شمسولوجي - منتدي طلبة طب عين شمس
السلام عليكم

نورتنا يا ....

لو هتتصفح المنتدي كزائر .. توجة للقسم اللي انت عايزة من المنتدي ...

للتسجيل .. اتفضل افعص علي زرار التسجيل ..

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

شمسولوجي - منتدي طلبة طب عين شمس
السلام عليكم

نورتنا يا ....

لو هتتصفح المنتدي كزائر .. توجة للقسم اللي انت عايزة من المنتدي ...

للتسجيل .. اتفضل افعص علي زرار التسجيل ..
شمسولوجي - منتدي طلبة طب عين شمس
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

قصة المدينة

صفحة 2 من اصل 4 الصفحة السابقة  1, 2, 3, 4  الصفحة التالية

اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 2 Empty طبائع اليهود والنفسية اليهودية

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:57 am

طبائع اليهود

بعد ما تم الاتفاق على بنود المعاهدة بين رسول الله واليهود، لا بد أن نقف وقفة ونسأل: لماذا وافق اليهود على هذه البنود التي في المعاهدة مع أنهم قوة لا يُستهان بها، والمؤمنون أمة في طور الإنشاء؟



طبائع اليهوداليهود أعداد كبيرة، وسلاح وقلاع واستقرار وتاريخ ومال وأشياء كثيرة جدًّا، إنها قبائل قوية، والدولة الإسلامية ما زالت في طور الإنشاء، لم يعترف بها أحد بعدُ، فلماذا قَبِلَ اليهود بهذه الدنية في المعاهدة؟ لماذا سلموا رقابهم لرسول الله وللمؤمنين معه مع قوتهم؟



والإجابة في النقاط التالية:


1- الجبن من طبائع اليهود

في طبيعة اليهود الجبن الشديد، والله I ذكر ذلك في أكثر من موضع في كتابه الكريم: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ} [الحشر: 13].



وقال: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 96]، أيّ حياةٍ.



إذن أول سبب أن من فطرة اليهود الجبن الشديد، وهذا أمر لا بد أن نعرفه جيدًا في تعاملنا مع اليهود.


2- الوحدة بين المسلمين

وهو الأمر الموازي للسبب الأول؛ فهذا الجبن الشديد من جهة اليهود لو قُوبِل بجبن أكبر من المسلمين فسترجح الكفة لصالح اليهود، لكن على العكس كان الرسول يقف في صلابة وفي قوة وفي بأس واضح، ومعه مجموعة من المؤمنين على قلب رجل واحد، وحدة المسلمين هي القوة التي وقف بها الرسول في مواجهة اليهود، والثبات على المبدأ، وتسابق الصحابة بشتى طوائفهم: أوسهم وخزرجهم ومهاجريهم - من مكة المكرمة ومن غيرها - على السمع والطاعة لقائد واحد وزعيم واحد بمنهج واحد، كان له أثر كبير في إيقاع الرهبة في قلوب اليهود.


3- الفرقة بين طوائف اليهود

الفُرقة الشديدة بين فرق اليهود، فنحن نتكلم عن اليهود وكأنهم فريق واحد، ولكن الواقع أن بني قينقاع غير بني النضير، وهذان غير بني قريظة وهكذا. كل فرقة منهم مختلفة، بل بالعكس بينهم عداوات مريرة، والله I قال ذلك في كتابه: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ} [الحشر: 14]. أي إذا نظرت من بعيد تحسب أن دولة اليهود موحدة.



بنو قريظة كانت تحالف الأوس، وبنو قينقاع وبنو النضير كانا يحالفان الخزرج؛ لذلك كانوا عندما تقوم حرب بين الأوس والخزرج تشتعل حرب أخرى بين بني قريظة من ناحية، وبني قينقاع وبني النضير من ناحية أخرى، هكذا يتضح الخلاف الشديد بينهم، ورسول الله يعلم ذلك الأمر، وقال كلماته الشديدة في معاهدته بقوة، وهو يعلم أن اليهود لن يجتمعوا أبدًا على قلب رجل واحد بنص كلام رب العالمين I.


4- خوف اليهود على مصالحهم

وهذا أمر مهم، وهو أن اليهود قبلوا بهذه التنازلات حفاظًا على مصالحهم؛ فهم لا يريدون الدخول في مواجهات مع الأوس والخزرج؛ لأنهم لو دخلوا في مواجهة مع الأوس والخزرج فلمن سيبيعون إذن؟ إن الذي يشتري منهم في الأساس هم أهل المدينة، فلو حدثت حرب بينهم وبين الأوس والخزرج ضاعت التجارة اليهودية، فالتجارة والمال هما عصب حياة اليهود، إنهم يحرفون الكتاب، ويخونون العهود، ويغيرون المواثيق من أجل حفنة من المال، والله يقول عنهم في كتابه العزيز: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 161].



إذن من أجل المال، ومن أجل أن يستمر الاقتصاد اليهودي في العمل، وفي الإنتاج، وفي البيع لا بد أن يعاهدوا أولئك القوم، والرسول يعرف جيدًا أن المصالح اليهودية في أيدي المسلمين.


5- الرهبة في قلوب الكافرين عند لقاء المؤمنين

الرهبة الشديدة التي تقع في قلوب الكافرين عند لقاء المؤمنين، وهذا أمر ليس له أسباب مادية، فهو جندي من جنود الرحمن، قال الله : {فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر: 2].



بدون أي مبررات مادية يقع الرعب في قلوب الكافرين عند لقاء المؤمنين، بشرط أن يكونوا مؤمنين حقًّا، والله وعد أن ينصر من نصره، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].



وقال : "نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ"[1].



أي أنه قبل أن يلتقي رسول الله بعدوه بشهر، يكون العدو قد امتلأ رعبًا وفزعًا، مع أن الفارق في القوة المادية كبيرٌ ولصالح العدو من حيث الأعداد والعتاد والحصون والقلاع والتاريخ وأمور كثيرة في صالح العدو، ومع ذلك يقع الرعب في قلوبهم؛ لأن الله هو الذي يقذف الرعب في قلوبهم.



إذن لهذه الأمور، فإن اليهود عندما جلسوا على طاولة المفاوضات مع الرسول دبَّ الرعب في قلوبهم من اللحظة الأولى؛ فقبلوا بهذه الشروط؛ لذا فعندما ترى بأس اليهود وقوتهم على المسلمين في أزمان أخرى، فاعلم أن المسلمين خالفوا شرع ربهم I؛ ولذلك هانوا على الله ، فهانوا على اليهود وعلى غيرهم من الناس، عندها تجد خمسة أو ستة ملايين يهوديّ يُمْلون قراراتهم على أكثر من مليار من المسلمين، وهذا بالطبع ميزان مقلوب، وسببه ليس قوة اليهود، بل ضعف المسلمين، ولا بد أن يعود المسلمون إلى أصولهم حتى يستردوا مجدهم وعزتهم.


لا بد للحق من قوة تحميه

هذه القاعدة من الأهمية بمكان، فإذا كنت مُعاهِدًا لليهود فلا بد أن تكون لك قوة تحميك، فليس من الحكمة مطلقًا أن تعاهد اليهود - حتى لو كانت كل البنود شرعية - دون أن يكون لك قوة مخوفة لليهود؛ لأن من طبيعة اليهود التمرد والمخالفة ونقض العهود، ولو لم يكن لديك قوة فما أيسر المخالفة عندهم، استمع إلى كلام الله عنهم: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 100].



سنفترض أن اليهود خالفوا المعاهدة مخالفة صريحة جدًّا، ماذا ستفعل؟



هل ستكتفي بالشجب والإدانة والصراخ والولولة ولطم الخدود؟ إن هذا لا يصلح مع موازين القوى العالمية؛ لأن المعاهدات مع اليهود تحتاج إلى قوة وشجاعة، وإلى نظر في سيرة الرسول ، وكيفية معاملته لليهود، تحتاج إلى تحديد كيفية التصرف مع اليهود لو خالفوا.



ورغم وفاء المسلمين بالعهد إلا أن اليهود بدءوا في التحرُّش بالمسلمين، وكعادتهم دائمًا يكون التحرش بصورة غير مباشرة، أي أنهم يدفعون غيرهم لتحقيق أهدافهم دون أن يكون لهم ظهور واضح في الأمر. فماذا فعلوا؟



هذا ما سنعرفه في المقال القادم إن شاء الله.



د. راغب السرجاني

[1] البخاري: كتاب التيمم (328). مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة (521).
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 2 Empty سرايا الرسول وفوائدها

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:57 am

سرايا الرسول الأولى في المدينة

سيف الرسولبعد نزول آية الإذن بالقتال قام رسول الله بالإعداد التربوي والنفسي للصحابة حتى أصبح الصف الإسلامي جاهزًا للصدام المروع مع قريش. وهنا بدأت الدوريات العسكرية الإسلامية تجوب المنطقة بحثًا عن قوافل قريش المتجهة إلى الشام. وهنا نلاحظ شيئًا مهمًّا، وهو اختيار الرسول أن تكون هذه الدوريات مكوَّنة من المهاجرين فقط، وذلك لعدة أسباب:



1- أنهم هم الذين وقع عليهم الظلم من قريش، وستكون حربهم مع قريش حربًا مفهومة لكل أهل الجزيرة العربية، وسيعذرونهم فيها تمامًا، وبذلك لا تفهم صورة الإسلام بطريقة خاطئة، وخاصة في أيام الإسلام الأولى حيث لم يسمع عنه بعدُ كل العرب.



2- أن المهاجرين سيكونون أكثر حمية وأشد قوة لكونهم يستردون حقًّا شخصيًّا لهم سلبته قريش منهم قبل ذلك، ففرصة النصر في جيش المهاجرين أكبر من فرصة الجيش المختلط من المهاجرين والأنصار.



3- معرفة المهاجرين بأهل قريش وطرق حربهم وقتالهم، فقد عاشوا بين أظهرهم ردحًا طويلاً من الزمن.



4- رفع الروح المعنوية للمهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم وذكرياتهم بإعطائهم الفرصة لتعويض ما خسروه ماديًّا ومعنويًّا.



5- وهو السبب الرئيسي، حيث لم يُرِد الرسول أن يُحرِج الأنصار بالخروج في قتال ضد قريش خارج المدينة؛ لأنه قد بايعهم على نصرته داخل المدينة إذا قدم إليهم مهاجرًا، ولم يذكر في البيعة -بيعة العقبة الثانية- أمر القتال خارج المدينة، فهو بذلك لا يريد أن يحمِّلهم عبئًا لم يتفق معهم عليه، وسيظهر هذا واضحًا جليًّا في غزوة بدر، حيث كان متردِّدًا في القتال حتى يسمع رأي الأنصار في القتال خارج المدينة، مع العلم أن رسول الله لو أمر الأنصار أمرًا مباشرًا فإنهم -ولا شك- سيطيعونه، ولكنه كان وفيًّا في عهوده، لا يأخذ الناس بسيف الحياء، ولا يحمِّلهم ما لم يتفق معهم على حمله.


خلفاء رسول الله على المدينة

وإذا كنا قد وقفنا وقفة مع نوعية المقاتلين في هذه المعارك الأولى في الإسلام، فإننا نحتاج إلى أن نقف وقفة أخرى مع أولئك الذين استخلفهم رسول الله على المدينة المنورة في المرات التي خرج فيها بنفسه مع المهاجرين في المعارك.



