمة الإسلام؛ لأن هذه الكلمة كانت تعني حرب قريش، وقريش هذه كانت أعز قبيلة في العرب، فإن أمن الناس حرب قريش فلتنظر كم سيدخل في الإسلام من رجال ونساء وأطفال.



وهذا بالفعل ما حدث، وما سنراه بأعيننا بعد صلح الحديبية.



إذن فهذا البند أيضًا يصبُّ بوضوح في صالح كفة المسلمين، ولكن هناك ملاحظة مهمة وهي: هل حين جلس المسلمون للهدنة والصلح مع المشركين كانوا قد أخذوا كل حقوقهم المسلوبة قبل ذلك؟ والحقيقة أن الجواب هو النفي قطعًا؛ إذ إن المسلمين قبلوا الهدنة قبل أن ترد إليهم كامل حقوقهم، فما زالت هناك ديار منهوبة، وما زالت هناك أموال مسلوبة، وما زالت هناك أرض محتلة من القرشيين، ومع ذلك قَبِل المسلمون بالهدنة قبل أن تردّ إليهم هذه الحقوق.



وهذا يعني أنه من الممكن أن يجلس المسلمون مع الأعداء لعقد هدنة إذا كان فيها مصلحة للمسلمين، وهم بعدُ لم يأخذوا كل حقوقهم، ولكن يجب أن نعي أن المسلمين في هذه المعاهدة لم يقروا قريشًا على أي حق مسلوب للمسلمين عند القرشيين، لم يقولوا أنهم تخلوا لهم عن ديارهم وأرضهم وأموالهم، لكن كل ما في الأمر أن هذه الهدنة من أجل أن تضع الحرب عشر سنين، بعدها سيطالب المسلمون بكامل حقوقهم، وسيسعون لاسترداد كل ما سلب منهم.



ومن هنا فإن جلوس المسلمين لعقد صلح مع أعدائهم وقبولهم الهدنة دون إقرار العدو على حقوقهم المسلوبة يُعَدّ أمرًا شرعيًّا، لكن إذا أقر المسلمون لعدوهم بحقهم المسلوب فهذا غير جائز وغير شرعي، ولا يمكن بحال من الأحوال مقارنة مثل تلك المعاهدات التي قام بها بمعاهدات أخرى أقر فيها المسلمون لعدوهم بحقوقهم؛ فهذا شيءٌ وما فعله كان شيئًا آخر تمامًا.



ثمة فارق ضخم وهائل بين معاهدة صلح الحديبية وبين المعاهدات التي قام بها بعض من ينتسب إلى الإسلام في عصرنا هذا مع اليهود، والتي أقروا فيها لليهود بممتلكات إسلامية خالصة.



البند الثالث: من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه. وتعتبر القبيلة التي تنضم لأي الفريقين جزءًا من هذا الفريق، أي أن أي عدوان تتعرض له أيٌّ من القبائل يُعَدّ عدوانًا على ذلك الفريق التابعة هي له، ويعتبر في الوقت ذاته مخالفة واضحة للاتفاقية.



تُرى في أي كفة يصب هذا البند؟ فهذه قريش أعظم قبائل العرب، والذي يريد أن يدخل في عهدها لا ينتظر معاهدة بهذه الصورة، أما القبائل التي تريد أن تدخل في عهد محمد وحلفه فإنها كانت تتردد ألف مرة خوفًا من بطش قريش وحلفائها، أما بعد صلح الحديبية وبعد وضع الحرب، فإن هذا الذي كان في قلبه تردد وخوف سرعان ما سينضم إلى فريق المسلمين في أمن وطمأنينة.



فهذا البند لم تستفد به قريش مطلقًا، بينما استفاد المسلمون استفادة قصوى من انضمام تلك القبائل الجديدة إليهم بعد أن أمنت خوف قريش وبطشها؛ فهو إذن في صالح المسلمين مائة بالمائة.



وكان أكبر دليل على ذلك أن قبيلة خزاعة لم تدخل في حلف المسلمين إلا بعد صلح الحديبية هذا، مع أنها كانت من أكثر القبائل قربًا إلى رسول الله ، حتى إن كُتَّاب السير يقولون: إن خزاعة كانت عَيْبَةَ نُصْحِ[1] رسول [2]. وهو ما رأيناه قبل ذلك كثيرًا، حيث كان الرسول يرسل عيونًا من خزاعة، وكان يتحالف معهم.



فخزاعة هذه رغم ما كان بينها وبين الرسول ، إلا أنها لم تدخل في حلفه إلا بعد صلح الحديبية، فما البال ببقية القبائل إذن؟!



ومن هنا فهذا البند أيضًا كان في صالح المسلمين، خاصةً إذا علمنا أنه هو الذي سيكون سببًا في فتح مكة المكرمة، فأيُّ خير جاء من ورائه!



البند الرابع: من جاء قريشًا ممن مع محمد (أي هاربًا منه) لم يرد إليه، ومن أتى محمدًا من غير إذن وليه (أي هاربًا منه) يرده إليهم.



ويعني هذا أن من يأتي إلى المسلمين من أهل قريش بعد صلح الحديبية فعلى المسلمين أن يرجعوه ثانية إلى أقاربه إذا كان أهله يرفضون إسلامه. وبالتأكيد فكل المشركين سيرفضون إسلام أهل مكة، وعلى الناحية الأخرى فإنه إذا ارتدَّ أحد المسلمين وذهب إلى مكة، فعلى مكة ألا تعيده إلى المسلمين، وهذا في ظاهره في صالح القرشيين.



وفي تحليل الجزء الأول من البند، فإن الذي يهرب من الصف المسلم إلى الصف الكافر -كمن يرتد مثلاً ويقرر أن يكون في صفِّ قريش- هل المسلمون في حاجة إليه؟ هل يتمسك به المسلمون ويجبرونه على البقاء في المدينة المنورة وهو كاره للإسلام وللمسلمين؟! هل هذا فيه مصلحة للمسلمين؟



الحقيقة أن المسلمين ليسوا في حاجه لمثل هؤلاء، بل إن هذا البند إذا كان غير موجود في هذه المعاهدة فإن الذي سيرتد من المسلمين كان سيُبطن هذه الردة ولن يظهرها؛ وذلك خوفًا من أن ترجعه قريش ثانيةً إلى المسلمين فيعرفوا أمره.



لذلك فإن هذا البند كان يسمح لكل من في قلبه مرض أن يظهره، وبذلك يتخلص منه المسلمون، وقد قال الله في كتابه الكريم: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: 47].



فلماذا يُبقِي المسلمون منافقًا داخل المدينة المنورة يدل على عوراتهم، وينقل أخبارهم إلى المشركين، ويدلي بآراء فاسدة في قضايا تهمُّ المسلمين؟ فهذا -ولا شك- فيه خطورة شديدة عليهم، كما أنهم ليسوا في حاجة إلى من يظل معهم بجسده وهو ليس معهم بقلبه وجوارحه، ومن هنا كان التخلص منه أفضل لمصلحة المسلمين. إذن فهذا الجزء الأول من هذا البند هو في صالح المسلمين.



بقي الجزء الثاني منه وهو الذي فيه سلبية واضحة لهم؛ إذ إنه يعني أن كل من يأتي من أهل مكة إلى المسلمين مسلمًا، سواءٌ أكان هذا الإسلام قبل هذا الصلح أم بعده، فإن على المسلمين أن يردوه إلى مكة المكرمة ثانية، يردونه إلى أهله من الكافرين.



وقد كان مثل هذا الصنيع يعرض المسلم الذي يهرب من أهله في مكة إلى المسلمين، ثم يرده المسلمون إلى أهله ثانية في مكة ولا يجيرونه، يعرضه إلى أن يعذب ويفتن في دينه حتى يكفر بالله ، هذا إضافةً إلى أن المسلمين سيخسرون قوته؛ إذ من المفترض أن تضاف قوته إلى قوة المسلمين، فكانت هذه سلبية كبيرة تُعَدّ في صالح قريش.



ومن هنا نستطيع أن نقول: إن هذه هي الفائدة الوحيدة التي استفادت منها قريش في هذه المعاهدة الطويلة، وهي نصف بند في أربعة بنود، أي ما يعادل ثُمْن المعاهدة، ولا بد أن يكون في بنود المعاهدة شيء في صالح قريش وإلا لم تتم المعاهدة، إلا أنه رغم ذلك فإن هذه الجزئية من هذا البند لا تخلو أيضًا من فائدة كبيرة للمسلمين.



فالمسلم الذي سيرجع إلى مكة قد يصبح مصدرًا للاضطرابات داخل دولة مكة؛ إذ قد يدعو إلى الإسلام فيها، وقد يؤثر على عقليات المشركين في داخل مكة، وقد يجتمع هو وغيره ممن سيكونون على شاكلته فيصيبون المشركين بأذى داخل مكة أو خارجها، بل قد يخفي إسلامه ويدل على عورات المشركين، ويُحدِث خللاً في داخل صفوفهم، طالما هو غير قابل لدينهم وغير قابل لعبادتهم، ومن ثَمَّ فقد يكون مثل هؤلاء خطرًا حقيقيًّا على المشركين.



وهذا هو عين ما سيحدث بعد ذلك على نحو ما سنرى.


توثيق عقد الصلح وكتابته

إذا راجعنا بنود الصلح الأربعة السابقة سنجد -كما رأينا- أنها في الغالب في صالح المسلمين على حساب قريش، ففيها فوائد جمَّة للمسلمين ومزايا عميقة لهم، فهذه سبعة أثمانها في صالحهم والثُّمُن الوحيد الذي في صالح المشركين هو أيضًا في صالح المسلمين، وإن كان فيه خسارة.



وهذا هو صلح الحديبية الذي سيكون له نتائج مغيِّرة، ليس تغيير وجه الجزيرة العربية فقط ولكن وجه العالم أجمع.



وبعد أن تم الاتفاق على بنود هذا الصلح شفهيًّا كان لا بد أن يوثّق ويسجل في صحيفة تكون بين الدولتين، ويوقع عليه الطرفان، ويعترف به في الجزيرة العربية بكاملها.



ومن ثَمَّ فقد جلس الرسول مع سهيل بن عمرو لكتابة صحيفة الصلح، وكان الرسول أُمّيًّا لا يكتب ولا يقرأ، فكان الذي يكتب هو عليّ بن أبي طالب ، والذي يملي عليه كلمات المعاهدة هو رسول الله ، وفي هذا أيضًا إشارة قوية إلى أن اليد العليا في المعاهدة كانت للمسلمين.



أملى رسول الله على عليٍّ أن يكتب: بسم الله الرحمن الرحيم (بداية كل عمل للمسلمين)، فوقف سهيل معترضًا (مع ملاحظة أن كل اعتراضات سهيل بن عمرو كانت شكلية لا أكثر) يقول: "أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهم".



وهنا تتبدى مرونة الرسول ، حيث قال لعلي : "اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ".



إذ إن هذا لا يعدو أن يكون اختلافًا شكليًّا، وليس فيه معارضة لأمر شرعي من أمور المسلمين.



محا علي بن أبي طالب البسملة وكتب باسمك اللهم، ثم أكمل فقال: "هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ".



ولم يتمّها حتى وقف سهيل مرة ثانية قائلاً له: "والله لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله".



فهم لم يعترفوا بعدُ بنبوة المصطفى ، فكيف إذن يكتب ذلك في الصحيفة ويوقِّع عليها سهيل نيابة عن قريش؟ وهنا قال الرسول مبديًا المرونة: "إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي".



ثم أمر عليًّا أن يمحو (رسول الله) ويكتب: "هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ".



وهنا وقف علي معترضًا على محو (رسول الله)، فما كان منه إلا أن بسَّط هذا الخلاف تمامًا، وأمر عليًّا أن يريه موضع هذه الكلمة، فأشار له، فمحاها بنفسه[3].



فكان سهيل بن عمرو يأخذ الرسول في تفريعات وقضايا جانبية بعيدة عن الصلح، وعن أصل الموضوع الذي من أجله كانت هذه المعاهدة، وكانت رؤية الرسول وموقفه واضحًا تمام الوضوح؛ إذ إنه يعلم مقصوده ومراده، ويعلم أن بنود هذه المعاهدة في صالح المسلمين، ويعلم أن هذا نصر لم يكن يحلم به المسلمون قبل ذلك، وهو يريد لهذه المعاهدة أن تتم.



فقد كان كل طموح المسلمين أن يدخلوا مكة للعمرة ثم يعودوا ثانيةً إلى المدينة المنورة، والآن حصلت لهم كل هذه المكاسب، فعلامَ يقف أمام كلمة كذا أو كذا، وهي لا تقدِّم شيئًا أو تؤخر في الصلح، فهو حقًّا محمد بن عبد الله ، فما وجه الاعتراض إذن؟ ولماذا لا يكتب وتمر المعاهدة بسلام، ويخرج المسلمون بكل الفوائد التي فيها؟!



وهذه هي المرونة في مثل هذه الأحوال، ألاّ نتمسك بأشياء لا تقدم ولا تؤخر، وليس فيها مخالفة شرعية، وكان هذا واضحًا من إقرار الرسول محو هذه الكلمات، فهو لا يُقِرّ باطلاً أبدًا.



فنحن في حاجة إلى تفهُّم مثل هذه الأحداث، ونعي جيدًا متى نتشدد ونتمسك؟ ومتى نتساهل ونتنازل؟ متى نقول: من المستحيل أن نتنازل عن هذا الأمر؟ ومتى نقول: من الممكن أن (نمحو) هذا الأمر؟



د. راغب السرجاني

[1] أي خاصته وأصحاب سره.

[2] ابن هشام: السيرة النبوية، القسم الثاني (الجزء الثالث والرابع) ص312.

[3] المباركفوري: الرحيق المختوم، دار الوفاء، مصر، الطبعة السابعة عشرة، 1426هـ- 2005م، ص298، 299.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 3 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 3 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:50 pm

ميزان المعاهدات في الإسلام


شروط عقود الصلح في الإسلام

المعاهدات في الإسلامكانت السيرة -ولا تزال- ملأى بالكنوز وكلها أمور واقعية، فصلح الحديبية قد حدث منذ ألف وأربعمائة عام ما زال له -وسبحان الله- تطبيق في كل يوم من حياتنا اليومية.



وفي توضيح لذلك فقد بيَّن هذا الصلح كيف يكون عقد الصلح في الإسلام، وما شروطه، ونذكر من ذلك ما يلي:



أولاً: أنه لم يكن فيه إقرار للمشركين على باطل، ولم يكن فيه تنازل عن شيء من الدين، وليس فيه إعطاء قريش أرضًا ليست لهم، أو الاعتراف لهم بها. كما أن هذا الصلح لا يمنع المسلمين من التسلح وإعداد العُدَّة، وأيضًا لا يمنع المسلمين من عقد الأحلاف، كما أنه لا يأمر المسلمين بتغيير المناهج أو الثوابت.



وهذا هو الصلح في الإسلام.



ثانيًا: أن هذا العهد وهذا الصلح الذي تمَّ بين الرسول وقريش لم يُقِرّ الصداقة بين العدو والمسلمين، وإنما وضع الحرب فقط مدة عشر سنوات على بقاء الحالة كما كانت عليه (حالة العداوة) بين المشركين والمسلمين.



ثالثًا: أن هذا العقد إلى أَجَلٍ وهو عشر سنوات، وبعدها فبالإمكان أن نجلس معًا ونتفاوض من جديد، فإذا أردنا أن نمد الفترة مرة أخرى وإلا فلا، وليس هناك ما يسمَّى بسلام دائم، أو سلام مقرون بعودة الحقوق.



رابعًا: أن هذا العقد واضح البنود؛ إذ ليس فيه بند مبهم يحمل على أكثر من محمل؛ وذلك حتى يضمن المسلمون كافة حقوقهم ودون خداع من الطرف الآخر.



خامسًا: أن هذا العقد عُقد وكان للمسلمين قوة تستطيع أن تردع العدو إذا خالف أيًّا من بنود المعاهدة، أما إذا لم تكن هناك هذه القوة فلا معنى إذن للمعاهدة؛ إذ ماذا سوف يحدث لو خالف العدو هذه المعاهدة بعد ذلك وهي ما زالت في حيز التنفيذ؟ هل يذهب المسلمون إلى من يشتكونهم إليه أو يشجبون ويندبون، ويدعون هذا وذاك ليدافع عنهم؟ أم أن لهم قوة كافية لردع العدو ومعاقبته على الفور إذا خالف المعاهدة؟



ولا شك أن الرسول كان عنده قوة الردع هذه، وسنرى أثر ذلك بعد عامين من تاريخ الصلح حين تخالف قريش وأحلافها من بني بكر المعاهدة، سنرى كيف سيردع الرسول قريشًا وأحلافها عندما يخالفون المعاهدة مع المسلمين.



أما إذا كان المسلمون ضعافًا وحدثت مخالفة ولم يستطيعوا أن يردعوا المخالفين، فماذا سيكون الموقف؟ لا شك أنه سيكثر الاستهزاء والاستخفاف بهم. وهذا شيء طبيعي جدًّا حتى ولو كان قد تدخل طرف ثالث في المعاهدة لضمان تنفيذ الطرفين للبنود، ثم هل سيكون الطرف الثالث هذا على الحياد وقوي بحيث يستطيع أن ينصر الطرف المعتدَى عليه؟ أم هو مع طرف دون الآخر ينصره أيًّا كان وضعه؟



وهذا الأمر في غاية الأهمية، فإذا لم يملك المسلمون القوة الكافية للردع عند المخالفة فلا معنى إذن للمعاهدة.


معاهدة صلح الحديبية ومعاهدات المسلمين حديثًا

ما مضى يجعلنا نقف بعض الشيء ونراجع أنفسنا قليلاً، ونحلل بعيدًا عن العصبية معاهدة صلح الحديبية بالمقارنة بمعاهدات المسلمين مع اليهود في زماننا هذا.



وكما نعلم فإن أشهر هذه المعاهدات هي (كامب ديفيد) وكانت البداية، ثم تلا ذلك معاهدات كثيرة لعل أشهرها (معاهدة أوسلو)، ومعاهدة (خريطة الطريق)، وغيرها مما حدث بين المسلمين واليهود.



ففي هذه المعاهدات أُقر اليهود فيها على باطل، وهو امتلاكهم لأرض فلسطين أو لجزء منها، والتي كان المسلمون جميعهم مقتنعين تمام الاقتناع أنها أرض إسلامية أو عربية -كما يقولون- ثم بعد هذه المعاهدات أقر بعض المسلمين أن جزءًا من أرض فلسطين لم يعُدْ ملكًا للمسلمين، وإنما صار ملكًا لليهود.



وفي هذه المعاهدات أيضًا قُلِب العداء بين المسلمين واليهود إلى صداقة وموالاة، وبالطبع كان لا بد أن يتبع هذا رفع عداوة اليهود من مناهج التعليم ومراكز الإعلام، فيخرج جيل من المسلمين لا يعرف عدوَّه من صديقه، وهو أمر غاية في الخطورة.



وفي هذه المعاهدات لم يحدد المسلمون فترة زمنية معينة، وإنما تركت للسلام الدائم مهما حدث ومهما يحدث، وهذا أغرب من الخيال.



وفي هذه المعاهدات لم يعترف اليهود بالأحلاف التي بين المسلمين والدول الأخرى؛ ففي (كامب ديفيد) -مثلاً- لم يعترف اليهود بمعاهدات مصر مع الدول الأخرى، ومعنى هذا أنه لو حدث وحاربت إسرائيل دولة أخرى من دول العالم الإسلامي فليس لمصر أن تعترض؛ وذلك لأن بنود المعاهدة تقر بأنه ليس هناك حرب بين إسرائيل ومصر.



وقد حدث بعد ذلك أن غزت إسرائيل لبنان -بعد كامب ديفيد بسنوات قليلة جدًّا- في سنة 1982م، ولم تستطع مصر أن تدافع عنها بجيشها، رغم ما كان من وجود (معاهدة دفاع مشترك) بين مصر ولبنان، كان قد أقرها ميثاق جامعة الدول العربية.



وكان مرجع ذلك أن هذا العقد عُقد ولم يكن للمسلمين القوة الكافية للردع حال المخالفة، بل إن (سيناء) التي كانت محل النزاع لم يُترك فيها جيش مصري وفق بنود الاتفاقية، وأقصى مسافة له من الممكن أن يوجد بها تكون على بُعد خمسة كيلو مترات من قناه السويس، بينما يوجد جيش اليهود على بُعد ثلاثة كيلو مترات من رفح.



هذا وقد ظلت سيناء المصرية بكاملها خالية من السلاح وخالية من الجيش، مع أنه من المفترض أنها أصبحت أرضًا مصرية، وبالتالي فإن الجنود المصريين أو المسلمين يكونون عند الإسماعيلية وبورسعيد والسويس، وجنود إسرائيل يكونون عند رفح، ومعنى هذا أنه في أي لحظة من لحظات التعدي فسرعان ما يكون الجنود اليهود في سيناء. وقد رأينا ذلك حين حدثت مخالفة في داخل رفح، إذ لم يستطع المصريون المقاومة المسلحة بسبب بُعد الجيش؛ إذ كان من المفترض أن يكون على بُعد ثلاثة كيلو مترات من رفح كما هو الحال عند اليهود، ما دامت (رفح) هي الحد الفاصل.



وإن تعجب من هذا فأعجب منه أن الذي يراقب هذا العهد هي أمريكا الموالية لإسرائيل والأمم المتحدة المؤسَّسة لأجل إسرائيل كما نرى بأعيننا، ثم الأخطر من كل ما سبق أن في هذه المعاهدة تم أول اعتراف بدولة إسرائيل كدولة مستقلة فوق أرض فلسطين، وذلك من قِبل دولة من أكبر دول المنطقة وهي مصر، وإن هذا ليُعَدّ من أكبر وأفضل إنجازات اليهود على مدى الخمسين سنة الأخيرة؛ إذ إنه قبل كامب ديفيد كان المسلمون جميعًا يطلقون على اليهود مصطلح (الكيان الصهيوني) أو يطلقون عليهم اسم (المحتلين اليهود)، أما بعد كامب ديفيد لم تعُدْ إلا (دولة إسرائيل)، وقد أصبح لها سفارات في معظم دول العالم الإسلامي.



أيضًا كان من المفارقات بين صلح الحديبية وكامب ديفيد أن نتائج كلٍّ منهما كانت مختلفة تمامًا عن الأخرى، فبعد كامب ديفيد واعتراف مصر بإسرائيل، تم فصل مصر تمامًا عن العالم العربي، ومقاطعتها من قِبل أشقائها، وحدث شقاق كبير في الصفِّ المسلم، أما بعد صلح الحديبية فقد حدث العكس تمامًا؛ فقد دخل مسلمو اليمن في الدولة الإسلامية، وعاد مسلمو الحبشة إليها أيضًا، ثم بعد ذلك توافدت القبائل المسلمة، الأمر الذي حدث معه وَحْدة وليس فُرقة.



لقد كان صلح الحديبية بالفعل يشبه كامب ديفيد، لكن كان ذلك بطريقة عكسية؛ وهذا يعني أن اليهود حققوا الفوائد التي حققها المسلمون من صلح الحديبية، أما المسلمون في زماننا فقد خسروا الخسائر التي خسرتها قريش فيها. ولا حول ولا قوة إلا بالله!!



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 3 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 3 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:50 pm

عودة الرسول إلى المدينة وتعديل صلح الحديبية

بداية الآثار الحميدة للصلح

المدينة المنورةعاد أبو جندل إلى المشركين وأنفذ العهد كما تمنى ، وبعد المعاهدة دخلت قبيلة بني بكر في حلف قريش، ودخلت قبيلة خزاعة في حلف رسول الله . وكما ذكرنا قبل ذلك أن هذا يعبر عن أهمية الصلح وقيمته؛ لأن قبيلة خزاعة مع تاريخها الطويل مع بني هاشم إلا أنها لم تدخل في حلف الرسول إلا بعد أن عقد صلح الحديبية، ورجع الرسول إلى معسكره في الحديبية ليُعِدّ العُدَّة ليعود إلى المدينة المنورة مرة ثانية، ليعود بعد ذلك بعام إلى مكة المكرمة من جديد لأداء العمرة.


الرسول يتحلل من إحرامه

الرسول في كل هذه الرحلة وكل هذه المشاورات والمحاورات كان محرمًا؛ لأنه أحرم من ذي الحليفة كما ذكرنا قبل ذلك، وجاء ملبيًا حتى وصل إلى الحديبية، وقد منعته قريش عند الحديبية من دخول مكة المكرمة، فانطبق عليه حكم المحصر عن العمرة؛ أي من نوى العمرة ولم يستطع أن يصل إلى مكة المكرمة لأي سبب من الأسباب، فيقوم بالنحر والحلق في هذا المكان ليتحلل من إحرامه.



وهذا الهدي الذي كان معه كان أمرًا مستحبًّا، وليس فرضًا على المسلمين، ولكن عند مكان الإحصار لا بد له أن ينحر هذا الهدي الذي وهبه لله ، والرسول خطب في الصحابة جميعًا، وقال لهم: "قُومُوا فَانْحَرُوا، قُومُوا فَانْحَرُوا".



فوالله ما قام منهم أحد، سبحان الله! والرسول يكرر الأمر مرة ثانية وقال لهم: "قُومُوا فَانْحَرُوا".



فلم يقم أحد، فكرر الثالثة: "قُومُوا فَانْحَرُوا"[1].



فلم يقم أحد، والرسول في هذا الموقف يقدِّر الحالة النفسية السيئة التي عليها الصحابة ، فمع طاعتهم التي وصفها قبل قليل عروة بن مسعود، قبل هذه المعاهدة بساعات قليلة، إذ وصف حال الصحابة في تفانيهم في طاعة الرسول ، إلا أنهم في هذا الموقف لم يستطيعوا أن يقوموا بنحر الهدي، لا يستطيعون أن يقوموا بالنحر والحلق؛ لأن معنى ذلك أنهم تحللوا من العمرة وسوف يرجعون إلى المدينة المنورة، وهم حتى هذه اللحظة كانوا يأملون أن يدخلوا مكة المكرمة وأن يعتمروا، ويطوفوا بالبيت الحرام كما كانوا يرغبون.



وكان موقف أبي جندل مأساة كبيرة عند الصحابة ، فالقضية عندهم قضية خطيرة، والرسول يشعر بما يشعر به الصحابة ، ولكن الرسول تعامل مع الموقف بمنتهى الحكمة، ودخل إلى خيمته وهو حزين يفكر في حلٍّ لهذه القضية، فهو لن يعنف الصحابة ؛ لأنه يعلم ما بهم من أزمة، والصحابة كانوا غاضبين على إقرار هذه المعاهدة، وكان البديل لهذه المعاهدة هو الحرب، وهم كانوا على أُهْبَة الاستعداد أن يحاربوا ويقاتلوا إلى الموت، وعاهدوا على عدم الفرار، فلو لم يتم هذا الصلح قد تكون النتيجة القتال، وقد تذهب فيه أرواحهم جميعًا. أي أن حزن الصحابة يدل على حبهم للموت في سبيل الله، والرسول يدرك كل هذه الأبعاد، ويقدر موقف الصحابة جميعًا .


نصيحة أم سلمة للنبي

ودخل الرسول إلى خيمته وكان معه من أمهات المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، فرأت ما عليه النبي من الحزن، وسألته، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت: "يا رسول الله، أتحب ذلك؟"



يعنى: أتحب أن ينحروا ويحلقوا؟ ثم قدمت أم المؤمنين النصيحة الجميلة، رضي الله عنها وأرضاها.



تشاور المصطفى مع زوجته في قضية من أخطر قضايا المسلمين، لم يذهب للتشاور مع أبي بكر أو مع عمر أو مع غيرهم، لكنه ذهب إلى زوجته، وتحدث معها في قضية قد تهز كيان الدولة الإسلامية بكاملها، واستمع إلى رأيها، وكان رأيها حكيمًا، فقالت: " اخرجْ ثم لا تكلِّمْ أحدًا، حتى تنحرَ بُدْنَك، وتدعو حَالِقَكَ فيحلقك"[2].



فقام فخرج، فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك، نحر البدن ودعا الحالق فحلق له. فلما رأى الصحابة ذلك، قاموا جميعًا لم يتخلف منهم أحد، وبدءوا في النحر، وجعل بعضُهم يحلق بعضًا، حتى كاد بعضُهم يقتل بعضًا غمًّا. يعني بعضهم كاد يصيب الآخر من شدة الحزن والغم التي كان يشعر بها، لكن في النهاية استجاب الجميع فنحروا وحلقوا، والرسول فعل شيئًا جميلاً، فقد قدَّم جملاً يعرفه الجميع لينحره مع الناس، ما هذا الجمل؟! إنه جمل أبي جهل، والرسول كان قد أخذ هذا الجمل من غنائم بدر، وأتى به إلى هنا إلى مكان الحديبية لينحره، وبذلك حقق هدفين رئيسيين:



أولاً: أغاظ المشركين؛ فهذا الجمل كان معروفًا ومشهورًا عند المشركين، ومُعلَّمًا بعلامة في أنفه، فكانت هناك حلقة من فضة موضوعة في أنفه، فالجميع يعرفه.



والشيء الثاني: الذي يريده الرسول تذكير المسلمين بيوم بدر، وذكرهم بأن الله أخرجهم من أزمة بدر من موقف كان بعض المؤمنين يكرهونه، كما قال الله : {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال: 5].



فالآن سوف يخرجهم الله من هذا الموقف الذي يكرهه بعض الصحابة أو جُلّ الصحابة إلى نصر وسيادة وتمكين؛ لأن الله هو الذي أوحى إلى نبيه بهذا الصلح. وهذا المعنى وصل إلى بعض الصحابة وليس جميعهم، ومن ثَمَّ ظل الحزن مسيطرًا على عموم الصحابة ، ووصل الحزن ببعضهم إلى أمرٍ لا نتخيله حقيقة، إلى حوار عجيب دار بينهم وبين المصطفى .


حوار بين الرسول وعمر بن الخطاب

دار حوار بين عمر بن الخطاب وبين رسول الله ، وهذا الحوار يعبر عن مدى الحزن والأسى الذي كان في قلب عمر والصحابة من جرَّاء هذا الصلح الذي عقده الرسول ، والحوار جاء في البخاري ومسلم والحديث صحيح، يقول عمر بن الخطاب -وهو راوي الحديث-: فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ؟!



كلمات شديدة، ولكن الرسول بسعة صدر عجيبة قال: "بَلَى".



قلت: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟



فقال : "بَلَى".



فقلت: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟



والكلام غريب وشديد جدًّا؛ لأن الرسول مستحيل أن يعطي الدنية أبدًا في دينه ، ولكن هكذا رأى عمر بن الخطاب، وهكذا صرح بالكلمات التي كانت في قلوب كثير من الصحابة، ولكن لم يجرءوا على التصريح بها، فقال كلمات واضحة جدًّا: "إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِي". وفي رواية: "وَلَنْ يُضَيِّعَنِي أَبَدًا".



أي في هذا الأمر الذي تكرهونه سترون خيرًا إن شاء الله. ومع هذا التوضيح من الرسول ، قال عمر بن الخطاب: أوَلَسْتَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ فَنَطُوفَ بِهِ؟



وعمر قال هذه الكلمات لرسول الله ، وهذا كان يعبر عن مدى المأساة التي كان يعيشها عمر وجميع الصحابة، ومع ذلك فالرسول أوسع صدره، وصبر على كلمات عمر بن الخطاب، وقال له: "بَلَى، أَفَأَخْبَرْتُكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ؟"



هل ذكرت لك أن هذا في ذلك العام، فقال عمر بن الخطاب: لاَ.



فقال في ثقة ويقين: "فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ"[3].



لأن هذا وعدُ ربِّ العالمين. ولكن عمر ذهب إلى أبي بكر الصديق ، فقال له: يا أبا بكر، أليس هذا نبي الله حقًّا؟ ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ فلِمَ نُعْطِي الدنية في ديننا؟



فانتفض أبو بكر الصديق الرجل الهادئ اللطيف لما سمع هذه الكلمات، قال: "أيها الرجل، إنه لرسول الله ، وليس يعصي ربه وهو ناصره".



وسبحان الله! فقد توافقت كلمات الصِّدِّيق مع كلمات الرسول ، دون أن يسمع كلمات الرسول ، فهذا شيء غريب حقًّا! ومن أعظم مناقب الصِّدِّيق كما يقول ابن حجر العسقلاني رحمه الله في شرح صحيح البخاري. ثم يعطيه نصيحة مهمة جدًّا له ولعموم الأمة الإسلامية قال: "فاستمسكْ بغَرْزِهِ حتى تموت، فوالله إنه على الحق".



وواصل عمر كلامه، وكأنه لا يسمع هذا الكلام، وقال: أوَليس كان يحدثنا أننا سنأتي البيت ونطوف به؟



ردَّ عليه الصديق وقال: بلى.



ثم قال: أفأخبرك أنك تأتيه العام؟[4].



نفس كلمات رسول الله لعمر بن الخطاب ، والصديق هو أعظم البشر بعد الأنبياء، وهذا لم يأتِ من فراغ، فهي درجة يقين عالية جدًّا، وإيمان كامل بالله وبرسوله ، وظهر ذلك في مواطن كثيرة في حياته.


نزول سورة الفتح

وأكمل الرسول الطريق إلى المدينة المنورة، وفي طريقه إلى المدينة المنورة وقبل أن يصل إلى هناك نزلت عليه سورة الفتح، يقول : "لقد أنزلت عليَّ سورة لهي أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس، ثم قرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}"[5].



أول ما أنزلت عليه هذه السورة، نادى على عمر ؛ لأنه كان أكثر الصحابة تأثرًّا من هذا الحدث، نادى عليه وقرأ عليه -كما يقول عمر بن الخطاب - السورة كاملة من أوَّلها إلى آخرها، فقال عمر: يا رسول الله، أوَفتح هو؟ قال: "نعم"[6].



هذا الصلح في حد ذاته فتح من الله . وسوف نفصِّل القول فيما بعد، لماذا سمِّي هذا الصلح العظيم بالفتح المبين؟ كما قال رب العالمين، ووصل الرسول إلى المدينة المنورة وبدأ يعيد ترتيب الأوراق حسب الوضع الجديد الذي تمخضت عنه هذه المعاهدة.


وصول النساء المؤمنات مهاجرات إلى المدينة

وفور وصول الرسول إلى المدينة المنورة جاءت بعض النساء المؤمنات من مكة المكرمة مهاجرات إلى المدينة المنورة، وهذا أول قدوم للمسلمين من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة بعد الصلح، ولكن هؤلاء المسلمين لم يكونوا رجالاً بل كانوا نساءً، ومع ذلك أسرعت قريش وطلبت إعادة المؤمنات المهاجرات كما تقول المعاهدة، ولكن الرسول وقف لهم وقال: إن نص المعاهدة ينص على الرجال فقط، لكن لم يدخل النساء في القضية. والحمد لله أن رسول الله كان حريصًا على ذلك الأمر عند كتابة المعاهدة، لكن الرسول أراد أن يطمئن إلى إسلام هؤلاء المسلمات اللاتي جئن من مكة إلى المدينة ونزلت سورة الممتحنة، وفيها تفصيل لهذا الأمر، قال الله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 10].