فقد كانت هناك عدة معارك تمت في غضون سنة واحدة، ابتداءً من شهر رمضان سنة 1 هجرية إلى رمضان سنة 2 هجرية. والمعركة التي كان رسول الله يخرج فيها اصطلح المؤرخون على تسميتها غزوة، أما المعارك التي كان يرسل فيها رسول الله أحد القادة ولا يخرج بنفسه فكانت تسمى سرية. وفي غضون هذه السنة التي نتحدث عنها خرج المسلمون للقتال ثمان مرات، أي بمعدل مرة كل شهر ونصف تقريبًا، وكانت هذه المعارك عبارة عن أربع غزوات وأربع سرايا. ومفهوم أن الذي كان يرأس المدينة حين خروج السرايا كان رسول الله ، ولكن اللافت للنظر هو ما كان يحدث عند خروج رسول الله للغزو، فقد خرج رسول الله في هذه السنة أربع مرات، واستخلف على المدينة المنورة أربعة رجال مختلفين، وهم: سعد بن عبادة، ثم سعد بن معاذ، ثم زيد بن حارثة، ثم أبو سلمة بن عبد الأسد أجمعين.



أما تنوع الرجال فهذا أمر مفهوم، فقد كان الرسول يربِّي قيادات تستطيع تحمل المسئولية، ويدربهم على ذلك تدريبًا حقيقيًّا واقعيًّا.



وأما قيادة سعد بن عبادة أو سعد بن معاذ للمدينة المنورة في غياب رسول الله فهذا أمر مفهوم أيضًا، فالأول هو سيد الخزرج والثاني هو سيد الأوس، لكن اللافت للنظر حقًّا هو ولاية زيد بن حارثة في مرة، وأبي سلمة بن عبد الأسد في مرة أخرى، فهذان الصحابيان من المهاجرين وليسا من الأنصار، وولايتهم على المدينة قد تكون مستغربة، وإن كانت تدل على شيء، فإنما تدل على أمور في غاية الرقي؛ منها طاعة الأنصار الكاملة لرسول الله ، ومنها أن المدينة أصبحت كيانًا واحدًا لا فرق فيه بين مهاجريٍّ وأنصاريّ، ومنها زهد الأنصار في الدنيا وعدم رغبتهم في الرئاسة أو الملك، فإذا أضفت إلى هذا أن زيد بن حارثة كان مولًى يُباع ويشترى علمت مدى الانقلاب الهائل الذي أحدثه الإسلام في نفوس العرب حتى قَبِل أشراف الأنصار والمهاجرين بولاية زيد بن حارثة عليهم، ما دام يحكمهم بالإسلام وبأمر رسول الله .



والجميل أن هذا التغير الهائل في طبيعة العرب لم يتطلب أعوامًا أو قرونًا، إنما كان عدة أشهر فقط؛ لأن زيد بن حارثة تولَّى قيادة المدينة عندما خرج الرسول إلى غزوة سَفَوان التي كانت في ربيع الأول سنة 2 هـ، أي بعد اثني عشر شهرًا فقط من هجرة رسول الله إلى المدينة. فما أجلَّ الإسلام! وما أرقى تربيته!


سرايا الرسول وترتيبها

أما بالنسبة لسرايا الرسول وغزواته في العام الأول والثاني من الهجرة، فكانت بالترتيب التالي:



1- سرية سِيف البحر: في رمضان سنة 1هـ بقيادة حمزة بن عبد المطلب .



2- سرية رابغ: في شوال سنة 1هـ بقيادة عبيدة بن الحارث بن المطلب .



3- سرية الخرَّار: في ذي القعدة سنة 1هـ بقيادة سعد بن أبي وقاص .



4- غزوة الأبواء أو وَدَّان: في صفر سنة 2هـ بقيادة الرسول .



5- غزوة بُوَاط: في ربيع الأول سنة 2هـ بقيادة الرسول .



6- غزوة سَفَوان: في ربيع الأول أيضًا سنة 2هـ بقيادة الرسول .



7- غزوة ذي العشيرة: في جُمادى الأولى سنة 2هـ بقيادة الرسول .



8- سرية نخلة: في رجب سنة 2هـ بقيادة عبد الله بن جحش .


فوائد السرايا والغزوات

وبنظرة عامة على هذه السرايا والغزوات نجد أنه لم يحدث قتال تقريبًا في المعارك السبع الأولى. ومع ذلك فهي لم تخلُ من فائدة، بل كان فيها فوائد جمَّة:



أولاً: لقد كسرت حاجزًا نفسيًّا كان عند المسلمين من جرَّاء المنع من القتال لمدة 14 سنة بالتمام والكمال، فالمسلمون أُمِرُوا بعدم حمل السيف في وجه من يظلمهم طيلة هذه المدة، وترك الدفاع عن النفس كل هذه الفترة قد يورث ضعفًا في النفس أو شعورًا بقلة الحيلة، وقد يقود إلى إلف الذل والهوان. فجاءت هذه السرايا والغزوات البسيطة نسبيًّا كوسيلة متدرجة للصعود بنفسيات الصحابة من حالة الاستكانة إلى حالة الاستنفار والنهوض، ومن حالة الصبر على عدم الدفاع إلى حالة الصبر على تبعات الهجوم. لقد نقلت هذه السرايا والغزوات جيل المهاجرين من كونهم مجرد جماعة مضطهدة إلى كونهم دولة ممكنة لها جيش ينفذ خططها، ويحافظ على أمنها، ويرهب أعداءها، ويحفظ كرامتها. لقد كانت نقلة نفسيَّة رائعة.



ثانيًا: فهذه الغزوات والسرايا درَّبت الصحابة على فنون القتال وركوب الخيل والحرب على الإبل، والمناورة والخطة والتحرك والترقب.



نَعَمْ هؤلاء من الفرسان، والعرب بصفة عامة كانوا يركبون الخيل والإبل ويحاربون بالسيف والدرع، لكن لإتقان مهارة معينة لا بد من تدريب، وخاصّةً أن المسألة ليست مجرد مسابقة أو استعراض، إنما هي حياة أو موت. والأمر إنما يتعلق ببقاء أمة وعلوِّها أو زوالها وفنائها.



ثالثًا: هذه الدوريات العسكرية عرَّفت المسلمين الدروب والطرق حول المدينة المنورة، وبذلك أدركوا نقاط القوة والضعف في المنطقة، وعرفتهم ديار القبائل المحيطة وقوتها. ولا ننسى أن المهاجرين الذين يمثِّلون العنصر الوحيد في هذه الجيوش ليسوا من أهل المدينة، وإنما عاشوا حياتهم بكاملها في مكة بعيدًا عن هذه البقاع بنحو خمسمائة كيلو متر تقريبًا.



رابعًا: أشعرت هذه الدوريَّات العسكرية المتكررة القبائل المحيطة بقوة المسلمين، وكشفت جرأتهم في مواجهة قريش أكبر القبائل العربية وأقواها، ولا شك أن هذا الأمر قد أدخل الرهبة في قلوب هذه القبائل وخاصة الأعراب، فعملت للمسلمين حسابًا، وأدركوا أن موازين القوى في المنطقة في طريقها للتغير.



خامسًا: نتيجة هذه القوة التي ظهرت للمسلمين استطاع المسلمون أن يقوموا بعقد بعض المعاهدات مع بعض قبائل المنطقة، والتي هي عبارة عن معاهدات حسن جوار، بل ودفاع مشترك. فعلى سبيل المثال عقد رسول الله معاهدة مع قبيلة بني ضمرة، وذلك في غزوة الأبواء، كما عقد معاهدة مع قبيلة بني مدلج، وذلك في غزوة ذي العشيرة. ولا شك أن هذه المعاهدات زادت من قوة المسلمين، ورسخت أقدامهم في المنطقة.



سادسًا: كانت هذه الدوريات العسكرية الباحثة عن قوافل قريش التجارية بمنزلة إعلان إسلامي صريح للحرب على أهل مكة الكافرين، وكانت مكة قد أعلنت الحرب من قديم على المسلمين، لكن هذا هو الإعلان الرسمي الأول على مكة، ولا شك أنه سيلقي بظلاله على العلاقة بين الدولتين، فهي لن تستمر على وضعها السابق كعلاقة ظالم بمظلوم، أو كعلاقة مستبد بمقهور، إنما ستصبح من الآن فصاعدًا علاقة دولة بدولة أخرى تكافئها وتناظرها، ومن المؤكد أن هذا سيؤثر سلبًا في نفسيات أهل مكة، وهم يشاهدون قوة المسلمين تتنامى، وأعدادهم تتزايد، وجرأتهم تزيد.



وهذه الفائدة كانت من أعظم فوائد هذه الدوريات الإسلامية، رغم أنها -كما أسلفنا- لم تلقَ قتالاً يُذكر.



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 2 Empty سرية نخلة وتداعياتها في الجزيرة العربية

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:58 am

سرية نخلة

سرية نخلة من المعارك التي كان لها تداعيات كبيرة ليس على المسلمين فحسب بل على الجزيرة العربية بكاملها؛ لذلك فهي تحتاج منا لوقفة خاصة.



خرجت سرية نخلة من المدينة المنورة في شهر رجب سنة 2 هجرية لاعتراض قافلة لقريش تمرّ بمنطقة اسمها نخلة، وهي تقع بين مكة والطائف، وكانت هناك مشكلتان تتعلقان بأمر هذه السرية، المشكلة الأولى في المكان أو الموقع، وأما المشكلة الثانية ففي الزمان أو التوقيت.


موقع سرية نخلة

خريطة لموقع سرية نخلةأما المشكلة الأولى فهي مشكلة مكان سرية نخلة، وهي أن منطقة نخلة تقع على بُعد حوالي 480 كيلو متر تقريبًا من المدينة المنوَّرة، وهي مسافة طويلة جدًّا، وخاصّةً أنها سرية صغيرة لا يتجاوز عددها اثني عشر رجلاً، فأمرها من الخطورة بمكان، لا سيما أنها قريبة جدًّا من مكة، ولو علم المشركون بأمر هذه السرية فإن قتالها والسيطرة عليها سيكون أمرًا سهلاً على جيش مكة؛ ولذلك فقد يتردد المسلمون المكلفون بهذا الأمر في قضية هذا القتال البعيد.

انظر فلاشة سرية نخلة

ومن ثَمَّ فقد اختار رسول الله طريقة فريدة لإخراج هذه السرية لم يكررها مع سرية أخرى؛ وهي أنه كتب تكليف هذه السرية في كتاب مغلق، وأعطاه لقائدها عبد الله بن جحش ، وأمره أن يسير بهذا الكتاب المغلق مدة يومين ثم يفتحه بعد ذلك، فلما فتحه عبد الله بن جحش بعد يومين وجد فيه: "إذا نظرت في كتابي هذا فامضِ حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصَّد بها عير قريش، وتَعْلَمَ لنا من أخبارهم".



ثم بعد ذلك أمره رسول الله صلى الله علي وسلم ألا يُكرِه من معه على الخروج إلى هناك، ولكن يخرج كل منهم بإرادته. فهنا قام عبد الله بن جحش ، وقال لأصحابه: "من أحبَّ الشهادة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع، وأما أنا فناهض". فنهضوا جميعًا معه، واتجهوا إلى منطقة نخلة[1].



والذي دفع رسول الله إلى هذا المسلك الفريد في التوجيه لسرية نخلة هو صعوبة المسألة وبُعد الشُّقَّة. فلو أنه أمر الصحابة أمرًا مباشرًا في المدينة بالخروج إلى هذه المسافة البعيدة، فقد يتردد البعض في هذا التكليف الشاقّ، أما إن أتاهم التكليف بعد أن يكونوا قد قطعوا بالفعل مسيرة يومين -أي حوالي خُمْس الطريق تقريبًا- فإنهم يكونون على الاستجابة أقدر. ومع ذلك فهو لم يُرِد أن يفرض عليهم هذا الأمر الشاقّ فرضًا، ولكنه ترك لهم حرية الاختيار، فقال لعبد الله بن جحش : "ولا تُكره منهم أحدًا". وبذلك ترك لهم الأمر مع علم رسول الله بحبهم للجهاد في سبيل الله، وثقته في أنهم كلهم أو معظمهم سيذهب لإتمام المهمة، وهو ما كان بالفعل. كانت هذه مشكلة المكان.


توقيت سرية نخلة

أما مشكلة الزمان فهي أن هذا الخروج كان في شهر رجب، وهو من الأشهر الحرم التي تحرم العرب الحرب فيها، ويتفق على ذلك المؤمنون والكافرون -قال كثير من الفقهاء بعد ذلك: إن ذلك الحكم قد نُسخ- ولذلك فرسول الله كان دقيقًا في توجيهاته لجنوده، فقال لهم: "فترصد بها عير قريش، وتعلم لنا من أخبارهم". ولم يأمرهم بقتال لا تصريحًا ولا تلميحًا، بل يريد فقط رصدًا لعير قريش ومعرفة أخبارهم، ولم يصرح بالمنع من القتال في الشهر الحرام؛ لأن هذا أمرٌ معلوم عند الجميع ولا يحتاج إلى توضيح، وقد ظهر ذلك في حوار الصحابة عندما رأوا قافلة قريش عند منطقة نخلة.



ثم إن الصحابة وصلوا بالفعل إلى منطقة نخلة ووجدوا بالفعل القافلة التي ذكرها لهم رسول الله ، ولكنهم وصلوا في آخر ليلة من الشهر الحرام رجب، وكانت القافلة في طريقها إلى مكة على بُعد ليلة واحدة منها، ولو تركوها حتى تأتي الليلة الأولى من شعبان فإن القافلة سَتَفْلت، وستدخل حرم مكة، وكانت القافلة بالنسبة لهم فرصة لأكثر من سبب:



فهي أولاً: ستكون الضربة الأولى لقريش؛ لأن كل الغزوات والسرايا السابقة لم تُسفِر حقيقةً عن أيِّ غنائم أو انتصارات.



ثانيًا: هذه الضربة في عمق الجزيرة العربية بعيدًا جدًّا من عقر دار المسلمين، وقريبًا جدًّا من عقر دار الكافرين، وهي تحمل جرأة لا تَخْفى على أحد، وسيكون لها أثر سلبي ضخم في المشركين.



ثالثًا: الحراسة في صحبة القافلة ضعيفة وقليلة، وليست إلا أربعة رجال فقط، بينما المسلمون عشرة.



رابعًا: المسلمون في هذه السرية من المهاجرين الذين أوذوا إيذاءً كبيرًا من قريش، بل إن قائدهم عبد الله بن جحش قد سلبت داره شخصيًّا حين استولى عليها أبو سفيان بن حرب بعد هجرة عبد الله بن جحش وباعها لنفسه.



كل هذه العوامل جعلت الفرقة الإسلامية تتحمس للانقضاض على القافلة، لكن في نفس الوقت هذه آخر ليلة في الشهر الحرام رجب، والقتال فيه ممنوع.



أيصرُّ الصحابة على القوانين التي انتهكت مئات وآلاف المرات من عدوهم، ويضيِّعون فرحة السيطرة على القافلة أم يلتزمون بالقانون ولا يقتربون من القافلة؟



أيرفع الصحابة الظلم الذي وقع عليهم منذ سنين قد جاءت فرصة قد لا تكرر بسهولة، أم يتركون هذه الفرصة الثمينة؟ أيراعي المسلمون الآن الشهر الحرام ولا يعتدون على قريش، وقد سلبت أموالهم وهتكت أعراضهم وسالت دماؤهم في مكة البلد الحرام، وفي الأشهر الحرام قبل ذلك على يد نفس القرشيين أصحاب القافلة؟



لقد كانت أسئلة محيرة في أذهان الصحابة ، فجلسوا معًا يتشاورون، وبعد الشورى أخذوا القرارات برفع الظلم الذي وقع عليهم، وأن يهجموا على القافلة في الليلة الأخيرة من شهر رجب.



بالفعل قامت الفرقة الإسلامية بالهجوم على القافلة، وقتل في هذا الهجوم أحد المشركين هو عمرو بن الحضرميّ، وأُسِر اثنان منهم هم: عثمان بن عبد الله بن المغيرة والحكم بن كيسان، بينما فرَّ الرابع نوفل بن عبد الله بن المغيرة، وغنم المسلمون القافلة بأكملها، وعادوا بها وبالأسيرين إلى المدينة المنورة.



وكان هذان هما أول أسيرين في الإسلام، وكان هذا هو أول قتيل في الإسلام، وكانت هذه هي أول غنائم ذات قيمة في الإسلام.



لقد كان يومًا فاصلاً في تاريخ الجزيرة العربية.


موقف قريش مما حدث

قامت الدنيا ولم تقعد في كل الجزيرة العربية، وتباينت آراء الناس حول الحدث الكبير. أما قريش -فعلى كفرهم وظلمهم- فإنهم لبسوا لباس الشرف والدين والأخلاق، وقالوا: إن المسلمين انتهكوا الحرمات، وخالفوا الأعراف، وتعدَّوا على القوانين. سبحان الله! من الذي يتكلم؟! قريش تتحدث عن الحرمات والأعراف والقوانين!!



ألم تكن مكة بلدًا حرامًا، حرم فيه قتل الحيوان وقطع النبات، فضلاً عن إيذاء الإنسان؟! ألم تكن هناك مخالفة لأعراف مكة والجزيرة عندما تخلَّى الأهل والأحباب والأصحاب عن أشرف رجالهم الذي كان يلقبونه بالصادق الأمين، فأغروا به سفهاءهم وأهانوه هو وصحبه حتى اضطُرَّ لترك الديار والأهل والعشيرة؟!



أليس من قوانين مكة والجزيرة ألا يظلموا وألا يقبلوا بظلم؟! أليست أجساد المسلمين حرمات؟! ألم تشهد مكة البلد الحرام جلدًا وإغراقًا وإحراقًا وتقتيلاً لرجال ونساء ليس لهم من جريمة إلا أنهم آمنوا بالله ؟ ألم تكن هذه الدماء حرامًا؟ أين احترام القوانين؟ وأين حفظ الحرمات؟ وأين الالتزام بالأعراف؟



لماذا أرادت قريش أن يطبَّق القانون على المسلمين في مرةٍ خالفوا فيها، بينما لم تطبق على نفسها القانون في مرات ومرات وقعت فيها المخالفة بشكل علني وصريح؟



إن هذا هو الكيل بمكيالين، دَيْدن كل الظالمين؛ لا يلجئون إلى القانون إلا إذا كان يحكم لهم، فإذا حكم لغيرهم كانوا أول المخالفين. أهذا منطق يُعْتد به؟! وإلى الآن كثير من الدول الظالمة تعيش بهذا المبدأ الفاسد؛ كل يوم تنتهك الأعراف العالمية، وتدمر القوانين الدولية، وليس هناك من يتكلم أو يعترض، فإذا خالف المسلمون مرة قامت الدنيا ولم تقعد.



تمتلك دول كثيرة في العالم السلاح النووي، فإذا فكرت دولة إسلامية في اقتنائه، أو شكُّوا في أنها ستقتنيه قامت الدنيا ولم تقعد.



أليس هذا كيلاً بمكيالين؟ أحرام على المسلمين وحلال لغيرهم؟ هذا لا يمكن أن يكون منطق الحق والعدل، إنما هذا منطق القوة، والقوة الظالمة.



وقد كان هذا منطق قريش في ذلك الوقت؛ لم تكن ثورة قريش الإعلامية لإيمانها الحقيقي بعدم جواز خرق القانون، وإنما كانت ثورتها لأنها هي المصاب الآن، ولو كان غيرها ما تكلمت، بل لعلها كانت ستُؤيِّد وتُبارك. {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطَفِّفين: 1- 3].



كان هذا هو موقف قريش!!



وأما رسول الله فقد وُضِعَ في حرج شديد، ولم يكن عنده وحي بهذا الشأن، وهو لا يُقِرُّ بصفة عامة خرق القوانين والحرمات، ولم يأمر بقتال في الشهر الحرام ولم يرده، ولم يسعد به عندما حدث برغم كل الآلام التي عاناها قبل ذلك من قريش، ولكنها مسألة مبدأ.



لقد أنكر الرسول على الصحابة ما فعلوه، وقال: "مَا أَمَرْتُكُمْ بِقِتَالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ"[2]. ولم يكتفِ بذلك بل أوقف التصرف في القافلة والأسيرين إلى أن يأتي وحيٌ يرشده إلى القرار الأحكم في هذه القضية.



وأما الصحابة الذين قاموا بالسرية فقد أسقط في أيديهم، ورأوا أنهم قد أخطئوا في الاجتهاد، وجاء إليهم بقية الصحابة ممن لم يشارك في السرية يلومونهم ويعنفونهم ويلقون على أكتافهم تبعات الحدث الخطير. لقد كان موقفًا متأزمًا حقًّا.



وبينما الجو العام في الجزيرة يسير نحو تحميل هذه الفرقة الإسلامية الخطأ في هذا الذي فعلوه، وتتفق على ذلك آراء أهل مكة والمدينة على حدٍّ سواء، مع اختلاف أيدلوجياتهم وتصوراتهم. بينما الجو العام على هذه الصورة نزل الوحي من عند رب العالمين بما فاجأ الجميع.


القرآن يضبط الموازين

لقد نزل القرآن الكريم يوضح للناس كافة -مؤمنهم ومشركهم- الحقائق كما ينبغي أن تكون، ونزل ليبين للناس ما اختلفوا فيه، ونزل ليخرج المسلمين من المثالية غير الواقعية إلى فقه الواقع وفقه الموازنات وفقه الأولويات، ونزل ليفضح مكر الماكرين وكيد الكافرين، ونزل لينصر ويؤازر الطائفة المؤمنة الصادقة التي أرادت أن ترفع عن كاهلها وكاهل المسلمين بعض ما وقع عليهم من ظلم.



لقد نزلت آيات كريمات من سورة البقرة. قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217].



لقد قال الله أنه لا معنى أبدًا لتلك الضجة المفتعلة، والتمثيلية الهزلية التي قام بها كفار قريش، فعلى الرغم من أن القتال في الشهر الحرام كان ممنوعًا في ذلك الوقت -وما زال ممنوعًا في رأي بعض الفقهاء- وبرغم أن القتال في الشهر الحرام أمر كبير لا ينبغي أن يسعى إليه المسلمون إلا أن ما فعلته قريش أكبر وأعظم من ذلك، والكفر بالله وعبادة الأصنام من دون الله أكبر من القتال في الشهر الحرام، ومنع المسلمين من الطواف بالكعبة وأداء المناسك أكبر من القتال في الشهر الحرام، وفتنة المسلمين عن دينهم بالتعذيب والتشريد والقتل أكبر من القتال في الشهر الحرام، وكل ذلك فعلته قريش، ولم تفعله مرة واحدة بصورة عابرة، إنما فعلته مرارًا وتكرارًا حتى أصبح عرفًا سائدًا وقانونًا معمولاً به، وكل هذه جرائم أكبر بكثير -كما وضح ربُّنا بنفسه في الكتاب- مما فعله المسلمون وهاجت له قريش.



إنها تمثيليَّة هزلية حقيقية عندما ينادي فرعون بقتل موسى ؛ لأنه -كما يدِّعي فرعون- يُظهِر في الأرض الفساد {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26].



إنها دعوى هزلية حقًّا، تمامًا كتلك الدعوى التي أطلقتها قريش بأن المسلمين ينتهكون الحرمات.



لقد علَّم القرآن الكريم المسلمين وغيرهم فقه الواقع، فليس من الممكن أبدًا في واقع الحياة أن تسير كل الأمور بفقه المثاليات، ولكن قد يحدث اضطرار يؤدي إلى بعض التجاوز في بعض الأمور، ومن هنا نشأت القاعدة الفقهية المعروفة: (دفع أكبر الضررين وجلب أكبر المنفعتين). فمعنى القاعدة أنني من الممكن أن أقبل بضررٍ ما في سبيل دفع ضرر أكبر منه، مع أن فقه المثاليات يقضي بأنه ينبغي أن تدفع كل الأضرار وليس بعضها، لكن هذا غير واقعي، وهذا مستحيل؛ لأنه لا بد أن تحدث أضرار ما، ولكن الحكمة تأتي في المقارنة بين الأضرار واختيار الأقل.