أي تأكدوا من إيمانهن، هل جئن من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة هربًا من أزواجهن، أم طلبًا لرجل في المدينة المنورة؟ أم جئن إلى المدينة المنورة مهاجرات إلى الله وإلى رسوله الكريم ؟



{اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10]، فإن علمتم أنهن مؤمنات بعد هذا الاختبار والامتحان وتأكدتم أنهن صادقات، {فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إلى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] أي: لا يجوز أن يرجعن إلى الكفار، وما يصلح لامرأة مؤمنة أن تتزوج من رجل كافر {فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إلى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10].



وانظر ما سيأتي بعد ذلك في الآيات من بُعدٍ حضاري راقٍ في الإسلام، وعدل مطلق، قال الله : {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10]. أي أن الأزواج الكفار الموجودين في مكة الذين هربت أزواجهم من مكة إلى المدينة المنورة، هؤلاء دفعوا قبل ذلك مهورًا لأزواجهن من المؤمنات، الآن هربت الزوجة إلى بلاد المسلمين، وما عادت تصلح أن تكون زوجة لهذا الرجل الكافر، فلا يجب أن يضيع عليه هذا المهر الذي أنفق، يقول الله : {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا}.



أي أعيدوا إلى الكفار القدر الذي أنفقوه من المهر إليهم مرة ثانية حتى يستطيعوا به أن يتزوجوا مرة ثانية من امرأة تحل لهم. وهذا الأمر كان حكمًا عامًّا نزل لكل المؤمنات اللاتي هاجرن من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، وظل بعد ذلك حكمًا عامًّا إلى يوم القيامة، لا يجوز أبدًا لامرأة مسلمة أن تتزوج من رجل كافر، كذلك نزل في نفس الآيات أنه لا يجوز أيضًا لرجل مسلم أن يتزوج من امرأة كافرة، قال الله في نفس الآيات: {وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10].



هذه الآية موجهة إلى رجال المسلمين، أي لو أن امرأة مشركة كانت قد تزوجت من مسلم فلا بد أن يطلقها، وأن يعيدها مرة ثانية إلى أهلها المشركين في مكة. وعند نزول هذا الحكم، طلق المسلمون نساءهم الكافرات، وأعادوهن مرة ثانية إلى مكة المكرمة، ومن هؤلاء عمر بن الخطاب ، فقد طلق زوجتين كانتا عنده، وأعادهما إلى مكة[7].



ومما سبق يتضح لنا أننا نبني مجتمعًا مسلمًا خالصًا، فمن المحال على أمٍّ كافرة أن تربي أولادها على معاني الإسلام والعقيدة الصحيحة، وكذلك من المحال على أبٍ كافر أن يربي أبناءه على معاني الإسلام والعقيدة السليمة الصحيحة. واستقر الوضع داخل المدينة، وقَبِل المشركون بقضية المؤمنات اللاتي هاجرن من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة.


قضية أبي بصير !

بعد انقضاء قضية النساء المسلمات بأيام جاء رجل من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة مهاجرًا إلى الله ورسوله ، جاء رجل اسمه أبو بصير . وأبو بصير من ثقيف، لكنه كان يعيش في داخل مكة المكرمة حليفًا لقريش، وأسلم بعد صلح الحديبية أو قبيل صلح الحديبية وهرب من مكة المكرمة، ووصل إلى المدينة المنورة وطلب اللجوء إلى رسول الله . وفور خروجه من مكة علمت قريش بخروجه فأرسلوا رجلين إلى الرسول وقالوا: هذا داخل في بند المعاهدة.



ومع ذلك تعامل الرسول مع الموقف بنفس العقل الذي تعامل به مع موقف أبي جندل قبل ذلك، فأعاد أبا بصير إلى الرجلين، وقَبِل أن يعود مرة ثانية إلى مكة مع المأساة التي كان يشعر بها، ولكن هذه هي المعاهدة. ورجع بالفعل أبو بصير مع الرجلين، وعند ذي الحُلَيْفة -وهي على مقربة من المدينة المنورة- جلس الجميع ليستريحوا قليلاً من طريق السفر، وهنا تمكن أبو بصير من أخذ السيف من أحد المشركين وقتل به أحد المشركين، أما المشرك الآخر فخاف وهرب إلى المدينة المنورة؛ لأنه سوف يجد الحل والعدل عند رسول الله . ولما رآه الرسول من بعيد، قال: "لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا".



فلما انتهى إلى النبي ، قال: "قتل والله صاحبي، وإني لمقتول". أي أن أبا بصير قتل صاحبي، وسيأتي ليقتلني. ووصل أبو بصير عند رسول الله ، وقال: "يا نبي الله، قد والله أوفى الله ذمتك، وقد رددتني إليهم ثم أنجاني الله".



والآن أنا لست داخلاً في دولتك، أنا لست فردًا من أفراد المدينة المنورة، أنا لا ينطبق عليَّ الآن العهد، قد أوفى الله ذمتك. فلما سمع منه الرسول هذه الكلمات، قال كلمة عجيبة، قال النبي : "وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ، لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ".



فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر.



ولم يُدخِل رسول الله أبا بصير إلى داخل المدينة المنورة ورده؛ لأن المسلمين ملتزمون بمعاهدة مع المشركين، والمؤمنون عند شروطهم؛ فهرب أبو بصير خارج المدينة المنورة وبدأ يهاجم القوافل المتجهة من مكة المكرمة إلى الشام، يعترض القافلة، ويقتل منها من استطاع، ويأخذ من غنائمها ما استطاع. وعندما سمع بعض المسلمين المستضعفين في داخل مكة المكرمة وفي غيرها بما فعل أبو بصير، بدءوا يأتون إليه، وبدأ أبو بصير في تكوين عصابة من الرجال تعترض طريق القوافل المكية، فحدثت أزمة كبيرة في مكة.



أسرع أهل مكة إلى رسول الله يناشدونه بالرحم أن يضم أبا بصير إلى المدينة المنورة، وأن يلغي هذا البند من صلح الحديبية، وأن يقبل المسلمين من مكة ولا يعيدهم إليها مرة أخرى. وما هي إلا أيام قليلة بعد صلح الحديبية حتى مُحِي هذا البند من المعاهدة، وأصبحت المعاهدة خالصة لصالح المسلمين، وأصبحت فتحًا مبينًا حقيقيًّا للمسلمين[8].



د. راغب السرجاني

[1] البخاري: كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط (2581).

[2] البخاري: كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط (2581).

[3] البخاري: كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط (2581).

[4] البخاري: كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط (2581).

[5] البخاري: كتاب التفسير، باب تفسير سورة الفتح (4553).

[6] البخاري: أبواب الجزية والموادعة، باب إثم من عاهد ثم غدر (3011).

[7] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، تحقيق سامي محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1420هـ- 1999م، 7/353.

[8] ابن هشام: السيرة النبوية، القسم الثاني (الجزء الثالث والرابع) ص324.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 3 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 3 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:51 pm

الدروس المستفادة من صلح الحديبية

لماذا كان صلح الحديبية فتحًا مبينًا؟

صلح الحديبيةتعالَوْا -في البداية- ننظر إلى معاهدة صلح الحديبية بعد أيام من حدوثها، وتعالوا نرى الخير الذي جاء من ورائها. وأصدق تصوير لها وأفضل تعبير هو ما اختاره لها رب العالمين I: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1]. هذا الفتح المبين له دلالات كثيرة، نذكر منها عشرة أمور:


1- وضوح إيمان الصحابة

ويكفي أن الله أنزل فيهم قرآنًا، قال I: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح: 4].



فالله شهد لهم بالإيمان، وزيادة الإيمان بعد هذا الحدث العظيم صلح الحديبية.


2- اعتراف قريش بالمسلمين كقوة ودولة تعاهدها

وهو من أهم الأمور، ومن أعظم ثمرات صلح الحديبية. وهذا الاعتراف جاء من قريش أعظم قبيلة عربية، فهذا يعتبر الميلاد الرسمي لدولة الإسلام في الجزيرة العربية. وبعد هذا الاعتراف من قريش بدأت معظم القبائل الموجودة في المنطقة تعترف بالمسلمين، بل بدأت الدول المجاورة تعترف بالمسلمين كدولة، فهذا من أعظم ثمرات صلح الحديبية، وكل الآثار التي سوف تأتي بعد ذلك مترتبة على كون المسلمين أصبحوا دولة حقيقية معترف بها في المنطقة.


3- انتشار الإسلام في الجزيرة العربية

فالذين أسلموا في هاتين السنتين بعد صلح الحديبية وإلى فتح مكة من سنة ستٍّ أو أواخر سنة ست إلى أواخر سنة 8 من الهجرة، أكثر من الذين أسلموا خلال تسعة عشر عامًا من الدعوة الإسلامية، استغرقت ثلاث عشرة سنة في مكة المكرمة، وست سنوات في المدينة المنورة إلى أن أتى صلح الحديبية؛ فمن أسلم في تسع عشرة سنة سابقة لا يتعدون ثلاثة آلاف، ولكن من أسلم من أواخر سنة 6هـ إلى فتح مكة حوالي سبعة آلاف، فقد دخل الرسول بجيشه إلى مكة المكرمة وهم عشرة آلاف مقاتل غير النساء والصبيان الذين كانوا معه، وانظر إلى الفتح المبين، في سنتين فقط تضاعف العدد، ووصل إلى عشرة آلاف مقاتل، فهذا حقًّا فتح مبين.


4- عودة مهاجري الحبشة إلى المدينة المنورة

بعد صلح الحديبية مباشرة اطمأن الرسول إلى استقرار الأوضاع في المدينة المنورة، فأرسل إلى المسلمين في الحبشة، فبعض المسلمين قد هاجروا إلى الحبشة في العام السادس من البعثة النبوية، وظلوا في الحبشة سبع سنوات كاملة حتى الهجرة، وست سنوات كاملة من أيام المدينة المنورة، يعني ثلاث عشرة سنة كاملة في داخل الحبشة لم يرسل إليهم رسول الله ، ولكن بعد صلح الحديبية مباشرة وجد رسول الله أن الفرصة أصبحت مواتية لقدومهم من الحبشة؛ فأرسل إليهم عمرو بن أمية الضمري ليستقدمهم، وبالفعل جاءوا مباشرة، ووصلوا إلى رسول الله وهو في فتح خيبر كما سيتبين لنا إن شاء الله.



وبهذا أضيفت إلى قوة المسلمين في المدينة المنورة قوة المسلمين الذين كانوا في الحبشة بعد غياب ثلاث عشرة سنة عن رسول الله .


5- قدوم المسلمين من القبائل المختلفة الأخرى

المسلمون في كل قبائل العرب بدءوا يتحركون منها إلى المدينة المنورة، قبل هذه اللحظة كان يأمر المسلمين أن يمكثوا في قبائلهم ولا يأتوا إلى المدينة المنورة؛ لأنهم من ناحية يقومون بالدعوة في قبائلهم، ومن ناحية أخرى -وهذا أهمُّ- كان الوضع في داخل المدينة المنورة غير مستقر، أما الآن بعد صلح الحديبية فقد فتحت الأرض للمسلمين، فزادت قوة المسلمين بعد هذا الصلح.


6- تعاهدت قبائل كثيرة مع رسول الله

وما كانت هذه القبائل تجرؤ على هذا الأمر قبل هذا الصلح، وأول هذه القبائل قبيلة خُزَاعة، وبعدها بدأت القبائل تتوافد على المدينة المنورة.


7- بدأت المراسلات النبوية من رسول الله إلى عموم زعماء العالم في كل مكان

فقد راسل كسرى فارس، وقيصر الروم، وزعماء العالم في كل مكان يدعوهم إلى الإسلام، ويدعوهم إلى الدخول في هذا الدين الجديد؛ أما قبل صلح الحديبية فما أرسل رسول الله رسالة واحدة إلى زعماء العالم، لكن من الواضح أن هناك تغيرًا واضحًا في مسار الدعوة وانطلاقة عظيمة للإسلام بعد صلح الحديبية.


8- بدأ صناديد مكة وزعماؤها يفكرون جديًّا في الإسلام

ومن أوائل من أسلم بعد صلح الحديبية ثلاثة من أعظم قواد مكة، وأصبحوا بعد ذلك من أعظم قواد المسلمين: خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، وعثمان بن أبي طلحة . وكان إسلام خالد بن الوليد إضافة هائلة إلى قوة الإسلام والمسلمين، وخالد بن الوليد ظل عشرين سنة تقريبًا في الكفر، وهو يحارب الإسلام والمسلمين، والآن بعد صلح الحديبية بدأ خالد بن الوليد يفكر جديًّا في أمر الإسلام، وأنعم الله عليه بنور الإسلام، وضم جهده إلى المسلمين. وانظر ما أتى على يده بعد ذلك من الفتوحات، وما أنزل الله I من نصر عليه وعلى المؤمنين بعد إسلامه، وكذلك عمرو بن العاص ، ونعلم أن فلسطين بكاملها ومصر بكاملها فتحت على يد عمرو بن العاص ، فأبطال قريش بدءوا يتوجهون من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، فهو فتح مبين حقًّا.


9- تفرغ رسول الله لليهود

فقضية خيبر كانت تشغل ذهن رسول الله ، لكنه لم يكن يستطيع أن يتوجه إليهم بقوته وجيشه مع وجود الحرب والخلافات المستمرة بينه وبين قريش، بعد صلح الحديبية أَمِن جانب قريش، ومن ثَمَّ انطلق إلى خيبر.


10- هزيمة قريش هزيمة نفسية قاسية

جهَّزتها نفسيًّا للتسليم التام لرسول الله ، وكانت بدايات تفكير القرشيين بالتسليم لرسول الله وفتح أبواب مكة في صلح الحديبية.



وهذا هو الأمر العاشر، فتلك عشرة كاملة.


دروس مستفادة من صلح الحديبية

بعد كل هذا الخير وكل هذه الآثار الحميدة التي رأيناها في صلح الحديبية لا بد لنا من وقفة، وصلح الحديبية يحتاج منا إلى وقفات كثيرة، ولكن سنقف على ثلاث وقفات مهمة:


أولاً: اليقين في أن شرع الله لا يأتي إلا بالخير في الدنيا والآخرة

هل كان الصحابة يرون كل هذا الخير؟ والجواب: لا؛ فالصحابة لم يكونوا يرون هذا الخير، بدليل ما رأيناه من عمر بن الخطاب ، ولكن هذا هو الشرع، فما حدث في صلح الحديبية هو الشرع بدليل قوله : "إنه ربي ولن يضيعني أبدًا"[1]. ومع ذلك لم يكن الصحابة يرون الخير في هذه النقطة الشرعية في ذلك الوقت، وهذا أمر غريب.



وإذا كنا نلوم على الصحابة في أنهم وقعوا في هذا الأمر مرة في حياتهم، فلا بد أن نعترف أننا وقعنا فيه مرارًا. وما أكثر ما سمعنا حكم الشرع في قضايا كثيرة، ويكون ساعتها الحكم مباشرًا وواضحًا جدًّا ولكننا نُقدِّم رأينا!! ففي بعض الأوقات نرى الأب والأم يتركون الابنة بلا حجاب لعلَّةٍ في أذهانهم هو أن تتزوج البنت، ولو حُجِّبت في اعتقادهم أن هذا سيؤخِّر زواجها، فيأمرونها أن تسير من غير حجاب، وفي هذا مخالفة صريحة للشرع؛ فهم يرون الخير في غيره فيقدمون رأيهم ويلغون في حياتهم حكم الشرع في هذه الجزئية. وقد نرى استثماريًّا كبيرًا يقترض بالربا حتى يقيم مشروعًا كبيرًا وهو يعلم حكم الشرع تمامًا، ثم يخالفه بُغية البحث عن خير، وقد يرى أن الخير في مخالفة الشرع في هذه الجزئية. ونرى دولة تبيع الخمور حتى تنشط السياحة، ونرى حاكمًا يوالي دولة قوية، وإن كانت معادية للإسلام؛ لأنه يرى أن هذا أصلح لحياة الناس، ولا يرى الخير في حكم الشرع.



فهذه القضايا نراها كثيرًا جدًّا في حياتنا، ولكن الخطير في حياتنا أننا نفعل ذلك طلبًا للدنيا، وليس طلبًا للآخرة، أما خطأ الصحابة في قضية صلح الحديبية لم يكن طلبًا للدنيا قَطُّ، وإنما فعلوه طلبًا للآخرة، ليس هناك مصالح دنيوية فيما كان الصحابة يرجونه يوم الحديبية؛ فقد كانوا يريدون أن يدخلوا مكة لأداء عبادة العمرة، فهم لا يريدون الدخول للتجارة أو الحرب أو لمصلحة دنيوية، وإنما يدخلون لأداء عبادة العمرة، ثم يعودون بعد ذلك إلى المدينة المنورة، وإن منعوا قاتلوا، والقتال كان خطيرًا لأنهم لا يملكون سلاح المقاتل، يعني كانوا معرّضين للموت، أي أنهم عندما عرضوا رأيًا مخالفًا لحكم الشرع لم يعرضوا ذلك إلا طلبًا للآخرة، وليس طلبًا للدنيا، ولو كانوا طلاّب دنيا لآثروا الرجوع حفاظًا على حياتهم.



ومن ثَمَّ فنحن نستفيد من صلح الحديبية بعد رؤية الخير العميم الذي نتج عنه أن نرضى بشرع الله ، ولا نقول: نقبل بشرع الله ؛ وفارق كبير جدًّا بين أن نرضى بحبٍّ وبين الاقتناع، فإنه حتى لو كانت عيوننا لا ترى الخير فإننا على يقين أن الخير موجود، ولكننا لا نراه الآن، وقد نموت ولا نرى هذا الخير، وعلينا أن نكون على يقين أن فيه الخير، قال الله : {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216]. وقال أيضًا: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].



فنحن نريد أن نصل إلى درجة التسليم الكامل لرب العالمين I، قال الله في كتابه: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].



درجة التسليم معناها الرضا الكامل بحكم الله ، وأن نوقن يقينًا جازمًا أن الخير فيما اختاره الله لنا . والصحابة قد تعلموا من درس الحديبية، فالصحابة رأوا الخير الذي حدث بعد صلح الحديبية، مع أنه في وقت الصلح لم يروا هذا الخير، ووقت مجيء أبي جندل بالذات لم يروا هذا الخير، فكانوا لا يرون إلا الشر، حتى عمر بن الخطاب فقد حاول قدر المستطاع بعد ذلك أن يكفِّر عن هذا الخطأ الذي حدث منه في يوم الحديبية، يقول: "فعملتُ لذلك أعمالاً"[2].



فعمل لذلك خيرًا كثيرًا للتكفير عن هذا الأمر، فيقول: "فما زلت أتصدق وأصلي وأصوم وأعتق؛ مخافة كلامي الذي تكلمت به يوم الحديبية حتى رجوت أن يكون خيرًا".



واستفاد من الدرس بعد ذلك في كل حياته، حتى كان يقول معلِّمًا المسلمين: "أيها الناس، اتهموا الرأي على الدين"[3].



فقد يكون لك رأيٌ في قضية من القضايا تشعر أنه أفضل من الحكم الشرعي، فاتهمْ رأيك وقدِّمْ حكم الشرع. ويقول : "فلقد رأيتني أردُّ أمر رسول الله برأي اجتهادي، فوالله ما آلو عن الحق".



أي كنت أبحث عن الحق، ومع ذلك كان الخطأ في رأيي، والصواب في حكم الشرع، وذلك يوم أبي جندل كما يقول عمر .



ويقول سهل بن حنيف نفس الكلام؛ لأنه كان حاضرًا لهذا الموقف، فيقول للمسلمين: "اتهموا رأيكم، فقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أردَّ أمر رسول لرددته"[4].



أي لو كنت أستطيع أن أمنع رسول الله من أداء هذا الصلح لفعلت، ومع ذلك هو ينصح المسلمين بعدم فعل ذلك بعد أن رأى الخير في صلح الحديبية.



فكان هذا درسًا مستفادًا على قدر كبير من الأهمية، ولعله أعظم دروس الحديبية مطلقًا، وهو أن نوقن تمامًا أن شرع الله هو الخير لنا في دنيانا وفي آخرتنا.


ثانيًا: الثقة في القيادة

لأنه في بعض الأحيان تأخذ القيادة قرارات لا يدرك الجنود كامل أبعادها؛ فكثيرًا ما تكون الرؤية عند القيادة أشمل، وتحليل الأمور يكون بصورة أعمق، وقد تُطلع القيادة على أمور لا يراها الجنود، وقد تفكر في مصالح لا ينظر إليها الجندي، وقد تحاول تجنب مفاسد لا يدركها الجندي، والقيادة الحكيمة هي التي تجمع بين الأحلام المطلوبة والواقعية في الأداء، توازن بين وسائل تغيير الممكن، وتعرف معنى التدرج في التغيير، وتقدّر حجم المكاسب والخسائر.



كل هذه أبعاد قد لا يراها الجندي المتحمس، أو المسلم المتلهف على رؤية الإسلام ممكَّنًا في الأرض ما بين يوم وليلة، والقيادة التي تدرك كل هذه الأمور قد تأخذ قرارات يراها الجنود أحيانًا مخيبة للآمال، أو يراها محبطة لنفسيته، أو يراها خاطئة من الناحية السياسية، أو حتى يراها الجندي مخالفة شرعية؛ وكل هذا قد يكون وهمًا لا صحة فيه، والرسول قَبِل بإعادة المسلم الذي يأتيه من مكة إلى المدينة مع خطورة ذلك عليه، وهذه خطورة حقيقية ومع ذلك قَبِل؛ لأنه ينظر إلى المصالح مجتمعة، وينظر إلى المفاسد مجتمعة، فوجد أن المصالح أعلى بكثير من المفاسد، مع الإقرار التام بأن هذا الأمر مفسدة، ولكن المصالح أعلى، وهو لا يستطيع أن يمنع المفسدة فقَبِل بها، وعليه أن يختار بين المصالح الكثيرة ومعها بعض المفاسد أو أن يدفع بعض المفاسد ويضيِّع المصالح الكبيرة، فالأمر كان عنده واضحًا.



ولا شك أن الأمر يحتاج إلى حكمة، ويحتاج إلى علم، والموفَّق من وفقه الله . والرسول قد قبل بأمور لا يحبها بل يمقتها كل المقت، ولكن الواقع فرضها عليه، ولم يقبلها قبل ذلك المتحمسون من الشباب، ثم تبين أن الخير كان في قراره ؛ فمثلاً الرسول قَبِل بفكرة عدم الرد على من آذى المسلمين ومن عذبهم، بل وعلى من قتلهم في فترة مكة، وكان هذا حكمًا شرعيًّا قَبِل به ، وعموم الصحابة في ذلك الوقت قبلوا بذلك، ولكن بعض المتحمسين في ذلك الوقت من الصحابة لم يقبلوا وقالوا: لِمَ نُعطِي الدنية في ديننا؟ ولمَ لا نرد على المشركين ولمَ ولمَ...؟! ثم ظهر لنا بعد ذلك الخير في قرار الشرع، والخير في حكم الشرع، وهذا ما نسمِّيه (فقه المرحلة)، وفقه الموازنات. وكذلك تأول اليهود كثيرًا على المسلمين في أوائل عهد المسلمين بالمدينة، وكذلك تطاول اليهود على المسلمين في أوائل عهد المسلمين في المدينة، وقاموا بأمور كان من الممكن أن تفسَّر على أنها نقض للمعاهدة، ومع ذلك فالرسول التزم بسياسة ضبط النفس قدر المستطاع، ليس هذا لضعف ولا لتفريط، ولكن لفقه المرحلة وفقه الموازنة.



وهكذا كان الوضع أيضًا في صلح الحديبية، وهكذا كان الوضع أيضًا في مواقف كثيرة في السيرة النبوية، بل لعلنا لا نكون مبالغين أنه يكاد يكون مستحيلاً أن تجد قرارًا يخلو من أي سلبية؛ فالقضية قضية موازنات، وهناك كلمة جميلة لعمرو بن العاص -وهو مشهور بالحكمة- قال: ليست الحكمة أن تدرك الفرق بين الخير والشر، أو الفرق بين الحلال والحرام، ولكن الحكمة أن تدرك أيّ المنفعتين أعلى، وأيّ الضررين أكبر. هذه هي الحكمة، فالمهم في هذا المقام أن تدرك لكي تقوم وتسود وتُمكّن لا بد من أخذ قرارات تبدو في ظاهرها مؤلمة للمسلمين، وقد يبدو فيها للناظر مخالفات شرعية، لكن المدقِّق والمحلل والعالم ببواطن الأمور سيجد أنها عين الشرع؛ لأنها أخف الضررين، فتقبل شرعًا ولا تُعَدّ مخالفة. ولا بد لكل جندي أن يدرك كل هذه الأبعاد، ومن ثَمَّ يعذر القيادة، ويقدم لها النصح والإرشاد بأدب، ويقبل منها الأمر والتوجيه، وكل ذلك لا يمكن أن يكون إلا بثقة تامة في القيادة، وإدراك كامل للعبء الثقيل المُلقى على أكتاف القادة، وبغير هذه العلاقة الوثيقة بين القيادة وجنودها لا يمكن لجماعة أو لأمة أن تقوم.


ثالثًا: أن تلتمس القيادة لجنودها الأعذار في بعض المواقف

إذا كنا طلبنا من الجنود أن يعذروا القيادة في قراراتها، وأن تتصف ردود أفعال الجنود بالثقة في اختيار القائد، فإننا في الوقت ذاته نطلب من القيادة أن تعذر جنودها عند ظهور بعض علامات الغضب أو عدم الرضا من بعض القرارات غير المفهومة لعموم الناس، وأن يتسع صدر القيادة إلى استيعاب الجنود، وهم في حالة نفسية سيئة، وأن تقبل منهم بعض الأخطاء، وأحيانًا تكون هذه الأخطاء كبيرة؛ ومثال ذلك الأمر في صلح الحديبية ما رأيناه من رسولنا في تعامله مع الصحابة، وخاصة مع عمر بن الخطاب الذي أصر على المجادلة مع الرسول أكثر من مرة، ومع ذلك لم يعنِّفه الرسول لكثرة اعتراضاته، لم يقل له: هذا الكلام لا يليق معي، والحوار بهذه الطريقة لا يصح أن يكون مع الرسول ؛ لكون الرسول يعذره ويقدّر موقفه، ويعلم تاريخه وسيرته ويعلم مواقفه، ويقيس هذا الخطأ الذي حدث -وإن كان عظيمًا- في ضوء سيرته الجميلة ؛ فسيرة عمر كلها تضحيات، كلها طاعة، كلها جهاد في سبيل الله، كلها بذل وعطاء، حتى وجدناه يرسل إلى عمر خاصة بعد نزول سورة الفتح ليطمئن قلبه، فقرأ عليه سورة الفتح بكاملها حتى يقول له إن قرار الصلح هو القرار الأصوب، ولما سأله عمر بن الخطاب: "أوَفتحٌ هو؟" اكتفى الرسول بقوله: "نعم"[5].



ولم يذكّره بخطئه السابق، وما قال له: لا يصح لك أن تفعل كذا وكذا، وما كان ينبغي لك أن تقول كذا وكذا، وحتى بعد ظهور خيرات صلح الحديبية لم نسمع أن الرسول استدعى عمر بن الخطاب، وقال له: ألم أقل لك أن هذا خير؟ ما قال له هذه الكلمات قَطُّ. إنه موقف عابر من عمر بن الخطاب، والرسول استوعب الموقف بمنتهى سعة الصدر، وقَبِل منه الخطأ؛ لأنه يقدِّر الظروف التي حدث فيها هذا الخطأ، والرسول كان رحيمًا بعُمَر وبسائر أصحابه تمام الرحمة، وكان يقدّر حبهم للإسلام تمام التقدير، فكانت هذه هي القيادة الحكيمة.



وخلاصة الأمر أن الأمة الناجحة حقًّا هي الأمة التي يشعر فيها الجندي بأنه قريب من القائد، يحبه ويقدّره ويطيعه ويثق به تمامًا، ويشعر القائد بأنه قريب من جنوده يحبهم ويقدرهم ويثق بهم، وهذه الثقة المتبادلة والتسامح المتبادل والمحبة المتبادلة من أقوى الأسباب التي تقوم عليها الأمم.



د. راغب السرجاني

[1] البخاري: أبواب الجزية والموادعة، باب إثم من عاهد ثم غدر (3011).

[2] المباركفوري: الرحيق المختوم ص302.

[3] الهيثمي: مجمع الزوائد، دار الفكر، بيروت، 1412هـ، رقم الحديث (10183)، وقال الهيثمي: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح. المتقي الهندي: كنز العمال، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1989م، رقم الحديث (1627).

[4] البخاري: أبواب الجزية والموادعة، باب إثم من عاهد ثم غدر (3010). مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية في الحديبية (1785) .

[5] البخاري: أبواب الجزية والموادعة، باب إثم من عاهد ثم غدر (3011).
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 3 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 3 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:52 pm

رسالة الرسول إلى هرقل وموقف هرقل من الإسلام

رسالة الرسول لهرقل

رسالة الرسول لهرقلجاءت رسالة الرسول في صحيح البخاري، وهناك كثير من الناس من الممكن أن تستغرب كلام هذه الرسالة، فنحن نعلم أن هذه الرسالة هي من رئيس دولة صغيرة جديدة وهي دولة المدينة المنورة، وجيشها على أكبر تقدير ثلاثة آلاف جندي، وعمرها لا يتجاوز الثلاث سنوات وأسلحتها بسيطة، وعَلاقاتها في العالم محدودة جدًّا، ومع ذلك يُرسِل زعيمها رسالة إلى هرقل قيصر الروم، الزعيم الأعظم للدولة الأولى في العالم الإمبراطورية الرومانية التي تسيطر على نصف أوربا الشرقي، إضافةً إلى تركيا والشام بكامله، ومصر والشمال الإفريقي، وجيوشها تقدر بالملايين بلا مبالغة، والأسلحة متطورة جدًّا، وتاريخها في الأرض أكثر من ألف سنة، لا بد أن ندرك كل هذا ونحن نقرأ كتاب الرسول إلى قيصر الروم: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَسْلِمْ تَسْلَمْ".



هكذا في منتهى الوضوح: أسلم تسلم.



"يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ[1]"[2].



ثم كتب آية من آيات رب العالمين I: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64].



ونحن نرى الوضوح والقوة والعزة والحكمة في كل كلمة من كلمات الخطاب. وهذا الخطاب يحتاج إلى وقت طويل حتى نحلله، وندرسه، ونستخرج منه الدروس التي في باطنه، ولكن هنا سوف نشير إلى بعض الدروس المهمة.



- فقد حرص الرسول على ظهور عزته وعزة الدولة الإسلامية في كل كلمة من كلمات الخطاب؛ أولاً: بدأ باسمه قبل اسم هرقل. وهذا الكلام كان خطيرًا في زمانهم، فقد كتب : "من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم"، ثم دعاه مباشرة للدخول في الإسلام، فقال: "أسلم تسلم". في صيغة ليس فيها تردُّد.



- وأيضًا من الدروس أنه مع إظهار هذه العزة والقوة إلا أنه لم يقلل من قيمة الطرف الآخر، بالعكس رفع قدر الطرف الآخر وحفظ له مكانته قال: "إلى هرقل عظيم الروم". وأيضًا جمع في مهارة عجيبة بين الترهيب والترغيب يقول له: "أسلم يؤتك الله أجرك مرتين". يعني فيها نوعٌ من الترغيب، ثم يقول له مهدِّدًا بوضوح: "فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيِّين". ونحن نراه يجمع بين الترغيب والترهيب، فهو في ناحية يرغِّب، وفي ناحية أخرى يرهب، وهذا الكلام في سطور قليلة للغاية.



- وأيضًا من الدروس من هذه الرسائل حسن اختيار الآية المناسبة من القرآن الكريم، فقد أتى بآية تقرب قلوب أهل الكتاب، وتوضح أن هناك قواسم مشتركة كثيرة بيننا وبينهم، حتى يفتح عقولهم للتفكير، ويرفع حواجز كثيرة جدًّا بين الطائفتين المسلمة والنصرانية.



هذا كان خطاب هرقل عظيم الروم، وهكذا كان الخطاب إلى كل زعماء العالم، الخطاب متشابه في مضمونه مع اختلاف الألفاظ على حسب البلد المرسَل إليها، واختلاف الدين الذي يدينون به. ومع وحدة الخطاب إلا أن ردود الأفعال كانت متباينة، فقد بلغ بعضها القمة في الأدب وحسن الردّ، في حين بلغت بعض الردود الأخرى أدنى مستوى لسوء الأدب والمعاداة، وبعضها بين هذا وذاك.


رد هرقل على رسالة النبي

هرقل زعيم الدولة الرومانية، وهي دولة تسيطر تقريبًا على نصف مساحة العالم في ذلك الوقت. والحقيقة أن موقف هرقل من الرسالة يحتاج إلى وقفة، ويحتاج إلى تحليل، فهو يفسر لنا الكثير من أحداث التاريخ، سواءٌ في أيام رسول الله أو في الأيام التي تلت الرسول ، ويفسر لنا أحداثًا كثيرة جدًّا من الواقع الذي نعيشه؛ لأننا نعرف أن التاريخ يتكرر.



عندما تسلم هرقل رسالة الرسول أخذ الموضوع بمنتهى الجدية، مع أنه زعيم أكبر دولة في العالم، وهو يتسلم رسالة من زعيم دولة لم يسمع عنها أحد، وهذه الدولة خرجت في بلاد العرب، والرومان بصفة عامة كانوا ينظرون إلى بلاد العرب نظرة دونيّة، ويرونهم دائمًا أقل من أن يهتم أحدٌ بشأنهم، أو يدرس أحوالهم؛ فهؤلاء العرب قوم يعيشون حياة البداوة في أعماق الصحراء بعيدة كل البعد عن كل مظاهر الحضارة والمدنية، وهم متفرقون ومشتتون، وأحلامهم بسيطة، وأعدادهم محدودة، وأسلحتهم بدائية. الفارق بينهم وبين إمبراطورية الرومان الهائلة، كالفارق بين السماء والأرض أو يزيد. وحينما كان يدور الصراع بين دولة فارس ودولة الروم فإن كل ما كان العرب يفعلونه هو الاكتفاء فقط بمراقبة الأحداث، ويراهن بعضهم على بعضٍ فيمن سوف يكسب من الدولتين العظيمتين: فارس والروم، ولم يكن عندهم طموح لا من قريب ولا من بعيد في مشاركة القوة العالمية في الأحداث الجارية في العالم.