والمسلمون وقع عليهم ضرر كبير وكبير جدًّا، وهو الفتنة عن الدين والتعذيب والقتل والمنع من دخول المسجد الحرام، فليس من الخطأ أن أقبل بضرر القتال في الشهر الحرام -وهو أقل- لأدفع به جزءًا من الضرر الأكبر.



والمسلمون لم يحرصوا على الإتيان بالضرر الأصغر هذا، بل على العكس كانوا يتمنون لو كان القتال في شعبان وليس في رجب، ولكن القافلة كانت ستفلت، وسيستمر ضرر قريش الأكبر تجاه المسلمين في الوقوع، وهو ما يتنافى مع فقه الواقع.



لذلك فإن الله لم يكتفِ برفع الإثم عن الصحابة الذين شاركوا في سرية نخلة، بل أعطاهم ثواب المجاهدين في سبيل الله، فأنزل تعالى آيات في سورة البقرة توضح هذا المعنى. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218].



وبيَّن الله في هذه الآيات أن نيتهم كانت لله حيث قال: {أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ}. وبيَّن أيضًا أنه قد غفر قتالهم في الشهر الحرام حيث عقَّب الآية بقوله: {وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.



وهكذا أيد الله موقف الصحابة المجاهدين، ووضح الرؤية لعموم المسلمين؛ فهدأت النفوس، واطمأنت القلوب.



ثم إن رسول الله تعامل مع الحدث تعاملاً سياسيًّا حكيمًا، يجمع فيه بين القوة والعزة من جانب، وبين التفاهم والتحاور من جانب آخر؛ فقد أخذ القافلة كغنيمة ورفض أن يردها إلى قريش، واعتبرها جزءًا بسيطًا من ممتلكات المسلمين المسلوبة، ثم هو في الوقت نفسه لم يتشدد في أمر الأسيرين، بل على العكس قبل فيهما الفداء بالمال، ومع ذلك فهذا القبول كان في عزة عظيمة، وظهر ذلك في موقف مهم لرسول الله في قضية هذين الأسيرين، وهو أن السرية رجعت إلى المدينة بغير رجلين من الصحابة هما: سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان رضي الله عنهما، كانا يبحثان عن بعير لهما فقداه في الطريق، فهنا قرر الرسول ألا يفدي الأسيرين إلا بعد عودة الصحابيين الجليلين إلى المدينة، وذلك مخافة أن يكون كفار مكة قد ألقوا القبض عليهما وقتلوهما، فلما عاد الصحابيان أذن رسول الله في الفداء.



وهكذا كان رسول الله كقائدٍ حريصًا على جنوده، وحريصًا على عدم قطع قنوات الاتصال السياسية مع أعدائه؛ فقَبِل فداء الأسرى، بل وأعطى دية المقتول لأهله؛ وذلك ليفتح باب التعامل بالمثل إذا وقع في أيدي الكفار أسيرٌ مسلم أو قُتِل في يوم ما أحد المسلمين.



وهكذا أغلقت هذه الصفحة مؤقتًا لصالح المسلمين، وإن كان هذا الموقف كشف عن بعض الأحداث الخطيرة التي من الممكن أن تشهدها الجزيرة العربية مستقبلاً، وأضحت هناك مواطن خطر بارزة في منطقتين رئيسيتين هما مكة والمدينة.



فأما مكة فبها كفار قريش، وأما المدينة فبها اليهود.


الموقف السياسي لكفار قريش

بعد هذه السرية العظيمة، وهذا الاختراق المرعب لصفوف قريش، وهذا التحدي العظيم من القوة الإسلامية الجديدة، لا شك أن قريشًا ستعيد حساباتها وسترتِّب أوراقها من جديد؛ فالمسلمون وصلوا إلى مكان لا يتوقع المشركون أن يصل المسلمون إليه أبدًا، وسيطروا في جرأة عجيبة على قافلة ثرية من قوافل قريش، ولا يستبعد منهم تكرار هذا الأمر في أي مكان بالجزيرة، بل قد يتم غزو مكة بعد ذلك.



كل ذلك -لا شك- أنه سيدفع كفار مكة إلى أخذ تدابير وقائية، وقد يفكرون في غزو المدينة المنورة، وقد فعلوا ذلك من قبل في محاولة كُرْز بن جابر الفهري، ولعل المحاولة القادمة تكون أكبر من السابقة، وقد يفكر المشركون في اصطياد القوافل الإسلامية، وقد يفكرون في الهجوم على القبائل الإسلامية حول المدينة.



كل هذه احتمالات أصبحت واردة جدًّا، وقد يحدث صدام مروع قريب بين قوة المشركين المتمثلة في قريش وحلفائها، وقوة المسلمين الناشئة في المدينة المنورة.



هذا الخطر كان قادمًا من مكة.


موقف اليهود من السرية

هناك خطر أقرب كان متوقعًا من اليهود، فاليهود لم يظهروا أيَّ تعاطف لهذا الدين الجديد، اللهم إلا بعض الأفراد المعدودين على أصابع اليد الواحدة، وحاولوا الدس له والكيد لأصحابه مرة ومرات. وازداد كيدهم جدًّا بعد سرية نخلة، وبدءوا يجاهرون بموالاتهم لقريش الكافرة، وأظهروا الرغبة الجامحة في قدوم قريش لاستئصال المسلمين، وأبرزوا التفاؤل بالأسماء التي ورد ذكرها في سرية نخلة، وأن هذه الأسماء تشير إلى اقتراب حرب فاصلة بين قريش والمسلمين؛ فقالوا مثلاً: قُتِل عمرو بن الحضرمي، إذن عمرت الحرب، وحضرت الحرب. والصحابي الذي قَتَل عمرو بن الحضرمي هو واقد بن عبد الله ، فقالوا: واقد، إذن أوقدت الحرب[3].



وهكذا اهتم اليهود بنشر الدعاية المساعدة لقريش والشامتة في المسلمين، مما ينذر بقرب صدام بين المسلمين واليهود، أو على الأقل ينذر بتعاون يهودي مع القوى القرشيَّة المشركة.



إذن هناك صدام متوقع قريب مع قريش.



وهناك أيضًا صدام متوقع قريب مع اليهود.



وكل هذه الأحداث تتم الآن في شهر شعبان سنة 2 هجرية. والمرحلة القادمة تحتاج إلى وقفة مهمة للتحليل، ووضع السيناريوهات المتوقعة، والتصرُّف فيها.



فماذا عن موقف التشريع في المرحلة القادمة؟ وما هو القانون الجديد الذي فرض على المسلمين؟



هذا ما سنعرفه في المقال القادم إن شاء الله.



د. راغب السرجاني

[1] ابن هشام: السيرة النبوية، طبعة مصطفى البابي الحلبي، الطبعة الثانية، 1375هـ، 1/ 602. المباركفوري: الرحيق المختوم، دار الوفاء، مصر، الطبعة السابعة عشرة، 2005م، ص187.

[2] ابن هشام: السيرة النبوية 1/ 603 . المباركفوري: الرحيق المختوم ص187.

[3] ابن هشام: السيرة النبوية 1/ 604.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 2 Empty في الطريق إلى خيبر

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:59 am

وقوف يهود خيبر ضد الإسلام

خيبربعد أن قام النبي بمراسلة قادة وزعماء العالم، وإعلان العالم كله بهذا الدين الجديد، قام الرسول بفتح ملف خيبر. وخيبر -كما نعلم جميعًا- هي من أكبر التجمعات اليهودية في الجزيرة العربية، وملف اليهود مع الرسول بصفة عامَّة أسود، بل شديد السواد، وهذه السِّمة قد وَسَمَتْ كل فترات المعاملات، سواء في السِّلم أو في الحرب.



وكانت هناك معاهدة مع يهود المدينة المنورة: يهود بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، ولكن اليهود كان دأبهم الخيانة، وكان الأصل في الأمور والأصل في التعامل هو خيانة اليهود المتكررة، والتشكيك المستمر في دين الإسلام، ومحاولة إثارة الفتنة على الدوام. ثم تطور الأمر -كما تعلمون- إلى معارك حقيقية بين المسلمين ويهود القبائل الثلاثة، وانتهى الأمر بإجلاء قبيلتي بني قينقاع وبني النضير، وقتل رجال القبيلة الثالثة بني قريظة، ولم يبقَ من تجمعات اليهود الكبرى في الجزيرة إلا تجمع خيبر، وما حولها من تجمعات أصغر منها، مثل تجمع تيماء وتجمع فدك ووادي القرى، ولكن التجمع الرئيسي كان تجمع خيبر؛ وهذا التجمع الكبير كان من أكبر التجمعات اليهودية مطلقًا، والذي ازداد قوة بعد إجلاء يهود بني النضير؛ لأنهم انضموا بكل طاقتهم إلى يهود خيبر.



وإذا كنا قد رأينا من قبل أن كل التعاملات اليهودية مع الرسول -بلا استثناء- كان فيها خيانة وغدر وكيد وتدبير مؤامرات تلو المؤامرات، فإن يهود خيبر لم يخالفوا هذه القاعدة، مع أن عَلاقة يهود خيبر بالرسول لم تكن مباشرة كالقبائل اليهودية الثلاث، إلا أنهم لم يكفوا عن محاولتهم بالكيد للدولة الإسلامية الموجودة في المدينة المنورة.



وكان من أخطر محاولات ومؤامرات خيبر مؤامرة جمع القبائل العربية المختلفة لحرب المسلمين في المدينة المنورة، فيما عُرف بغزوة الأحزاب، وكوَّن يهود خيبر وفدًا كبيرًا جدًّا مكوَّنًا من عشرين زعيمًا من زعماء خيبر بالاشتراك مع بعض زعماء بني النضير، وبدءوا يجمعون القبائل العربية الكبرى مثل قريش وغطفان وغيرها لتحفيز هذه القبائل لحرب المسلمين، مع أنه لم تكن هناك علاقة مباشرة بين يهود خيبر ورسول الله . ولم يكتفِ يهود خيبر بدور التنسيق بين الأحزاب بل بذلوا المال أيضًا، فقد اتفقوا مع قبائل غطفان على أن يدفعوا لهم نصف ثمار خيبر؛ وذلك حتى يدفعوهم دفعًا لاستئصال المسلمين.



ونحن نعلم أن قبائل غطفان مثل المرتزقة يحاربون بالمال، لقد ضحت خيبر بنصف ثمارها حتى تدفع غطفان لحرب المسلمين، وكان لهم دور كبير جدًّا في إقناع بني قريظة بخيانة عهد رسول الله ، وأوشك هذا الأمر أن يؤدي إلى كارثة حقيقية، لولا أن الله لطف بعباده المؤمنين. ورغم فشل الأحزاب في غزو المدينة إلا أن يهود خيبر لم يكفوا قَطُّ عن محاولاتهم المضنية لإيذاء المسلمين، وثبت أنهم قاموا بالتخابر مع المنافقين في المدينة المنورة حتى يدبروا مؤامرات كيديَّة بالمسلمين، ووصل الأمر إلى محاولة اغتيال الرسول .



فهذا التاريخ الطويل من الكيد والدسِّ والمؤامرات كان يحتاج إلى وقفة من المسلمين، وكان من الأفضل أن تكون الوقفة بعد غزوة الأحزاب مباشرة، ولكن هذا لم يكن متيسرًا في ذلك الوقت؛ لأن الرسول كان يخشى أن تباغت قريش المدينة المنورة في أي لحظة، فمن الممكن أن تجمع العرب من جديد، وتحاصر المدينة المنورة وتقتحمها، إضافةً إلى أن الرسول لا يريد أن يترك المدينة المنورة بدون جند، وخاصةً أن حصون خيبر كانت شديدة الحصانة والقوة، وأعداد اليهود كانت كبيرة، والرسول كان متوقعًا أن فتح خيبر سوف يأخذ وقتًا طويلاً؛ لذلك لم يكن يريد أن يترك المدينة حتى يأمن جانب قريش؛ ولذلك أَجَّل قضية يهود خيبر حتى تأتي الفرصة المناسبة.