ومع كل ذلك عندما أرسل الرسول رسالته إلى زعيم الروم، أخذ هرقل ملك الروم الأمر بمنتهى الجدية، ولم ينكر أن يكون ذلك الرجل نبيًّا حقًّا، ولم يكن ينقصه إلا التأكد فقط. ونحن عندما نسمع عن هرقل أو نقرأ عنه نشعر أنه كان زعيمًا نصرانيًّا متدينًا ملتزمًا إلى حد كبير بتعاليم النصرانية، وكان يعلن كثيرًا أن الله يساعده في معاركه، حتى إنه نذر أن يحج إلى بيت المقدس ماشيًا على قدميه من حمص إلى القدس؛ شكرًا لله على نصره للرومان على الفرس. ورجل مثل هرقل لا بد أنه قد قرأ في التوراة والإنجيل أن هناك رسولاً سيأتي، وأن هذا الرسول بشَّر به موسى وعيسى عليهما السلام، وكان هرقل ينتظر هذا الرسول، وهذا الرجل الذي أرسل له الرسالةَ يذكر له في هذه الرسالة أنه نبي آخر الزمان، وهرقل آمَنَ بالفكرة، ولعله مشتاق لرؤية ذلك النبي. وكان هرقل قبل هذه الأحداث قد سمع عن هذا النبي ، بل إن الله يسَّر له لقاءً غريبًا عجيبًا ربما يكون قبل استلام الرسالة، مما قد يكون مهَّد هرقل نفسيًّا تمامًا لاستلام مثل هذه الرسالة العجيبة.


حوار بين أبي سفيان وهرقل

سمع هرقل أن هناك نبيًّا ظهر في بلاد العرب، فأمر هرقل جنوده أن يأتوا ببعض العرب؛ لكي يسألهم عن هذا النبي الذي ظهر في بلادهم. واستطاع الجنود الإمساك ببعض التجار الذين كانوا يتاجرون في غزة بفلسطين، وكان هرقل في بيت المقدس في ذلك الوقت، وهو يريد أن يستوثق من أمر الرسول ، وكان من بين هؤلاء التجار أبو سفيان بن حرب زعيم قريش. وهذا الأمر حدث بعد صلح الحديبية مباشرة؛ فقد سافر أبو سفيان لغزة للتجارة، وأمسكه بعض الجنود، وأخذوه إلى هرقل في بيت المقدس، والتوقيت عجيب من كل النواحي، فكأن الله I أرسل أبا سفيان الذي كان كافرًا في ذلك الوقت؛ ليقيم الحجة على هرقل في هذا اللقاء العجيب.



ورد في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، نقلاً عن أبي سفيان بعد إسلامه، أن هرقل سأل التجار أيكم أقرب نسبًا لهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، فقال أبو سفيان: "أنا أقربهم نسبًا إليه".



فقال هرقل: "أدنوه مني، وقربوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره". أي جعل أبا سفيان واقفًا ووراءه مجموعة من أصحابه، ثم قال لترجمانه: "قل لهم: إني سائلٌ هذا الرجل -يعني أبا سفيان- فإن كذبني فكذبوه".



هرقل يريد أن يعرف بجدية كل شيء عن هذا النبي، فسأل أقرب الناس إليه نسبًا؛ ليكون على معرفة تامة به، وفي الوقت نفسه جعل وراء أبي سفيان مجموعة التجار الآخرين كحكّام على صدقه. وتحت تأثير إرهاب هرقل وبطشه، أبو سفيان سوف يخاف أن يكذب، ومَن وراءه سوف يخافون أن يكذبوا. ولكن أقول لكم: إن عامل الكذب هذا لم يكن واردًا في القصة، فالعرب حتى في أيام الجاهلية كانت تستنكر صفة الكذب هذه، وتعتبرها نوعًا من الضعف غير المقبول، حتى إن أبا سفيان كان يقول تعليقًا على كلمة هرقل هذه: "فوالله لولا الحياء من أن يأثر أصحابي عني الكذب لكذبته حين سألني عنه، ولكني استحييت أن يأثروا الكذب عني فصدقته".



فهو في هذه اللحظة -سبحان الله- مع أنه يكره الرسول كراهية شديدة، إلا أنه لا يستطيع أن يكذب على محمد ، لا يحب أن يشوّه صورته بالكذب، لدرجة أنه في رواية كان يقول: "ولكني كنت امرأً أتكرَّم عن الكذب".



وبدأ استجواب هرقل لأبي سفيان أمام الجميع من العرب والرومان وفي حضور عِلية القوم من الأمراء والوزراء والعلماء من الرومان. وفي هذا الاستجواب سوف نرى أن هرقل سيسأله أسئلة يحاول بها أن يتيقن من أمر هذه النبوة التي ظهرت في بلاد العرب، هل هي نبوة حقيقية أم كذب؟ وهذه الأسئلة عبارة عن استنباطات عقلية، وهذه الأسئلة بناء على معلومات عن الأنبياء بصفة عامة، وعن هذا النبي بصفة خاصة كما جاء في التوراة والإنجيل. وهذا الحوار الذي دار بين هرقل زعيم أكبر دولة في العالم في ذلك الوقت وأبي سفيان زعيم قريش، نحن نحسبه من أعجب الحوارات في التاريخ، وهو عجيب من أكثر من وجه؛ لاهتمام زعيم أكبر دولة في العالم بأمر رجل يظهر في صحراء العرب، أو من حيث ذكاء الأسئلة ودقتها، أو من حيث ردود أبي سفيان المشرك -آنذاك- الذي كان يكره محمدًا كراهية شديدة، أو من حيث تعليق هرقل على كلام أبي سفيان في آخر كلامه، أو من حيث ردّ فعل هرقل بعدما سمع كلمات أبي سفيان. إنه حوار عجيب بكل المقاييس، وقد بدأ الحوار بسؤال:



كيف نسبه فيكم؟



قال أبو سفيان: هو فينا ذو نسب.



قال هرقل: فهل قال هذا القول من قبلكم أحد قَطُّ قبله؟



قال أبو سفيان: لا، لم يدَّعِ أحدٌ في تاريخ العرب النبوة.



فقال هرقل: هل كان من آبائه من مَلِك؟



فقال أبو سفيان: لا.



قال هرقل: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟



قال أبو سفيان: بل ضعفاؤهم.



قال هرقل: أيزيدون أم ينقصون؟



قال أبو سفيان: بل يزيدون.



قال هرقل: فهل يرتد أحد منهم سَخْطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟



قال أبو سفيان: لا، لا يرتد منهم أحد.



قال هرقل: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟



قال أبو سفيان: لا.



قال هرقل: فهل يغدر؟



قال أبو سفيان: لا. ثم قال: ونحن منه في مدةٍ لا ندري ما هو فاعل فيها[3].



هذا كلام أبي سفيان، فهو أراد أن يقول أي شيء سلبي على الرسول ، فكل الإجابات ترفعُ من شأن الرسول ، يقول أبو سفيان: ولم تُمْكِنِّي كلمةٌ أُدخل فيها شيئًا غير هذه الكلمة.



أي حاولتُ قدر ما أستطيع أن أطعن في الرسول بأي شيء، فلم أستطع إلا بهذه الكلمة، وهرقل لم يعلِّق على هذه الكلمة، وكأنه لم يسمعها.



ثم قال هرقل: فهل قاتلتموه؟



قال أبو سفيان: نعم.



فقال هرقل: فكيف كان قتالكم إياه؟



قال أبو سفيان: الحرب بيننا وبينه سجال[4].



قال هرقل: بماذا يأمركم؟



قال أبو سفيان: يقول: اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.



انتهى الاستجواب الطويل من هرقل، وبدأ هرقل يحلل كل كلمة سمعها، وكل معلومة حصل عليها حتى يخرج باستنتاج. وأعلن ذلك الاستنتاج ترجمان هرقل، قال هرقل: "سألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب من قومها".



وسوف يبدأ هرقل يأخذ كل كلمة، وكل نقطة يثبت بها لأبي سفيان وللجميع ولنفسه قبلهم أن هذا رسول من عند الله.



ثم قال: سألتك: هل قال أحد منكم هذا القول قبله؟ فذكرت أن لا، قلتُ: لو كان قال أحد هذا القول قبله لقلت رجل يَأْتَسِي بقول قيلَ قبله.



وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، فلو كان من آبائه من مَلِك، قلتُ: رجلٌ يطلب مُلك أبيه.



وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فَقَدْ عَرَفْتُ أنه لم يكن ليذَرَ الكذب على الناس ويكذب على الله.



وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل.



وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون. وكذلك أمر الإيمان حتى يتم.



وسألتك: أيرتد أحد منهم سَخْطَةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا. وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.



وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت أن لا. وكذلك الرسل لا تغدر.



وسألتك: بماذا يأمر؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئًا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.



فهذه هي تحليلات هرقل حتى خرج إلينا في نهاية الأمر بنتيجة خطيرة فعلاً، يقول بمنتهى الصراحة: فإن كان ما تقوله حق فسيملك موضع قدمي هاتين[5]، وقد كنت أعلمُ أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم[6]، فلو أني أعلم أني أخلصُ إليه لتجشَّمْتُ لقاءَهُ، ولو كنت عنده لغسلتُ عن قَدَمِهِ[7].



إنها كلمات خطيرة وعجيبة من زعيم الإمبراطورية الرومانية، فقد أيقن هرقل من أول وهلة أن هذا الرجل رسول حقًّا، وأن ملكه سيتسع حتى يأخذ بلاد الشام، وأنه يجب الاتباع له والانصياع الكامل لأمره، بل الرضوخ لقوله تمامًا، والتواضع الشديد لدرجة أن هرقل يتمنى أن لو غسل قدمي رسول الله . ودعا هرقل بكتاب الرسول والمرسَل مع دِحْية بن خليفة الكلبي ، وقرأ هذا الكتاب في وجود أبي سفيان، ونحن لا نعلم إن كانت هذه أول مرة يقرأ هرقل الرسالة، أم قرأها قبل ذلك، وقد يكون هرقل قرأ رسالة النبي قبل ذلك، ثم أراد أن يَعْرف أكثر عن هذا النبي، فبحث عمن يَعْرفه جيدًا؛ ليسأله عنه وعن سيرته وأخلاقه كما رأينا. ولعله أراد أيضًا أن يُعَرِّف أساقفة الرومان وقادتها بهذا النبي الذي يريد أن يؤمن به هو شخصيًّا، وقد رأينا أسئلته لأبي سفيان وتحليلاته الشخصية لأجوبة أبي سفيان عنها، تلك التحليلات التي تنطق بأن هذا الرجل هو النبي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.



المهم أنه قرأ الكتاب أمام أبي سفيان وأمام العرب وأمام الرومان الموجودين، وبدأ يقرأ الكلمات العجيبة، وفيها دعوة صريحة لدخول الإسلام. وبعد انتهاء القراءة من الرسالة سمع أصواتًا عالية، وكثر اللغط، وارتفعت الأصوات في كل مكان، وضجت القاعة بالاعتراض على كل كلمة من كلمات هذا الكتاب النبوي؛ لأن زعماء النصارى وأمراء الجيوش وعلماء الدين الموجودين رفضوا تمامًا هذه الدعوة الكريمة من رسول الله . ولما حدث ذلك أمر هرقل بأبي سفيان ومن معه من تجار أن يخرجوا من القاعة، ورأى أبو سفيان رهبة هرقل عندما سمع قصة المصطفى ، ولم يؤمن برسالته بعدُ، وهو يرى الرسول وهو يكتب الرسائل إلى زعماء الدول العالمية الكبرى في ذلك الوقت، فقد ترك هذا الموقف أثرًا نفسيًّا هائلاً عند أبي سفيان، حتى إنه ضرب يدًا بالأخرى، وقال: "لقد أَمِرَ أمرُ ابن أبي كبشة". أي عَظُم أمر ابن أبي كبشة، يقصد الرسول ، ثم قال: "إنه ليخافُهُ مَلِكُ بني الأصفر"[8].



هرقل زعيم الرومان، لدرجة أن هذا الحدث سيحفر تمامًا في ذهن أبي سفيان، وسيكون له أبلغ الأثر في قرارات أبي سفيان، وسوف نرى أبا سفيان يُسلِم بعد ذلك في فتح مكة.


هرقل يعترف بالإسلام ولكنه يفضل الملك

لقد كان هرقل على استعدادٍ لاتباع الرسول ، ولكن في المقابل كانت هناك ثورة كبيرة في داخل البلاط الملكي ترفض تمامًا فكرة الإسلام. وأدرك هرقل أنه لكي يعلن رغبته في اتباع الرسول عليه أن يغامر بملكه، وأن يخاطر بسيادته على شعبه؛ فالأمراء من الممكن أن يخلعوه من ملكه، وفي رواية أنه قال لدحية بن خليفة الكلبي: "والله إني لأعلم أن صاحبك نبي مرسل، وأنه الذي كنا ننتظره، ونجده في كتابنا، ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته".



وفي رواية ثانية ذكرها ابن كثير -رحمه الله- أن هرقل استدعى الأسقف الأكبر للرومان فدخل عليه، وكان كل الناس في الرومان يطيعون أمر هذا الأسقف الكبير، فعرض عليه هرقل الكتاب، فلما قرأ الأسقف الكتاب قال: "هو والله الذي بشرنا به موسى وعيسى الذي كنا ننتظر".



قال قيصر: فما تأمرني؟



فقال الأسقف: أما أنا فإني مصدقه ومتبعه.



فقال قيصر: أعرف أنه كذلك، ولكني لا أستطيع أن أفعل، وإن فعلت ذهب ملكي وقتلني الروم[9].



وهذا الأسقف كان اسمه ضغاطر وخرج للرومان، ودعا جميع الرومان إلى الإيمان بالله وإلى الإيمان برسوله الكريم ، وأعلن الشهادة أمام الجميع. إنه موقف شجاع من هذا العالم، ولقي ربه شهيدًا؛ حيث قام الناس وقفزوا عليه قفزة واحدة، فضربوه حتى قتلوه. وكان هذا الأسقف أعظم شخصية في الدولة الرومانية، حتى إنه كان أعلى من هرقل عند الناس، وعرف هرقل بقتل هذا الرجل الكبير، ولم يستطع أن يفعل أي شيء؛ وفي هذا دلالة على ضعفه الشديد أمام الكرسيّ الذي يجلس عليه.



وعقد هرقل مقارنة سريعة بين المُلك وبين الإيمان، أي بين الحياة ممكَّنًا وبين الموت شهيدًا، فأخذ القرار، واختار الملك والحياة ورفض الإيمان، ولم يكن ذلك لعدم تيقنه من أمر الرسول ، ولكنه ضنَّ بملكه وضحَّى بالإيمان. إن أمر الإيمان واضح، وإعجاز القرآن ظاهر، وطريق الإسلام مستقيم، والدلائل على صدق هذا الدين بينة وقاهرة وظاهرة للجميع، والإنسان هو الذي يختار، وعلى قدر قيمة الشيء في النفس يضحي الإنسان، يقول الله : {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14]. ويقول تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [يونس: 108].



وما فعله هرقل لا يمكن أبدًا أن يعذر فيه، مهما كانت الفتنة التي سوف يتعرض لها بعد ذلك، ومهما كان راغبًا في المُلك، راهبًا من الموت؛ يقول الإمام النووي -رحمه الله- تعليقًا على موقف هرقل: "لا عذر له في هذا؛ لأنه قد عرف صدق النبي ، وإنما شحَّ في الملك، ورغب في الرياسة، فآثرها على الإسلام... ولو أراد الله هدايته لوفَّقه كما وفَّق النجاشي، وما زالت عنه الرياسة"[10].



والحافظ ابن حجر رحمه الله يقول أيضًا تعليقًا على هذا الحديث: "لَكِنْ لو تفطَّن هرقل لقوله في الكتاب: (أسلم تسلم)، وحمل الجزاء على عمومه في الدنيا والآخرة، لسَلِمَ -لو أسلم- من كل ما يخافه، ولكنَّ التوفيقَ بيدِ الله تعالى"[11].



وبعد كل هذا اليقين اكتفى بأن يحمِّل دحية الكلبي ببعض الهدايا لرسول الله ، ولم يفكر في قضية الإيمان، مع أنه يعرف أنه في يوم من الأيام سيتحول كل الملك الذي يحكمه إلى رسول الله ، وكان يوقن في الكتب التي قرأها قبل ذلك في التوراة والإنجيل، ومن حواره مع أبي سفيان أن رسول الله سيملك موضع قدميه في الشام. وعندما غادر بيت المقدس إلى القسطنطينية، قال -بعد أن أشرف على الشام وصعد فوق رَبْوَةٍ عالية وأطلَّ على الشام بكاملها-: السلام عليك يا أرض سورية، تسليم الوداع[12].



وبعد كل هذه القناعة برسول الله ، وبكل هذا اليقين بنبوته لم يقف هرقل عند حدِّ عدم الإيمان ولم يقبل بالحياد، ولكنه سيَّر الجيوش تلو الجيوش لحرب المسلمين مع إحساسه الداخلي أنه سيغلب، وأنه لن ينتصر على المسلمين، ولكن هذا الإحساس لم يمنعه من اتباع الشياطين، ومحاولة مقاومة الإسلام بداية من مؤتة ومرورًا بتبوك، ومعارك متتالية في فلسطين والأردن وسوريا ولبنان وتركيا وغيرها، ومع فشله في كل هذه المعارك ومع تناقص الأرض من حوله ومع ظهور صدق الرسول يومًا بعد يوم، إلا أن هرقل لم يؤمن، ويبدو أن فتنة الكرسيّ لا تعدلها فتنة.



كان هذا هو موقف الدولة الرومانية، اعتذار مهذب، ثم حرب ضروس. وهذا الموقف نراه كثيرًا في التاريخ؛ فكثير من زعماء وأمراء ورجال دين في العالم يعرفون صدق الإسلام، ويعرفون نبوَّة الرسول ، ولكنهم يرفضون هذه النبوة حفاظًا على كراسيهم، وشحًّا بملكهم، فهم قد يحاولون في بعض الأحيان إقامة العلاقات الدبلوماسية اللطيفة، وتبادل الهدايا مع المسلمين، ولكن حتمًا سيأتي يوم تقف فيه الهدايا، ويبدأ فيه الصراع، وبدلاً من كلمات التحية والتودد ستكون هناك كلمات التهديد والإنذار، وبدلاً من الرسائل والسفراء ستكون القذائف والجيوش، يقول الله في كتابه الكريم: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217].



د. راغب السرجاني

[1] "إثم الأريسيين": إثم استمرارهم على الباطل والكفر اتباعًا لك. والمراد بالأريسيين: الأتباع من أهل مملكته، وهي في الأصل جمع أريسي وهو الحرّاث والفلاح.

[2] البخاري: بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله (7)، ترقيم مصطفى البغا.

[3] أي أننا لا ندري هل يغدر بصلح الحديبية أم لا.

[4] أي ينال منا وننال منه، يقصد بدرًا وأُحُدًا.

[5] أي الشام.

[6] فهو يستكثر أن يكون من العرب.

[7] البخاري: بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله (7).

[8] البخاري: كتاب التفسير، باب تفسير سورة آل عمران (4278). مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام (1773).

[9] ابن كثير: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة، بيروت، 1396هـ- 1971م، 3/505.

[10] النووي: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1392هـ، 12/107.

[11] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري شرح صحيح البخاري، دار المعرفة، بيروت، 1379هـ، 1/37.

[12] ابن كثير: البداية والنهاية، تحقيق علي شيري، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1408هـ، 4/305.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 3 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 3 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:53 pm

رسائل الرسول إلى باقي الأمراء والملوك

رسالة النبي إلى كسرى

رسائل الرسولأرسل الرسول رسالة إلى كسرى ملك الفرس، وهي الدولة الثانية التي تقتسم العالم مع الدولة الرومانية. وقد رأينا موقف هرقل وميله في البداية إلى الإسلام، ثم حربًا ومقاومة، ولكن كسرى من البداية كان واضحًا، فمن البداية ظهر عداؤه للإسلام، ومن أول لحظة قرأ فيها الخطاب وهو ينوي تدمير هذا الدين الجديد وحرب الرسول ؛ فمن أول كلمة في الخطاب الذي بدأ بالبسملة، وبعدها من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، ثم بعد ذلك دعوته إلى الدخول في الإسلام، مع تغيير في بعض الألفاظ لتتناسب مع الديانة المجوسية التي هم عليها، قال :



"بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِسَ، سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، وَآمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَشَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ وَأَدْعُوكَ بِدُعَاءِ اللَّهِ، فَإِنِّي أَنَا رَسُولُ اللَّهِ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً؛ لأُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ. فَإِنْ تُسْلِمْ تَسْلَمْ، وَإِنْ أَبَيْتَ فَإِنَّ إِثْمَ الْمَجُوسِ عَلَيْكَ"[1].



إنها كلمات قوية! غضب كسرى وتعامل مع الرسالة بسطحية بالغة، ولم يلتفت إلى المعاني التي في داخل الخطاب، فأمسك الخطاب ومزَّقه، وقال في غطرسة: عبد من رعيتي يكتب اسمه قبلي.



وسبَّ الرسول ، وهذه الكلمات عندما وصلت لرسول الله ، قال : "مَزَّقَ اللَّهُ مُلْكَهُ"[2].



وقد كان ذلك في غصون سنوات قليلة من هذه الأحداث، فقد مزَّق الله عزَّ وجلَّ مُلك كسرى تمامًا، وامتلك المسلمون كل الأراضي الفارسية، وسقطت الإمبراطورية الفارسية التي كانت تسيطر على مساحات هائلة من الأرض؛ وهذه هي النبوة في مواجهة الغطرسة المجوسيَّة الكافرة. ولكن كسرى فارس أَبْرَوِيز لم يكتفِ بهذه الكلمات وتقطيع الخطاب، بل حاول أن يعتقل رسول الله حتى يعاقبه.


كسرى يأمر باذان باعتقال الرسول

أرسل ملك الفرس رسالة إلى عامله على بلاد اليمن[3]، وكان اسمه باذان وكان فارسيًّا، وطلب منه أن يبعث رجلين من رجاله ليأتي برسول الله إلى المدائن عاصمة فارس. ونحن نرى مدى النظرة الدونية التي ينظر بها الفرس إلى العرب، فيبعث برجلين فقط، ليأتي بزعيم المدينة المنورة، وأنه إن رفض فسيُقتل، وسيُهلِك كسرى قومه، ويخرب بلاده. وذهب رسولا باذان إلى رسول الله ، وأبلغوه بما قال كسرى، وطلب الرسول منهما في أدب أن ينتظرا إلى اليوم التالي وسوف يردُّ عليهما، وفي هذه الليلة التي جاء فيها رسولا عامل كسرى، أتى الوحي لرسول الله وأخبره بنبأ عجيب أن هذا الزعيم الفارسي المتغطرس أبرويز قُتِل في نفس الليلة، وقتله ابنه شيرويه بن أبرويز، وكان هذا في ليلة الثلاثاء العاشر من جمادى الآخرة سنة 7هـ، ولما جاء اليوم الثاني بعث الرسول إلى الرسولين، وقال لهم: "إِنَّ رَبِّي قَتَلَ رَبَّكُمُ اللَّيْلَةَ"[4].



ففزع الرسولان؛ لأن المدائن على بُعد مئات الكيلو مترات من المدينة المنورة، وقالا: هل تدري ما تقول؟ إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر من هذا، أفنكتب عنك هذا، ونخبر الملك باذان؟



فقال الرسول في ثقة: "نَعَمْ أَخْبِرَاهُ ذَاكَ عَنِّي".



وقال لهما في يقين: "وَقُولاَ لَهُ أَيْضًا: إِنَّ دِينِي وَسُلْطَانِي سَيَبْلُغُ مَا بَلَغَ كِسْرَى، وَيَنْتَهِي إِلَى الْخُفِّ وَالْحَافِرِ. وَقُولاَ لَهُ: إِنْ أَسْلَمْتَ أَعْطَيْتُكَ مَا تَحْتَ يَدَيْكَ، وَمَلَّكْتُكَ عَلَى قَوْمِكِ".



وعاملهم الرسول معاملة الملك الكريم، وأعطاهم بعض الهدايا، وعادوا مرة أخرى إلى اليمن. وصل الرسولان إلى باذان ملك اليمن الفارسي، وأبلغاه بكلام الرسول ، وكان باذان هذا رجلاً عاقلاً، فقد سمع الكلمات فقال: "والله ما هذا بكلام مَلِك، وإني لأرى الرجل نبيًّا كما يقول، ولا يكونَنَّ ما قال إلا أن يكون رسولاً"؛ لأن المسافة بين المدائن والمدينة المنورة مئات الكيلو مترات في ذلك الزمن.


باذان حاكم اليمن يدخل في نور الإسلام

وجاء خطاب من شيرويه الزعيم الجديد في بلاد فارس شيرويه بن أبرويز إلى باذان عامله على اليمن، يقول فيه: إنه قد قتل أباه أبرويز؛ لأن أبرويز قد قتل الكثير من أشراف فارس، وكاد يُودِي بفارس إلى الهلكة. ولما وصل هذا الخطاب إلى باذان حدد الليلة التي قتل فيها أبرويز، فوجد أنها نفس الليلة التي حددها الرسول ، فأيقن أن هذا رسول من عند الله ، وأن الذي أخبره بذلك وحي من عند الله ؛ لأن المسافات بين المدينة والمدائن هائلة وبعيدة، ومستحيل على أهل هذا الزمن بأيِّ صورة من الصور أن يعرفوا الأحداث التي تحدث في كل بلد، ولا يتم هذا إلا بمعجزة خارقة.



وهنا أخذ باذان قرار الإسلام، وسبحان الله الذي يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم! فقد أسلم باذان وحسن إسلامه، وأسلم أبناؤه، وأسلم كل الفرس تقريبًا في اليمن، وأسلم الرسولان اللذان بعثهما باذان إلى رسول الله ، ثم أسلم بعد ذلك كثير من أهل اليمن، وكل هذه الأحداث تحقق لنا قول الله : {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} [الأنفال: 17].



لأن الرسول أرسل رسالة إلى كسرى فارس يبغي إسلام شعب فارس، وفارس تقع على بُعد مئات الكيلو مترات من المدينة المنورة، ولكن الله يريد أن يُسلِم بهذه الرسالة شعب اليمن البعيد جدًّا عن منطقة فارس. وهذا يلفت نظرنا إلى شيء مهم جدًّا، وهو أن جهد الداعية لا يضيع، فيبقى جهد الداعية وينتشر، ولكن ليس بالضرورة أن ينتشر في الاتجاه الذي أراده الداعية؛ لأن الله يسيِّر الكون بنظام بديع وتنسيق محكم وحكمة بالغة، فالقلوب بين أصابع الرحمن يصرفها كيف يشاء، فالمسلم عليه الدعوة، والله I يفتح القلوب. وأعطى الرسول ولاية اليمن إلى باذان ، وكان إسلام اليمن إضافة كبيرة جدًّا لقوة المسلمين، ولكن كسرى فارس الجديد شيرويه بن أبرويز مع أنه توقَّف عن سبِّ رسول الله ، وتوقف عن التفكير في عقاب رسول الله كما يريد أبوه، ولكنه لم يفكر في الإسلام أصلاً؛ وبذلك تجمدت العَلاقات تقريبًا بين الدولة الإسلامية والدولة الفارسية إلى أن تحركت بعد ذلك بعدة سنوات في عهد الصِّدِّيق ، عندما بدأت حركة الفتوح الإسلامية.


رسالة الرسول إلى ملك الحبشة والمقوقس وملك البحرين

كانت هناك ردود أفعال أخرى كثيرة، وأفضل هذه الردود جاءت من النجاشي ملك الحبشة، ومن المنذر بن ساوَى ملك البحرين وقد أسلما دون تردد، أما النجاشي ملك الحبشة فقد أخفى إسلامه؛ لأن وضع الدولة النصرانية كان صعبًا، لأنه لو أعلن إسلامه، فإن الشعب سيقتلعه اقتلاعًا من كرسيه، وعندما ساند المسلمين قبل ذلك كاد أن يُقتلع النجاشي من كرسيه؛ فلذلك أخفى إسلامه، وآثر أن يساعد الدولة الإسلامية الناشئة في المدينة المنورة، وهو يعلن النصرانية في الظاهر ويبطن الإسلام. ولكن المنذر بن ساوَى -رحمه الله- أعلن إسلامه، وأسلم شعبه وكانوا يدينون بعبادة الأصنام، ولكن يبدو أن المنذر بن ساوى -رحمه الله- كان قويًّا ممكَّنًا في قبيلته، وكان محبوبًا في شعبه، وكان الناس تبعًا لقائدهم كعادة العرب في ذلك الوقت؛ فزعيم القبيلة أخذ قرار الإسلام فأسلمت قبيلته وأسلم شعبه، ولكن الوضع في بلاد الحبشة يختلف فهو بلد نظاميّ كبير، وله تاريخ طويل، فكان من الصعب على النجاشي أن يغيِّر أفكار الناس كلها في لحظة واحدة، فكان هذا الوضع بالنسبة لملك الحبشة وملك البحرين، وقد كان هذا أفضل الردود.



ويأتي ردُّ المقوقس ملك مصر من أفضل الردود أيضًا، فقد أحسن استقبال الوفد الإسلامي، وأكرمهم بالهدايا إلا أنه لم يُسلِم. والحقيقة أننا نتعجب من عدم إسلامه؛ لأن المقوقس ذكر في رده لحاطب بن أبي بلتعة، أنه كان يعلم أن نبيًّا سيظهر في هذا الزمان، ولكنه كان يحسب أن هذا النبي سيظهر في الشام، أي كان عنده تهيئة نفسية لظهور النبي ، ومع ذلك لم يسلم، بل إنه لم يفكر أصلاً في التأكد من كونه نبيًّا أم لا، مع أننا نشعر أن المقوقس كان يعرف أنه نبي فعلاً، وإلا ما أكرم سفارته وحمَّلها بالهدايا، وهو ما كان ليفعل ذلك الأمر مع كذَّاب يدَّعِي النبوة، وخاصةً أن الرسول في ذلك الوقت لم تكن له قوة كبيرة أو بأس، ولم يكن يحكم دولة ضخمة يخشاها المقوقس، ويحتاج إلى مهادنته، بل على العكس كانت قوة مصر المادية أضعاف قوة المدينة المنورة في ذلك الوقت، ولكن على كل حال أكرم المقوقس وفد رسول الله ، وترك أثرًا إيجابيًّا للدولة الإسلامية في كل مكان، وأكَّد على شرعيتها في النظام الدولي الجديد، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. فهذا كان ردّ المقوقس، فقد ردَّ بأدب، وحمّل حاطب بن أبي بلتعة بالهدايا، ولكنه لم يسلم.


رسالة الرسول إلى صاحب اليمامة

وأرسل الرسول برسالة إلى هَوْذَة بن عليٍّ صاحب اليمامة، ولم يرغب هوذة في الإسلام كدين، ولم يفكر أن يسلم، ولكنه في الوقت نفسه شعر بقوة الرسول ، وتنبأ لدولة الرسول بالتوسع والانتشار؛ ولذلك قرر أن يفاوض الرسول ، وأرسل له برسالة قال فيها: "ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله! والعرب تهابُ مكاني، فاجعل إليَّ بعض الأمر أَتْبَعُكَ"[5].



فأراد هوذة مساومة الرسول ، وكان الرسول قد قرر أن يعطيه ما تحت يديه من اليمامة إن أسلم، ولكن هوذة بن عليٍّ أراد أكثر من ذلك، ورغب -كما رأينا- في مساومة الرسول حتى يأخذ ملكًا أكبر، وعلَّق إسلامه على هذا الشرط، والرسول دائمًا يرفض أن يطلب أحدٌ الإمارة، ويرفض أن تُعطى الإمارة لمن يطلبها، وكان يقول كما جاء في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري : "إِنَّا وَاللَّهِ لاَ نُوَلِّي عَلَى هَذَا الْعَمَلِ أَحَدًا سَأَلَهُ، وَلاَ أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ"[6].



الرسول كان يمنع الإمارة من الذي يطلبها؛ لأنه يعرف أن الذي يتولى الإمارة لن يعود ضرره عليه فقط، ولكن سيعود على كل من يقودهم، وأن من يطلب الإمارة مفتونٌ بها، وسوف يضحي من أجل الإمارة، وليس من أجل الإسلام، ولو تعارض الإسلام مع استمراره في الإمارة فسوف يترك الإسلام ويتمسك بالإمارة، وهنا قد يتبعه قومه وتكون كارثة ومشكلة كبيرة، ومن ثَمَّ كان الرسول لا يعطي الإمارة لأحد طلبها، وعلّق الرسول على موقف هوذة بن عليٍّ قائلاً: "لَوْ سَأَلَنِي قِطْعَةً مِنَ الأَرْضِ مَا فَعَلْتُ". ثم تنبأ له بالهلكة وقال: "بَادَ وَبَادَ مَا فِي يَدَيْهِ"[7].



وبالفعل تحققت نبوءة رسول الله بعد أقل من سنتين، مات هوذة بن عليّ، وفقد ملكه ولم يُسلِم قبل موته.


رسالة النبي إلى أمير دمشق

وأرسل الرسول إلى الحارث بن أبي شمر الغساني أمير دمشق، وكان هذا الرجل نصرانيًّا تابعًا لهرقل قيصر الروم، وكان ردُّه تقريبًا مثل ردِّ كسرى زعيم فارس؛ فقد ألقى الخطاب وقال: من ينزع ملكي مني، أنا سائر إليه. وبالفعل بدأ في تجهيز الجيوش؛ لكي يغزو المدينة المنورة، ولكن قبل أن يفعل ذلك أحب أن يستأذن هرقل، فبعث إليه برسالة، وتزامن وصول رسالة الحارث مع وصول رسالة الرسول إلى هرقل، وطلب هرقل من الحارث الانتظار، وقال له: لا ندري ماذا سيحدث بعد ذلك من الأحداث. وأمره ألا يرسل الجيوش، وانصاع الحارث إلى أمر هرقل، ولما وصل الرسولَ ردّ فعل الحارث قال: "بَادَ مُلْكُهُ".



وصدق الرسول فما لبث أن مات، وباد ملكه تمامًا، بل دخل مُلكه بعد ذلك في ملك المسلمين.



هذه كانت ردود الأفعال المختلفة لدعوة رسول الله للعالمين، وكما رأينا اختلاف ردّ الفعل من إيمان سريع إلى تفكير، ثم إسلام، إلى حياد مؤدب، إلى رفض للإسلام، إلى حرب للإسلام، إنها ردود مختلفة والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. ونخلص من كل هذه الرسائل أنه ليس من واجب الداعية أن يفتح قلوب الناس للإسلام أبدًا، ولكن واجب الداعية أن يصل إليهم بدعوته بيضاء نقية، ثم يفتح الله قلوب من يشاء إلى الهدى والإيمان، قال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [المائدة: 99].



والرسول قد بلَّغ رسالة ربِّه على أفضل ما يكون.



د. راغب السرجاني

[1] ابن كثير: السيرة النبوية 3/508.

[2] ابن قيم الجوزية: زاد المعاد 3/689.

[3] كانت اليمن وقتذاك مستعمرة فارسية، واليمن قريبة نسبيًّا من المدينة المنورة.

[4] الصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد، تحقيق عادل عبد الموجود وعلي معوض، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1414هـ- 1993م، 10/67.

[5] ابن قيم الجوزية: زاد المعاد 3/696.

[6] مسلم: كتاب الإمارة، باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها (1733)، ترقيم فؤاد عبد الباقي.

[7] المباركفوري: الرحيق المختوم ص311.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 3 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 3 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:54 pm

وقفة تحليلية لرسل النبي إلى الملوك والأمراء

سفراء الرسول

سفراء الرسولعندما ننظر إلى هذه المراسلات العظيمة، وإلى السفراء الكرام نظرة تحليلية، أولئك الذين اختارهم الرسول حتى يبعثهم إلى زعماء وأمراء العالم، سوف نلاحظ عدة ملاحظات توضِّح بُعد نظر الرسول وحكمته في اختيار هؤلاء السفراء.


1- كان السفراء من قبائل متعددة

لم يختر الرسول السفراء من قبيلة واحدة، ولم يكن هناك اثنان من قبيلة واحدة، وإنما كانوا من قبائل متعددة، فقد أرسل الرسول



- عمرو بن أمية من بني ضمرة إلى النجاشي.



- وبعث العلاء بن الحضرميّ من حضرموت إلى المنذر بن ساوَى ملك البحرين.



- وأرسل عبد الله بن حُذَافة من بني سهم إلى كسرى فارس.



- وأرسل دِحْية بن خليفة من بني كلب إلى قيصر الروم.



- وأرسل حاطب بن أبي بلتعة من بني لخم إلى المقوقس في مصر.



- وأرسل سَلِيط بن عمرو من بني عامر إلى هوذة بن عليّ في اليمامة.



- وأرسل شجاع بن وهب من بني أسد إلى الحارث بن أبي شمر في دمشق.



وهذا الاختلاف كان يقصده رسول الله ، فهذه إشارة واضحة جدًّا من الرسول إلى كل المسلمين، سواءٌ في المدينة أو في خارج المدينة، وإلى كل العرب المراقبين للأحداث، وإلى كل دول العالم التي أرسل إليها السفراء، وإلى كل المحللين والدارسين للسيرة على مدار السنين، وإلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة، أن هذه الدعوة ليست قبليَّة بالمرَّة، بل هي تضم بين طياتها أفرادًا من كل قبائل العرب، وهؤلاء السفراء كانوا بمنزلة الصورة الجديدة المرجوَّة لهذه الأمة، فوَحْدة العناصر المختلفة على رباط واحد فقط وهو رباط العقيدة الإسلامية.


2- لم تمثل قريش في هذه السفارات إلا في صحابي واحد فقط

وهو عبد الله بن حُذافة السهميّ القرشي ، وبقية السفراء جميعًا ليسوا من قريش، وهذه إشارة من الرسول أن الأصلح هو الذي يُعطى العمل، ويكلف بالمهمة بصرف النظر عن النسب، والمكانة العائلية والقبيلية، ومع ذلك فالجميع يعرفون أن قريشًا هي أعلى العرب نسبًا. ومن الممكن أن يقول لنا قائل: إنه من الأصلح والأفضل أن نجعل السفراء كلهم من قريش حتى نرفع قيمتهم عند زعماء العالم، ولكن هذا كان سيترك رسالة عكسية سلبية، وهي أن السفارة لا تكون إلا في الأشراف، وهذا ليس صحيحًا؛ لأن الأكفأ والأفضل هو الذي يحمل الرسالة.


3- عدم وجود سفير من بني هاشم

فالتمثيل القرشي لم يكن قليلاً في هؤلاء السفراء فقط، وإنما كان التمثيل في بني هاشم منعدمًا تمامًا، وهذه إشارة واضحة من الرسول أنه لا يجب أن تُعطى المناصب المهمة إلاّ للأكفاء بصرف النظر عن قرابتهم أو علاقتهم بالقائد؛ لأن القائد المتجرد هو الذي ينظر إلى مصلحة الأمة لا مصلحة القبيلة، ويهتم بقضايا الشعب لا قضايا العائلة.


4- كان هؤلاء السفراء الكرام جميعًا من المهاجرين

لم يكن هناك أنصاري واحد، وفي كل مواطن السيرة قلَّما تقلد أنصاري منصبًا مهمًّا، أو منصبًا قياديًّا في الدولة الإسلامية؛ ولعل ذلك ليبقى الأنصار هم الرمز في المسلمين الذي يعطي ولا يأخذ، ولأن أهم سمة تميِّز الأنصار صفة (الإيثار)، مثلما وصفهم الله : {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].



لا بد أن يظل هناك مَثَلٌ يُؤثِر على نفسه، وهو راضٍ مطمئن، وهذا المثل كان الأنصار ، فما نالوا من الدنيا شيئًا يذكر، لا في حياة الرسول ولا بعد وفاة الرسول ؛ فقد كانوا مثالاً رائعًا للعطاء بلا حدود ودون تردد، فكان من الأفضل أن يظلوا هكذا رمزًا للإيثار؛ لذلك فالرسول لم يعطهم السفارة ولا القيادة، لدرجة أن الرسول كما جاء في البخاري عن أنس ، عن أسيد بن حضير قال: إن رجلاً من الأنصار جاء إلى الرسول وقال له: يا رسول الله، ألا تستعملني كما استعملتَ فلانًا؟



يعني فلانًا وفلانًا وفلانًا أُعطوا الإمارة، ألا تستعملني؟ فقال يخاطب الأنصار عامَّة: "سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ"[1].



فالرسول يوصي الأنصار أن لا يبحثوا أبدًا عن الإمارة؛ ليظل دائمًا هناك مَثَلُ الإيثار واضحًا نقيًّا، فهذا تميُّز واضح عند الأنصار ، وليس معنى ذلك أن المهاجرين كانوا يتطلعون إلى الإمارة أو يرغبون في السفارة؛ أبدًا، بل على العكس فالمهاجرون قد باعوا الدنيا تمامًا، فهذه السفارات -على شرفها- خطيرةٌ جدًّا، وقد يكون ثمن هذه السفارة حياة السفير، وسوف نرى استشهاد الحارث بن عمير على يد شُرَحْبيل بن عمرو الغسَّاني، وكان هذا سببًا لغزوة مؤتة.


والخلاصة

نخلص من هذا الأمر أن الأنصار لم يكونوا يرغبون في السفارة ولا المهاجرين، ولكن يؤدِّي كلٌّ منهم ما يناسبه، وكلٌّ مُيسَّر لما خُلِق له، والأنصار يقلون مع مرور الوقت، والناس حولهم يكثر عددهم، مهاجرين وغير مهاجرين، كما قال -والحديث في البخاري عن ابن عباس -: "إِنَّ النَّاسَ يَكْثُرُونَ وَيَقِلُّ الأَنْصَارُ حَتَّى يَكُونُوا فِي النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْحِ فِي الطَّعِامِ"[2].



إذن ليس من الحكمة أن يتعود الناس على قيادة الأنصار أو يظن الناس أن قيادة الأنصار لازمة، ثم بعد ذلك يفتقد الناس الأنصار لقلة أعدادهم، ولكن الأفضل أن يستمر في الإمارة والسفارة المهاجرون الذين تتزايد أعدادهم تدريجيًّا، ولهم مكانة كبيرة في قلوب العرب قاطبةً، ودائمًا الأنصار يساعدون المهاجرين في حكمهم وقيادتهم، كما قال سعد بن عبادة يوم السَّقِيفَة مخاطبًا المهاجرين: "أنتم الأمراء ونحن الوزراء"[3].


5- اتصاف السفراء جميعًا باللباقة والكياسة والذكاء والدهاء وحسن الحوار

ورأينا ذلك من خلال حوارهم مع زعماء العالم، فكانوا جميعًا على قدر المسئولية، وإنه من أَجَلِّ النِّعم على الأمة أن يُوسَّد فيها الأمر إلى أهله.



كانت هذه السفارات العديدة فعلاً نقلة نوعية في خط سير الدولة الإسلامية، انتقلت فيه الأمة الإسلامية من المدينة إلى كل أقطار الأرض، ومن المحليَّة إلى العالميَّة، ومن انتظار الفرصة المناسبة للدعوة إلى المبادرة بإرسال الرسائل التي تحمل الدعوة للإسلام في كل بقعة من بقاع العالم، إنها نقلة نوعية بكل المقاييس.



د. راغب السرجاني

[1] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي للأنصار: "اصبروا حتى تلقوني على الحوض" (3581). مسلم: كتاب الإمارة، باب الأمر بالصبر عند ظلم الولاة واستئثارهم (1845).

[2] البخاري: كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (3429).

[3] رواه أحمد (18) ترقيم النسخة الميمنية، وعلق عليه شعيب الأرناءوط قائلاً: صحيح لغيره، رجاله ثقات رجال الشيخين وهو مرسل.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 3 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 3 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:55 pm

غزوة خيبر (1-2)

الرسول يعطي الراية لعلي بن أبي طالب

غزوة خيبرقام الرسول وخطب في الناس، وقال لهم: "لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلاً يُحِبُّ اللَّهَ، وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ". إن الرجل الذي يفتح الله على يديه البلاد، ويمكَّن له في الأرض، وينصره على أعدائه، لا بد لهذه الشخصية أن تكون مُحبِّة لله ، ولرسوله ، وهذا لا يأتي إلا بموافقة تامَّة للشرع، وبصدق كامل؛ لأن الله مُطَّلِع على القلوب، ولا يعطي نصره إلا لمن أحب، وهذا يحدث في كل مراحل التمكين في حياه الأمة الإسلامية، وفي كل انتصارات الأمة الإسلامية؛ فإذا رأيت أن الله نصر خالد بن الوليد ، أو نصر عمرو بن العاص، أو نصر صلاح الدين الأيوبي، أو نصر سيف الدين قطز، أو يوسف بن تاشفين، أو أي إنسان مُكِّن له في الأرض، فاعْلَمْ أن هذه علامة من علامات حب الله لهذا العبد، وأن الله سيفتح على يديه، وإذا أراد الله بعبدٍ خيرًا فلا رادَّ لفضله. وحين قال الرسول هذه الكلمات، وأصبح في اليوم الثاني حتى يُعطِي الراية لمن وعد، قام كل الصحابة متشوِّقين لحمل هذه الراية، فقال : "أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ؟".



فقال الناس: يا رسول الله، هو يشتكي عينيه.



فأرسل رسول الله إلى علي بن أبي طالب، وكان عنده رمدٌ في عينيه، وكان لا يرى إلا بصعوبة، وقال الناس: يا رسول الله، إنه مريض في عينيه. وأصرَّ الرسول مع ذلك على الإتيان بعليٍّ ، ووضع الرسول على عينيه من ريقه، وسبحان الله! بَرِئ علي بن أبي طالب ، وأصبح يرى كأن لم يكن به أي مرض، وأعطاه الراية. وكان الجميع يرون أن ظروف علي بن أبي طالب لا تسمح له بالقيادة، ولكن الله يسَّر له ذلك الأمر، فلو كان الإنسان صادقًا فسوف يفتح الله له أبواب العمل، وإن كان الظاهر هو وجود المعوِّقات الكثيرة، يقول تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].


الرسول يأمر علي بن أبي طالب بدعوة اليهود إلى الإسلام

مع كل الجرائم التي فعلها اليهود، وذلك التاريخ الأسود لهم مع المسلمين، إلا أن الرسول كان حريصًا على هدايتهم، ودخولهم في نور الإسلام. قال علي بن أبي طالب : "يا رسول الله، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا".



ولننظر إلى عظمة الإسلام، ورحمة الإسلام، وحرصه على هداية كل البشر، فقال رسول الله لعلي بن أبي طالب موضِّحًا الغاية من الحرب في الإسلام، قال : "انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ، فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ"[1].



وهنا الرسول يعلمنا أن إسلام هؤلاء اليهود أحب إلينا من أموالهم ومن ديارهم، وأحب إلينا من سلطانهم، وأحب إلينا من كل شيء؛ فمع كل التاريخ الأسود لليهود، ومع كل المحاولات المضنية التي بذلوها لاستئصال المدينة المنورة، إلا أن الرسول كان حريصًا أكبر الحرص على إسلامهم وعلى هدايتهم إلى ربِّ العالمين I. واقترب الجيش الإسلامي من لحظة البداية، وصلى المسلمون الصبح، وبدأ بعدها الجيش الإسلامي في التحرك في اتجاه خيبر، وكان اليهود حول حصون خيبر يزرعون في المزارع، فرأوا رسول الله والجيش معه، فقالوا: "محمد والله، محمد والخميس[2]". ورجعوا هاربين إلى مدينتهم، وأغلقوا الأبواب عليهم.



وصاح الرسول صيحةً عالية سمعها الجيش بكامله، وسمعها كذلك اليهود، فقال: "اللَّهُ أَكْبَرُ! اللَّهُ أَكْبَرُ! خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ، فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ"[3].



وهذه الكلمات كانت تلقي بظلال مهمَّة على الجيشيْنِ الإسلامي واليهودي؛ لأنها تُذَكِّر المسلمين بأن النصر من عند الله ، وتذكِّرهم بالله قبل أن يبدءوا القتال. ثم إنه يقول لهم: إن الله هو الناصر، وهو أكبر من أيِّ عدو، وإن كنتم ترون حصون خيبر وسلاح خيبر وأعداد خيبر أكثر بكثير من المسلمين، فإن الله معنا، وهو ناصرنا عليهم إن شاء الله. وهذا الأمر قد رفع الروح المعنوية عند المسلمين، وذكرهم بأيام الله ، وبانتصارهم في بدر والأحزاب، أما اليهود فقد ألقت هذه الكلمات الرعب في قلوبهم.


المسلمون يضربون الحصار على خيبر

وصل الصحابة -رضوان الله عليهم- إلى خيبر، وبدأ الرسول يدرس الموقف، فمن أيِّ الحصون يدخل خيبر؟ فخيبر عبارة عن منطقة ذات حصون كثيرة، وفيها الحصون الكبيرة والحصون الصغيرة، والحصون الكبيرة ثمانية حصون رئيسية؛ فخمسة من هذه الحصون في منطقة، وثلاثة في منطقة أخرى، والخمسة حصون الأولى هي خط الدفاع الاستراتيجي الأول لليهود، وتنقسم إلى: ثلاثة في منطقة تسمى النَّطَاة، واثنين في منطقة تسمى الشَّق، أما حصون النطاة فكانوا بالترتيب الآتي: ناعم، ثم الصعب بن معاذ، ثم قلعة الزبير. وكان حصن ناعم من الحصون القوية في خيبر، واقترب الرسول من هذا الحصن، وأرسل علي بن أبي طالب ليدعوهم إلى الإسلام.



وهنا لا يجب أن يقول قائل: إنه لا إكراه في الدين، فلماذا يدعوهم إلى الإسلام ثم إذا رفضوا حاربهم؟ إن الحرب هنا ليست عقابًا لليهود على تركهم للإسلام، وليست عقابًا لهم على رفض الدعوة الإسلامية، ولكن الرسول جاء من المدينة المنورة إلى خيبر ليعاقب اليهود على جرائمهم المتعددة السابقة، وعلى تحزيبهم الأحزاب وحصارهم للمدينة المنورة، وعلى تخابرهم مع المنافقين في داخل المدينة المنورة، وعلى محاولتهم اغتيال الرسول ، وعلى تحفيزهم لغطفان أكثر من مرة على حرب المسلمين؛ فلذلك قرر أن يقاتلهم وأن يعاقبهم، ولكنه يريد أن يعطيهم فرصة أخيرة ليرفعوا عن أنفسهم العقاب الذي يستحقونه، فقال: إن أسلمتم رفعنا عنكم العقاب، ونسينا كل ما سبق. وهذه سعة صدر ورحمة من رسول الله ، ولكن اليهود رفضوا هذه الدعوة، ورفضوا دعوة علي بن أبي طالب لدخولهم في الإسلام، وقرروا الحرب، واغتروا بقوتهم وأعدادهم وحصونهم.


المبارزة بين عامر بن الأكوع ومَرْحَب اليهودي

لم يستجب اليهود لدعوة المسلمين لهم بالدخول في الإسلام، وأصروا على القتال، بل أخرجوا أحد قادتهم الكبار ليحارب المسلمين، وكانت عادة الحروب القديمة أن يبدأ القتال بمبارزة بين فارسين من كلا الجيشين، والمنتصر في هذه المبارزة يُعطي دفعة معنوية كبيرة لفريقه إن انتصر في هذه اللحظات الأولى من القتال؛ أخرج اليهود أحد أبطالهم، وكان من أشد الفرسان في تاريخ العرب بصفة عامَّة، وهذا الرجل كان اسمه مَرْحَبًا، وكان رجلاً عملاقًا ضخم الجثة، وخرج للقتال وطلب المبارزة، فخرج له عامر بن الأكوع ، وسَرْعان ما دارت المبارزة بين الاثنين، وضرب عامر بن الأكوع مَرْحبًا اليهوديّ ضربة كبيرة، ولكن الضربة طاشت ولم تصل إلى مَرْحَب، وأكملت الطريق إلى رُكبة عامر فَقُتل بسيفه، فاستشهد ، فقال الصحابة: قد قتل نفسه. وتأثر الصحابة بهذا الموقف، بل وصل الأمر إلى أن بعض الصحابة قالوا: حبط عمله. وكأنه قتل نفسه بإرادته.



ولكن الرسول علق بعد ذلك على هذه الحادثة، وأثنى على عامر بن الأكوع ، وقال : "إِنَّ لَهُ لَأَجْرَيْنِ"، وجمع بين إصبعيه ، ثم قال: "إِنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ[4]، قَلَّ عَرَبِيٌّ مَشَى بِهَا مِثْلُهُ"[5]؛ يعني نادرًا من العرب الذي مشى في أرض المعركة مثل عامر بن الأكوع .



ولكن ما حدث كان في الحقيقة أزمة، وحدث نوع من الهزَّة عند المسلمين، وارتفعت الروح المعنوية عند اليهود، ووقف مَرْحَب القائد اليهودي يطلب القتال من جديد بعد أن ارتفعت معنوياته في هذه اللحظات الأولى من القتال، فخرج له البطل الإسلامي علي بن أبي طالب حامل راية المسلمين في موقعة خيبر، ودار بينهما قتال شديد عنيف، ثم مَنَّ الله على علي بن أبي طالب بالنصر، كما تنبأ بذلك الرسول ، وقتل علي بن أبي طالب مَرْحبًا، وكان قتله إشارة كبيرة إلى أن النصر سيكون للمسلمين إن شاء الله؛ لأن هذا الرجل كان أقوى رجلٍ في اليهود، وكان اليهود لا يتخيلون أبدًا أن يقتله أحدٌ من المسلمين. وخرج أخو مرحب -وكان اسمه ياسرًا وكان يريد الثأر لأخيه، وكان من عمالقة اليهود أيضًا- يطلب القتال، فخرج له الزبير بن العوام ، واستطاع الزبير بن العوام أن يقتل ياسرًا أخا مَرْحب، وكان ذلك بداية الانتصار للمسلمين.


احتدام القتال وسقوط حصن ناعم في يد المسلمين

احتدم اللقاء بين الصحابة وبين اليهود، فهذا اللقاء لم يكن ساعة أو ساعتين، ولكنه استمر عِدَّةَ أيام متصلة، وهذا غريب في عُرْف القتال؛ فكما رأينا قبل ذلك في بدر وفي أُحد وفي غيرها كان اللقاء يومًا واحدًا، ولكن في هذا اللقاء الشديد دارت المعركة أكثر من يوم حتى تسلل اليهود من حصن ناعم وتركوه فارغًا للمسلمين، وكان هذا التسلل ليلاً، وانتقلوا إلى الحصن الذي وراءه، وتحصنوا في حصن الصعب بن معاذ، واحتل المسلمون حصن ناعم، وكان هذا إضافةً كبيرة للجيش الإسلامي في موقعة خيبر، فهل اكتفى بهذا النصر في هذه المعركة؟



لا؛ لأن الرؤية عند الرسول واضحة تمامًا، فقد جاء لينتقم من أفعال اليهود وخياناتهم المتكررة للمسلمين، وليخرج اليهود من خيبر كما أخرج قبل ذلك يهود بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة من المدينة المنورة. وتوجه الرسول إلى حصن الصعب، وحاصر الحصن حصارًا شديدًا، وكان حصن الصعب بن معاذ أشد خطورةً وصعوبة من حصن ناعم، وأحكم المسلمون الحصار على حصن الصعب بن معاذ.


تحريم الحُمُر الأهلية في خيبر

ومع أن الحصار كان شديدًا، ومع أن فتنة الحرب كانت كبيرة، إلا أن الله أراد أن يبتلي المؤمنين، فأوقعهم في أمر صعب إلى جوار صعوبة الحرب، وهو أمر الجوع؛ إذْ دخل المسلمون في جوع شديد جدًّا لدرجة أن الصحابة قالوا: لقد جهدنا وما بأيدينا من شيء. فالموقف أصبح حرجًا للغاية.



وعندما ازداد الجوع على المسلمين، قام بعض رجال الجيش الإسلامي بذبح بعض الحمير للأكل. والحقيقة أن العرب كانت تأكل الحمير في ظروف معينة، ولم يكن الأمر محرمًا على المسلمين في ذلك الوقت، ونصبوا القدور، ولم يكن هذا بعلم الرسول ، ولما رأى الرسول النيران مشتعلة قال: "عَلَى أَيِّ شَيْءٍ تُوقِدُونَ؟".



فهو يعلم أنه ليس مع الجيش لحم يطبخ، ولا شيء يوقد عليه نار، فقالوا: يا رسول الله، نوقد هذه النيران على لحم. فقال: "أَيُّ لَحْمٍ؟" فقالوا: لحوم الحُمُر. يعني لحوم الحمر التي تُستخدم في النقل، وهذه الحمير لم تكن محرَّمة على المسلمين حتى هذه اللحظة، ولكن الرسول في هذا الموقف الصعب قام ونَهَى عن أكل لحوم الحُمُر الأهليَّة، وقال: "لاَ تَأْكُلُوا مِنْ لُحُومِ الْحُمُرِ شَيْئًا وَأَهْرِقُوهَا"[6].



وإنه لموقف صعب حقًّا، فالصحابة في ضائقةٍ وجوع شديد، وبدأت اللحوم تنضج ورائحة اللحوم بدأت تظهر، والصحابة متشوِّقون للأكل، ثم أتى النهي من عند رسول الله . وهذا النهي لا ينصاع له إلا مؤمن كامل الإيمان، وبفضل الله فإن جميع الجيش -بلا استثناء- قد نجح في هذا الاختبار، ولم يأكل أحد من هذه اللحوم، بل إن الرسول لم يكتفِ بتحريم الأكل من لحوم الحُمُر الإنسيَّة، وإنما قال: "أَهْرِيقُوهَا[7] واكْسِرُوهَا"؛ ليختفي كل أثر لهذه اللحوم، فسأل بعض الصحابة: أَوْ نُهَرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا؟ يعني بدل الكسر نغسل القدور، فقال : "أَوْ ذَاكَ"[8].



وقَبِل بغسل القدور. إن هذا التحريم جاء في وقت يحتاج فيه الجيش إلى هذا الأكل، ومن الواضح أن الرسول كان يرى أن موقف الصحابة لم يصل بعد إلى موقف الاضطرار، أي ما زالت هناك فرصة أن يعيشوا بدون طعام فترة من الزمان، وإلا اضطر المسلمون لأكل أيِّ شيء حتى الميتة، وهذا مباح في أوقات الضرورة فقط. إنها التربية الإيمانية العالية! وهذا من أعظم أسباب النصر.


السنة النبوية هي المصدر الثاني للتشريع

إن هذا التحريم الذي جاء على لسان الرسول ، لم يأتِ في القرآن الكريم؛ فالله ذكر في القرآن الكريم أنواعًا كثيرة من المحرمات على المسلمين، قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ} [المائدة: 3].



وغير ذلك من المحرمات التي ذكرها الله في القرآن الكريم. وتحريم الحمر الأهلية لم يأتِ في كتاب الله ، وجاء في السنة النبوية فقط، وفي ذلك قال الرسول حديثًا، من الواضح أنه قاله بعد أحداث غزوة خيبر، قال في خُطبةٍ ذات يوم للصحابة، ومن الواضح أيضًا أن بعض المنافقين كان قد ادَّعى أنه يُكتفى بالقرآن الكريم فقط، أو أن الرسول قد تنبَّأ بأنه سيأتي زمان على المسلمين يدَّعِي فيه بعضهم أن القرآن الكريم يكفيهم دون سُنَّة النبي ؛ يقول فيما روى أبو داود عن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله : "أَلاَ إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلاَ يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ. أَلاَ لاَ يَحِلُّ لَكُمُ الْحِمَارُ الأَهْليُّ، وَلاَ كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السَّبُعِ..."[9].



وذكر أنواعًا أخرى من المحرمات، والذي يجمع كل هذه المحرمات يجد أنها لم تأتِ في كتاب الله I، ومع ذلك فهي محرمة على المسلمين بتحريم الرسول لها، فثبت الحكم عند المسلمين، وهذا من أبلغ الأدلة لكون السنة النبوية مصدرًا مهمًّا من مصادر التشريع الإسلامي.


الرسول يتوجه بالدعاء إلى الله

في هذه الأزمة الكبيرة وبعد استجابة الصحابة رضوان الله عليهم لأمر الرسول ، لجأ المسلمون لجوءًا كاملاً إلى الله ، وهذا من أبلغ الفوائد في الأزمات، لجوء المسلمين الصادقين إلى الله ؛ ليفتح لهم أبواب الرحمة. ووقف المسلمون يدعون مع الرسول ، هو يدعو وهم يؤمِّنون، فقال : "اللَّهُمَّ إِنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ حَالَهُمْ وَأَنْ لَيْسَتْ بِهِمْ قُوَّةٌ، وَأَنْ لَيْسَ بِيَدِي شَيْءٌ أُعْطِيهِمْ إِيَّاهُ، فَافْتَحْ عَلَيْهِمْ أَعْظَمَ حُصُونِهَا عَنْهُمْ غَنَاءً، وَأَكْثَرَهَا طَعَامًا وَوَدَكًا[10]"[11]. وانتهى من دعائه.


سقوط حصن الصعب وقلعة الزبير في يد المسلمين

وبفضل لجوء المسلمين إلى الله ، جاء النصر من السماء؛ ففي اليوم التالي فتح الله عليهم حصن الصعب بن معاذ، وهذا من أغنى حصون خيبر بالطعام والشراب، وما لذَّ من ألوان الطعام المختلفة، ووجدوا فيه الطعام والوَدَك كما دعا رسول الله ، وأكل الناس وشبعوا واستكملوا الحرب، ثم انتقلوا بعد ذلك إلى حصن قلعة الزبير، وهو الحصن الثالث في المنطقة؛ وحصن قلعة الزبير من أمنع الحصون أيضًا في هذه المنطقة، وكما يقول الرواة: لا تقدر عليه الخيل والرجال؛ لأنه فوق قمة جبل ومن الصعب الوصول إليه.



وفرض الرسول عليه الحصار، وظل الحصار ثلاثة أيام، ثم ألقى الله الرعب في قلب رجل من اليهود فأتى وتسلل من الحصن، وجاء إلى الرسول وطلب الأمان، وقال له: يا أبا القاسم، إنك لو أقمت شهرًا تحاصرهم ما بالوا بك، إن لهم شرابًا وعيونًا تحت الأرض، يخرجون بالليل ويشربون منها، ثم يرجعون إلى قلعتهم دون أن يشعر المسلمون بهم. وقال اليهودي: فإن قطعت مشربهم عليهم خرجوا لك؛ لأنهم لا يستطيعون أن يعيشوا من غير ماء. فوصل الرسول إلى هذه المياه وقطعها عن اليهود، فخرجوا إليه وقاتلوا قتالاً شديدًا، واستمر القتال حتى انتصر المسلمون وافتتحت قلعة الزبير، وكان القتال في منتهى الضراوة[12].



وكما نرى فإن كل حصن عليه حصار عدة أيام ثم هربٌ من حصن إلى الحصن الذي بعده. والحقيقة أن هذه الحصون كانت مبنية بمهارة عجيبة، فكل حصن يسلم إلى الحصن التالي، وبذلك فتح الرسول الحصون الثلاثة الأولى، وهي حصن ناعم والصعب بن معاذ والزبير، وكانوا في منطقة تسمى النطاة. وبهذا نرى أن نصر الله يأتي بعد أن يستنفد المسلمون كل أسباب العمل، وقد لا تؤدي هذه الأسباب إلى النصر بذاتها، بل كثيرًا ما يحدث ذلك الأمر عندما يعجز المسلمون تمامًا، كما فعل الله في بدر والأحزاب، وجنود الله كثيرة، كما قال سبحانه: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31].



وكان أحد جنود الرحمن في موقعة خيبر ذلك اليهودي، وهو ما زال يهوديًّا، ولا نعلم أنه قد أسلم ولكنه على يهوديته، أتى رسولَ الله وكشف سر قلعة الزبير، {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126].



د. راغب السرجاني

[1] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبي الحسن (3498)، ترقيم مصطفى البغا. مسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب من فضائل علي بن أبي طالب (2406)، ترقيم فؤاد عبد الباقي.

[2] الخميس: الجيش.

[3] البخاري: كتاب الأذان، باب ما يحقن بالأذان من الدماء (585).

[4] أي أنه مجتهد في العلم والعبادة والعمل.

[5] البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة خيبر (3960). مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب غزوة خيبر (1802).

[6] البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة خيبر (3983).

[7] يعني: صبوا كل القدور، وكل ما فيها من مرق اللحوم على الأرض.

[8] البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة خيبر (3960). مسلم: كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب تحريم أكل لحم الحمر الإنسية (1802).

[9] أبو داود: كتاب السنة، باب في لزوم السنة (4604)، ترقيم محيي الدين عبد الحميد.

[10] الوَدَك: دسم اللحم.

[11] ابن هشام: السيرة النبوية، القسم الثاني (الجزء الثالث والرابع) ص332.

[12] المباركفوري: الرحيق المختوم، دار الوفاء، مصر، الطبعة السابعة عشرة، 1426هـ- 2005م، ص321.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 3 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 3 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:56 pm

غزوة خيبر (2-2)

اليهود ينتقلون إلى حصون منطقة الشق

فتح خيبروبعد هذه الفتوح انتقل اليهود إلى الحصن الذي يليه، وهو حصن (قلعة أُبَيّ) أَحد حصون منطقة الشَّقِّ. ونحن نعلم أن منطقة النطاة قد فتحت كلها، وبقي منطقة الشق، وكان فيها حصنان هما أُبَيّ والنزار، ودار قتال عنيف أيضًا حول قلعة أُبَيّ، وبنفس الطريقة حصار ثم قتال ثم هرب لليهود إلى داخل الحصن الذي يليه، وهو حصن النزار وهذا هو الحصن الخامس، ووقف الرسول محاصِرًا لهذا الحصن عدة أيام، ولكن هذا الحصن كان أمنع حصون هذا الشطر مطلقًا؛ لذلك وضع اليهود في هذا الحصن أطفالهم ونساءهم وأموالهم، وظن اليهود أنه من المستحيل أن يفتح.



وبالفعل استمر الحصار فترة طويلة من الزمان قياسًا إلى الحصون التي قبله، وما استطاع الرسول أن يفتح الحصن. وهنا لجأ الرسول إلى طريقة جديدة في الحرب، فقد أخرج المنجنيق، وكان المسلمون قد استولوا على المنجنيق من بعض الحصون اليهودية السابقة، ويقال: إنها كانت في حصن الصعب بن معاذ. ونصب الرسول المنجنيق وبدأ يضرب حصن النزار، حتى أحدث المسلمون خللاً في داخل بعض الجدارن في هذا الحصن، ومن هذا الخلل تسلل المسلمون إلى داخل الحصن، ودار قتال من أعنف أنواع القتال في معركة خيبر الرهيبة. وكما ترون استمر اللقاء فترة من الزمان، وكتب الله النصر للمسلمين للمرة الخامسة، وفتح المسلمون الحصن العظيم حصن النزار.


سقوط حصون الكتيبة في يد المسلمين

حصن الوطيحهرب اليهود إلى حصون المنطقة الأخرى، وكان اسمها حصون (الكتيبة)، وتركوا خلفهم النساء والأطفال وكل شيء، وانتقل الرسول إلى منطقة الكتيبة، وهي منطقة واسعة، فيها ثلاثة حصون كبيرة، وهي القَمُوص وحصن الوَطِيح وحصن السُّلاَلِم، وكانت هذه الحصون من الحصون المنيعة، وتحصن فيها اليهود، ولكن اليهود كانت قد أصابتهم هزيمة نفسيَّة كبيرة نتيجة للهزيمة في أكثر من موقعة في خيبر؛ لأن خيبر لم تكن مجرَّد لقاء عابر، فقد دار القتال في عدة مواقع متتالية في مكان واحد حصن تلو الحصن كما نرى، حتى فتح المسلمون خمسة حصون صعبة دون هزيمة واحدة؛ لذلك فإن خيبر محفورة في أذهان اليهود، وفي أذهان المسلمين على السواء، ومن أعظم انتصارات المسلمين على الإطلاق، وسماها الله في كتابه الكريم بالفتح القريب، قال الله تعالى: {وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف: 13].



وبدأ المسلمون في حصار أول الحصون، وهو حصن القموص، واستمر الحصار أربعة عشر يومًا متصلة، واختلف الرواة فيما حدث في هذا الحصن، هل دار قتال بعد هذا الحصار أم سَلَّم اليهود دون قتال؟ والثابت أن الحصنين التاليين -وهما حصن الوطيح وحصن السلالم- قد سَلَّما دون قتال.


اليهود يطلبون الصلح مع الرسول

طلب اليهود بعد عدة أيام أن ينزلوا على الصلح، وأن يدخلوا في نوع من المفاوضات مع رسول الله ، وقَبِل أن يتفاوضوا في هذا الأمر، وكان الذي نزل للتفاوض هو كِنانة بن أبي الحُقَيْق -أخو سلام بن أبي الحقيق الذي قتله المسلمون قبل ذلك- وقال كنانة بن أبي الحقيق: أنزلُ فأكلمك؟ فقال الرسول : "نَعَمْ".



فنزل ودار بينهما حوار طويل، وكانت خلاصة المفاوضات في صالح المسلمين مائة في المائة، فقد صالح اليهود الرسول على حَقْن دمائهم، ودماء كل من في الحصون من المُقَاتِلَةِ والذرية والنساء، على أن يتركوا خلفهم الديار والسلاح والأموال والذهب والفضة، ويخرجوا بملابسهم فقط في أكبر هزيمة من هزائم اليهود مطلقًا. والحقيقة أن الانتصار كان كبيرًا بالنسبة للمسلمين، وشَرَط الرسول في هذه المعاهدة عليهم شَرْطًا مهمًّا، فقال: "وَبَرِئَتْ مِنْكُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ إِنْ كَتَمْتُمُونِي شَيْئًا". أي: لو أن اليهود أخفوا أي شيء من الأموال أو من الذهب أو الفضة، فيجوز للرسول أن يقتلهم بهذا الإخفاء للمال أو للذهب أو للفضة. وبالفعل قبلوا هذا الأمر، وبدأ اليهود بالخروج من خيبر.


كنانة بن أبي الحقيق يخفي أمواله

اكتشف الرسول أن كنانة بن أبي الحقيق قد أخفى مالاً، وذكر له ذلك أحد اليهود، فأُتِي بكنانة بن أبي الحقيق، وقال له الرسول : "هَلْ أَخْفَيْتَ مَالاً؟"



فقال: لا.