الظروف تتهيأ لفتح خيبر

جاء الوقت الذي ينتظره الرسول ، فبعد صلح الحديبية تغيرت الأوضاع، وأمن الرسول جانب قريش، فقد وضعت الحرب -كما تعلمون- بين الدولتين مدةَ عشر سنوات كاملة، وكان أول شيء فكر فيه الرسول بعد صلح الحديبية هو التوجُّه إلى خيبر؛ وذلك من أجل استغلال هذه الهدنة التي عقدها مع قريش في تأمين المدينة المنورة. وكان الرسول سريعًا في الخروج إلى خيبر، لدرجة أنه خرج بعد أقل من شهر من عودته من صلح الحديبية، فقد خرج في محرم سنة 7هـ إلى خيبر لفتحها.


الأسباب التي جعلت الرسول يسارع بفتح خيبر

كانت هذه السرعة لأهدافٍ يريدها الرسول :

1- كان يريد حفظ كرامة الأمة الإسلامية، فلا يتأخر الثأر لكرامتها كثيرًا، ووقفت الظروف سنة كاملة أمام تأديب اليهود على كيدهم للمسلمين، والظروف قد انتهت الآن، فلا بد من الإسراع لحفظ كرامة الأمة الإسلامية بالردِّ على اليهود.



2- كان الرسول لا يأمن غدر قريش وحلفائها؛ لذلك يريد الرسول أن يأخذ هذه الخطوة قبل أن تفكر قريش في الغدر أو تستعد له. ومنها أيضًا أن خبر صلح الحديبية وصل حتمًا إلى يهود خيبر، وقد يتوقعون هجومًا من المسلمين، فكان الإسراع أفضل قبل أن يستعدَّ اليهود.



3- أراد رسول الله أن يرفع معنويات المسلمين المنكسرة بعد صلح الحديبية؛ لأنهم لا يدركون الخير من وراء هذا الصلح، فأراد الرسول أن يعوضهم بهذا الفتح القريب.



4- وفوق كل هذه الأسباب أن الله I كان قد بشَّر المؤمنين أن هناك مغانم كثيرة سيحققونها بعد صلح الحديبية، ونزل هذا في سورة الفتح التي نزلت بعد الصلح، ولعل هذه الغنائم تكون غنائم خيبر، كما قال الله تعالى في سورة الفتح: {وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 20].



أي صلح الحديبية، والمغانم الكثيرة هي مغانم خيبر، وغير خيبر من الفتوحات الإسلامية التي جاءت بعد هذا الصلح العظيم.


الرسول يحتاط من غدر المنافقين

كان الرسول يخاف من خيانة المنافقين في داخل المدينة المنورة، وقلنا قبل ذلك إن المنافقين كانوا يتعاملون مع اليهود، وكانت العلاقة بينهما حميمة من أيام بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، والآن ثبت أنهم يتعاملون أيضًا مع يهود خيبر، والرسول لا يريد من المنافقين أن يخرجوا معه في هذا الجيش، فماذا يفعل؟ فهو لا يستطيع أن يقول للمنافقين لا تخرجوا؛ لأن النفاق هذا أمر قلبي، فأعلن الرسول أنه لا يخرج إلى خيبر إلا من شهد صلح الحديبية، وبذلك ضمن أن كل من سيشارك في فتح خيبر سيكون من المؤمنين؛ لأن هذه المجموعة التي شاركت في صلح الحديبية جميعها من المؤمنين، كما قال الله : {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18].



فهؤلاء جميعًا مشهود لهم بالإيمان، وخرج الرسول بألف وأربعمائة مقاتل، وهم الذين كانوا في صلح الحديبية، ونحن قد رأينا أن الصفَّ المؤمن إذا كان خالصًا نقيًّا مؤمنًا فإن الله يعطي له النصر، وهذا الصف -وهو خارج من المدينة- يعلم أن نصر الله سيحالفهم؛ فخرج هذا الجيش العظيم بهذه الروح الطيبة المتفائلة، برغم أنهم سيحاربون أعدادًا ضخمة، فأعداد اليهود كانت أضعاف أضعاف الجيش الإسلامي، ومع ذلك خرج الكل بتصميم على أن النصر -إن شاء الله- سيكون في ركاب المسلمين، يقول الله I في كتابه الكريم: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].


التحالف بين المنافقين واليهود وغطفان

وخرج الجيش الإسلامي، وكما توقع الرسول أرسل المنافقون إلى يهود خيبر يخبرونهم بقدوم الرسول إلى خيبر، بل شجَّعوهم على قتال الرسول ، وقالوا لهم: لا تخافوا منهم، فإن عددكم وعُدَّتَكم كثيرة، وقوم محمد شرذمة قليلون، لا سلاح معهم إلا قليل.



ووصلت الرسالة إلى أهل خيبر، واستعدَّ أهل خيبر، ولم يكتفوا بالاستعداد والتحصن، بل أرسلوا أحد زعماء اليهود -وكان اسمه كِنانة بن أبي الحُقَيْق، وهو أخو سَلاَم بن أبي الحقيق الذي قُتل من عدة أشهر على أيدي المسلمين- إلى قبائل غطفان، وهي قبائل مرتزقة، وتقاتل من أجل الأموال، وعرضوا عليهم المال؛ لكي يساعدوهم ويعاونوهم في حرب المسلمين، وعرضوا عليهم نصف ثمار خيبر. وبالفعل بدأت قبائل غطفان في الاستعداد للخروج في اتجاه خيبر، وأعدوا جيشًا كبيرًا جدًّا لهذا الأمر، وبفضل الله اكتشفت مخابرات الرسول هذا التحرُّك لغطفان، وبسرعة أخذ الرسول عدة قرارات حتى يأمن عملية اجتياح خيبر:



1- أخرج رسول الله سرية بقيادة أَبَان بن سعيدٍ في اتجاه أعراب نجد حتى يثير الرهبة في هذه المنطقة، فلا تجرؤ غطفان ولا غير غطفان على مهاجمة المدينة المنورة؛ لأن المدينة -كما نعلم- خالية تقريبًا من الرجال، فأمَّن الرسول بذلك المدينة المنورة.



2- أرسل الرسول سرية في الشمال الشرقي إلى ديار غطفان؛ ليوهم جيش غطفان أنه سيغزو ديار غطفان وليس ديار اليهود، وأمر هذه السرية أن تُظهِر أمرها، وأن تظهر شأنها ولا تتخفَّى، وتُحدِث صوتًا عاليًا حتى تلفت أنظار جيش غطفان ويعودوا إلى ديارهم، ولا يشتركوا مع يهود خيبر في الدفاع عن خيبر. وبالفعل عندما سمع جيش غطفان وراءه الصوت، انطلق مسرعًا راجعًا إلى دياره، وترك يهود خيبر في حرب الرسول منفردين.



3- وغيَّر الرسول الطريق المعروف لدخول خيبر، وأخذ بعض الأَدِلَّة لتدله على طريق آخر؛ ليدخل خيبر من شمالها وليس من جنوبها؛ لأننا نعرف أن المدينة المنورة في جنوب خيبر، فبدلاً من أن يدخل خيبر من الجنوب، دخلها من الشمال، وحقق بذلك شيئين:



أولاً: سيحول بين غطفان وبين خيبر بجيشه.



ثانيًا: سيمنع اليهود من الفرار إلى الشام، فيحصر اليهود في منطقة خيبر؛ لأن الطريق إلى الشمال سيكون مغلقًا بالجيش الإسلامي.



فكان التخطيط العسكري على أعلى مستوى، وتظهر في الجيش الإسلامي ملامح الجيش المنصور؛ فالجيش بكامله من المؤمنين الصادقين كما رأينا، حتى لو كان هؤلاء قلة، فإنهم ينتصرون بإذن الله . والجيش كله مرتبط ارتباطًا وثيقًا، ويجمعهم رباط العقيدة، ونحن قد رأينا غطفان وهي تتخلى عن اليهود؛ لأنه لا يجمعهم غير المصالح الدنيوية، أما الجيش الإسلامي الذي يتكون من قبائل الأنصار والمهاجرين وغير ذلك من القبائل التي دخلت مع الرسول في المدينة المنورة، يجمعهم الإيمان بالله ، والحرص على الشهادة في سبيل الله.



أخذ الرسول بالأسباب، وأعَدَّ الخُطَّة والعُدَّة والخطط البديلة، وتغيير الاتجاه وإرسال العيون؛ وبذلك أخذ المسلمون بأسباب النصر المادية.


المسلمون يتوجهون إلى خيبر

اقترب الرسول من خيبر، وكان هذا الاقتراب في الليل، والرسول كان من عادته ألاّ يقاتل بالليل، فكان ينتظر حتى يأتي الفجر، ثم يقاتل بعد الفجر ؛ فاختار مكانًا قريبًا من خيبر وعسكر فيه، وكان هذا المكان قريبًا من مجموعة حصون موجودة في خيبر اسمها حصون النَّطَاة، ولكن جاء إليه الحُبَاب بن المُنْذِر ، وقال له: إن هذا المنزل قريب من حصن النطاة، وهم يدرون أحوالنا ونحن لا ندري أحوالهم، وسهامهم تصل إلينا، وسهامنا لا تصل إليهم، ولا نأمن من بَيَاتهم. وأيضًا هذا المكان بين النخلات، وهو غائر وأرض وَخِيمة، ومن الممكن أن يتسلل اليهود من خلال النخيل، ولا يدرك المسلمون هذا التسلل، ولو أمرت بمكان خالٍ عن هذه المفاسد نتخذه معسكرًا. فقال : "أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ"[1].



وغيَّر المسلمون المكان إلى المكان الذي أشار به الحباب بن المنذر ، وهو نفس الموقف الذي قام به الحباب قبل ذلك في موقعة بدر، وبذلك نرى عظمة النبي في الأخذ بمبدأ الشورى، وأخذ الرأي، وكيف كان ذلك سببًا في النصر. وبالفعل استقر الرسول وجيشه في المكان الجديد.



د. راغب السرجاني

[1] ابن هشام: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وآخرين، دار المعرفة، بيروت، القسم الأول (الجزء الأول والثاني) ص20.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 2 Empty فرض القتال على المسلمين

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 4:00 am

فرض القتال على المسلمين

فرض القتال على المسلمينحتى سرية نخلة -وما حدث بعدها من تداعيات- كان القتال مأذونًا به وليس مفروضًا على المسلمين، بمعنى أن الله أذن للمسلمين أن يقاتلوا إن وجدوا في أنفسهم قدرة على القتال، أو أن يختاروا عدم القتال إن رأوا أن ذلك أفضل. والآية التي شرعت هذا التشريع كانت قول الله : {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39].



أما الآن فالوضع مختلف؛ فالإذن جاء في زمانٍ القتال فيه محتمل، أما الآن فالقتال ليس محتملاً فقط، بل متوقعًا وقريبًا جدًّا، ولو حدث قتال بالصورة التي نتخيلها من جانب قريش المهزومة في كرامتها والمجروحة في كبريائها بمساعدة اليهود الغادرين، فإن الموقف سيكون شديد التأزم، وهنا لا ينفع مجرد الإذن بالقتال، بل يجب أن يفرض القتال على المسلمين لدفع شر هؤلاء الأعداء؛ لأن الإذن يسمح لبعض المسلمين بعدم المشاركة، ويفتح للشيطان أبوابًا يدخل منها إلى قلوب الضعفاء فيصور لهم صعوبة القتال ومشقته، ومن ثَمَّ يزين لهم اختيار السلامة، وإيثار الدعة ما دام الأمر في طور الإذن والاختيار، أما إن فُرض القتال على المسلمين فإنهم سيعتبرونه فرضًا كالصلاة ليس لهم فيه اختيار، ومن ثَمَّ تقل نسبة التخلف، ولا تكون إلا في شديدي الضعف أو في المنافقين، وستغلق أبواب كثيرة على الشيطان؛ لأنه لا اختيار في الأمر.



ونتيجة لهذه الظروف ينزل التشريع المحكم بالقانون الجديد المناسب للمرحلة الحالية، وهو فرض القتال على المسلمين إذا قوتلوا، وليس للمسلمين اختيار في قضية دفع المشركين إذا هجموا عليهم، بل لا بد من الدفاع حتى الموت؛ ولذلك قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].



فلم يَعُد القتال مأذونًا به فقط، إنما صار مكتوبًا على المسلمين، أيْ مفروضًا عليهم. وأنزل الله توضيح سبب القتال في هذه المرحلة وبعض الأحكام الخاصة بالقتال، فقال: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 190- 193].



وأنا أريد أن نقف مع هذه الآيات، ونتصور حال المسلمين وغير المسلمين عند نزولها.



لقد حملت هذه الآيات تشريعًا جديدًا يحتاج إلى نفوسٍ إسلامية خاصَّة للعمل بها، كما أنه يحمل رسالات واضحة المعالم إلى المشركين في مكة وغيرها ممن يناصبون المسلمين العداء.


موقف المسلمين من فرض الجهاد

تعالَوْا نَعِش مع أهل هذه المرحلة، ونراقب حركتهم ومشاعرهم عند نزول هذه الآيات الكريمات.



أولاً: الناس بصفة عامة تكره الحروب والقتال، فلا يختلف اثنان أن الحروب تأتي بالدمار والخراب وإزهاق الأرواح، ونحو ذلك من أشياء تورث الحزن والكراهية.



ولا يشتاق إلى إراقة الدماء إلا مرضى النفوس، وكان رسول الله والصحابة من بعده يبذلون وسعهم قدر المستطاع لتجنب القتال، ولكن قد يتحتم الأمر ويحدث القتال.



والإسلام يُقِرُّ أن القتال أمر مكروه، ولكن أحيانًا نضطر إليه، وليس معنى ذلك أنه يصير محبوبًا إلى النفس عند العموم، ولكنه يظل مكروهًا، ولكن المؤمن الصادق يقدِّمه -على كرهه- على السلامة المحبوبة إلى النفس، وذلك طاعة لله .



وهكذا كل التكاليف يكون فيها شيء من المشقة على النفس، ولكن يقوم بها الإنسان طاعةً لله ؛ فيثبت بذلك أنه مؤمن كالصلاة والصيام والزكاة وكظم الغيظ والكرم والجهاد.



فكل هذه أمور تستصعبها النفس، ولكن تقوم بها طاعةً لله . هذا هو العموم، ولكن لكل قاعدة استثناءات؛ فهناك من المسلمين من يتحول عنده هذا الكره إلى حب، وتتحول عنده هذه المشقة إلى متعة، ليس رغبة في الأمور الشاقّة، ولكن رغبة في إرضاء الله ، فإن كان إرضاء الله يتطلب أمرًا شاقًّا صار هذا الأمر الشاقّ محبوبًا إلى النفس. وهذه هي قمة الإيمان، ومثل ذلك قول الرسول : "وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاَةِ"[1].



فالصلاة وإن كانت تكليفًا شاقًّا إلا أنها تصير محبوبة لمن أراد حقيقة أن يرضي الله ، وكقول رسول الله : "لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ"[2]. القتل مكروه بصفة عامة، ولكن كونه يرضي الله صار محبوبًا، وكقول خالد بن الوليد : "جئتكم برجال يحبون الموت، كما تحبون أنتم الحياة". فالموت بصفة عامة أمر مكروه؛ فقد قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: "كلنا نكره الموت"[3].



ومع ذلك فالصحابي الجليل خالد بن الوليد وجيشه معه كانوا يحبون الموت؛ لأنه في سبيل الله، ولأنه يرضي الله، فصار الموت المكروه محبوبًا في هذا الموضع، وهكذا.



فليس معنى أن القتال كره لنا أننا نقعد عنه، بل على العكس كلما ارتقى الإنسان في سلم الإيمان كلما أحب هذا المكروه، ما دام في سبيل الله.



ثانيًا: هناك معنى آخر دقيق في هذه الآية الكريمة، وهو أن ما تراه بعينك مكروهًا، كثيرًا ما يجعل الله في باطنه خيرًا {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216]. وما تراه بعينك محبوبًا، كثيرًا ما يجعل الله في باطنه شرًّا {وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216].



وهذا الأمر يبدو لأول وهلة غريبًا؛ ولذلك فهو يحتاج إلى يقين كبير، وإيمان كامل باختيار رب العالمين. ومع ذلك فلو تدبرتَ في كل الأحداث فإنك ستقترب غالبًا من رؤية الخير في باطن اختيار رب العالمين I.



فالأمة التي تقاتل وتجاهد ترفع رأسها وتعز نفسها، وينظر لها الآخرون نظرة احترام وتوقير، والأمة التي تزهد في القتال وتعرض عن الجهاد يسلط الله عليها الذلّ، حتى لا تجد لها مكانًا بين الأمم المرموقة في العالم. والأمة التي تجاهد تحافظ على حقوقها وتسترد المسلوب منها، والأمة التي تُعرِض عن القتال والجهاد تُنتهك حرماتها، وتضيَّع حقوقها، ولا يخفى ما وراء ذلك من أمور مكروهة.



فتدبُّر الأمر يشير بوضوح إلى أن الخير دائمًا في اختيار رب العالمين للأمة. ومع ذلك فقد لا تظهر الحكمة من وراء التكليف، وقد لا نرى الخير في باطن المكروه، وليس معنى هذا ألا نطيع، فالمؤمن الذي يوقن بعلم الله وحكمته، يدرك تمامًا أن الله قد اختار له الخير وإن لم تره عينه، وقد كلفه بما يصل به إلى السعادة وإن لم يدرك بعقله القاصر أسباب هذه السعادة؛ ولذلك ختم الله هذه الآية بقوله: {وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].



ثالثًا: تحدثنا في النقطتين السابقتين عن طائفتين من المؤمنين، أما الطائفة الأولى فهي التي ترى التكليف صعبًا أو ترى القتال كرهًا، ولكنها تفعله لأن الله أمر بذلك، وهذه درجة جيدة من درجات الإيمان. وأما الطائفة الثانية فهي الطائفة الأعلى إيمانًا والأرسخ يقينًا، وهي التي ينقلب عندها الكره إلى حب، والمشقة إلى متعة ما دام ذلك في سبيل الله، فتشتاق إلى الشهادة في سبيل الله، بل وإن تمزقت أجسادهم رغبةً في إرضاء الله . هاتان طائفتان من المؤمنين، ولكن هناك طائفة ثالثة من المؤمنين أتاها التكليف وهي في لحظة من لحظات الضعف الإيماني، فرأت الكره ولم تر الخير الذي في باطنه، ولم يكن إيمانها بالقوة التي تدفع إلى العمل حتى مع كراهيته. وهذه الطائفة ليست منافقة بل هي مؤمنة، ولكنها تمرُّ بفترة فتور أو ضعف إيماني.



وقد كان هناك فريق من الصحابة عند نزول هذه الآيات على هذه الصورة، عندما نزلت آيات فرض القتال ترددوا وخافوا، ووصل خوفهم إلى الدرجة التي تمنوا معها أن يرفع عنهم هذا التكليف أو يؤخر إلى وقت آخر، وإن كنا نستغرب أن هذه الطائفة كانت موجودة بين الصحابة، وهم خير الناس وأفضل القرون، إلا أننا نحمد الله أن هذا حدث في هذا العهد؛ لنعرف كيف يمكن التعامل مع مثل هذه المواقف، وما وسائل علاج حالات الضعف الإيماني التي تطرأ على النفس أحيانًا.



والغريب أن هذه الطائفة التي ترددت في أمر القتال عندما فرض عليها، كانت هي نفس الطائفة التي كانت تطلب القتال في وقت منعه في أيام مكة، فالقتال كان ممنوعًا في مكة؛ لأن قوة المسلمين لم تكن تسمح لهم به، هذا مع وقوع الظلم المستمر عليهم، ولكن هذه الطائفة كانت تريد الإسراع برفع الظلم عن الكاهل ولو بالقتال الصعب، فهي لم تكن تعاني من الجبن، ولكنها كانت تعاني من قلة الصبر، والمرحلة كانت تتطلب صبرًا من نوع خاص، وهو الصبر على عدم القتال، أما المرحلة الجديدة فكانت تحتاج صبرًا من نوع آخر، وهو الصبر على القتال. ومن جديدٍ فإنهم يعانون من عدم الصبر، فما استطاعوا بسهولة أن يأخذوا القرار بترك دنياهم المستقرة الآن في المدينة، والاتجاه إلى معركة قد تنهي استقرارهم وحياتهم.



وأعود وأكرِّر أن هذه الطائفة لم تكن منافقة أبدًا، إنما كانت مؤمنة، ولكن كل الناس يعتريهم بعض الضعف، وبعض القصور في فترة من فترات الحياة أو ظرف من ظروفها، وليس هناك خطر أن يكون هناك بعض المسلمين على هذه الصورة، ما دمنا نقرّ لهم بالإيمان ونعرف طريقة العلاج، ولكن الخطر الحقيقي أن تكون هذه الطائفة هي عموم الناس، أو أن نفتقر إلى طريقة العلاج الصحيحة كما وصفها القرآن الكريم وطبقها الرسول العظيم .



في وصف هذه الطائفة نزل القرآن الكريم يشرح قصتهم ويبين خطأهم، ويتخلل إلى نفوسهم فيكشف خباياها المختفية، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلاَ أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [النساء: 77 ].



وهذه الخشية التي تسللت إلى قلوبهم ليس لضعف يقينهم في أن الله قادر على نصرتهم، حاشا لله من هذا الاعتقاد؛ فهم مؤمنون. ولكن هذه الخشية تسللت؛ لأن الدنيا المستقرة دخلت في القلوب، ومن ثَمَّ حرصوا على الحفاظ عليها، وخافوا من فقدانها، وفي هذه اللحظة من لحظات ضعف الإيمان وغياب الرؤية الصحيحة نسوا أنهم لن يؤخروا أبدًا عن لحظة موتهم، سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا، ونسوا أن نعيم الآخرة لا يقارن أبدًا بنعيم الدنيا القليل، ومن ثَمَّ لا يجوز للمؤمن الفاهم الواعي أن يضحي بالآخرة في سبيل تحصيل الدنيا ولو حازها كلها.



ومن هنا جاء العلاج الرباني واضحًا جليًّا، يعود بالمؤمنين إلى الأصول التي تربوا عليها في مكة على يد معلمهم ومعلم البشرية رسول الله ، يقول الله في علاج هذا الأمر: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 77، 78].



ولما ذكرت هذه الطائفة المؤمنة بهذه المعاني عادت إلى الله ، وقبلت بأمر القتال في سبيل الله، وما نكصت على عقبيها. فهي -كما ذكرنا مرارًا- مؤمنة.



رابعًا: إذا استقرت الطائفة المؤمنة على أمر القتال وفرضيته وأهميته، فلا بد أن تعرف مَن تقاتل؛ لئلا يكون السيف في يدها مُسَلَّطًا على جميع البشر، والقوة إن لم تحكم بقانون ستصبح قوة غاشمة، وإن لم يكن رابطٌ أو ضابطٌ ستنقلب وبالاً على نفسها وعلى الخلق؛ ولذلك حددت الآيات بوضوح مَن الذي يجب أن يقاتلهم المسلمون في هذه المرحلة. قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190].



فالمسلمون في هذه المرحلة لا يقاتلون إلا من بدأهم بالقتال، وليس هناك ما عرف بعد ذلك بجهاد الطلب، وهو الجهاد لنشر كلمة الله في الأرض، وقتال من وقف أمام تعليم الناس الإسلام.