فقال : "أَرَأَيْتَ إِنْ وَجَدْنَاهُ عِنْدَكَ، أَأَقْتُلُكَ؟".



قال: نعم.



فأمر بالبحث في أرضه، وكان أحد اليهود قد عيَّن مكانًا معينًا، وقال: إن كنانة أخفى المال في ذلك المكان. سبحان الله! وبحثوا في هذا المكان فوجدوا كَنْزًا كبيرًا من المال، وقُتِل كنانة بن أبي الحقيق نتيجة مخالفته للمعاهدة التي كانت مع المسلمين، وسُبِيت امرأة كنانة بن أبي الحقيق.


الرسول يتزوج صفية بنت حيي بن أخطب

وكانت امرأة كنانة بن أبي الحقيق هي صفية بنت حيي بن أخطب، وتزوجها الرسول ، وأصبحت من أمهات المؤمنين. ولنا وقفة مع زواج الرسول من السيدة صفية رضي الله عنها. وبداية الأمر أن السيدة صفية عندما أُخذت في السبي، أخذها أحد أصحاب رسول الله وهو دِحْية الكلبي ، فأتى إليه أحد الصحابة وقال له: إن هذه بنت ملك، ولا يجوز أن تكون إلا لرسول الله ؛ فتزوجها الرسول . والحقيقة أن في زواج الرسول من السيدة صفية حكمة كبيرة، ومن هذه الحِكَم أنه رفع درجة السيدة صفية، فهذه بنت ملك أو بنت زعيم من زعماء اليهود، وزوجة زعيم من زعمائهم، فلا يجب أن تُعطى هكذا إلى أي إنسان من المسلمين، فرفع قدرها وعظم من شأنها وتزوجها هو ، بعد أن أعلنت إسلامها.



ثم إن في هذا استمالة لقلوب اليهود عندما يكون بينهم وبين زعيم الدولة الإسلامية أو نبي هذه الأمة عَلاقة نسب، فهذه قد ترقِّق قلوب اليهود وتفتح قلوبهم للإسلام. ثم إنه بذلك الزواج سيمنع الخلاف بين الصحابة؛ لأن أحد الصحابة جاء إليه وقال: "أعطيت دحية الكلبي صفية بنت حيي سيِّدة قريظة والنضير؟"[1]. فقد ينظر أحد الصحابة إلى أنه قد أعطى أحد الصحابة شيئًا قد يناسب النبي أو غيره من عموم الصحابة، وبذلك قطع الخلاف بين الصحابة أجمعين، وهذه كانت بداية خير كبير للسيدة صفية، وأصبحت أم المؤمنين رضي الله عنها، وروت الكثير والكثير عن رسولنا الكريم .


اليهود يدبرون مؤامرة لقتل الرسول

هل امتنع كيد اليهود بعد هذه الغزوة، وبعد هذا القتال المرير الذي دار في عدة أيام، والذي بلغ شهرًا أو أكثر من شهر؟ لم يكفّ اليهود عن ذلك، بل استمروا في المؤامرات والكيد والدس إلى درجة أنهم فكروا في قتل الرسول قبل أن يغادروا خيبر؛ فقد اجتمع اليهود ودبروا محاولة لقتل الرسول ، والجميع يعلم قصة الشاة المسمومة، ونحتاج هنا إلى أن نقف وقفة مع هذه الشاة لنرى ردَّ فعل الرسول لهذا الأمر؛ فاليهود قد اجتمعوا على محاولة اغتيال رسول الله بعد انتصار خيبر، وقد اتفقوا جميعًا على ذلك، وليس تفكيرًا من امرأة واحدة كما تروي بعض الروايات.



والحقيقة أن الروايات كلها صحيحة ولا بد من الجمع بينها، فهناك رواية في صحيح البخاري تقول: إن امرأة يهودية أتت رسول الله بشاة مسمومة، فأكل منها الرسول ، فجيء بهذه المرأة إلى الرسول فسألها عن ذلك، فقالت: أردتُ لأقتلك. فقال: "مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَيَّ"[2]. وفي بعض الروايات أن هذه المرأة هي زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم الذي قتله المسلمون قبل ذلك، فأرادت أن تنتقم لزوجها القتيل ولقومها بصفة عامَّة. وفي رواية أخرى في صحيح البخاري، ويروي هذه الرواية أبو هريرة ، يقول: "لما فتحت خيبر، أُهدِيت لرسول الله شاة فيها سَمٌّ، فقال رسول الله : "اجْمَعُوا لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنَ الْيَهُودِ". فجُمعوا له، فقال لهم رسول الله : "إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْهُ؟"



فقالوا: نعم يا أبا القاسم.



فقال لهم رسول الله : "مَنْ أَبُوكُمْ؟"



قالوا: أبونا فلان.



فقال رسول الله : "كَذَبْتُمْ، بَلْ أَبُوكُمْ فُلاَنٌ".



فقالوا: صدقت وبررت.



فقال: "هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟".



فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا.



قال لهم رسول الله : "مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟".



فقالوا: نكون فيها يسيرًا، ثم تخلفوننا فيها.



فقال لهم رسول الله : "اخْسَئُوا فِيهَا، وَاللَّهِ لاَ نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا".



ثم قال لهم: "فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟".



قالوا: نعم.



فقال: "هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سَمًّا؟".



فقالوا: نعم.



فقال: "مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟"



فقالوا: أردنا إن كنتَ كذَّابًا نستريح منك، وإن كنت نبيًّا لم يضرك[3].



فقد اجتمع اليهود على جعل السم في الشاة ليقتلوا الرسول ، ثم أعطوا هذه الشاة لامرأة سلام بن مشكم لتعطيها لرسول الله ، وهذا -دائمًا- دأبُ اليهود الخيانة والغدر، فهل نتعلم من تاريخهم مع المسلمين في العهد النبوي؟! {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37].


الرسول يعفو عن اليهود !!

الرسول بعد هذا الموقف -واعتراف اليهود اعترافًا صريحًا بأنهم دبروا لقتله - عفا عنهم جميعًا؛ وهذا من أبلغ مواطن الرحمة في حياته ، بل إنه عفا عن المرأة التي قدمت له الشاة، وسُئِل مباشرة ألا تقتلها؟ قال: "لاَ". ولم يقتل المرأة، وكان أحد الصحابة وهو بشر بن البراء بن معرور قد أكل مع رسول الله وقت أكله من الشاة المسمومة، وكما هو مشهور أن الشاة المسمومة قالت لرسول الله : "لا تأكل مني؛ فإني مسمومة"[4]. فالرسول لَفَظَ الشاة وأمر الصحابة ألاّ يأكلوا، ولكن هذا الصحابي بشر بن البراء بن معرور كان قد ابتلع قطعة من اللحم من هذه الشاة المسمومة فمات بها، فلما مات بشر بن البراء بن معرور ، أقام رسول الله الحدَّ على المرأة التي قَدَّمت الشاة، فقتلها به. وبالجمع بين الروايات نجد أنه من كل أرض خيبر لم تقتل إلا امرأة واحدة؛ لأنها قتلت رجلاً من المسلمين أكل من الشاة المسمومة.


موقعة خيبر في الميزان النقدي

عند مقارنة هذه المعركة العظيمة بكل معارك الأرض، يتبين لنا أنها من أرحم المعارك وأقلها في الخسائر البشرية. وفي نظرة سريعة إلى الحرب العالمية الثانية نجد أن ألمانيا قد قُتل منها عشرون مليونًا، معظمهم من المدنيين: تسعة عشر مليونًا، ونجد أن هذا تكرر في معظم المعارك الأخرى؛ فقد قتل في هيروشيما ونجازاكي ربع مليون وكلهم من المدنيين، رجال ونساء وأطفال، لكن شتَّان بين حروب المسلمين وحروب غير المسلمين!



ولعل هذه فرصة لنعرض عدد مَن قُتل في هذه المعركة من اليهود، فقد قُتل ثلاثة وتسعون من اليهود، ففي هذا اللقاء الشديد والحروب المستمرة قتل من اليهود ثلاثة وتسعون، واستشهد من المسلمين ستة عشر إلى ثمانية عشر بحسب اختلاف الروايات، وترك اليهود غنائم ضخمة، وتركوا أموالهم وديارهم، وتركوا أراضي كبيرة من النخيل، وقد كانت خيبر بلادًا غنية بالزراعة، فتركوا كل هذا وراءهم وبدءوا في عملية الخروج.



ثم إن اليهود بعد قرار المعاهدة، وقرار الخروج من خيبر، قدموا عرضًا لرسول الله ، وقالوا: يا محمد، دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها، فنحن أعلم بها منكم. فالأرض كبيرة، والصحابة لم يكن لهم علم كبير بالزراعة، وهذه أراضٍ بعيدة عن المدينة المنورة، واليهود يستطيعون أن يزرعوا هذه الأرض، وأن يُخرِجوا منها إنتاجًا وفيرًا، فقالوا: دعنا نقوم على إصلاح هذه الأرض، ثم نقيم معاهدة بيننا وبينكم على اقتسام هذا المزروع. وفكر الرسول ، فوجد أن هذا العرض مناسب للمسلمين، فأقر اليهود على ذلك على أن يعطيهم الشطر من كل زرع، ومن كل ثمر ما بدا لرسول الله أن يقرهم؛ أي يظلوا في خيبر بأمر رسول الله ، فإذا أمر في يوم من الأيام بخروج اليهود من خيبر فعليهم أن يخرجوا، وهو ما تمَّ بعد ذلك في عهد عمر بن الخطاب .



وانتهت المعركة بهذا الأمر، وبدأ الرسول يقسِّم غنائم خيبر الكثيرة على المسلمين، لدرجة أن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- يقول كما روى البخاري: "ما شبعنا حتى فتحنا خيبر"[5].



وتقول السيدة عائشة -رضي الله عنها- كما جاء أيضًا في البخاري: "لما فُتِحت خيبر قلنا الآن نشبعُ من التمر"[6].



فكان فتح خيبر نصرًا عظيمًا حققه المسلمون.



وغنم الرسول في غزوة خيبر صحائف التوراة، ومع أنه يعلم أنها محرَّفة تمام التحريف، وأنها قد أزيلت عنها البشارات التي تبشر به ، وأنه قد اعتدى اليهود فيها كثيرًا على حرمات الله ، إلا أنه سَلَّم هذه الصحائف كاملة لليهود عندما طلبوها منه، ولم يحرق هذه الصحف، وسمح لهم بالمعتقد الذي يعتقدونه، وإن كان يعلم أنه معتقد فاسد تمامًا، وهذا من سعة الصدر عند المؤمنين، والله قال في كتابه الكريم: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]. وهذه القصة واردة وثابتة، وشهد بها الجميع، بل وشهد بها المستشرقون أيضًا.



ويجب ألاّ ينسى المحلِّل لهذه الغزوة أنها من أوَّلها إلى آخرها جاءت عقابًا لليهود على خياناتهم المتكررة، وتأليبهم لجميع القبائل العربية على حرب المدينة المنورة، ومحاولاتهم المستمرة لاستئصال أهل المدينة المنورة، واغتيال الرسول ؛ أي أن هذه الموقعة كانت عقابًا لليهود على جرائم سابقة فعلها اليهود، وقبول الرسول بخروجهم أحياء هذا تَفَضُّلٌ منه ، وكان من حقه أن يعاملهم بالمثل، ويعاملهم بالقصاص، ويقتل الرجال الذين يقاتلون منهم، ولكن أقيمت المعاهدة على هذا المعنى، والمستشرقون في الغرب يقولون ويعلقون على موقعة خيبر بأن اليهود قد ظُلموا فيها، وأن هذا من الشر في الحروب، ومن التجاوز في المعاملة؛ ولكن هذه طبيعة الحروب، فاليهود كانوا منذ لحظات حريصين تمام الحرص على قتل المسلمين.



والناظر إلى تاريخ الحروب في الأرض يجد أن حروب الرسول هي من أرحم الحروب على الإطلاق في تاريخ الإنسانية، ولننظر إلى عدد القتلى في الحرب العالمية الثانية، وأعدادهم التي تقدر بالملايين، ولكن الرسول ما قتل مدنيًّا قَطُّ في حياته ، بل كان يأمر الناس أن يغزوا في سبيل الله، على بركة الله، لا يقتلوا شيخًا كبيرًا، ولا طفلاً صغيرًا، ولا امرأةً، ولا منعزلاً بصومعة، ولا من لم يقاتل المسلمين، وكان يفرِّق بين الكافر الذي يقاتل المسلمين وبين الكافر الذي لا يقاتل المسلمين، بل أمر الله رسوله أن يُبلِّغ الكافر الذي لا يقاتل المسلمين مَأْمَنَهُ؛ حتى يسمع كلام الله فيعرفَ الحق وتُقام عليه الحُجَّة.


نتائج فتح المسلمين لخيبر

عندما سمع اليهود الذين هم في أماكن أخرى بعيدة أو قريبة من خيبر بأنباء خيبر، بدءوا يفكرون تفكيرًا جديًّا في التسليم لرسول الله ، ومن هؤلاء اليهود يهود فَدَك الذين قبلوا أن ينزلوا على نفس الصلح الذي نزلت عليه يهود خيبر، على أن يكون لهم النصف من الثمار مثلما جرى مع يهود خيبر. وكذلك اليهود في وادي القرى قاوموا في البداية بعض المقاومة، ثم إنهم بعد ذلك قبلوا بنفس الصلح، وكذلك يهود تيماء؛ وبذلك حيَّد المسلمون جانب اليهود تمامًا في الجزيرة العربية، ورجع الرسول بعد هذه الغزوة إلى المدينة المنورة في أواخر صفر أو أوائل ربيع الأول سنة 7هـ؛ أي أنه ظل أكثر من شهر في منطقة خيبر، كما توقع أن يقضي وقتًا طويلاً في خيبر، وبذلك تخلص المسلمون نهائيًّا من خطر اليهود.



فإذا أضفنا إلى هذا التخلص ما حدث في صلح الحديبية من تحييد جانب قريش، نجد أن معظم القوى الموجودة في الجزيرة قد تعامل معها الرسول .



ولم يبقَ من قوةٍ في الجزيرة إلا قوة غطفان، التي -وإن وجَّه إليها الرسول بعض السرايا- تحتاج هي الأخرى إلى وقفة جادة، وتصرُّف حكيم وسريع من رسول الله .



د. راغب السرجاني

[1] البخاري: أبواب الصلاة في الثياب، باب ما يذكر في الفخذ (364). مسلم: كتاب النكاح، باب فضيلة إعتاق أمة ثم يتزوجها (1365).

[2] رواه مسلم (2190)، وأبو داود (4508).

[3] البخاري: أبواب الجزية والموادعة، باب إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يعفى عنهم (2998).

[4] ابن كثير: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة، بيروت، 1396هـ- 1971م، 3/397.

[5] البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة خيبر (4000).

[6] البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة خيبر (3999).
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 3 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 3 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:56 pm

غزوة ذات الرقاع

وقعت غزوة ذات الرقاع في شهر ربيع الأول سنة 7هـ، أي فور رجوع المسلمين من فتح خيبر؛ فهي حركة دائبة من الجهاد في سبيل الله، وبعض كُتّاب السير يضعون غزوة ذات الرقاع في أحداث السنة الرابعة، وهذا لا يستقيم؛ لأن أبا موسى الأشعري -كما ثبت في البخاري- شارك في غزوة ذات الرقاع، وأبو موسى بالاتفاق لم يأتِ إلى المدينة المنورة إلا في العام السابع من الهجرة مع قدوم جعفر بن أبي طالب إلى المدينة المنورة، أي جاء بعد فتح خيبر.



ومن المؤكد أن غزوة ذات الرقاع وقعت في السنة السابعة من الهجرة، وهذه الغزوة كانت موجَّهة إلى قبائل غطفان، التي حاصرت المدينة المنورة في غزوة الأحزاب، وأرادوا أن يساعدوا اليهود في خيبر، وكانوا يُعِدُّون العُدَّة لغزو المدينة المنورة، ولكن الرسول أرسل إليهم سرية وهو يفتح خيبر، فأرادوا إعادة غزو المدينة المنورة من جديد؛ ولذلك كان على الرسول أن يقف وقفة جادة ومخوفة، ويخرج إليهم بنفسه بدلاً من أن ينتظرهم في المدينة المنورة؛ حتى لا يؤخذ انطباعٌ دائم عن المسلمين أنهم يخافون من غطفان، ولا يجرءون على مواجهة مباشرة معهم، وهذا الانطباع السلبي أراد الرسول أن يمحوه، ومن ثَمَّ خرج الرسول وصحابته الكرام إلى ديار غطفان[1].


الجيش الإسلامي يصل إلى أرض غطفان

خرج الرسول بنفسه إلى ديار غطفان، ولكن يبدو أن جيوش المسلمين في ذلك الوقت كانت موزعة في أماكن متفرقة؛ فهناك جيوش بداخل المدينة المنورة، وهناك جيوش في خيبر، وفي وادي القرى، وفي فدك، وفي تيماء، وفي غيرها من الأماكن الملتهبة في ذلك الوقت، والرسول لا يأمن أن يترك المدينة المنورة بلا جيش ولا قاعدة، والرسول لا يأمن غدر قريش، وقبائل غطفان قد تلف من هنا أو هناك حول الطرق لتدخل المدينة المنورة من أي مكان، أمور كثيرة جعلت من الضروري أن يترك المسلمون حامية في داخل المدينة المنورة.



لذلك خرج الرسول في جيش صغير نسبيًّا، وهذا الجيش تقريبًا كان أربعمائة من الصحابة ، وفي بعض الروايات أنهم سبعمائة من الصحابة أجمعين، ولم يكن معهم من البعير إلا القليل، لدرجة أن ستة من الصحابة كانوا يتناوبون ركوب البعير الواحد، وسار الرسول مسافة كبيرة بجيشه في عمق الصحراء، وتوغل حتى بلغ ديار غطفان، وهي إلى الشمال الشرقي من المدينة المنورة على مسافة عدة ليالٍ من المدينة المنورة، وهذه المسافة كبيرة جدًّا، والصحابة يسيرون على أقدامهم، وقد أثر ذلك فيهم أجمعين، والبخاري -رحمه الله- يروي عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: "خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ فِي غَزْوَةٍ، وَنَحْنُ سِتَّةُ نَفَرٍ، بَيْنَنَا بَعِيرٌ نَعْتَقِبُهُ، فَنَقِبَتْ أَقْدَامُنَا وَنَقِبَتْ قَدَمَايَ وَسَقَطَتْ أَظْفَارِي، وَكُنَّا نَلُفُّ عَلَى أَرْجُلِنَا الْخِرَقَ؛ فَسُمِّيَتْ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ لِمَا كُنَّا نَعْصِبُ مِنَ الْخِرَقِ عَلَى أَرْجُلِنَا"[2].



قال ابن حجر في الفتح: "نعتقبه أيْ نركبه عُقْبةً عُقْبة، وهو أن يركب هذا قليلاً ثم ينزل فيركب الآخر بالنوبة حتى يأتي على سائرهم"[3].



والحقيقة أننا نحتاج أن نقف وقفة مع هذا الموقف، فهذا الحديث وأمثاله يوضِّح لنا مدى التضحية والبذل والعطاء الذي تميز به هذا الجيل الصادق من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.


صور من حرص الصحابة على الجهاد

كان العام السابع من الهجرة حركة دائبة ومستمرة من الجهاد في سبيل الله، من الرسول ، وصحابته الكرام رضوان الله عليهم؛ وإذا نظرنا إلى الشهور الثلاثة الأخيرة من العام السابع الهجري، نجد أن الرسول وصحابته الكرام قد توجهوا إلى مكة المكرمة لأداء عمرة القضاء مع التضحية التامة بالنفس، والذهاب إلى قريش في عقر دارها، استعداد تام للقتال حتى النهاية، وبعد عودة المسلمين إلى المدينة المنورة بعد صلح الحديبية، انطلقوا مباشرة إلى الحصون والقلاع في خيبر، ودار قتال شرس أكثر من شهر متصل بخيبر، وانتصار مهيب كما رأينا لا مثيل له، وعودة إلى المدينة لعدة أيام، ثم الخروج والسير في الصحراء مسافة طويل كما رأينا لقتال قبيلة غطفان، وهي من أقوى وأشرس قبائل العرب، وبذلك نرى حركة دائمة في سبيل الله، وبذل وتضحية في كل لحظة. ورأينا جعفر بن أبي طالب وهو يعود من الحبشة فيجد أن الرسول قد غادر المدينة إلى خيبر، فيترك المدينة مباشرة، ويذهب إلى خيبر؛ ليشترك في القتال، وهو قادم من الحبشة وهي مسافة طويلة جدًّا. ورأينا أبا موسى الأشعري ، وهو يأتي من اليمن في أيام خيبر فيخرج بعد قدومه بعدة أيام إلى هذه الغزوة الصعبة، غزوة ذات الرقاع.



فلم يكن هناك لحظة ضائعة في حياة هذا الجيل، ولعل ذلك هو الذي يفسر لنا الكَمّ الهائل من الأحداث التي وقعت في زمن البعثة النبوية، وهي فترة محدودة وقصيرة، ولا يمكن أبدًا أن نستوعب هذه الأحداث إلا إذا نظرنا إلى هذا الجهد والبذل والعطاء المستمر من هذا الجيل أجمعين. وإذا أضفنا إلى هذا الاستغلال الدقيق لكل لحظة من لحظات الحياة، البركة التي ينعم الله بها على عباده المؤمنين، فعند ذلك نفهم كيف قاموا بالأحداث الضخمة الكثيرة في هذه الفترة المحدودة من الزمان! وكانت أعمالهم كلها خالصة لله ، لدرجة أن أبا موسى الأشعري ، لما حكى هذا الأمر بعد ذلك كما يذكر البخاري: وحدَّث أبو موسى بهذا ثم كره ذاك، قال: "ما كنت أصنع بأن أذكره"، كأنه كره أن يكون شيء من عمله أفشاه[4]. أي أنه يلوم نفسه لأنه أعلن هذا الأمر؛ لأنه كان يريد أن يكتم هذا الأمر ليصبح هذا العمل بينه وبين رب العالمين. والحمد لله أنه حَدَّث بذلك الأمر ليصل إلينا لنتعلمه ونعلمه لإخواننا وأبنائنا.



ومع كل هذه الصعوبة وصل الجيش الإسلامي إلى ديار غطفان، وكنا نتوقع معركة طاحنة بين المسلمين الذين تعرضوا لأذى غطفان قبل ذلك أكثر من مرة، وبين غطفان القبيلة الكبيرة الشرسة، التي يغزوها المسلمون في عُقْر دارها، ولكن المفاجأة أنه لم يحدث قتال؛ فقد آثر أهل غطفان ألاّ يدخلوا في صراع مع المسلمين، مع أن المسلمين في أقصى تقدير لا يزيدون على سبعمائة وأعداد غطفان هائلة، والمعركة في عقر دارهم، وفي الطرق والدروب التي عرفوها قبل ذلك ألف مرة، والمسلمون قادمون من مسافة بعيدة، وقد نقبت أقدامهم من السير كما يقول أبو موسى الأشعري ، وأهل غطفان مستقرون في ديارهم. فهذا الأمر في عُرْف أهل الدنيا أمر عجيب حقًّا.


الله يلقي الرعب في قلوب غطفان

كيف يهرب أهل غطفان وهم في هذه الظروف المستقرة، والجيش المواجه لهم ظروفه صعبة وهو قادم من سفر طويل وعدده قليل، فهذا الوضع لم يكن له إلا تفسير واحد، وهو أن هذا الجيش الإسلامي مؤيَّد بقوة خارقة فوق كل الحسابات المادية، وهو تأييد رب العالمين لرسوله الكريم ، ولعامَّة المؤمنين، يقول الرسول : "نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ"[5].



فقبْل أن يصل الرسول إلى أرض المعركة، يقذف الله الرعب في قلوب أعدائه، وقد رآه المسلمون في بدر، وفي الأحزاب، وفي غزوات اليهود المختلفة، فقد رأوه مع بني قَيْنُقَاع وانتهاءً بخيبر، بل شاهدوه في النصف الأول من غزوة أُحد عندما كان المسلمون مرتبطين برسول الله ، قال تعالى تعليقًا على النصف الأول من غزوة أُحد: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 151].



أي أنه إذا ارتبط المسلمون بالله ، ألقى الله تعالى الرعب في قلوب الفريق الآخر، وهذا أمر معروف عند المسلمين في حروبهم، ولكن الجديد في غزوة ذات الرِّقَاع أن هذا الشعور قد دخل أيضًا عند أهل غطفان، ووجدوا أنفسهم ينسحبون أمام الجيش الإسلامي بشكل غير مبرر، ووجدوا أنفسهم للمرة الأولى في حياتهم في فزع ورعب شديد من غيرهم، فهم يعيشون على السلب والنهب وقطع الطريق، ومع ذلك وجدوا أنفسهم يخافون من الجيش الإسلامي الذي لا يتجاوز على أقصى تقدير سبعمائة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.



وإذا كان هذا الرعب من فريق قليل من المسلمين، فهذا الأمر يحتاج إلى وقفة، ويحتاج إلى تفسير وتحليل! فغزوة ذات الرقاع قد هزت قبيلة غطفان من الأعماق، وقد يأتي النصر من حيث لا نحتسب؛ ليعترف الجميع أن النصر من عند الله سبحانه. وبدأت شعوب غطفان وزعماء غطفان يفكرون جميعًا بنظرة إيجابية لهذا الدين، نَعَمْ لم يأخذوا قرارًا سريعًا بالدخول في الإسلام، ولكنهم وقفوا وقفة جادة للتأمل، فهؤلاء المرتزقة الذين عاشوا حياتهم على السلب والنهب يرون أنفسهم أمام شيء لم يروه من قبل، والآن دخلت الرهبة في قلوبهم، وألقى الإسلام بجلاله وهيبته على غلاظ الأكباد وعتاة الإجرام، فهذا الدين المحكم الذي: {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصِّلت: 42]. قد تسلل إلى هذه القلوب تسللاً، ورجع الرسول وصحابته الكرام دون قتال، ولكن هذا قد ترك أثرًا لا يُمحى من قلوب غطفان.


الرسول ينجو من الأعرابي !

عاد الرسول من غطفان إلى المدينة المنورة بعد أن عاقب المسلمون قبائل غطفان التي اعتدت على المسلمين مرات ومرات، وعندما كان الرسول في الطريق إلى المدينة المنورة حدث له موقف غريب، والموقف جاء في صحيح البخاري عن جابر ، أن الجيش الإسلامي وهو عائد إلى المدينة تفرق الناس في العضاه لكي يستريحوا، وكما يصفون المنطقة فهي كثيرة الشجر، فجلسوا يستظلون بالشجر، ونزل الرسول تحت شجرة، فعلق بها سيفه، ونام تحت الشجرة، ونام الرسول ونام كل الصحابة، فهو طريق طويل جدًّا، فجاء رجل من الأعراب وأخذ سيف رسول الله ورفعه فوق رأس رسول الله ، واستيقظ الرسول ، وقال له الأعرابي المشرك: أتخافني؟



وكان من المتوقع من الرجل أن يقتل الرسول ، وبذلك ينال شرفًا كبيرًا عند أهل غطفان، ولكن الرجل لم يفعل ذلك لعصمة الله لنبيه، فلا يناله الأذى من الآخرين، يقول تعالى: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67].



وبدأ الحوار بين الرسول والأعرابيّ، قال له: أتخافني؟



وردَّ الرسول في ثقة: "لاَ".



وما اهتزَّ له جفن، ولم يدخل في قلبه أي خوف، وتعجَّب الأعرابي؛ فالسيف في يده والرسول أعزل ليس معه شيء يحمي به نفسه، ومع ذلك لا يخاف، فقال الأعرابي: مَن يمنعك مني؟



فردَّ الرسول في ثبات وقال: "اللَّهُ".



وفي رواية أن الأعرابي كرر السؤال ثلاث مرات: من يمنعك مني؟ وفي كل مرة يقول الرسول بثبات: "اللَّهُ"[6].



فوقع السيف من يدي الأعرابي، وفي رواية -وهي عند البخاري أيضًا- أن الأعرابي شام السيف أي أغمد السيف، ولم يقع منه رغمًا عن إرادته، ولكنه أغمده بإرادته تعجبًا من ثبات الرسول [7]. وفي رواية للإمام أحمد بن حنبل وابن إسحاق -رحمهما الله- أنه عندما وقع السيف من الأعرابي، أمسك به الرسول ، وقال له: "مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟" وتبادل الرسول والأعرابي المواقف:



"الآنَ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟"



والأعرابي كافرٌ ما استطاع أن يقول الله، وما استطاع أن يلجأ إلى آلهته المزعومة من الأصنام، ولكنه طمع في كرم الرسول ، فقال له: كن خير آخذ؟



فقال : "تَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللِّهِ؟".



فقال الأعرابي: أعاهدك ألاَّ أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك.



فهذا الأعرابي لم يُسلِم، ولكنه وعد الرسول ألا يقاتله ثانية. وعلى الرغم من هذا الموقف الصعب، فالأعرابي لم يستطع أن يأخذ قرار الإسلام، فأطلق رسول الله سراحه، ولم يعاقبه، وثبت ذلك في مسند أحمد أن الرسول لم يعاقب الأعرابي، وعاد إلى أهله سالمًا وقال لهم: جئتكم من عند خير الناس[8].



وفي رواية أن عددًا كبيرًا من أهله قد أسلم، وأن هذا الرجل كان اسمه غَوْرَث بن الحارث. وهذه القصة وإن كانت في ظاهرها عابرة إلا أنها تركت أثرًا كبيرًا في أعراب هذه المنطقة من غطفان بأن رسول الله ليس رجلاً كريمًا فحسب، وليس قائدًا شجاعًا جريئًا فقط، وإنما هو أيضًا نبي مرسل؛ لأنه ليس من عادة الملوك والقادة أن يتركوا من وقف على رءوسهم بالسيف مهدِّدًا هكذا دون أن يقتلوه، وليس من عادتهم الرحمة والتسامح إلى هذا الحد.



ولا شك أن هذه القصة -إضافةً إلى غزو الرسول دون خوف ولا وجل- كان لها أبلغ الأثر في تفكير هؤلاء الأعراب جديًّا في قضية الإسلام.


عباد بن بشر.. الخاشع لربه

القصة الأخرى العجيبة التي حدثت في أثناء رجوع هذا الجيش المبارك إلى المدينة المنورة، ورواها أبو داود عن جابر أن الجيش نزل في أحد الأماكن للراحة، فعيَّن الرسول رجلين للحراسة، فالأول عباد بن بشر الأنصاري ، والثاني عمَّار بن ياسر المهاجري ، فقسَّما الليل بينهما، فكانت نوبة عباد بن بشر فأراد أن يقطع الليل بالصلاة، فوقف يصلي قيام الليل، فجاءه أحد المشركين من غطفان، ورماه بسهم فنزع عبَّاد السهم، وأكمل صلاته.



وتخيلْ معي دخول سهم في كتف عباد بن بشر ، فينزع السهم ويكمل الصلاة، والدم يسيل منه ويتفجر، ومع ذلك يكمل الصلاة، فرماه المشرك بسهم آخر فنزعه عباد، وأكمل صلاته، فجاءه السهم الثالث فنزعه عباد، ثم ركع وسجد وأنهى صلاته، ولم يقطع الصلاة، ثم أيقظ عمَّار بن ياسر رضي الله عنهما، فلما وجد عمار بن ياسر الدماء في كل مكان، ورأى الأسهم الثلاثة، قال لعباد: أفلا أنبأتني عندما رميت؟ فيقول عباد بن بشر : كنتُ في سورة أقرؤها، فلم أحب أن أقطعها[9].



وفي رواية ابن إسحاق، قال عباد: "وايم الله، لولا أن أضيِّع ثغرًا أمرني رسول الله بحفظه، لقطع نفسي قبل أن أقطعها"[10]. ولك أن تتخيل مدى استمتاع عبَّاد بقراءته، ومدى حبِّه لقيام الليل، ومدى استغراقه في صلاته، ومدى خشوعه وتركيزه في الصلاة .



وهرب هذا الرجل المشرك الذي أطلق السهام لما رأى عمار بن ياسر، وفرَّ إلى قومه، ولا ندري عنه شيئًا بعد ذلك، ولكنه -لا شك- انبهر برؤية أولئك الذين كانوا يغزونهم قبل قليل بهذه الشجاعة، ويحاربونهم بضراوة، يقفون في عبادتهم بهذا الخشوع.



لا شك أن جَمْع الصحابة رضوان الله عليهم بين الجهاد والصلاة، وبين القتال والعبادة، وبين القوة والرحمة، وبين الكرامة والعفو عند المقدرة، لا شك أن كل ذلك كان لافتًا للنظر لكل الناس، ولا شك أيضًا أنه ترك انطباعًا إيجابيًّا عند عموم البشر بصرف النظر عن جنسيتهم وأعراقهم وقبائلهم. وكانت هذه غزوة ذات الرقاع، وهي غزوة بلا قتال، ولكنها غيَّرت كثيرًا في أفكار قبائل غطفان، وعدَّلت كثيرًا من سلوكهم.


الرسول يوجه السرايا إلى أرض غطفان

عاد الرسول بعد غزوة ذات الرقاع بعد أن وجَّه هذا الإنذار لقبائل غطفان، وبدأ في إرسال ست سرايا متتالية، وكلها في العام السابع من الهجرة؛ فقد أرسل هذه السرايا إلى منطقة قُدَيْد، ومنطقة تُرَبَة، ومنطقة بني مُرَّة، ومنطقة مَيْفَعَة، ومنطقة يَمْن وجُبار، ومنطقة الغابة[11]، ست مناطق، وكان القاسم المشترك بين كل هذه المناطق هو أنها كلها أرض لغطفان، وبذلك نرى تركيزًا واضحًا على قضية غطفان في العام السابع من الهجرة.



ومن الواضح أن الرسول يسير في خطوات محكمة، وليس فيها بطء قَطُّ في الأداء، والرسول وجَّه الجيش بكامل طاقته لردع بقية الأحزاب، ولصدِّ بقية أعداء الأمة؛ فلذلك رأينا حربًا ضد اليهود وحربًا ضد غطفان، والأمور كلها في غاية الترتيب، ونجح الرسول في هذه الحملات المتكررة في ردع اليهود وغطفان، وبذلك أصبحت القوة الإسلامية في آخر العام السابع من الهجرة هي القوة الأولى في الجزيرة العربية.



ومع نجاح هذا الجانب العسكري للدولة الإسلامية، إلا أن الرسول لم يترك مهمته الأولى كرسول وهي مهمَّة البلاغ، بل انتشر الدعاة إلى الله في كل أنحاء الجزيرة العربية وفي خارجها، ودعا المسلمون إلى الإسلام صراحةً، وبقوة وعزة حتى وصل الإسلام إلى معظم ممالك العالم.



وبذلك نرى العام السابع للهجرة عامًا جهاديًّا عسكريًّا ودعويًّا، بدأ فيه المسلمون في جَنَى ثمرات صلح الحديبية، ووصلت في هذا العام دعوة الإسلام إلى كل مكان، وانتصر فيه المسلمون انتصارًا باهرًا على اليهود في خيبر ووادي القرى، وفَدَك وتيماء، وحُجِّمت قوة غطفان وتضاءلت، وعرفوا أن قوة المسلمين أعلى من قوتهم، حتى وإن كان المسلمون قليلي العدد، وزاد عدد المسلمين بشكل ملحوظ بعد قدوم المسلمين من كل مكان، فقد جاء مهاجرو الحبشة والأشعريون والدوسيون وغيرهم، بل أسلم الكثير والكثير، فكان العام السابع من الهجرة عامًا سعيدًا من أعوام الدعوة.



د. راغب السرجاني

[1] المباركفوري: الرحيق المختوم، دار الوفاء، مصر، الطبعة السابعة عشرة، 1426هـ- 2005م، ص328.

[2] البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع (3899).

[3] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري، دار المعرفة، بيروت، 1379هـ، 7/421.

[4] البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع (3899).

[5] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب قول النبي : "نصرت بالرعب مسيرة شهر" (2815).

[6] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة (2753).

[7] البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة بني المصطلق من خزاعة وهي غزوة المريسيع (3908).

[8] رواه أحمد (14971، 15227) ترقيم النسخة الميمنية، وصححه شعيب الأرناءوط.

[9] رواه أبو داود (198) ترقيم محيي الدين عبد الحميد، وأحمد (14745)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود برقم (182).

[10] ابن هشام: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وآخرين، دار المعرفة، بيروت، القسم الثاني (الجزء الثالث والرابع) ص209.

[11] المباركفوري: الرحيق المختوم ص329، 330.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 3 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 3 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:57 pm

عمرة القضاء

سبب العمرة

عمرة القضاءأعطى الله للمسلمين في نهاية العام السابع من الهجرة شيئًا ذاب المسلمون شوقًا إليه، وهو دخول مكة المكرمة لأداء عمرة القضاء، فقد كان من بنود صلح الحديبية أن يأتي المسلمون بعد عام من صلح الحديبية، أي في نهاية العام السابع من الهجرة؛ ليدخلوا مكة معتمرين ليس معهم إلا سلاح المسافر، ويخرج أهل مكة منها، ويتركون البلد الحرام للمسلمين مدةَ ثلاثة أيام متواصلة، وأعلن الرسول في شهر ذي القعدة من العام السابع للهجرة في المدينة المنورة عن العمرة العظيمة، وأمر رسول الله ألاّ يتخلف عنها أحدٌ شهد الحديبية.



وسوف تبدأ تفصيلات هذه العمرة المباركة، وهي في الحقيقة تحتاج منا إلى وقفة مهمة، فقد خرج ألفان من الصحابة ، هذا غير النساء والصبيان، وخرجوا بالسلاح الكامل في موكب مهيب، مع أن الرسول كان متفقًا مع قريش على أنه لا يدخل مكة إلا بسلاح المسافر فقط، إلا أنه لا يأمن من غدر قريش؛ فخرج المسلمون بالسلاح الكامل وبالعُدَّة الكاملة من الرماح والسهام والدروع، وكأنه خارج للحرب، ولكنه سوف يترك كل هذه الأشياء خارج مكة؛ ليدخل مكة بسلاح المسافر وفاءً بعهده ، وأحرم من ذي الحُلَيفة، وهي آبار عليّ، وظل طول الطريق من ذي الحليفة إلى مكة المكرمة يلبي هو وأصحابه ، وكان الطريق طويلاً عشرة أيام تقريبًا من التلبية المتواصلة، حتى وصلوا إلى مكة، وهذه لحظة مهيبة من أعظم لحظات السيرة النبوية؛ فبعد سبع سنوات كاملة من الهجرة، وترك أحب البلاد إلى قلب الرسول ، يعود الحبيب إلى بلده الحبيب مكة، فها هي الأيام تمر بسعادتها وأحزانها، ولكن العاقبة للمتقين، وشتَّان بين حال المسلمين منذ سبع سنوات وحالهم الآن.



فقد خرج رسول الله من مكة منذ سبع سنوات مهاجرًا، ومترقبًا ومستخفيًا بنفسه، يختبئ هنا تارة وهنا تارة، ويُخفِي آثاره قدر المستطاع، واليوم يدخل رسول الله مكة مُعلِنًا ذلك للجميع، وهذا الإعلان ليس لأهل مكة فقط، بل لأهل الجزيرة جميعًا، بل للعالم أجمع.


الرسول وصحابته يدخلون البيت الحرام

ومرت السنوات السبع، والرسول وصحابته الكرام في غيبة عن مكة المكرمة، وها هو الرسول يعود في ألفين من الرجال، غير النساء والصبيان في مظاهرة إيمانية عظيمة، وتلبية تقطع صمت الصحراء، ويعلن لكل الخلق أن: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ.



حقًّا لا شريك لك، وحقًّا الحمد كله لله، وحقًّا الملك كله لله، والدليل هذه العمرة التي نتكلم عليها؛ فمنذ سبع سنوات خرج أهل مكة جميعًا يبحثون عن رسول الله في كل بقعة ليقتلوه، والآن خرج أهل مكة جميعًا، ولكن خرجوا إلى جبال مكة وأوديتها؛ ليفسحوا الطريق لرسول الله ، ليدخل مكة معتمرًا وملبيًا ورافعًا رأسه ومحاطًا بكوكبة من المسلمين المسلحين بالسيوف في أعظم تشريفة رأتها مكة في كل تاريخها، اكتفى أهل مكة -سبحان الله- بالمراقبة له ولأصحابه ، وهم يؤدون شعائر العمرة على طريقة المسلمين.



وهذا حدث من أعظم أحداث السيرة النبوية، وهذه العمرة تمهيدًا نفسيًّا رائعًا لما سيحدث بعد ذلك بعام عندما يدخل الرسول مكة فاتحًا، ولعل قضية فتح مكة تكون صعبة جدًّا على التخيل عند كثير من الصحابة؛ لأن مكة من أعظم مدن الجزيرة، بل أعظم مدن العالم، وقريش هي أعز قبيلة في العرب، ومن الصعب على أحدٍ التخيل أن المسلمين يأخذون جيشًا ويقتحمون مكة، ويغزون قريشًا في عقر دارهم، فهذا أمر بعيد! ولكن بعد هذه العمرة أصبح الوضع مختلفًا، فقد رأى المسلمون أهل مكة يفسحون لهم الطريق دون مقاومة، ويتركون ديارهم ثلاثة أيام متواصلة، ويكتفون بالمراقبة والحسرة، وهم لا يستطيعون فعل أي شيء.



ولا شك أن المسلمين قد لاحظوا الانبهار الذي كان عند القرشيين من رؤية قوة المسلمين، وكان الرسول يعرف أن هناك أنواعًا كثيرة من الناس لا تنبهر إلا بالقوة، ولا يحترمون غيرهم إلا إذا وجدوه صُلبًا شديدًا عزيزًا، وصدق عثمان بن عفان إذ يقول: "إن الله ليزعَ بالسلطان ما لا يزعُ بالقرآن"[1].



لم يرتدع أهل مكة عند سماع الآيات القرآنية الكريمة الباهرة، مع تمام علمهم أن القرآن معجزة، وأنه فوق طاقات البشر، وأنهم لا يستطيعون الإتيان بسورة من مثله، ولو اجتمعوا لذلك، ولم يرتدعوا بهذا القرآن العظيم؛ ولكن على الناحية الأخرى وقفوا في ذهول أمام قوة المسلمين وعظمتهم.


حرص الرسول على إظهار قوة المسلمين

كان الرسول حريصًا تمام الحرص على إظهار قوة المسلمين أمام أهل مكة قدر المستطاع، وتعددت مظاهر هذه القوة في عدة مظاهر:



1- جاء الرسول بقوة السلاح الكامل من المدينة المنورة، ولكنه كان وفيًّا بالعهد، فقد أبقى السلاح خارج مكة مع سرية من الصحابة، كان فيها مائتان من الصحابة ، وعليهم محمد بن مسلمة ، وبعد أن انتُهي من العمرة تبادل هؤلاء الحرَّاس مع مجموعة من المسلمين الذين أدوا العمرة، وجاءوا لأداء العمرة كغيرهم من الصحابة . وكان المسلمون قد جاءوا من المدينة إلى مكة وهم يسيرون بالسلاح، وهم يعلمون أن عيونًا لقريش ترقب الموقف. وبالفعل رأت عيون قريش الرسول وهو يمشي بالسلاح، ومعه قوة كبيرة من الصحابة ، وأرسلت قريش إلى الرسول بذلك الأمر، وقالوا له: إنه قد وعدهم أن يدخل مكة بسلاح المسافر فقط. فقال لهم : إنه سيترك السلاح خارج مكة، ولكنه لا يأمن على نفسه من غدر قريش. فالرسول يأخذ بالأسباب، فذهب في عُدَّةٍ كاملة ليلقي الرهبة في قلوب قريش.



2- دخل الرسول مكة راكبًا ناقته القصواء، والمسلمون حوله يُشهِرون سيوفهم لحمايته، والرسول يمشي وحوله المسلمون من كل مكان يحيطون به ، كما يحيط السِّوار بالمِعْصَم حماية له من المشركين، أو من غدر قريش، فكان ذلك منظرًا مهيبًا جدًّا.



3- دخل المسلمون مكة وهم يلبون جميعًا في صوت واحد: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ. وكانت أصوات الصحابة وهم يلبون تهز أعماق قريش، وكان هناك ألفان من الرجال الأشداء يلبون ويرفعون أصواتهم بالتلبية وهم يدخلون مكة المكرمة.



4- تقدم صفوف المسلمين عبد الله بن رواحة وهو ينشد الشعر، ولا نستغرب أن يقول الشعر في مثل هذا الموقف؛ لأن الشعر عند العرب هو وسيلة الإعلام الأولى، فإذا قيل الشعر وقف الجميع ليستمع، وعبد الله بن رواحة كان يعرف هذا الموقف، واختار من الشعر ما يناسب إظهار القوة، ومما قاله في شعره، كما في الترمذي والنسائي عن أنس -والحديث حسن صحيح- قال:



خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِـهِ *** الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ

ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَـنْ مَقِيلِهِ *** وَيُذْهِلُ الْخَلَيِلَ عَنْ خَلِيلِهِ



والمضمون لهذا الشعر أن عبد الله بن رواحة يفسح الطريق لرسول الله ، ويعلنها واضحة صريحة أنه سيضرب كل من سولت له نفسه الغدر به ، ولكن عمر بن الخطاب لم يستوعب ما فعله عبد الله بن رواحة ، فقال له: يابن رواحة، بين يدي رسول الله وفي حرم الله تقول الشعر؟! لكن الرسول كان يرى ما يفعله عبد الله بن رواحة، ومدرك لعقلية العرب عامَّة وعقلية قريش خاصة، قال له : "خَلِّ عَنْهُ، فَلَهُوَ أَسْرَعُ فِيهِمْ مِنْ نَضْحِ النَّبْلِ"[2]. أي من رمي النبل والسهام، فكانت هذه الأبيات من أقوى الأسلحة التي وجِّهت لقريش.



5- أمر رسول الله الصحابة رضوان الله عليهم أن يَرْمُلُوا في الأشواط الثلاثة الأولى؛ أي يُسرِعوا في الجري في أول ثلاثة أشواط من العمرة، وقد أصبح هذا الأمر سُنَّة دائمة، وكان ذلك لإظهار قوة المسلمين.



6- أمر الرسول الصحابة أن يظهروا أكتافهم اليمنى من خلال ملابس الإحرام، فيكشفوا عن سواعدهم الشديدة؛ حتى ترى قريشٌ قوتهم العضلية، إذْ قال في رواية: "رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَرَاهُمُ الْيَوْمَ مِنْ نَفْسِهِ قُوَّةً"[3].



والذي حمل الرسول على إظهار الصحابة لقوتهم أثناء أداء العمرة، أنه سرت في مكة إشاعة أن المسلمين قد وهنتهم حُمَّى المدينة المنورة، فلما رأى المشركون قوة المسلمين وعضلات المسلمين وسرعتهم، قالوا: "هؤلاء الذين زعمتم أن الحُمَّى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا"[4]. وترك ذلك أثرًا كبيرًا في المشركين.



7- صلى الرسول بالمسلمين الصلوات الخمس في الأيام الثلاثة بصورة جماعية في الحرم. وتخيلْ صلاة ألفين من الرجال غير النساء والصبيان، بطريقة واحدة، وبتكبير وتحميد، وبقيادة منظمة لرسول الله ، إنها صورة باهرة لكل الناس.



8- أمر الرسول بلال بن رباح أن يؤذن من فوق الكعبة، وكانت هزة نفسية عميقة للمشركين، وهم يرون بلالاً الحبشي الذي كان يباع ويشترى، بل يعذب في شوارع وصحراء مكة، وكانوا يربطون الحبل به، ويسيرون به في شوارع مكة يسخرون منه، ويعذب بالصخرة العظيمة على ظهره، هذا الرجل الذي لاقى الأمَرَّينِ من أهل مكة وزعماء مكة، هو الآن يصعد فوق الكعبة، فوق أعظم مكان في الأرض، بعد أن أعزَّه الله بالإسلام، يرفع أذان المسلمين، فهذا الأمر قد هزَّ قريشًا تمامًا من الأعماق، ويردد بلال كلمات الأذان بما فيها من مواطن عزة كثيرة من تكبير لله ، وشهادة بوحدانية الله ، وشهادة بنبوة الرسول إلى آخر كلمات الأذان، فهي كلمات تُلقِي الرهبة والجلال في قلوب كل من يشاهد ذلك من غير المسلمين.



9- كانت تعاملات الرسول مع المؤمنين جميعها أمام المشركين، ورأوا بأعينهم خضوع الصحابة لرسول الله ، ورأوا مدى التوقير والإجلال له، وتذكروا ما قاله لهم عروة بن مسعود الثقفي يوم صلح الحديبية، وعلمت قريش أن الصف الإسلامي صف موحَّد، وقويّ وطائع بكامله لزعيم واحد هو الرسول .



10- ختم الرسول هذه الصورة البهيَّة القوية بزواجه من السيدة ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها، وفي هذا الزواج دليلٌ على أنه يعيش حياة طبيعية في مكة؛ فالرسول ليس خائفًا ولا مترقبًا، بل يتزوج ويحتفل ويقيم العرس، بل إنه في بساطة شديدة لا تخلو من حكمة سياسية رائعة دعا المشركين لحضور الحفل وللأكل من الوليمة، ولكن المشركين رفضوا ولم يقبلوا ذلك، وفهموا رسالة الرسول ، وأنه يتصرف في مكة وكأنها بلده، وليست بلدهم.



إضافةً إلى أن السيدة ميمونة بنت الحارث من قبيلة بني عامر العزيزة، وقبيلة بني عامر كانت تفتخر على العرب أنها من القبائل القليلة التي لم يُسْبَ منها امرأة واحدة، ولم يؤخذ منها أسير، وكان هذا إعلان ارتباط بين الرسول وبين قبيلة قوية عن طريق النسب، وبهذا تتناقص الأرض من حول المشركين. فإذا أضفت إلى ذلك أن السيدة ميمونة بنت الحارث هي خالة خالد بن الوليد ، وكان خالد بن الوليد ساعتها لا يزال مشركًا، وهي أخت أم الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب، وكانت من أعظم العرب نسبًا، وكانوا يقولون: إنها من أعظم الناس أصهارًا، وعَلاقاتها الإنسانية في مكة كبيرة ومتشابكة. فهذا زواج سياسي اجتماعي دعويّ حكيم من رسول الله ، وفي توقيت في قمة الحكمة، وكان هذا الزواج له أبلغ الأثر في مشركي مكة.



وبذلك نرى حرص الرسول على أن يُظهِر قوة المسلمين، وبأس المسلمين أمام مشركي قريش.



فتلك عشرة كاملة، وبهذه الأمور ارتفعت أسهم المسلمين إلى السماء، وظهرت عزة المسلمين، فكانت هذه العمرة من أَجَلِّ وأعظم الأعمال في هذه السنوات السبع الأخيرة، وعُرِفت هذه العمرة بأسماء كثيرة منها عمرة القضاء، وعمرة القضية، وعمرة القصاص، وعمرة الصلح، وهذه كلها أسماء لنفس العمرة في العام السابع من الهجرة.


الرسول يواصل سياسة الضغط على غطفان

وبعد هذه العمرة المباركة تابع الرسول سراياه في مناطق غطفان من جديد، وأرسل إليهم سريتين: واحدة في ذي الحجة 7هـ، وواحدة في صفر 8هـ، وواصل سياسة الضغط على غطفان حتى تلين قناتهم، وحتى يعرفوا جدية المسلمين وبأسهم.



د. راغب السرجاني

[1] ابن كثير: البداية والنهاية، تحقيق علي شيري، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى 1408هـ- 1988م، 2/12.

[2] رواه النسائي (2873) ترقيم عبد الفتاح أبي غدة، والترمذي (2847) ترقيم أحمد شاكر، وصححه الألباني.

[3] ابن كثير: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة، بيروت، 1396هـ- 1971م، 3/430.

[4] رواه مسلم (1266)، وأبو داود (1886)، وأحمد (2686).
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 3 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 3 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:58 pm

إسلام ثلاثة من عمالقة الصحابة

حدث عظيم !

إسلام ثلاثة من عمالقة الصحابةكان هناك حدث عظيم في شهر صفر سنة 8هـ، وهو من أعظم ثمار الحديبية، ومن أعظم ثمار عمرة القضاء، وهذا الحدث هو لحظة فارقة حقيقة ليس في تاريخ مكة المكرمة، وليس في تاريخ الجزيرة العربية، وليس في تاريخ العالم نفسه في ذلك الوقت، ولكن في تاريخ الإنسانية كلها، وإلى يوم القيامة عندما نتدبر هذا الحدث وآثاره؛ وهذا الحدث العظيم هو إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة رضوان الله عليهم أجمعين، فهم ثلاثة من عمالقة مكة، بل من عمالقة الأرض قاطبةً، وهؤلاء الثلاثة لم يسلموا فقط في شهر صفر سنة 8هـ، ولكن أسلموا في يوم واحد، إنه نصر كبير للإسلام والمسلمين، وقد عبر عنه الرسول بقوله: "رَمَتْكُمْ مَكَّةُ بِأَفْلاَذِ كَبِدِهَا"[1].



وهؤلاء الثلاثة أفلاذ كبد مكة، إن إسلامهم كان نقطة محورية في السيرة النبوية، ونقطة محورية في تاريخ الأرض كلها. وانظرْ إلى الآثار التي حدثت في الأرض على يدي خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص رضي الله عنهما.. إنه شيء مهول؛ فقد فتحت العراق، وفتحت فارس، وفتحت بلاد ما وراء النهر، وفتحت أرمينية، وفتحت بلاد كثيرة جدًّا في آسيا، وفتحت الشام، كل ذلك على يد البطل خالد بن الوليد ، وكذلك فتحت فلسطين، وفتحت مصر على يد عمرو بن العاص .



ولنتخيل كم من المسلمين في هذه البلاد، وكم من الأعمال الصالحة، وكم من الجهاد في سبيل الله، وكم من الدعوة إلى الله ، وكم من العلم، وكم من الإضافات للإنسانية، كل هؤلاء دخلوا بجهاد هذين البطلين العظيمين خالد بن الوليد وعمرو بن العاص رضي الله عنهما، فهو إنجاز هائل للمسلمين في العام الثامن من الهجرة. وكان إسلام هذين البطلين من أقوى الإضافات في تاريخ الإسلام، وقد أعطاهم الرسول أهمية خاصة في أحاديثه، وفي معاملاته لدرجة أنه أعطى خالد بن الوليد لقبًا ما أعطاه لأحد قبله ولا بعده، فقد سماه الرسول سيف الله المسلول ، وقال عن عمرو بن العاص كلمات ما قالها لأحد غيره، قال عنه: "أَسْلَمَ النَّاسُ، وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ"[2].



إنها كلمة كبيرة في حق هذا البطل. وقال أيضًا في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه الألباني: "عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مِنْ صَالِحِي قُرَيْشٍ"[3].



وهذا الكلام يحمل أبلغ الرد على كل من يطعن في هذا الصحابي الجليل، الذي فتح بلادًا شتى، ولا أقول دخل مئات الآلاف في الإسلام على يديه، ولكن دخل الملايين من البشر، ليس في زمنه فقط ولكن إلى الآن، وكل المسلمين في كل بقعة في فلسطين وفي العراق وفي مصر وفي الشام، وفي غير ذلك من بلاد العالم يدينون بالفضل لهذين البطلين، فهو أمر خارج عن التخيل، وهو لحظة فارقة من أعظم لحظات التاريخ الإسلامي.


أسباب إسلام البطلين خالد وعمرو

أسلم البطلان خالد بن الوليد وعمرو بن العاص بعد سنوات طويلة من الصدِّ عن دين الله ، وإسلام هذين الرجلين يحتاج منا إلى وقفة وتحليل، فما الذي دفع هؤلاء إلى الإسلام؟ إنه الانبهار بقوة الإسلام، والانبهار بعظمة الرسول كقائد، فهؤلاء جميعًا من القادة العسكريين، ومن الفرسان المشهورين في بلاد العرب، ولكنهم وجدوا أنفسهم أمام قائد بارع وعظيم من القوَّاد لم يروا مثله قبل ذلك، وفي موقعة أُحد فشل خالد بن الوليد تمامًا في قهر الخطة التي وضعها الرسول ، وفي إحباط هذه الخطة إلا بعد أن خالف الرماة أمر الرسول ، ولكن الخطة كانت في تمام الإحكام، وكان خالد يرى ذلك ويعلم أنه لن يهزم الرسول ، ولولا مخالفة الرماة ما استطاع خالد أن يغزو المسلمين من خلفهم، ولهرب مع من يهرب.



وعادت قريش في الأحزاب، ولم تدخل المدينة المنورة، وعاد خالد من الحديبية ولم يتمكن من قتال المسلمين، يواجه خالد الفشل أمام الرسول ، وهو منبهر تمام الانبهار بقوة وبأس وتخطيط الرسول ، وفوق ذلك هو منبهر بأخلاق الرسول كداعية وإنسان يعيش في وسط الناس بمبادئ وقيم معينة ما يخالفها، والعسكريون عادةً يدوسون على كل القيم والأخلاق، ويحققون الأهداف بصرف النظر عن الوسائل، ولكن خالد بن الوليد شَاهَدَ في الرسول رجلاً عسكريًّا حكيمًا، وقائدًا قويًّا، ومع ذلك يتحلى بكامل الأخلاق الحميدة، وبلغ فيها الذروة، والرسول طوال حياته الصادق الأمين، وما استطاع أبو سفيان -مع شدة عداوته له- أن يقول في حقه كلمة سلبية واحدة أمام هرقل زعيم الروم، هذا قائد أخلاقي من الدرجة الأولى؛ فخالد بن الوليد منبهر تمام الانبهار، وكذلك عمرو بن العاص مذهول بشخصية الرسول ، وهذا الذي دفعهم بعد ذلك للإسلام، ولكن القوة الإسلامية التي ظهرت في صلح الحديبية، والتي ظهرت في عمرة القضاء، كان لها أبلغ الأثر في إسراع خطوات إسلام القائدين العظيمين خالد وعمرو رضي الله عنهما.


قصة إسلام خالد بن الوليد

خالد بن الوليدوقف خالد بن الوليد في جمعٍ للمشركين بعد خروج الرسول من مكة في عمرة القضاء في أواخر العام السابع من الهجرة، وقال للجميع كلامًا عجيبًا، قال لهم: لقد استبان لكل ذي عقل أن محمدًا ليس بساحر ولا شاعر، وأن كلامه من كلام رب العالمين[4].



في هذا الموقف انبهر خالد بقوة وعزة الإسلام، فقام في هذا المقام وقال هذه الكلمات، وهو من أعظم زعماء مكة مطلقًا، ودائمًا كان خالد قائد الفرسان في كل معارك قريش، ولعل هذا هو الذي أخَّر إسلامه إلى هذا الوقت، فقد أسلم خالد وكان عمره سبعة وأربعين عامًا، وفي كل هذه الفترة كان زعيمًا وقائدًا في قريش. ولا شك أنه كان يخشى على مكانته إذا انضم إلى الإسلام، ولا شك أنه كان له مكانة مرموقة في الجيش المكي، وله مكانة مرموقة في العرب، وخاف على هذه المكانة أن تضيع، إضافةً إلى أن أباه كان الوليد بن المغيرة، وهو من أشد أعداء الدعوة الإسلامية، ولكن خالد بن الوليد تغير وانبهر بقوة الإسلام، وانبهر بالرسول ، فقال خالد هذه الكلمات التي تعبر عن رغبته في دخول الإسلام: فحقٌّ لكل ذي لبٍّ أن يتبعه[5].



إنها كلمة خطيرة على قريش، وسمع أبو سفيان كلام خالد بن الوليد فناداه بسرعة، حتى يتأكد من قول خالد لهذا الكلام، فأكد له خالد صحة ما قال، وكرر نفس الكلمات أمام أبي سفيان، واندفع أبو سفيان إلى خالد بن الوليد، وكاد يضربه، وحجز بينهما عكرمة بن أبي جهل، وكان عكرمة ساعتها لا يزال مشركًا، وعكرمة من أكثر الرجال قربًا إلى قلب خالد بن الوليد، وبينهما صداقة قديمة، فحجز عكرمة بين أبي سفيان وخالد، وقال كلمات عجيبة هو الآخر لأبي سفيان:



"مهلاً يا أبا سفيان، فوالله خفتُ للذي خفتَ أن أقول مثل ما قال خالد وأكون على دينه". أي أنني خفتُ أن أكون على دين محمد بعد هذا الذي رأيت في عمرة القضاء، ثم قال له: "أنتم تقتلون خالدًا على رأي رآه؟! وهذه قريش كلها تبايعت عليه، والله لقد خفت ألاّ يحول الحول حتى يتبعه أهل مكة كلهم"[6].



فالجميع منبهر بالرسول وبجيش المؤمنين، يقول تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14].



إن الجميع يعلم أن الإسلام هو الدين الحق، وأن الرسول حق، ولكن بعضهم كسر كبرياءه ودخل في دين الرسول ، وبعضهم ظل في كبريائه ومات على كفره. والحمد لله أن كل من اشترك في هذا الحوار قد أسلموا بعد ذلك، ولكن تأخر إسلام بعضهم عن بعض. فهذا كان موقف خالد بن الوليد ، ولا ننسى أن خالد بن الوليد قال في الحديبية كلمة عظيمة في حق المسلمين: "إن القوم ممنوعون".



عندما نزلت صلاة الخوف كما فسرنا قبل ذلك "إن القوم ممنوعون" أي أن الله يحيطهم برعايته وعنايته، وكان لهذا الموقف أثر كبير في قلب خالد بن الوليد، وشيء آخر كان له تأثير في خالد ونقف معه وقفة مهمة، وهو أن خالد بن الوليد عندما رأى جيش المسلمين وهو يدخل مكة المكرمة للعمرة في العام السابع لم يستطع أن يتحمل هذا المنظر في بدايته وخرج من مكة وتركها.


رسالة الوليد بن الوليد لأخيه خالد

دخل الوليد بن الوليد بن المغيرة -وهو من الصحابة الكرام- مع النبي إلى مكة للعمرة، فلما دخل بحث عن أخيه خالد بن الوليد حتى يدعوه للإسلام فلم يجده، فكتب له كتابًا، وقال له فيه:



"بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فإني لم أرَ أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام، وعقلك عقلك! ومثل الإسلام يجهله أحد؟! وقد سألني رسول الله عنك وقال: (أَيْنَ خَالِدٌ؟) فقلت: يأتي الله به. فقال: "مِثْلُهُ جَهِلَ الإِسْلاَمَ؟! وَلَوْ كَانَ جَعَلَ نِكَايَتَهُ وَجَدَّهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَقَدَّمْنَاهُ عَلَى غَيْرِهِ"، فاستدرك يا أخي ما قد فاتك من مواطن صالحة"[7].



قال خالد: فلما جاءني كتابه نشطت للخروج، وزادني رغبة في الإسلام، وسرني سؤال رسول الله عني، وأرى في النوم كأني في بلاد ضيقة مجدبة، فخرجت في بلاد خضراء واسعة، فقلت: إن هذه لرؤيا. فلما أن قدمت المدينة قلت: لأذكرنَّها لأبي بكر. فقال: هو مخرجك الذي هداك الله للإسلام، والضيق الذي كنت فيه من الشرك.



ولننظر إلى الحكمة النبوية، فالرسول يقول لخالد بن الوليد: لو أضفت قوتك لقوة المسلمين، فلن تكون تابعًا، ولكن سوف نقدِّمك على غيرك، فأنت قائد عظيم، وأنت فارس عظيم، وأنت مجاهد كبير، فأضف هذه القوة إلى قوة الإسلام، وبذلك يكون لك فضل السبق على المسلمين، وإن سبقوك قبل ذلك في دخول الإسلام. هذه الكلمات وصلت إلى قلب خالد بن الوليد ، وهو تأليف عظيم من الرسول لقلب خالد بن الوليد، فلن تضيع منك القيادة والسيادة، ولن يضيع منك أي شيء، وهذه هي الحكمة الحقيقية، ثم يقول الوليد بن الوليد : "فاستدرك يا أخي ما قد فاتك".



لقد فاتتك مواطن صالحة وغزوات كنا نحتاجك فيها، وهذا تحفيز لخالد بن الوليد ألاّ يضيِّع وقتًا آخر. وقد وقعت هذه الكلمات في قلب خالد بن الوليد، قال: "فلما جاءني كتابه نشطت للخروج، وزادني رغبة في الإسلام، وسرتني مقالة رسول الله ". ثم قال خالد : "وأرى في النوم كأني في بلاد ضيقة فخرجت إلى بلد أخضر واسع، فقلت: إن هذه لرؤيا"[8].



وفهم تفسير الرؤيا أنها الخروج من الشرك إلى الإيمان.


خالد بن الوليد يهاجر إلى المدينة

أجمع خالد بن الوليد للخروج إلى الرسول مهاجرًا من مكة إلى المدينة المنورة، يقول: قلت: "من أصاحب إلى الرسول ؟" فهو لا يريد أن يذهب وحده، يقول خالد :



"فلقيت صفوان بن أمية فقلت: يا أبا وهب، أمَا ترى ما نحن فيه، إنما نحن أكلة رأس[9] والأرض تتناقص من حول قريش، وقد ظهر محمد على العرب والعجم، فلو قدمنا على محمد فاتبعناه".



فأَبَى صفوان أشد الإباء، وقال: "لو لم يبقَ غيري من قريش لما اتبعته".



لأن صفوان بن أمية موتور؛ فقد قُتل أبوه أمية بن خلف في بدر، ونفس الموقف لخالد بن الوليد فقد قتل أبوه الوليد بن المغيرة في بدر، ولكن الله يهدي من يشاء، وقد أسلم صفوان بن أمية بعد فتح مكة. فقابل خالد بن الوليد عكرمة بن أبي جهل، فعرض عليه نفس الكلام، فقال له مثل ما قال صفوان، ورفض تمام الرفض، فقال خالد نفس الكلام: هذا رجل موتور، قُتل أبوه أبو جهل. ولكن خالد لم ييْئَس، وذهب إلى عثمان بن طلحة ، وكان في هذا الوقت مشركًا، فقال له نحوًا مما قال لصاحبيه، فأسرع عثمان بالإجابة.



أي قَبِل فكرة الإسلام، واتفق الاثنان على الخروج للمدينة المنورة وتواعدا، وبالفعل خرجا إلى المدينة المنورة لإعلان إسلامهما بين يدي الرسول .


قصة إسلام عمرو بن العاص

ظل عمرو بن العاص فترة طويلة من حياته رافضًا لفكرة الإسلام، وعندما أسلم عمرو بن العاص كان عمره سبعة وخمسين عامًا، وتخيل فترة طويلة من حياته وهو يحارب الإسلام والمسلمين، فقد ظل أكثر من عشرين سنة وهو رافض لفكرة الإسلام، لكن ما الذي غيَّر فكر عمرو بن العاص؟ كان عند عمرو بن العاص موانع كثيرة، فقد كان له مكانة كبيرة في قريش مثل خالد بن الوليد، وكان أبوه العاص بن وائل من أشد أعداء الدعوة الإسلامية، فهو من بيت يكره الإسلام والمسلمين، فهذا ما جعله يتأخر هذه الفترة الطويلة من الزمن، ولكن بداية تغيير فكر عمرو بن العاص كان مع انصراف الأحزاب، يقول عمرو بن العاص: "ولما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق، جمعت رجالاً من قريش كانوا يرون رأيي، فقلت لهم: والله إني أرى أمر محمدٍ يعلو الأمور علوًّا منكرًا".



وبدأ عمرو بن العاص -وهو من أحكم العرب وأدهى العرب- يرقب بعينه ما قال الرسول : "الآنَ نَغْزُوهُمْ وَلاَ يَغْزُونَا"[10].



فإن الأيام القادمة للمسلمين، وسوف يعلو نجم الإسلام في الجزيرة العربية كلها.


عمرو بن العاص يسلم على يد النجاشي

رأى عمرو أن يلحق بالنجاشي ويترك مكة المكرمة بكل ما فيها ويذهب إلى الحبشة، وكان النجاشي صديقًا حميمًا لعمرو بن العاص ، فيقول: "رأيت أن نلحق بالنجاشي، فنكون عنده، فإن ظهر محمدٌ على قومنا كنا عند النجاشي، فإنَّا أن نكون تحت يديه أحب إلينا أن نكون تحت يدي محمد". ولننظر إلى مدى الكراهية للرسول .



"وإن ظهر قومنا فنحن مَن قد عرفوا، فلن يأتينا منهم إلا خيرٌ". أي لو انتصرت قريش على المسلمين سيعود بعد ذلك عمرو بن العاص وله من المكانة المحفوظة ما له في قريش. فهذا موقف سلبي من عمرو بن العاص في ذلك الوقت، وسبحان الذي أعزه بعد ذلك بالإسلام! ووافقه أصحابه على هذا الرأي، وقال لهم: "فاجمعوا لنا ما نهديه له، وكان أحب ما يُهدى إليه من أرضنا الأَدَمُ".



ولذلك جمعوا له كمية كبيرة من الجلود، وسافروا إلى النجاشي، ثم يقول عمرو بن العاص: فوالله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية، وقد أرسله الرسول للنجاشي ليأتي بجعفر بن أبي طالب وأصحابه بعد صلح الحديبية، فساعتها عندما رأى عمرو بن العاص عمرو بن أمية عند النجاشي، فكر أن يطلب قتل عمرو بن أمية، فإن قتله أصبحت له يد كبيرة على قريش، فدخل على النجاشي، فقال له:



أيها الملك، إني قد رأيت رجلاً خرج من عندك، وهو رسول رجل عدو لنا، فأعطنيه لأقتله؛ فإنه قد أصاب من أشرافنا. فغضب النجاشي غضبًا شديدًا؛ يقول عمرو بن العاص:



فلو انشقت لي الأرض لدخلت فيها فَرَقًا منه. فقال له:



أيها الملك، والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتك.