فهذه المرحلة ليست مرحلة فتوح، وإنما هي مرحلة دفاع عن الذات وعن الإسلام، ولا بد أن يدرك المؤمنون مدى قوتهم فلا يطمعون فيما هو أكبر من حجمهم الحقيقي، وهذا من فقه الواقع.



وبرغم أن المسلمين لم يبدءوا القتال، وبرغم أنهم يقاتلون مضطرين، وفي الموعد الذي سيختاره عدوهم إلا أنهم لا بد أن يوجِّهوا النية كاملة لله ، مع أن النية قد تكون فطرية في الدفاع عن النفس، وعن الأرض، وعن الديار، وعن المصالح. أولاً وقبل كل شيء {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190].



فلا بد أن يكون القتال في سبيل الله.



خامسًا: شهوة الانتقام عند المظلوم قد تتفاقم حتى تخرج عن الإطار المسموح به شرعًا، ونحن لا يجب أن نرفع ظلمًا وقع علينا بإيقاع ظلم على آخرين؛ لذلك يأتي الضابط المهم للقتال في الإسلام، وهو ضابط ثابت مستمر غير منسوخ، معمول به في كل حروب المسلمين وهو: {وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190].



فالله لا يحب المعتدين حتى لو كانوا من المسلمين. والعدل قانون لا ينصلح حال الأرض إلا به، والعدل مع الجميع حتى الأعداء المكروهين إلى النفس {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة: 2].



وصور الاعتداء المنهيّ عنها كثيرةٌ؛ منها الغدر والخيانة، ومنها تعذيب الأسرى، ومنها التمثيل بالجثث، ومنها القتال لحظِّ النفس وليس لله ، ومنها قتال مَن لا يجب أن يقاتل، ومنها التجاوز في التدمير والتخريب، ومنها إيقاع الظلم بأي إنسان أيًّا كان، بل إن منها إيقاع الظلم بالحيوان أو النبات.



انظروا إلى التعاليم النبوية التي تضع ضوابط القتال في الإسلام، وتوضح أخلاقنا حتى مع أعدائنا؛ روى أبو داود عن أنس ، قال: قال رسول الله : "انْطَلِقُوا بِاسْمِ اللَّهِ، وَباللَّهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَلاَ تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا، وَلاَ طِفْلاً صَغِيرًا، وَلاَ امْرَأَةً، وَلاَ تَغُلُّوا، وَضُمُّوا غَنَائِمَكُمْ، وَأَصْلِحُوا، وَأَحْسِنُوا؛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ".



ويقول فيما رواه الإمام مسلم عن بريدة ، قال: قال رسول الله : "اغزُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا وَلاَ تَغُلُّوا، وَلاَ تَغْدِرُوا، وَلاَ تُمَثِّلُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا الْوَلِيدَ".



ويقول الصِّدِّيق أبو بكر في وصيته لجيش المسلمين المتجه إلى حرب الرومان: "لا تخونوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تُمَثِّلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيرًا، ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوامٍ قد فَرَّغُوا أنفسهم في الصوامع (أي الرهبان)، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له".



هذه هي أخلاق الحروب في الإسلام، ليس فيها قتل لمدنيين أو غير محاربين، وليس فيها إبادة جماعية ولا تدمير عشوائيّ، فليس في تاريخنا ما يشبه ما حدث في هيروشيما ونجازاكي وفيتنام وكوريا ودوسلدورف بألمانيا. ليس في تاريخنا ما يشبه ذلك من قريب ولا من بعيد.



والرائع في قصة القتال في الإسلام أن هذه الضوابط والتشريعات الأخلاقية لم تأتِ نتيجة تطور معين في الحضارة الإسلامية على مدار السنين والقرون، إنما نزلت في أول تشريع القتال، ونزلت بهذا التكامل وهذا السموّ وهذه العظمة، مما يثبت بما لا يدع أيّ مجال للشك أن هذا المنهج رباني، وأن هذه التشريعات إلهية، وأنه لا مقارنة مطلقًا بين قوانين السماء المتكاملة والتامة وبين قوانين الأرض الوضعية التي يعتريها النقص في كل بند من بنودها {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].



سادسًا: أعلنت هذه الآيات إعلانًا صريحًا يدل على قوة المسلمين وواقعيتهم في مجابهة القوة الكافرة المعتدية عليهم، وهي قوة قريش الكافرة ومن عاونها. وهذا الإعلان هو أن كل المحاربين من أهل قريش مستهدفون الآن، وأن قريشًا إن كانت تستهدف المسلمين قبل ذلك في كل مكان، فقد حان وقت المعاملة بالمثل، وسيُسْتهدف المشركون من قريش في كل مكان، سواء في المدينة أو في مكة أو في قافلة هنا أو هناك.



كل هذا في جملة جزئية قصيرة من القرآن المعجز، حيث قال ربنا: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة: 191].



فكانت هذه الآية إعلانًا صريحًا للحرب على قريش، كما أنها حملت الإصرار على موقف المسلمين في سرية نخلة، وأنه لا مجال للاعتذار بحجج واهية، وأن ما حدث في سرية نخلة سيحدث بعد ذلك كثيرًا إلى أن تفيق قريش من غيِّها، وتتوب من ظلمها.



سابعًا: قال تعالى في نفس المجموعة من الآيات: {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} [البقرة: 191].



وهذا تصعيد خطير جدًّا، وصريح جدًّا؛ فالمشركون أخرجوا المسلمين المهاجرين من مكة، والآية تدعو المسلمين أن يُخرِجوا الكفار من مكة أيضًا {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} [البقرة: 191].



لقد كانت كلمة في غاية الخطورة. وعلى كفار قريش أن يتوقعوا مباغتة المؤمنين لهم في مكة في أي لحظة، وعليهم أن يعيشوا في رعب الانتظار، وعليهم أن يدركوا أن الأوضاع الجديدة شديدة الاختلاف عن الأوضاع السابقة، وأن هؤلاء الذين عُذِّبوا لسنوات وسنوات في البلد الحرام مكة قد قويت شوكتهم، واشتد عددهم وبلغ تهديدهم للدرجة التي يصرحون فيها بغزو عقر دار المشركين مكة.



وعلى المسلمين أيضًا أن يكونوا على قدر المسئولية الجديدة، وعليهم أن يعلموا أبعاد خطتهم، ومتطلبات هذه المرحلة، فلم يعُدْ هدف المسلمين فقط هو الحفاظ على دينهم وحياتهم، وإنما ارتفع هدفهم إلى الرغبة الصادقة في رفع الظلم تمامًا عن كواهلهم، وإلى نشر هذا الدين في كل مكان، ولو كان هذا المكان هو معقل قريش مكة.



لقد فتحت هذه الآية آفاقًا جديدة للمسلمين، وسمت بأحلامهم وآمالهم إلى درجات ما كانوا ليتخيلوها في الأيام السابقة.



ثامنًا: نجد ملمحًا مهمًّا آخر في هذه الآيات، وهو تعريف المسلمين بفقه الموازنات الذي تحدثنا عنه قبل ذلك في معرض حديثنا عن سرية نخلة، وهو قول الله : {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191].



فهذه القاعدة ذكرت هنا، وذكرت قبل ذلك في موضع آخر عند التعليق المباشر على سرية نخلة في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217]. بل إن الله يذكر في نهاية هذه المجموعة من الآيات، غايةَ القتال في سبيل الله حيث يقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193].



ففتنة الناس عن دينهم هي أبشع الجرائم بلا منازع؛ لأن الذي فُتِن عن دينه أو بدَّله بعد إيمان، أو مُنِع من الدخول فيه ابتداءً، هذا قد خسر آخرته تمامًا، بينما المقتول قد يكون في أعلى عليين. ومن المعروف أن دار الآخرة لا تقارن بدار الدنيا، وأن الذي خسر الآخرة هو الخاسر خسرانًا مبينًا لا مجال فيه للإصلاح أو التعديل، ومن ثَمَّ تصبح جريمة الفتنة عن الدين جريمة لا تغتفر فعلاً، وتصبح أعظم بكثير وأشد من القتل على عظم القتل وخطورته.



وهكذا على المسلمين أن يفقهوا -وعلى غيرهم أيضًا- أهمية فقه الموازنات في توجيه خط سير الأمة الإسلامية، وفي المساعدة على الاختيار الأحكم للقرارات في الظروف المختلفة.



تاسعًا: حددت الآيات أيضًا بعض التشريعات الخاصة بالقتال في البلد الحرام مكة، فقال الله : {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 191].



فالآيات فيها تهديد خطير لقريش، فهي تتكلم وكأن القتال في مكة أصبح أمرًا واقعًا، وليس مجرد فكرة أو تهديدًا عابرًا، إنما هو حدث واقعيّ قريب، له أحكام وله قوانين، ولا شك أن هذا الأمر قد ألقى الرهبة في قلوب الكفار، كما ثبت أقدام المؤمنين.



ولك أن تتخيل دولة تتحدث عن الأحكام التي يجب أن تُنفَّذ، وعن التشريعات التي يجب أن تطبَّق عند احتلال عاصمة دولة معادية لها. لا شك أن هذا يدل على شدة الثقة بالنفس، وعلى عزيمة لا تنطفئ حتى يتحقق لها مرادها.



والآيات في الوقت نفسه تؤكد على أن المسلمين برغم أنهم قاتلوا اضطرارًا في الشهر الحرام، إلا أنهم ما زالوا يوقرون الحرمات، ولم يبدلوا دينهم، فهم لا يقاتلون في المسجد الحرام إلا إذا قوتلوا فيه، وهذا الحكم في رأي غالب الفقهاء غير منسوخ، فلا يبدأ المسلمون غيرهم بقتال في مكة، ولكن إذا قوتلوا قاتلوا.



عاشرًا: المسلمون مع كونهم يعلنون الحرب على قريش إلا أنهم في الوقت ذاته لا يعلنون هذه الحرب لمجرَّد شهوة الانتقام، أو الانتصار للنفس، بل على العكس يعلمنا ربنا أن الغاية في النهاية هو هداية البشر إلى الله ؛ ومن ثَمَّ فإذا عاد أولئك الكافرون الظالمون المرتكبون لكل الموبقات والمنتهكون لكل الحرمات، إذا عادوا إلى الله فإنه I يقبلهم ويتوب عليهم، ويصبحون من المسلمين، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وتُطوى تمامًا صفحة الماضي، فلا يحاسبهم عليها الله ، ولا يذكرها لهم المسلمون الذين ظلموا على أيديهم، وهذه قمة السموِّ في الأخلاق، وقمة الرحمة في التعامل. يقول الله : {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 192].



فبرغم كل الأذى الذي وقع من الكفار على المؤمنين، بل على رسول الله نفسِه، وبرغم عبادة الأصنام من دون الله، وبرغم الصدِّ عن سبيل الله، وبرغم التلاعب بالحرمات والاستهزاء بالدين؛ برغم كل ذلك فإن الله يغفر لمن تاب وآمن وعمل صالحًا. قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38].



فخلاصة الوضع في هذا التوقيت ونحن نقترب من النصف من شعبان سنة 2هـ، أن المسلمين أعلنوا الحرب صراحة على مشركي مكة، وأن الموقف صار متأزمًا جدًّا، والجميع -مؤمنهم وكافرهم- يتوقع صدامًا مروعًا قريبًا بين فريق الحق المتمثِّل في مؤمني المدينة المنورة، وفريق الباطل المتمثل في كفار مكة.



د. راغب السرجاني

[1] رواه النسائي (3940) ترقيم أبي غدة، وأحمد (14069) طبعة مؤسسة قرطبة. قال الشيخ الألباني: صحيح. انظر حديث رقم (3098) في صحيح الجامع.

[2] البخاري: كتاب الإيمان، باب الجهاد من الإيمان (36) ترقيم البغا. والنسائي (3098)، وأحمد (9476).