فقال النجاشي -وكان قد أسلم وأخفى إسلامه، ولكنه وجد فرصة أن يدعو عمرو بن العاص للدخول في الإسلام؛ لأن النجاشي لم يعلن إسلامه في الحبشة حتى لا يقتلعه قومه من كرسيِّه، ولكن عمرو بن العاص صاحبه وصديقه وبينهما عَلاقة قديمة، فأراد أن يصل إليه بالخير الذي وصل إليه قبل ذلك- فقال له:



أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله.



فقال عمرو بن العاص: أيها الملك، أكذلك هو؟ أي هو رسول من رب العالمين.



فقال: ويحك يا عمرو! أطعني واتبعه؛ فإنه والله لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده.



فقذف الله الإسلام في قلب عمرو، ولكن ذلك كان نتيجة تراكمات كثيرة، وهو منبهر بالرسول ، ومنبهر بحياة الرسول ، وفجأة اكتشف الحقَّ أمام عينيه.



فقال للنجاشي: أتبايعني له على الإسلام؟



قال النجاشي: نعم.



يقول عمرو: فبسط يده، فبايعته على الإسلام[11].



فأسلم عمرو بن العاص على يد النجاشي رحمه الله. فالمكان الذي هرب فيه من الإسلام هو المكان الذي أسلم فيه، أسلم على يد النجاشي، وصدق الله تعالى إذ يقول في كتابه الكريم: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56].


عمرو بن العاص يتجه إلى الجزيرة العربية

أسلم عمرو بن العاص أمام النجاشي، وكتم إسلامه عن أصحابه وتركهم، وعاد إلى الجزيرة العربية، وهو ينوي الذهاب إلى رسول الله لإعلان الإسلام بين يديه، فوصل إلى مكة المكرمة، ومكث فيها قليلاً، ثم خرج بعد ذلك في اتجاه المدينة المنورة، وهو خارج قابل خالد بن الوليد وعثمان بن طلحة، فسأل خالد بن الوليد: أين يا أبا سليمان؟



فقال خالد بن الوليد -في منتهى الصراحة والوضوح-: والله لقد استقام المنسم (أي وضح الطريق)، وإن الرجل (أي الرسول ) لنبيٌّ، أذهبُ والله فأُسلم.



فقال عمرو بن العاص: والله ما جئتُ إلا لأسلم.


فرسان مكة الثلاثة أمام الرسول

وتحرك خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة من مكة إلى المدينة المنورة، حتى وصلوا إلى منطقة الحَرَّة، وهناك عند منطقة الحرة أناخوا ركابهم، وبدءوا يستعدون للقدوم على الرسول . يقول خالد: فلبستُ من صالح ثيابي، ثم عمدت إلى رسول الله . وهو ذاهب للرسول لقيه أخوه الوليد بن الوليد ، فقال: أسرع؛ فإن رسول الله قد أُخبر بك، فسُرَّ بقدومك وهو ينتظركم.



يقول خالد: فأسرعت المشي، فطلعت عليه، فما زال يتبسَّم إليَّ حتى وقفت عليه، فسلمت عليه بالنبوة، فرد عليَّ السلام بوجه طلق، فقلت: إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله.



فقال: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ، فَقَدْ كُنْتَ أَرَى لَكَ عَقْلاً رَجَوْتُ أَلاَّ يُسْلِمَكَ إِلاَّ لِلْخَيْرِ".



قلت: يا رسول الله، قد رأيت ما كنت أشهد من تلك المواطن عليك معاندًا للحق، فادعُ الله أن يغفرها لي.



فقال رسول الله : "الإِسْلاَمُ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ".



قلت: يا رسول الله، على ذلك.



فقال: "اللُّهُمَّ اغْفِرْ لِخَالِدٍ كُلَّ مَا أَوْضَعَ فِيهِ مِنْ صَدٍّ عَنْ سَبِيلِكَ"[12].



ثم تقدم عمرو بن العاص ، فقال لرسول الله : أبسط يمينك فأبايعك.



فبسط يمينه ، فقبض عمرو يده، فقال الرسول : "مَا لَكَ يَا عَمْرُو، لِمَاذَا تَقْبِضُ يَدَكَ؟"



قال عمرو: أردتُ أن أشترط.



فقال الرسول: "تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟"



قلت: أن يُغفر لي.



فقال الرسول : "أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟"[13].



وأسلم عمرو بن العاص ، ثم تقدم عثمان بن طلحة وأسلم هو الآخر، وكان إسلام عثمان بن طلحة إضافةً سياسية في منتهى القوة للدولة الإسلامية.



وهؤلاء عمالقة مكة: خالد بن الوليد بن المغيرة، وعمرو بن العاص بن وائل، وعثمان بن طلحة العبدري ، ثلاثة من أثقل الفرسان في تاريخ مكة جميعًا.



كان هذا هو الحادث الهائل الذي حدث في صفر سنة 8هـ، وهو من أعظم آثار الحديبية وعمرة القضاء مطلقًا، وآثار هذا الحدث ما زلنا نجنيها حتى وقتنا هذا، وسنظل نجني من هذه الآثار إلى يوم القيامة.



إنه حدث هائل، ولن ندرك عظمته إلا بدراسة الفتوحات الإسلامية، ورؤية الآثار التي تركها هؤلاء العمالقة للإسلام والمسلمين.



د. راغب السرجاني

[1] أبو الربيع الأندلسي: الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء، تحقيق د. محمد كمال الدين، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى 1417هـ، 2/127.

[2] رواه الترمذي (3844)، وأحمد (17449)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (973).

[3] رواه الترمذي (3845)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (4095).

[4] الصلابي: السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1422هـ- 2001م، 2/421.

[5] السابق نفسه، الصفحة نفسها.

[6] الصلابي: السيرة النبوية 2/421.

[7] ابن كثير: السيرة النبوية 3/451.

[8] المصدر السابق 3/451.

[9] يعني مجموعة قليلة يكفيها رأس من الإبل للأكل، يعني مجموعة قليلة من الناس.

[10] رواه البخاري (3884)، وأحمد (18334).

[11] الصلابي: السيرة النبوية 2/422.

[12] ابن كثير: السيرة النبوية 3/ 453.

[13] مسلم: كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج (121)، ترقيم فؤاد عبد الباقي.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 3 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 3 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:59 pm

ما سبق معركة مؤتة

الجيش الإسلامي يصل (معان)

معركة مؤتةما إن وصل الجيش الإسلامي إلى منطقة (مَعَان) بالأردن في جمادى الأولى لسنة ثمانٍ من الهجرة في رحلة طويلة وشاقة، حتى وجد في انتظاره مفاجأة غير متوقعة بالمرة، فقد وجد أن الدولة الرومانية قد ألقت بثقلها في هذا الصراع، وأعدت جيشًا هائلاً يبلغ قوامه نحو مائة ألف مقاتل، ليس هذا فحسب، بل إن العرب النصارى الموالين للرومان كانوا أيضًا قد أعدوا نحو مائة ألف أخرى، ليصل مجموع جيوش العدو إلى مائتي ألف مقاتل، وهو رقم مهول ولا يمكن تخيله، وخاصةً إذا علمنا أن الجيش الإسلامي قوامه ثلاثة آلاف مقاتل فقط.



وإن تجمع الرومان بهذه الأعداد كان أمرًا عجيبًا حقًّا، وليس العجب في كثرة عددهم، إنما العجب في كيف يُجمع هذا العدد المهول لحرب ثلاثة آلاف مقاتل فقط؟!



ويمكن تفسير هذا بأكثر من وجه؛ فمن الممكن أنهم لم يدركوا عدد المسلمين فأعدُّوا عددًا كبيرًا لجميع الاحتمالات، أو أنهم أدركوا بالفعل عدد المسلمين، وأرادوا من وراء ذلك استئصالهم تمامًا حتى لا تقوم لهم قائمة بعدُ، أو أن هرقل لكونه يدرك أنه يحارب نبيًّا أو أتباع نبي أراد أن يُعِدَّ قوة خارقة لعله يهزم هذا الجيش المؤمن، أو لعل السبب كان كل الأوجه السابقة مجتمعة، غير أن ذلك قد وقع بالفعل.



وإذا كان هذا التجمع غريبًا من الرومان فهو أيضًا غريب من العرب؛ حيث لم يكن من عادتهم التجمع أو الاتحاد، ولم تجمعهم قضية واحدة مطلقًا، بل كان يحارب بعضهم بعضًا، ورغم ذلك فقد استطاعوا أن يجمعوا مائة ألف في منطقة واحدة، وليس لهذا إلا تفسير واحد وهو إشارة هرقل لهم بالنهوض معه؛ إذ الكثير من القبائل والدول العربية لا تتحرك عند داعي القتال إلا إذا أخذت إذنًا سابقًا من القائد الأعظم للدولة الأولى في العالم، عندها يهُبُّ الجميع لتنفيذ الأمر {كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج: 43].



ومهما يكن من أمر فقد تجمع في أرض مَعَان مائتا ألف مقاتل، غالبهم من النصارى سواءٌ من الرومان أو من العرب، وقد باتوا ينتظرون قدوم الجيش الإسلامي القادم من المدينة المنورة، حيث كان هذا العدد وذاك التجمع بالنسبة له مفاجأة بكل المقاييس.


رد فعل الجيش الإسلامي

ما كان من المسلمين إزاء هذا الوضع الخطير إلا أن عقدوا مجلسًا استشاريًّا كعادتهم، وبدءوا في عرض مقترحاتهم لمواجهة تلك المعضلة، وقد تمخض عن هذا الاجتماع وذاك التبادل للرأي ظهور ثلاثة آراء مختلفة:



الرأي الأول: كان يرى أن يرسل المسلمون رسالة إلى الرسول بالمدينة يخبرونه فيها بالخبر، فإما أن يمدهم بمدد، وإما أن يأمرهم بالقتال أو الانسحاب.



وهذا الرأي -لا شك- لم يكن واقعيًّا؛ فالمسافة بين مَعَان والمدينة تستغرق ذهابًا فقط أسبوعين على الأقل، ومعنى هذا أن الجيش الإسلامي سيظل شهرًا كاملاً قبل اتخاذ أي قرار، وهو الأمر الذي إن قَبِله جيش المسلمين فلن تقبله قوات التحالف الرومانية العربية.



الرأي الثاني: وكان يرى أن ينسحب زيد بن حارثة (قائد الجيش) بالجيش، ولا يدخل في أي قتال، وقد قال أصحاب ذلك الرأي لزيد بن حارثة: "قد وطئت البلاد، وأخفت أهلها، فانصرف؛ فإنه لا يعدل العافية شيء"[1]. إذ رأى أصحاب هذا الفريق أن هذه الحرب مهلكة، ومن ثَمَّ فلا داعي إلى الدخول فيها.



الرأي الثالث: وكان يرى المواجهة والدخول في حرب فاصلة ودون تردد، وكان صاحب هذا الرأي هو عبد الله بن رواحة ، حيث قام وقال في غاية الجدية والوضوح: "يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون: الشهادةَ، وما نقاتل الناس بعدد ولا بقوة ولا كثرة، وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين؛ إما ظهورٌ وإما شهادة"[2].



فقد لخص عبد الله بن رواحة في كلمته القصيرة تلك أساسيات الجهاد في سبيل الله، فليس الجيش المؤمن إلا طالب شهادة وحريص عليها، وأن النصر لا يتأتى بعددٍ ولا عُدَّة، إنما هو من عند الله . وإن هذا ليس معناه أن يترك المسلمون الإعداد، ولكن يجب أن يستنفذوا ما في وسعهم، وما في طاقاتهم، ثم بعد ذلك سينصرهم الله ، وهو ما قام به المسلمون بالفعل في إعداد جيش قوامه ثلاثة آلاف مقاتل.



ومن كلام عبد الله بن رواحة أيضًا نعلم أن العُدَّة الرئيسية للمسلمين في القتال هي دين الإسلام، فقد قال: "وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به".



ومن كلامه أيضًا نعلم أن نهاية المعركة عند المسلمين أحد شيئين، إما نصر وإما شهادة، أما الرضا بالهزيمة فليس اقتراحًا مطروحًا عند المسلمين.



وحين قال عبد الله بن رواحة هذه الكلمات، وسبحان الله! كأنها حسمت الموقف تمامًا، واستقر الرأي على قرار القتال، ولنا مع هذا القرار وقفة.


وقفة مع قرار الحرب

لا شك أن إقدام الصحابة على هذا الأمر بهذه الصورة الجماعية، لهو خير دليل على أنهم طلاَّب آخرة وليسوا طلاب دنيا، وأن الصدق والإخلاص والتجرد يملأ قلوبهم جميعًا، وأن شجاعتهم كانت بالغة، وأن قوتهم النفسية والقتالية كانت فوق حدود التصور.



لا شك في كل ذلك، لكننا نريد أن نتفهم قرار الحرب هذا في ضوء القياسات المادية التي رآها الصحابة ، وهو سؤال مهم جدًّا: هل كان قرار الحرب هذا قرارًا صائبًا؟ أو هل كان من المفترض أن يقاتل المسلمون أم لا؟



والإجابة قبل أن يذهب الذهن هنا أو هناك هي: نَعَمْ كان صائبًا، ولا شك في ذلك؛ والدليل هو أن الرسول لم يعلق أي تعليق سلبي على هذا الأمر، ولم يعنِّف الصحابة عليه لا من قريب ولا من بعيد، ولم يذكر أنه كان أولى ألاّ يقاتلوا، والرسول لا يسكت على منكر؛ إذ سكوته إقرار، وإقراره سُنَّة.



ومعنى هذا أنه لو تعرض المسلمون لنفس هذا الحدث بكل تفصيلاته، فإن قرار الحرب آنذاك يكون قرارًا صائبًا، لكن كيف يمكن الجمع بين هذا القرار وعدم جواز إلقاء الجيش الإسلامي في التهلكة؟



فهذا القرار الذي أشار به عبد الله بن رواحة لم يلقَ أي معارضة من الجيش، رغم وجود طاقات عسكرية هائلة فيه، وعلى رأسهم البطل الإسلامي الفذّ خالد بن الوليد ، وقد كان -كما علمناه- عبقريًّا وواقعيًّا، ولم يكن يرى بأسًا أو حرجًا في الانسحاب إذا رأى أن الحرب مهلكة.



ويجب أن نضع في الحسبان أن هذا الجيش الإسلامي الكبير ليس ملكًا لأفراد بعينهم يضحون به إن شاءوا ذلك، وإنما هو مِلْك للدولة الإسلامية. وإذا كان حب الشهادة أمرًا عظيمًا إلا أنه إذا غلب على ظنِّ القادة أن الجيش سيهلك بكامله، فيصبح الإقدام هنا مفسدة؛ إذ كيف يضحي القادة بثلاثة آلاف مقاتل هم كل عماد الدولة الإسلامية في ذلك الوقت؟



ومن هنا فلا بد أن المسلمين كانوا يرون أن القتال أمر ممكن، وأن النصر أمر محتمل، وأنه وسيلة واقعية لمجابهة الظرف الصعب الذي وضعوا فيه.



لكن كيف يُعَدّ لقاء ثلاثة آلاف بمائتي ألف أمرًا واقعيًّا؟!



إن تفسير هذا عندي له ثلاثة احتمالات:



الاحتمال الأول: أن المسلمين كانوا قد أخفقوا في الحصر الدقيق لأعداد المقاتلين الرومان والعرب، فقدروهم مثلاً بخمسة أضعاف، أو عشرة أضعاف، أو أكثر من ذلك أو أقل.



وقد وجدوا أن القتال مع صعوبته أمرٌ ممكن؛ إذ كل معارك المسلمين السابقة كانت بأعداد أقل بكثير من أعداد المشركين، والله يقول في كتابه الكريم: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].

وقد ذكر أيضًا I في سورة الأنفال أن الجيش المؤمن قادر على مواجهة عشرة أضعافه إن كان قويَّ الإيمان، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65].



نَعَمْ نزل التخفيف بعد ذلك، وجعل المسلم باثنين من الكفار، لكن من الممكن أن يصل المسلم الواحد إلى عشرة من الكفار، بل قد يزيد على ذلك ويصبح الرجل بألفٍ منهم، كما قال الصِّدِّيق في حق القعقاع بن عمرو التميمي وفي حق عياض بن غَنْمٍ، وكما قال عمر بن الخطاب في حق عبيدة بن الصامت وفي حق الزبير بن العوام، ومَسْلَمة بن مُخَلَّد، والمقداد بن عمرو، فقد قالا عنهم: إن الواحد منهم بألف.



وقد كان واضحًا منذ أول لحظة أن هذا الجيش الإسلامي في مؤتة من المؤمنين الصادقين، الواحد منهم يعدل عشرات بل مئات من الكافرين. ومن هنا كان قرار الحرب مقبولاً عند المسلمين، وخاصة -كما ذكرنا- أنه من المحتمل أنهم قدَّرُوا أعداد النصارى بنحو عشرين أو ثلاثين ألفًا فقط، وهذا أمر محتمل؛ لأن تقدير هذه الأرقام الهائلة قد يكون مستحيلاً في هذه الظروف، إضافةً إلى أنهم في أرض مجهولة للمسلمين لا يعرفون خباياها، ولا كمائنها، ولا طرقها، ولا غير ذلك.



الاحتمال الثاني: هو أن يكون هناك مبالغة في أعداد الرومان والعرب، وأنهم بالفعل أقل من الأرقام الضخمة التي ذكرت في المصادر التاريخية، لكن -لا شك- في أنهم كانوا أضعاف أضعاف المسلمين.



الاحتمال الثالث: وهو أن قادة المسلمين رأوا أن الانسحاب لن ينجيهم من جيوش التحالف الرومانية العربية، وأنهم إن بدءوا في الفرار فإنهم سيحاصرون من كل الجهات، وفي هذه الحالة ستكون المعركة عبارة عن مجزرة حقيقية يُذبح فيها الجيش الإسلامي بكامله، ومن ثَمَّ كان الأفضل هو الثبات والمقاومة؛ لأن ذلك سيعطي دفعة نفسية إيجابية، كَوْن الجيش المسلم يهاجم ويضع الخطط لهزيمة الأعداء بدلاً من أن يفكر في الهرب والدفاع فقط، وعكس ذلك سيكون بالنسبة لقوات التحالف الرومانية والعربية، حيث إنها قد تهتز من رؤية أناس يطلبون الموت، الأمر الذي يكون فيه نجاة للطرف المسلم.



ويؤيد هذا أن فكرة الانسحاب ليس فيها شيء من ناحية الشرع، وقد ذكرها الله في كتابه الكريم فقال: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ} [الأنفال: 16].



ففي هذه الآية حدد الله سببيْنِ للانسحاب لا يأثم المسلم فيهما؛ الأول: هو أن ينسحب كخُطَّة حربية ليعاود الحرب من جديد.



والثاني: أن تعود فرقة من الجيش إلى الفرقة الأم لكي تستعد بصورة أكبر للقتال، ثم تعاود القتال من جديد. وكانت فئة المسلمين في هذه المعركة أو الجيش الأم لهذا الجيش في المدينة المنورة.



ومن هنا فإن انسحاب الجيش الإسلامي سواء إلى مكان آخر في الأردن أو في الجزيرة العربية، أو حتى عودته إلى المدينة المنورة، ليس فيه خطأ شرعي؛ ولذلك كان أخْذ الصحابة بهذا الرأي أمرًا ممكنًا إن وجدوا أنه يفيد المسلمين، وعلى العكس منه فليس من المقبول شرعًا أن يدخل المسلمون معركة يعلمون أنهم جميعًا سيستشهدون فيها، ويَفْنى الجيش الإسلامي بكامله؛ لأن هذا يُعَدّ تهورًا وليس إقدامًا.



ومن هنا نستطيع أن نقول: إن الجيش الإسلامي وجد أنه لا أمل في الانسحاب، ولا أمل في الفرار، وأنهم يجب عليهم أن يواجهوا هذه العقبة بشجاعة وإيمان؛ حتى يخرجوا منها بأقل خسائر ممكنة، فكان قرار الحرب وعدم الانسحاب.



ومن المحتمل أن يكون قد تحققت الاحتمالات الثلاثة، أي يكون قادة المسلمين قد قدروا أعداد الرومان والعرب بأقل من عددها الحقيقي، وأن هذه الأعداد بالفعل أقل من مائتي ألف، وأن يكون المسلمون وجدوا فرصة الانسحاب منعدمة وغير ممكنة عسكريًّا، ومن ثَمَّ فقد أخذوا قرار الحرب.



أضف لكل ما سبق أن سمعة الدولة الإسلامية كانت -ولا شك- ستتأثر سلبًا إذا انسحب المسلمون من المعركة، خاصةً بعد أن قطعوا هذا الطريق الطويل (ألف كيلو متر)، الأمر الذي كان معه قرار الحرب حفاظًا على كرامة الدولة الإسلامية.


مؤتة واستراتيجية اختيار المكان

مشهد أقامه المماليك لشهداء مؤتةأخذ المسلمون قرار الحرب بإجماع، وانطلقوا حتى يختاروا مكانًا للقتال قبل أن يختاره الرومان. وبالفعل وصل المسلمون إلى منطقة مؤتة، فقرروا إقامة المعسكر هناك والاستعداد للقتال.



ومنطقة مؤتة هذه تقع في الأردن جنوب محافظة الكرك الآن، وقد زرتها بالفعل حتى أرى ذلك المكان الذي وقعت فيه تلك المعجزة الإسلامية، فوجدتُ المكان عبارة عن سهل منبسط، ليس فيه جبال ولا عوائق طبيعية، وإنما فيه من المزايا ما ييسر على المسلمين عملية القتال، وذلك كالتالي:



أولاً: كون السهل منبسطًا يحرم الفريقين من المناورة، ووضع الكمائن، وهو الأمر الذي لو فعله الرومان لكان كارثة بالنسبة للجيش الإسلامي.



ثانيًا: أن السهل عبارة عن أرض صحراوية، وكان العرب يحسنون القتال في مثل هذه المناطق بحكم تعودهم عليها في بيئتهم، وذلك بخلاف الجيوش الرومانية التي تعوَّدت القتال في الأراضي الخضراء في الشام وتركيا، وغيرها مما بها من أشجار وتضاريس أخرى.



ثالثًا: أن السهل كان مفتوحًا من جنوبه على الصحراء الواسعة، الأمر الذي يجعل الرومان قد لا يجرءون على التوغل في هذه الصحراء، ومن ثَمَّ يستطيع الجيش الإسلامي الانسحاب إذا ما أراد ذلك.



رابعًا: في جنوب هذا السهل -أي في خلف الجيش الإسلامي- بعض التلال، التي من الممكن أن تستغل في إخفاء الجيش الإسلامي وراءها، إذا ما أراد الانسحاب ليلاً.



خامسًا: أن هذا السهل ليس فيه عوائق طبيعية، ليس هناك أي نوع من الحماية للجندي إلا أن يحتمي وراء سيفه ودرعه، ومن ثَمَّ -في هذا المكان المفتوح- فستظهر عوامل الشجاعة والإقدام والتجرد.



وهذا الجانب -بلا شك- يتفوق فيه الجانب الإسلامي تمامًا؛ إذ الجنود في الجيش الإسلامي يقاتلون من أجل قضية وهدف سامٍ، وعيونهم على الموت في سبيل الله، في حين يفتقر الجنود الرومان إلى الهدف والقضية، وما هم إلا قطيع لا يدري لماذا يُقاتل، ولا يدري ماذا سيجني من وراء القتال، فالأمر قد صدر من القيادة العليا وليس لهم إلا التنفيذ، وإن كان هناك نصر فالذي سيحفل به ويسعد هم القادة والقيصر، وإن كان هناك هزيمة فالجنود هم مَن يدفع الثمن من أرواحهم ودمائهم.



وكان هذا شأن الجيوش الرومانية، وهو شأن كل الجيوش العلمانية في العالم، أما العرب النصارى المشاركون في المعركة فلم يشاركوا فيها حبًّا في القتال، ولا رغبة في ثواب أو في جنة، إنما كان طاعة لهرقل؛ إذ غاية أحلامهم أن يرضى عنهم هرقل، وشتَّان بين من يبحث عن رضا هرقل وبين من يبحث عن رضا رب العالمين I، بين من يقاتل ليعيش وبين من يقاتل ليموت.



وإن اختيار الأرض منبسطة بهذه الصورة سيجعل اليد العليا للشجاع على الجبان، وللمُقدِم على المُدبِر، وهذا كله في صالح المسلمين.



د. راغب السرجاني

[1] ابن عساكر: تاريخ دمشق، تحقيق علي شيري، دار الفكر - بيروت، الطبعة الأولى، 1419هـ- 1998م، 2/15.

[2] ابن كثير: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة - بيروت، 1396هـ- 1971م، 3/459.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 3 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 3 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:59 pm

أحداث معركة مؤتة

ساعة الصفر

غزوة مؤتةاصطف المسلمون في مؤتة وقد اقتربت ساعة الصفر لأشرس موقعة في تاريخ السيرة النبوية، حيث أمواج بشرية هائلة من الرومان ونصارى العرب تنساب إلى أرض مؤتة، ورجال كالجبال من المسلمين يقفون ثابتين في وجه أقوى قوة في العالم آنذاك.



وها هي قد ارتفعت صيحات التكبير من المسلمين، وحمل الراية زيد بن حارثة ، وأعطى إشارة البدء لأصحابه، وقد اندفع كالسهم صوب الجيوش الرومانية، وكان قتالاً لم يشهد المسلمون مثله قبل ذلك.



ارتفع الغبار في أرض المعركة في ثوانٍ معدودات، وما عاد أحد يسمع إلا أصوات السيوف أو صرخات الألم، ولا يتخلل ذلك من الأصوات إلا صيحات تكبير المسلمين، أو بعض الأبيات الشعرية الحماسية التي تدفع المسلمين دفعًا إلى بذل الروح والدماء في سبيل إعلاء كلمة الإسلام.



وقد سالت الدماء غزيرة في أرض مؤتة، وتناثرت الأشلاء في كل مكان، ورأى الجميع الموت مرارًا ومرارًا.


استشهاد زيد بن حارثة

كانت ملحمة بكل المقاييس، سقط على إثرها أول شهيد للمسلمين، وهو البطل الإسلامي العظيم والقائد المجاهد زيد بن حارثة ، حِبّ رسول الله ، سقط مُقبِلاً غير مدبر بعد رحلة جهاد طويلة بدأت مع الأيام الأولى لنزول الوحي.



فكان من أوائل من أسلم على وجه الأرض، وقد صحب الرسول في كل المواطن، وكان هو الوحيد الذي ذهب معه إلى الطائف، ووالله لكأني أراه وهو يدافع بكل ما أوتي من قوة عن حبيبه حتى شُجّت رأسه، وسالت دماؤه غزيرة .



رأيناه في العام السادس من الهجرة يقود السرية تلو السرية في جرأة عجيبة، وكأنه يُعِدّ نفسه لهذا اليوم العظيم، يوم أن يلقى ربه شهيدًا مقبلاً غير مدبر. لا يبكيَنَّ أحد على زيد بن حارثة، فهذه أسعد لحظة مرت عليه منذ خلق.


استشهاد جعفر بن أبي طالب

حمل الراية بعد زيد بطل آخر هو جعفر بن أبي طالب ، ذلك البطل الشاب المجاهد ابن الأربعين عامًا آنذاك، وقد قضى معظم هذه السنوات الخوالي في الإسلام، حيث أسلم في أوائل أيام الدعوة، وقضى ما يقرب من خمس عشرة سنة في بلاد الحبشة مهاجرًا بأمر الرسول ، ثم عاد منها إلى المدينة المنورة في محرم سنة سبع من الهجرة، كان الرسول حينها في خيبر، فلم يَقَرّ له قرار حتى ذهب ليجاهد معه برغبة حقيقية صادقة في البذل والتضحية.



ثم كانت هذه المعركة الهائلة، وقد حمل الراية بعد سقوط أخيه في الإسلام زيد بن حارثة، وقاتل قتالاً لم يُرَ مثله، وأكثر الطعن في الرومان حتى تكالبوا عليه.



كان يحمل راية المسلمين بيمينه فقطعوا يمينه، فحملها بشماله فقطعوا شماله، فحملها بعضضيه قبل أن يسقط شهيدًا، ليأخذ الراية من بعده بطل ثالث، هو عبد الله بن رواحة .



يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما -كما جاء في البخاري-: "وقفت على جعفر يومئذ وهو قتيل، فعددتُ به خمسين، بين طعنةٍ وضربة، ليس منها شيءٌ في دبره"[1]. أي: ليس منها شيء في ظهره؛ يعني أنه قاتل دائمًا من أمام، لم يفر ولو للحظة واحدة .



ومن أرض المعركة إلى الجنة مباشرة، لا يسير فيها، بل يطير بجناحين، فقد روى الحاكم والطبراني بإسناد جيد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله قال: "رَأَيْتُ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ مَلَكًا فِي الْجَنَّةِ، مُضَرَّجَةً قَوَادِمُهُ بِالدِّمَاءِ، يَطِيرُ فِي الْجَنَّةِ"[2].



وروى البخاري أيضًا أن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- كان إذا حيَّا ابن جعفر قال: "السلام عليك يابن ذي الجناحَيْنِ"[3].



فقد أبدل الله I جعفر بن أبي طالب بدلاً من يديه اللتين قطعتا في سبيله بجناحَيْنِ يطير بهما في الجنة.



حياة جهادية طويلة، والمكافأة هي الجنة.


استشهاد عبد الله بن رواحة

حمل الراية بعد جعفر عبد الله بن رواحة الخزرجي الأنصاري ، ذلك المجاهد الشاب الذي شارك في كل الغزوات السابقة، وجاهد -كما ذكرنا- بسيفه ولسانه، وهو الذي كان يحمِّس المسلمين لأخذ قرار الحرب، وهو الذي كان يتمنى ألاّ يعود إلى المدينة، بل يُقتل شهيدًا في أرض الشام.



حمل الراية، وقاتل قتالاً عظيمًا مجيدًا حتى قُتل في صدره ، ما تردد قَطُّ كما أشيع عنه، وكيف يتردد من يدفع الناس دفعًا إلى القتال؟! كيف يتردد من يحمس الناس على طلب الشهادة؟ كيف يتردد من يثق به رسول الله ، فيجعله على قيادة هذا الجيش الكبير؟! كيف يتردد من شهد له أنه شهيد؟! ومن دعا له قبل ذلك بالثبات؟!



وهذا التردد الذي أشيع عنه لم يتفق عليه عامَّة أهل السير، ولم ينقله الكثير من كُتَّابهم، فلم ينقله موسى بن عقبة في (مغازيه)، ولم ينقله المقريزي في (إمتاع الأسماع)، ولم ينقله ابن سعد في (الطبقات)، وإنما روى ذلك فقط ابن إسحاق -رحمه الله- في (سيرته).



وفي هذه الرواية تناقض شديد بين أول الرواية وآخرها؛ ففي أولها جهاد وتحفيز على الشهادة، وفي آخرها تردد، وهذا لا يستقيم.



أما ما ورد في سيرة ابن إسحاق أيضًا من أن هناك ازورارًا في سرير عبد الله بن رواحة في الجنة، فهو حديث منقطع السند، وضعفه ابن كثير والبيهقي، وقد عارضه أيضًا ابن كثير بحديث أنس بن مالك في البخاري، والذي ذكر فيه أن عبد الله بن رواحة قُتل شهيدًا، ولم يذكر ترددًا، ولم يُشِرْ إلى ذلك قَطُّ[4].



ولعل الذي أشاع أن عبد الله بن رواحة قد تردد هو ما نُسب إليه من شعر في هذا الموقف، لكن هذا الشعر -إن صحت نسبته- لا يحمل أبدًا معنى عدم الإقدام، إنما يحمل معنى تحميس النفس على شيءٍ خطير، يحمل على بذل الروح والتضحية بالنفس.



إن تحمل آلام الضرب بالسيف، والطعن بالرمح ليس أمرًا سهلاً أو هينًا في حياة الإنسان، فإذا قال الإنسان لنفسه بعض الكلمات التي تصبِّره على تحمل الآلام، وتصبره على فراق الأحبة، وتدفعه إلى الموت لا إلى الحياة، فما الضرر في ذلك؟! إن هذا أمر محمود، بل وقد يكون مطلوبًا، وقد كان من شعره يومئذٍ:

يَا نَفْسُ إِنْ لَمْ تُقْتَلِي تَمُوتِـي *** هَذَا حِمَامُ الْمَوْتِ قَدْ صُلِيتِ

وَمَا تَمَنَّيْتِ فَقَـدْ أُعْطِيـتِ *** إِنْ تَفْعَلِـي فِعْلَهُمَا هُدِيـتِ[5]



يحدِّث نفسه: إن تفعلي كما فعل زيد وجعفر -رضي الله عنهما- هديت. وبالفعل كان قتاله شديدًا، وجهاده عظيمًا حتى طعن في صدره ، وتلقى الدماء بيديه ودلَّك بها وجهه، وأصيب شهيدًا كما ذكر في مسند أحمد، وسنن النسائي، والبيهقي عن أبي قتادة بسند صحيح.



فهذه كلها روايات صحيحة في حق هذا البطل الذي شُوِّهت صورته بهذا الأمر الذي لا يستقيم في حقه أبدًا، وهو الذي دفع المسلمين هذا الدفع في هذه المعركة الهائلة.



سقط القادة الثلاثة شهداء ليثبتوا لنا وللجميع أن القيادة مسئولية، وأن الإمارة تكليف وليست تشريفًا، وأن القدوة هي أبلغ وسائل التربية.



فثباتهم -لا شك- كان سببًا في ثبات الجيش الإسلامي، وجهادهم لا بد أنه قد دفع الجيش الإسلامي لأنْ يُخرِج كل طاقته، فما يفر الجنود إلا بفرار القادة، وما تسقط الراية إلا بهوانها على حاملها، لكن في مؤتة ما سقطت راية المسلمين قَطُّ، ولا لحظة من لحظات القتال.


خالد بن الوليد.. القائد الرابع

بعد استشهاد البطل العظيم عبد الله بن رواحة ، حمل الراية الصحابي الجليل ثابت بن أقرم البدريّ (ممن شهد بدرًا) ، فقال: يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم. فقالوا: أنت تحمل الراية. فقال: ما أنا بفاعل. ثم تقدم إلى خالد بن الوليد ، القائد المعجزة، فدفع له الراية، وقال له: أنت أعلم بالقتال مني. فقال خالد -وعمره في الإسلام ثلاثة أشهر- متواضعًا: أنت أحق بها مني، أنت شهدت بدرًا.



فنادى ثابت: يا معشر المسلمين. فاجتمع الناس على خالد، وأعطوه الراية، فحمل خالد الراية، وجاهد جهادًا عظيمًا يُكفِّر به عن العشرين سنة الماضية.