[3] مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه (2684)، والنسائي (1838)، والترمذي (1067) ترقيم أحمد شاكر.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 2 Empty اختبارات إلهية لتنقية الصف المسلم

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 4:00 am

تنقية الصف المسلم

من سنة الله أنه قبل الصدامات الكبرى التي تقع بين الحق والباطل، لا بد أن تمرَّ الأمة الإسلامية ببعض الشدائد والمصاعب التي تكون بمنزلة الامتحان الصعب لكل من انتمى للإسلام.



الصف المسلمالكلام سهل {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14]. فإذا كان هذا الانتماء حقيقيًّا، وكان الإيمان صادقًا فإن صاحبه يثبت في الشدائد ويتخطى كل المصاعب، ويظل على العهد مع ربه I. وأما إن كان هذا الانتماء زائفًا، وكان الإيمان واهيًا ضعيفًا، فإن صاحبه يتزعزع في هذه الشدائد، ومن ثَمَّ يتخلى عن طريقه ويختار غير سبيل المؤمنين؛ وبذلك يحدث التمايز في الصف.



وأهمية هذا التمايز قبل الصدامات الكبرى أن الصف المختلط المكوَّن من مؤمنين ومنافقين يكون صفًّا ضعيفًا لا يَقْوى على صدِّ هجوم الباطل؛ لما يُحدِثه هؤلاء المنافقون الضعفاء في الصف من اضطرابات وقلاقل. يقول تعالى يصف خطر المنافقين: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: 47].



ومن هنا نستطيع أن نقول: إن المصائب والشدائد والأزمات والاختبارات التي تحدث قبل الصدامات الكبرى، هي من رحمة الله بالأمة الإسلامية، وذلك لكي يُنقَّى الصف من الشوائب، فيخرج الخبث، ويتساقط الضعفاء والمنافقون، ولا يستمر إلا صادق الإيمان، قويّ العقيدة.


فرض القتال

ومن هذه الاختبارات التي حدثت في هذه الفترة ما تحدثنا عنه منذ قليل وهو فرض القتال، فالذي يقبل بهذه المشقة ويستمر في الطريق هو صادق الإيمان، وأما الذي سيجزع ويتثاقل إلى الأرض، فالصف في غنًى عنه، والمؤمنون لا يحتاجونه، بل من الأفضل أن يترك الصف الآن قبل اشتداد الأزمة.



فكان فرض القتال هو أحد الاختبارات الحقيقيَّة قبل الصدام المتوقع. ولم يكن هذا هو الاختبار الوحيد في هذه الفترة الحرجة من تاريخ الأمة، ولكن تكررت الاختبارات بشكل لافت للنظر؛ فقبْل هذا الاختبار الشديد -اختبار فرض القتال- كان هناك اختباران في غاية الأهمية، ساعدا ليس في تنقية الصف المسلم فقط، ولكن أيضًا في تربيته. وهذان الاختباران هما: فرض الزكاة، وفرض صيام رمضان.


فرض الزكاة والصوم

كانت الزكاة كانت مفروضة على المسلمين في فترة مكة، ولكن لم تكن بالنصاب المعروف والقدر الذي نعرف، إنما كانت متروكة لكل مسلم يقدر ما يحب أن يدفع، أما الآن فقد فرض على المسلمين أن يدفعوا قدرًا معينًا 2.5 % إذا بلغ مالهم النصاب وحال عليه الحول، وقيمة الزكاة وإن كانت قليلة إلا أن الإنسان بطبعه مجبولٌ على حبِّ المال، قال تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 20].



والإنسان بطبعه لا يحب القيود، وبخاصة القيود المادية، وهكذا لن يقبل بهذا الفرض إلا المؤمن حقًّا. فهذا اختبار حقيقيٌّ ومهمٌّ.



وكذلك اختبار الصيام، فالصوم المفروض على المسلمين لم يكن إلا يومًا واحدًا في السنة هو يوم عاشوراء، أما الآن فقد فرض الصيام شهرًا كاملاً وهو شهر رمضان، وهذا الفرض نزل في شهر شعبان، أي أن الشهر الذي يجب أن يصام هو الشهر القادم مباشرةً، هكذا دون تهيئة نفسيَّة مسبقة، وهذا شاقٌّ على النفس، وبخاصة في هذه البيئة الصحراوية الصعبة. وهكذا لن يثبت أيضًا في هذا الاختبار إلا صادق الإيمان حقًّا.


تحويل القبلة

وفوق هذه الاختبارات الثلاثة: اختبارات فرض القتال والزكاة والصيام، جاء اختبارٌ رابع صعب في منتصف هذا الشهر نفسه، وهو اختبار تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة في مكة.



وقد كان المسلمون يصلون في اتجاه بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا كاملاً، من أول الهجرة وإلى منتصف شعبان من السنة الثانية من الهجرة، وكان في ذلك إعلانًا لعموم الناس أن الرسالة الإسلامية ما هي إلا استكمال لرسالات الأنبياء السابقين، وأن رسول الله ومن قبله من الأنبياء جاءوا بمنهج واحد، ويعبدون إلهًا واحدًا، وكان في ذلك أيضًا تقريبًا لقلوب اليهود (سُكَّان المدينة) من الدين الجديد، الذي يشترك معهم في قبلة واحدة، ويعظِّم مثلهم إلهًا واحدًا.



ثم مرت الأيام والشهور، وظهر للجميع أن اليهود قوم سوء فاسقون، أدركوا الحق واتبعوا غيره، وأنه سواءٌ كان المسلمون يتجهون بقبلتهم إلى نفس القبلة أو يصومون معهم نفس اليوم (يوم عاشوراء)؛ فإن هذا لا يقدِّم كثيرًا ولا قليلاً في إيمانهم، ومن هنا نزل الوحي من السماء بتغيير القبلة من بيت المقدس إلى مكة المكرمة، وفرض صيام رمضان بدلاً من صيام عاشوراء.



وكانت هذه التغييرات تحمل معاني سامية من التميُّز في الأمة الإسلامية؛ من التوجُّه إلى أشرف بقاع الأرض، ومن مخالفة اليهود الذي ظهر عنادهم وفجورهم وجحودهم رغم يقينهم أن محمدًا رسولُ الله حقًّا، وغير ذلك من الأمور العظيمة. وفوق ذلك، فإنه كان في ذلك إشارة لطيفة إلى أن الله سيفتح يومًا مكة للإسلام، وستعود هذه البقاع الطاهرة إلى أيدي المؤمنين الموحدين، فليس من المعقول أن يقبل المسلمون أن تكون قبلتهم في يد أعدائهم.



وبرغم هذه المزايا الكبرى التي كان يتمناها رسول الله حتى قبْل أن تقع، بالرغم من ذلك فإن الاختبار كان صعبًا.



ووجهُ الصعوبة أن اليهود -كعادتهم- حاولوا إثارة الفتن وإشاعة الشبهات، واجتهدوا في ذلك تمام الاجتهاد، حتى صاروا يتهكمون من هذا التحويل للقبلة، ويقولون أنه متردِّد بين قبلتين، وأنه إن كانت الأولى هي الصواب فقبلته الجديدة باطلة، وإن كانت الجديدة صوابًا فماذا تفعلون في صلاتكم التي صليتموها قبل ذلك إلى القبلة الأولى؟ وخاصةًَ أن هناك بعض الصحابة ماتوا قبل أن يتم تحويل القبلة مثل أسعد بن زرارة، والبراء بن معرور، وغيرهم، فكيف يكون حالهم؟



وهكذا الشبهات والفتن دائمًا تثار من اليهود ومَن كان على شاكلتهم؛ لتشكيك أهل الحق في دينهم.



أنزل الله يرد عليهم ويصفهم بالسفهاء، ويبين المفهوم الدقيق الذي يجب أن يدركه كل مؤمن، وهو أن الأمر كله لله ، يحكم بما يشاء وقتما يشاء I، وهو المتصرف في خلقه وملكوته، ولا رادَّ لأمره ولا لقضائه، قال تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142].



ثم طمأن المسلمين على صلاتهم السابقة في اتجاه بيت المقدس، فقال : {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143].



ثم وضح I أن اليهود لا ينقصهم حجة أو دليل، إنما هم يكابرون ويعاندون مع معرفتهم للحق؛ ولذلك فلا داعي للحزن عليهم أو لطول الجدل معهم. قال تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} [البقرة: 145].



وبذلك بيَّن ربُّ العالمين للمسلمين كيدَ اليهود وتدبيرهم ومكرهم، وكشف مخططهم، وأنار الطريق للمؤمنين، ومع ذلك فالأمر لم يكن سهلاً على الناس لقوة الشبهات، وصدق ربنا I عندما قال: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ} [البقرة: 143].



وبذلك وضح المقصود من الحدث، فالأمر ما هو إلا اختبار لمعرفة الصادق الذي يعبد الله بالطريقة التي أراد الله دون جدل أو مناورة، ومعرفة الكاذب وضعيف الإيمان الذي سيتردد في طاعة رب العالمين، إن أتى أمرٌ على غير هواه أو على غير اقتناعه.



قال الله موضِّحًا قيمة اختبار تحويل القبلة: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143].



فالأمر في حقيقته امتحانٌ كما بيَّن الله .



وهكذا كانت اختبارات شهر شعبان من الكثرة بمكان، مما يوحي بوضوح أن المسلمين يقتربون من حدث مهم، بل شديد الأهمية، لا يمكن أن يخرج له إلا المؤمنون حقًّا؛ ولهذا كانت الاختبارات المتكررة. وهذا الحدث العظيم كان لقاء الكافرين في غزوة بدر، يوم الفرقان، وهو من أعظم الأحداث في تاريخ المسلمين.



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 2 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:25 pm

سرية ذات السلاسل


تأديب قضاعة

سرية ذات السلاسلالحدث الذي نحن بصدده أعتبره من أعظم الأحداث في تاريخ الأرض مطلقًا، فقد كان بالفعل لحظة فارقة فرَّقت بين مرحلة ومرحلة أخرى مختلفة تمامًا عن سابقتها، وكان له تداعيات كبيرة، ليس في الجزيرة العربية فقط، ولكن في العالم أجمع، وليس في زمانه فقط، ولكن في زماننا أيضًا.



هذا الحدث العظيم هو فتح مكة.



ولا شك أنه كان هناك أحداث كثيرة جدًّا قادت إلى هذا الفتح العظيم، وكانت مقدمات له، وهذه المقدمات هي موضوعنا.



لكن قبل أن نبدأ في هذه التفصيلات وتلك المقدمات، نودُّ أن نكمل نقطة مهمة كنا قد تحدثنا عنها في السابق ولم نتناولها بالشرح والتفصيل، تلك النقطة هي أنه في بداية العام الثامن من الهجرة حدثت مشكلتان كبيرتان للأمة الإسلامية:



المشكلة الأولى: وهي قتل الحارث بن عمير الأسدي سفير رسول الله لعظيم بُصْرَى، وكان الذي قتله -كما ذكرنا- شُرَحبيل بن عمرو الغساني.



وكان من جرَّاء هذه المشكلة أن أخرج الرسول جيشًا كبيرًا إلى مؤتة بقيادة الأمراء الثلاثة (زيد وجعفر وعبد الله بن رواحة) كما فصَّلنا سابقًا، وكان من نتائجه ذلك النصر العظيم الذي تم في هذه الموقعة كما بيَّنَّا، الأمر الذي انتهت معه تقريبًا معالجة هذه المشكلة، واستعادت الأمة الإسلاميه هيبتها إلى حدٍّ كبير، وذاع صيتها، ليس في مؤتة فقط، ولكن في الجزيرة العربية بكاملها.



أما المشكلة الثانية، فقد حدثت في وقتٍ متزامن مع المشكلة الأولى (مقتل الحارث بن عمير)، وهي اعتداء قبائل قضاعة على