هذا أول مواقفه في سبيل الله، ولا بد أن يُرِي الله منه بأسًا وقوة وجلدًا وإقدامًا، قاتل خالد بن الوليد كما لم يقاتل من قبلُ، حتى قال -كما في صحيح البخاري-: "لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية"[6].



تسعة أسياف تكسَّرت في يديه وهو يحارب الرومان، فتخيل كم من البشر قتل بهذه الأسياف، ومع ذلك فقد استمر في قتاله يُغيِّر سيفًا بعد الآخر، ويقاتل في معركة ضارية، لكنه ثبت ثباتًا عجيبًا، وثبت المسلمون بثباته .



وعلى هذا الحال استمر القتال يومًا كاملاً، ما تراجع المسلمون فيه لحظة واحدة، وإنما وقفوا كالسدِّ المنيع أمام طوفان قوات التحالف الرومانية العربية، واستمر الحال على هذا الوضع حتى جنَّ المساء. ولك أن تتخيل قتالاً منذ الصباح وحتى المساء، وثلاثة آلاف في مقابل مائتي ألف.


خطة عبقرية !

لم يكن من عادة الجيوش في ذلك الوقت أن تقاتل ليلاً، فكان أن تحاجز الفريقان، واستراح الرومان ليلتهم هذه، لكن المسلمين لم يركنوا إلى الراحة، وإنما كانوا في حركة دائبة؛ فقد بدأ خالد بن الوليد في تنفيذ خُطَّة عبقرية بارعة للوصول بجيشه إلى برِّ الأمان، وكان هدفها إشعار الرومان بأن هناك مددًا كبيرًا قد جاء للمسلمين؛ وذلك حتى يتسلل الإحباط إلى داخل جنود الرومان والعرب المتحالفين معهم، فهم أمْسِ كانوا يتقاتلون مع ثلاثة آلاف وقد رأوا منهم ما رأوا، فكيف إذا جاءهم مدد؟!



ولتنفيذ هذه الخطة قام خالد بن الوليد بالخطوات التالية:



أولاً: جعل الخيل طوال الليل تجري في أرض المعركة لتثيرَ الغبار الكثيف؛ فيُخيَّل للرومان أن هناك مددًا قد جاء للمسلمين.



ثانيًا: غَيَّر من ترتيب الجيش، فجعل الميمنة ميسرة والميسرة ميمنة، وجعل المقدمة مؤخرة والمؤخرة مقدمة، وحين رأى الرومان هذه الأمور في الصباح، ورأوا الرايات والوجوه والهيئة قد تغيَّرت، أيقنوا أن هناك مددًا قد جاء للمسلمين، فهبطت معنوياتهم تمامًا.



ثالثًا: جعل في خلف الجيش وعلى مسافة بعيدة منه مجموعةً من الجنود المسلمين فوق أحد التلال، منتشرين على مساحة عريضة، ليس لهم من شغل إلا إثارة الغبار لإشعار الرومان بالمدد المستمر الذي يأتي للمسلمين.



رابعًا: بدأ خالد بن الوليد في اليوم التالي للمعركة بالتراجع التدريجي بجيشه إلى عمق الصحراء، الأمر الذي شعر معه الرومان بأن خالدًا يستدرجهم إلى كمين في الصحراء، فترددوا في متابعته، وقد وقفوا على أرض مؤتة يشاهدون انسحاب خالد، دون أن يجرءوا على مهاجمته أو متابعته.



ونجح مراد خالد بن الوليد، وسحب الجيش بكامله إلى عمق الصحراء، ثم بدأ الجيش في رحلة العودة إلى المدينة المنورة سالمًا.



د. راغب السرجاني

[1] البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة مؤتة من أرض الشام (4012).

[2] المتقي الهندي: كنز العمال، مؤسسة الرسالة - بيروت، 1989م، 11/663، رقم الحديث (33205).

[3] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب جعفر بن أبي طالب الهاشمي (3506).

[4] ابن كثير: السيرة النبوية 3/463.

[5] البيهقي: السنن الكبرى، تحقيق محمد عبد القادر عطا، مكتبة دار الباز - مكة المكرمة، 1414هـ- 1994م، 9/154، رقم الحديث (18254).

[6] البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة مؤتة من أرض الشام (4017).
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 3 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 3 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 2:00 pm

هل ما حدث في مؤتة هزيمة أم نصر ؟

تساؤل..!!

معركة مؤتةمع تلك الموقعة ومع هذا الموقف الذي رأيناه، كان هناك وقفة مهمَّة نتساءل فيها: هل كانت موقعة مؤتة هزيمة للمسلمين أم كانت نصرًا لهم؟ وهل كانت مجرد انسحاب ناجح؛ لأن هذا أفضل النتائج التي من الممكن أن نتوقعها في مثل هذه الظروف، أم أنها كانت نصرًا جليلاً للمسلمين وهزيمة منكرة للرومان؟!



وفي معرض الإجابة على هذه الأسئلة، فإن آراء المحللين القدامى حول هذه المعركة قد تباينت تباينًا عظيمًا، فكان منهم من رأى أن المعركة كانت انتصارًا للمسلمين، وممن رأى ذلك موسى بن عقبة في (مغازيه)، والزهري، والواقدي، وقد رجَّح ذلك أيضًا البيهقي وابن كثير.



فكل هؤلاء رأوا أن المسلمين انتصروا انتصارًا جليلاً في موقعة مؤتة.



وكان منهم من عدَّها هزيمة منكرة للمسلمين، كما أشار بذلك ابن سعد في (طبقاته). ثم كان منهم من رأى أن كل فئة قد انحازت عن الأخرى، يعني شبه تعادل بين الكفتين، وقد مال إلى ذلك ابن إسحاق في (سيرته)، وابن القيم في (زاد المعاد).



والحقيقة أني أميل بشدة إلى الرأي الأول، الذي يرى بأن هذه المعركة كانت انتصارًا حقيقيًّا للمسلمين، وعندي من الأدلة ما يقوِّي هذا الرأي ويعضده، والتي منها:



الدليل الأول: ما جاء في البخاري عن أنس ، يحكي عن معجزة من معجزات الرسول وهو يخبر أصحابه نبأ أهل مؤتة قبل أن يعودوا إلى المدينة المنورة، فقد قال : "أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ". يقول أنس -وعيناه تذرفان (يعني يبكي على استشهاد الثلاثة وكانوا جميعًا من أحبِّ الناس إلى قلبه): "حَتَّى أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ".



فجملة "حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ" لا تحتمل معاني كثيرة، وهي هنا تحمل معنى النصر والفتح والعلو؛ إذ إن الله لا يفتح عليهم بمجرد الانسحاب، لكن الواضح أن المسلمين انتصروا وفتح الله عليهم، ثم قرر خالد بن الوليد أن ينسحب، وأن يكتفي بهذا الانتصار دون محاولة متابعة الجيش الروماني؛ وذلك لأن خالد بن الوليد كان واقعيًّا لأبعد درجة، وقد علم أنه لا يستطيع أن يتوغل في أرض الروم بهذا الجيش الإسلامي الصغير، فكان هذا بالفعل فتحًا من الله على المسلمين، كما ذكر الرسول .



ولو أراد الرسول أن يذكر أنهم انسحبوا فقط دون انتصار، لكان من اليسير أن يقول كلمة تُفهِم هذا المحمل، مثل: حتى أنجاهم الله، أو نحو ذلك من الكلمات؛ فهو أبلغ البشر، وأوتي جوامع الكلم، ويستطيع أن يصف بكلمة واحدة الحدث تمامًا كما وقع في أرض مؤتة.



الدليل الثاني: روى الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح، عن أبي قتادة ، أن رسول الله قال لأصحابه قبل أن يعود أهل مؤتة إلى المدينة: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ عَنْ جَيْشِكُمْ هَذَا الْغَازِي، إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا فَلَقُوا الْعَدُوَّ، فَأُصِيبَ زَيْدٌ شَهِيدًا، فَاسْتَغْفِرُوا لَهُ"، فاستغفر له الناس. "ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَشَدَّ عَلَى الْقَوْمِ، حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا، أَشْهَدُ لَهُ بِالشَّهَادَةِ، فَاسْتَغْفِرُوا لَهُ، ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَأَثْبَتَ قَدَمَيْهِ حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا، فَاسْتَغْفِرُوا لَهُ، ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الأُمَرَاءِ، هُوَ أَمَّرَ نَفْسَهُ"، ثم رفع رسول الله إصبعيه فقال: "اللَّهُمَّ هُوَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِكَ فَانْصُرْهُ". وفي رواية: "فَانْتَصِرْ بِهِ"[1].



فهذا دعاء من رسول الله لسيف الله المسلول خالد وللجيش الإسلامي بالنصر، ودعاؤه مستجاب. وهذا الحديث من معجزاته يخبر به عن الغيب، ومحال أن يتحقق خلاف ما ذكره للصحابة؛ لأنه ذكره على سبيل الحجة الدامغة لنبوته ، والحجة الدامغة لإنبائه بالغيب، فحين يدعو فيه بالنصر فلا بد أن يحدث، وهذا تصريح في هذه الرواية، وهي رواية صحيحة.



الدليل الثالث: وهي ملاحظة مهمة جدًّا، إذ كم تتخيل وتتوقع أن يكون عدد شهداء المسلمين في هذه الموقعة الطاحنة؟



إنه رقم لن تتخيله مطلقًا مهما فكرت فيه؛ إذ لن يوصلك تفكيرك إلى أنهم اثنا عشر شهيدًا فقط، منهم الأمراء الثلاثة.



اثنا عشر شهيدًا فقط من جملة ثلاثة آلاف في مواجهة مائتي ألف مقاتل.



وهذا دليل دامغ على انتصار المسلمين؛ وذلك لأن الجيش المهزوم من المستحيل أن يموت منه اثنا عشر فقط، وخاصة إذا كان مهزومًا من مائتي ألف.



ولا حتى يكون متعادلاً؛ لأن قتلى الرومان أضعاف ذلك، ويكفي في هذا الذين قتلهم خالد بن الوليد بأسيافه التسع التي اندقت في يده. وإذا كان شهداء المسلمين أقل من قتلى الرومان، فهذا من أبلغ علامات النصر.



الدليل الرابع: غَنِم المسلمون في مؤتة غنائم عدة، ولا يغنم إلا الجيش المنتصر، بل إنهم غنموا ممتلكات بعض كبار القادة الرومانيين، ومعنى هذا أنهم قتلوا بعض القادة الرومان، وأخذوا أسلابهم.



وقد روى ذلك أبو داود وأحمد عن عوف بن مالك الأشجعي ، إذ يروي أن أحد المسلمين قتل روميًّا يحمل سلاحًا مذهَّبًا، ويركب فرسًا أشقر، وقد أخذ المسلم كل هذا[2]، وهذا يُعَدّ غنيمة عظيمة، خاصةً إذا علمنا أنه لا يحمل الذهب في المعارك إلا القادة الكبار، وليس عامَّة الجند.



الدليل الخامس: لم نسمع بعد هذه الغزوة عن شماتة شعرية من شعراء قريش، أو فخرًا من عرب الشمال، وقد كانوا لا يتركون مثل هذه الأحداث أن تمر دون قصائد شعرية.



فلو هُزِم المسلمون ما تركهم أعداؤهم في قصائدهم الشعرية، إلا أننا لم نسمع عن مثل هذا، بل كان العكس هو الصحيح، حيث سمعنا فخرًا من المسلمين على لسان كعب بن مالك، وحسان بن ثابت -رضي الله عنهما- في موقعة مؤتة، وهذا لا يأتي إلا إذا كان هناك نصر.



الدليل السادس: تركت هذه الموقعة أثرًا إيجابيًّا هائلاً على عرب الجزيرة، خاصةً على المناطق الشمالية من الجزيرة، ورأينا بعد هذه الموقعة وفود القبائل التي طالما كادت للإسلام والمسلمين تأتي مذعنة إلى المدينة المنورة؛ لتعلن إسلامها بين يدي الرسول .



ولو كانت مؤتة هزيمة لما فعلوا ذلك، ولو كانت تعادلاً لانتظروا ردَّ فعل الرومان، لكن مسارعة هؤلاء تنبئ عن شعورهم بالرهبة والإجلال لهذه الدولة التي وقف جيشها هذه الوقفة أمام جحافل الروم والعرب.



ولو كانت الغلبة في هذه الموقعة للرومان والقبائل المتحالفة معها، لكان التسابق لطلب وُدِّ الرومان وغسان هو السمة الغالبة، لكن شيئًا من ذلك لم يحدث.



وقد حدث شيء غريب بعد مؤتة من سلوك بعض القبائل التي أتت إلى المدينة، فقد ازداد انبهار قبائل غطفان -وراجع ما سبق في الحديث عنها وفي حربها- بقوة المسلمين، وقد أتت بعد ذلك لتبايع على الإسلام، ولا يمكن أن يحدث هذا بعد الهزيمة المزعومة للمسلمين في مؤتة.



وكذلك أتت بنو سليم وأشجع وذبيان وفزارة وغيرهم، كل هؤلاء أتوا يبايعون على الإسلام، وقد اشتركوا بعد ذلك -كما سنبين- في فتح مكة، ولا يمكن أن يحدث مثل ذلك بعد هزيمة.


توضيحات أخرى

ما سبق كان أدلة وحججًا قوية في أن مؤتة كانت نصرًا كبيرًا للمسلمين. أما ما قيل من استقبال الجيش بكلمة: يا فُرَّار! أفررتم في سبيل الله؟!



فهذه الرواية سندها ضعيف، وحتى لو صحت فالرسول نفسه في هذه الرواية يدافع عن الصحابة، ويقول مخبرًا أن ما يتوهمه الناس من عودة الجيش دون احتلال مواقع الرومان، أو أخذ غنائمهم ليس فِرارًا، فقال: "إِنَّهُمْ لَيْسُوا بفُرَّارٍ، وَلَكِنَّهُمْ كُرّارٌ إنْ شَاءَ اللّهُ"[3]. هذا إن صحت الرواية.



والحقيقة الواضحة وضوح الشمس هي أن موقعة مؤتة كانت انتصارًا بكل المقاييس؛ كانت انتصارًا للإنسان على نفسه، إذ أرغم نفسه على خوض غمار المصاعب والمشاق، بل والموت دون أدنى تردد.



كانت انتصارًا على الدولة الرومانية في أول لقاء بينها وبين المسلمين، وسيكون هذا بداية لسلسلة مضنية من الحروب، التي ستكون فيها اليد العليا دومًا للمسلمين.



كانت انتصارًا على القبائل العربية الشمالية التي سارعت بعد عام واحد من هذه الأحداث إلى الدخول في دين الإسلام، وذلك بعد أن رأت قوته وبأسه، وكانت قد رأت قبل ذلك حكمته وأخلاقياته، وأيقنت تمامًا أن هذا الدين من عند ربِّ العالمين I.



وكانت انتصارًا على كل عدوٍّ للدولة الإسلامية حتى على قريش في مكة؛ فحين رأت قريش هذه الأحداث حَارَتْ في أمرها، ولم تدرِ ماذا فعل المسلمون مع الدولة الأولى في العالم، وكان ذلك سببًا في هزيمة نفسيَّة لأهل مكة، مهدت بعدها لما سيأتي بعد ذلك من فتح مكة، وفتح البلاد المحيطة بها.



هذه هي موقعة مؤتة.



وهؤلاء هم الأمراء الشهداء الثلاثة.



وهذا هو خالد بن الوليد سيف الله المسلول على أعداء المسلمين، والإضافة الرائعة للدولة الإسلامية في الأشهر الثلاثة السابقة.



وهذا هو الجيش الإسلامي الذي يُكتب له النصر.



وهذا هو الدليل العملي الواقعي على أن الله ينصر من نصره، ويقف مع من جاهد في سبيله، ويدافع عن الذين آمنوا، ويمحق الكافرين.



د. راغب السرجاني

[1] رواه أحمد (22604، 22619) ترقيم النسخة الميمنية، وصححه شعيب الأرناءوط.

[2] رواه أبو داود (2719)، وأحمد (24033، 24043)، وصححه شعيب الأرناءوط.

[3] الألباني: دفاع عن الحديث النبوي والسيرة، مؤسسة ومكتبة الخافقين، دمشق، ص31.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 3 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 3 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 2:01 pm

فتح مكة وسنن التغيير (1-2)

سنن التغيير

فتح مكةكان الوضع الإسلامي بعد جمادى الثانية من سنة ثمان من الهجرة وأوائل رجب من نفس العام في غاية الاستقرار؛ إذ إن هناك رهبة وهَيْبة للدولة الإسلامية، وهناك انتصارات متكررة في صورة جديدة لدولة ناشئة في المدينة المنورة، تبسط سيطرتها على أطراف واسعة من الجزيرة العربية.



وهذه الأحداث كانت نهاية لفترة معينة قد انقضت، ومن بعدها مباشرة ستبدأ فترة جديدة من أحداث السيرة النبوية، وهي مقدمات فتح مكة.



وحين نتكلم على فتح مكة لا بد أن نعلم أن فتح مكة كان لحظة فارقة حقيقية في تاريخ المسلمين، بل في تاريخ الأرض، حتى إنه إذا ذكر الفتح معرَّفًا هكذا (الفتح)، انصرف الذهن مباشرة إلى فتح مكة، مع أن كل انتصارات المسلمين كانت فتحًا؛ فكان انتصار المسلمين في خيبر فتحًا، وعلى الرومان في مؤتة فتحًا، وعلى المشركين في بدر فتحًا. فكل هذه فتوحات، إلا أنه إذا ذُكر الفتح فقط، عُرف أنه فتح مكة.



وهذا الفتح كان ما قبله شيئًا وما بعده كان شيئًا آخر، حتى إن الرسول كان يقول: "لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ"[1].



ويقول رب العالمين I: {لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10].



أي أن ما قبل الفتح كان شيئًا وما بعده كان شيئًا آخر؛ فإنفاق قبل الفتح شيء وإنفاق بعد الفتح شيء آخر، وقتال قبل الفتح شيء وقتال بعد الفتح شيء آخر، فكان الفتح بالفعل لحظةً فارقة حقيقية؛ إذ معناه التمكين لدين رب العالمين I، وكان معناه النصر، ومعناه السيادة.



وقد أردتُ أن أستغل هذا الحدث لأتحدث عن بعض سنن التغيير، وسنن النصر والتمكين في الأرض، والتي نستخلصها جميعها من فتح مكة.


السنة الأولى: الله لا يعجل بعجلة عباده:

فمنذ أحد عشر عامًا من أصل ثلاثة وعشرين أو ثلاثة وعشرين ونصف هي عمر البعثة النبوية بكاملها؛ منذ هذه السنوات واللات والعزى ومناة وهُبل يُعبدون من دون الله ، وفي داخل مكة المكرمة.



فكان يتمنى البعض أن تُفتح مكة مبكرًا، وأن يحكم الرسول الدولة الإسلامية من مكة؛ وذلك ليرى حكمه وأثره في العالمين، وهو ممكَّن في الأرض.



لكن الحقيقة أنه لو حدث مثل هذا لوقعت مخالفة للسنة الإلهية، وهذا لا يكون أبدًا، والله يقول: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43].



فكان رب العالمين I قادرًا على أن ييسر أمر فتح مكة منذ أول لحظة من لحظات هذه الدعوة، أو على الأقل بعد سنة أو سنتين من فتح المدينة المنورة، لكن كان هذا الانتظار الطويل حتى يعلمنا جميعًا أنه I لا يعجل بعجلة عباده.


السنة الثانية: التمكين يأتي من حيث لا يحتسب:

أي أنه مثلاً لو أراد المسلمون أن يفتحوا مكة، فلا شك أنهم سيضعون أكثر من سيناريو لهذا الأمر، ولو أنهم وضعوا ألفًا منه لجاء التغيير، وشتان -سبحان الله- بين الرقم ألف والرقم واحد!



فهناك افتراضات كثيرة متوقعة؛ منها على سبيل المثال أن تغزو قريش المدينة المنورة، فيرد المسلمون بحرب على مكة المكرمة، أو أن تحاول قريش قتل الرسول ، أو أن تعتدي على قافلة إسلامية، أو أن تنتهي سنوات الهدنة العشر، فيحدث بعدها قتال ويدخل المسلمون مكة.



افتراضات كثيرة جدًّا لكن -سبحان الله- لم يحدث الفتح نتيجة أيٍّ منها، ولا لغيرها مما يكون قد خَطَر على قلوب المسلمين، لكن حدث ذلك بشيء غريب؛ فما حدث هو أن قبيلة مشركة أغارت على قبيلة أخرى مشركة، فتمَّ الفتح للمؤمنين.



وإن المرء ليتساءل: ما علاقة هذا بذاك؟ إلا أننا إذا راجعنا بنود صلح الحديبية خاصةً البند الثالث، وجدنا أنه إذا أرادت قبيلة أن تنضم إلى حلف المسلمين فلها ذلك، وإذا أرادت قبيلة أن تنضم إلى حلف قريش فلها ذلك، وعلى إثر هذا دخلت خزاعة في حلف الرسول ، ودخلت بنو بكر في حلف قريش.



فكانت القصة بين المسلمين وبين قريش، ولم يكن لخزاعة ولا لبني بكر أيُّ دخل فيها، ومع ذلك فدخولهم في المعاهدة هو الذي سيؤدي إلى الفتح كما سنرى.


خزاعة وبنو بكر وحلف المسلمين وحلف قريش

إن دخول خزاعة في حلف الرسول يحتاج لوقفة خاصة؛ وذلك لأن الله I دفع خزاعة دفعًا للدخول في حلف الرسول ، فقد كانت خزاعة قبيلة مشركة، وإنه وإن كانت هناك عَلاقات حميمة وقديمة بين خزاعة وبني هاشم، إلا أنه كان من المتوقع أن تدخل خزاعة في حلف بني هاشم من المشركين، وليس في حلف بني هاشم من المسلمين؛ وذلك لأنها مشركة وعلى مثل دينهم، فلماذا إذن تترك خزاعة بني هاشم المشركة، وتتحالف مع بني هاشم المسلمة المتمثلة في الرسول ؟ وهو أمر عجيب حقًّا.



وإذا راجعنا قصة القبيلتين اللتين دخلتا في المعاهدة، وجدنا أنه كان بينهما (بني بكر وخزاعة) ثأر قديم، ولعل هذا الثأر هو الذي دفع بني بكر للدخول في حلف قريش، عندما دخلت خزاعة في حلف المسلمين، وهو الحلف المعاكس؛ وذلك لتكون ضد خزاعة، مع أن العلاقة بين بني بكر وبين قريش ليست على أفضل حال، بدليل أن قريش حين خرجت من مكة لحرب المسلمين في موقعة بدر كانت تخشى من غزو بني بكر لمكة، ثم ظهر لهم الشيطان في صورة سُرَاقة بن مالك وقال لهم: "إني جار لكم من كنانة"[2]. وكنانة هذه تشمل بني بكر.



فكانت القصة معقدة، والأحداث فيها لا يمكن أن تفسر إلا عن طريق أن الله أراد لها أن تتم على هذه الصورة.



بنو بكر مع أن العلاقة بينهم وبين قريش معقدة إلا أنها دخلت في حلفها، وخزاعة مع أنها مشركة إلا أنها دخلت في حلف المسلمين، وذلك كله سيؤدي إلى شيء غير متوقع بالمرة كما سنرى.



مع ملاحظة أن بني بكر التي نتحدث عنها ليست هي بني بكر بن وائل المشهورة، فالأخيرة من قبائل ربيعة، في حين التي نتحدث عنها هي بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة، وهي من مُضَر.



ومهما يكن من أمر فقد كان ثمة خلاف كبير وثأر قديم بين بني بكر وخزاعة، وقد كان هناك ضحايا من بني بكر قتلتهم خزاعة.



وبعد مرور سنوات وسنوات على هذه الجريمة التي قامت بها خزاعة في حق بني بكر، تذكرت بنو بكر ثأرها مع خزاعة فأرادت أن تنتقم (وهذا بعد صلح الحديبية)، فأغارت على خزاعة وقتلت منهم رجالاً، وكانت معاهدة الحديبية تنص على أن من أغار على خزاعة، فكأنه أغار على الدولة الإسلامية، وموافقة قريش على إغارة بني بكر على خزاعة يُعَدّ نقضًا صريحًا للمعاهدة بينهم وبين المسلمين.


بنو بكر وقريش وخيانة العهد

بتحليل منطقي فإنه إذا حدثت هذه المخالفة وأغارت بنو بكر على خزاعة قبل الحديبية فما كان ذلك يُحدِث أيَّ نفع للمسلمين؛ إذ الحالة أن قبيلة مشركة اعتدت على قبيلة أخرى مشركة.



وقد تكون هي النتيجة نفسها أيضًا إذا حدث هذا الأمر بعد الحديبية مباشرة، فلعل المسلمين لم تكن لهم طاقة لغزو مكة أو لفتحها آنذاك.



ولو حدث وضبطت بنو بكر أعصابها ولم تخالف ما مُهِّد الطريق للفتح، وأيضًا لو وقفت قريش لبني بكر وعارضتها في ذلك الأمر، وقدمت الاعتذار للمسلمين لكان الموقف قابلاً للتفاوض والحل السلمي.



لكن ما حدث هو أن قريشًا أعانت بني بكر على حرب خزاعة في تهورٍ عجيب. ولعل هذا الموقف لو حدث وتكرر ألف مرة مع قريش فإنها - ولا شك - لن تتردد في رفضه، لكن ما حدث هو تدبير رب العالمين I {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطَّارق: 15، 16].



كخيانة متوقعة منهم هجمت بنو بكر على خزاعة تلك التي ليست مستعدة للقتال، خاصةً أن هناك صلح الحديبية وفيه هدنة عشر سنوات، وقتلوا من خزاعة الكثير من الرجال.



لم تجد خزاعة إلا أن تفر إلى أقرب مكان آمن وهو الحرم المكي، ومساكنها قريبة منه، فخرج الرجال والنساء والصبيان إلى مكة المكرمة، ودخلت بالفعل داخل الحرم، ومن ورائها بنو بكر تطاردها بالسلاح.



وبالطبع كان لهذا الموقف أن يزيد المشكلة تعقيدًا؛ إذ لو وقعت المعركة خارج الحرم كان من الممكن أن تنكرها قريش، أو تزعم أن ذلك حدث رغمًا عنها، إلا أن القتال وقع داخل الحرم، أو قُلْ إنه داخل قريش التي كثيرًا ما كانت تتشدق بأنها حامية الحجاج والمعتمرين، وحامية المنطقة بكاملها، وأنها التي توفر الأمان فيها.



غير أن ما حدث هو أن قريشًا قامت وفي تهور عجيب، ليس بمجرد مراقبة الموقف فقط، بل أعانت بني بكر وأمدتها بالسلاح لحرب خزاعة.



وإن ما حدث من قريش هذا غير مبرر بالمرة؛ إذ إنه ليس بين خزاعة وقريش ما يدعو الأخيرة لما أقدمت عليه، وليس هناك أي علاقة للمسلمين بالقصة، فهو تصرف غير مفهوم، لكنه يضع أعيننا على شيء غاية في الأهمية، وهو أن الخيانة أمر متوقع من المشركين، قال الله في كتابه الكريم: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 100].



وإن العجب أن هذه الخيانة التي وقعت -وتقع دائمًا- منهم، كانت والرسول ما زال على وفائه لهم بالعهد الذي بينه وبينهم، حتى إنه ردَّ من جاء المدينة المنورة مؤمنًا من مكة مرة ثانية إلى قريش؛ وفاءً ببنود المعاهدة. وقد رأينا ذلك حين أعاد أبا بصير إلى مكة رغم خطورة هذه الإعادة على إيمان أبي بصير، وهو الأمر الذي لم تفعله قريش ولم تفعله بنو بكر، وخانوا المعاهدة.



المشكلة الكبيرة الأخرى هي أن بني بكر كانت تلعب بالقوانين، وقريش تشاهد ذلك الأمر وتقبله، بل يقبله الجميع، فالقتال دار في داخل مكة البلد الحرام، في داخل البيت الحرام، وهو أمر جِدُّ خطير؛ إذ الجميع كان يؤمِّن كل زائري هذه المنطقة، وكان هذا متعارفًا عليه لدى قريش ولدى الجزيرة العربية وكل القبائل؛ إذ كان ذلك بمنزلة قانونٍ عامّ متعارفًا عليه لدى الجميع، على المسلمين والمشركين.



ما حدث هو أن بني بكر دخلت إلى مكة المكرمة لتقتل خزاعة في داخل الحرم، الأمر الذي أدهش جيش بني بكر نفسه من استمرار القتل في داخل الحرم، حتى نادوا على زعيمهم نوفل بن معاوية الدِّيلِيّ من بني بكر، وقالوا: يا نوفل، إلهك إلهك. يعنون أن قوانين إلهك (اللات والعزى وهُبَل وغيرها) لم تشرع القتال داخل البيت الحرام.



وهنا ردَّ عليهم قائدهم هذا بكلمه فاجرة، قال: لا إلهَ اليوم. ثم قال: يا بني بكر، أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتَسْرقون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه؟[3].



فشجعهم على استمرار عملية القتل، لتحدث الجريمة الكبرى، وقريش لا تشاهد هذا الأمر فقط، بل تساعد عليه، فكان هذا خرقًا واضحًا للبند الثالث من بنود صلح الحديبية.


خزاعة تستنجد بالرسول

ما حدث بعد ذلك هو أن خزاعة أسرعت إلى المدينة المنورة تستغيث بالرسول ، وكان عمرو بن سالم أول من جاء إليه من خزاعة، وقد أنشد عنده بعضًا من أبيات الشعر، يعبر فيها عن المأساة التي تعرضت لها قبيلته، فكان مما قاله:



يَا رَبِّ إِنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدًا *** حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الأَتْلَــدَا

قَدْ كُنْتُمُ وُلْدًا وَكُنَّا وَالِدًا *** ثُمَّتَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يَـدَا

فَانْصُرْ هَدَاك اللَّهُ نَصْرًا أَعْتَدَا *** وَادْعُ عِبَادَ اللَّهِ يَأْتُوا مَدَدَا

فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ تَجَرَّدَا *** إِنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ تَرَبَّـدَا

فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدًا *** إِنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا

وَنَقَضُوا مِيثَاقَك الْمُوَكَّدَا *** وَجَعَلُوا لِي فِي كَدَاءٍ رُصَّـدَا

وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتُ أَدْعُو أَحَدًا *** وَهُـمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَـدَدَا

هُـمْ بَيَّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجَّدًا *** وَقَتَلُـونَا رُكَّعًا وَسُجَّــدَا



وقد كان واضحًا في هذه الأبيات أن عمرو بن سالم كان قد أسلم عند قول هذه الأبيات، إلا أن معظم بني خزاعة لم يكونوا قد أسلموا بعدُ، وكان قتلى خزاعة من المشركين ومن المسلمين.



وكان ردُّ فعل الرسول عندما استمع إلى هذه الأبيات أنه لم يتردد لحظة واحدة، إنما قال في غاية الحزم والثبات: "نُصِرْتَ يَا عَمْرَو بْنَ سَالِمٍ"[4].



نَعَمْ هو لم يحدد الطريقة التي سينصر بها عمرو بن سالم، لكنه أخذ على الفور قرار النصرة؛ وذلك لأنه كان بينه وبين قبيلة خزاعة اتفاقية وحلف، وهذا بصرف النظر عن مِلَّة قبيلة خزاعة، مسلمة كانت أو مشركة، فإن كان معظم قبيلة خزاعة من المشركين فإن الحلف بينهم وبين المسلمين يقضي بأن يدافع كل طرف عن الطرف الآخر إذا ما تعرض ذلك الآخر إلى أيِّ اعتداء.



وقد أخذ الرسول هذا القرار بمنتهى الجدية. ولا شك أن هذا يعطي ثقة للمتحالفين، ويبين للحلفاء المشركين أخلاق المسلمين، وأنهم يدافعون عن الحليف (المعتدَى عليه) إذا ما أصابه مكروه، حتى ولو كان هذا الدفاع سيصيبهم بأذًى كبير.



بعد عمرو بن سالم قَدِم أيضًا بُدَيل بن ورقاء الخزاعي، وهو الذي كانت ترسله قريش ليقوم بالمعاهدات والمفاوضات بينها وبين المسلمين أيام صلح الحديبية؛ أي أن بُدَيلاً هذا رجل صديق لقريش، ومع أنه كان يعيش في مكة إلا أن قبيلته هي التي أصيبت داخل الحرم.



الآن يتجه بُديل ليشكو إلى رسول الله ، وهو أمر غريب حقًّا؛ إذ إنه في ذلك الوقت كان مشركًا ولم يسلم إلا بعد فتح مكة، وفي ذلك الوقت أيضًا كان ما زال يعيش داخل مكة المكرمة، وتجارته وعلاقاته ومصالحه بكاملها كانت في داخل مكة المكرمة، بل إن بُديلاً هذا كان صديقًا شخصيًّا لأبي سفيان زعيم مكة، ومع ذلك فحين أصيب لم يذهب إليه ليجعله يردُّ له ولقبيلته الاعتبار، أو أن يدفع لهم ديات قتلاهم، إنما ذهب ليشكو لمن لا تضيع عنده الحقوق، ذهب إلى رسول الله .



وإني على أتم يقين أنه حين ذهب بُديل إلى رسول الله كان أقصى أحلامه أن يأخذ الرسول الفداء لخزاعة، أو يقتل من بني بكر ما يوازي ما قُتل من خزاعة، لكنه لم يخطر بباله أن الرسول سيفكر في فتح مكة، إلا أنه دُفِع إلى هناك ليكون سببًا من أسباب فتحها.



وسبحان الله! فإنه أمر غريب وعجيب، لكنه يحدث ونراه بأعيننا حتى نعلم أن النصر بالفعل يأتي من حيث لا نحتسب، مع الوضع في الحسبان أن بُديلاً كان مشركًا، ولم يؤمن بالإسلام حتى هذه اللحظة، وغير مقتنع بهذا الدين، بل لعله يكره تمامًا أن تفتح مكة بالإسلام، لكن قاده رب العالمين I إلى المدينة المنورة ليستغيث بالرسول ؛ ليكون هو سببًا من أسباب فتح مكة بالإسلام.



فهي ترتيبات وموافقات عجيبة ليجيء النصر في النهاية بطريقة لا يحسب حسابها أحد من المسلمين أو من المشركين.



وهذه إذن السُّنة الثانية من أمور فتح مكة، وهي أن الله I يأتي بالنصر من حيث لا يحتسب المحتسبون.



د. راغب السرجاني

[1] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب فضل الجهاد والسير (2631)، ترقيم البغا. مسلم: كتاب الإمارة، باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير وبيان معنى "لا هجرة بعد الفتح" (1864)، ترقيم فؤاد عبد الباقي.

[2] ابن كثير: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة - بيروت، 1396هـ- 1971م، 2/386.

[3] المباركفوري: الرحيق المختوم ص340.

[4] ابن قيم الجوزية: زاد المعاد، مؤسسة الرسالة، بيروت - مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، الطبعة السابعة والعشرون, 1415هـ- 1994م، 3/396.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 3 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

صفحة 3 من اصل 4 الصفحة السابقة  1, 2, 3, 4  الصفحة التالية

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى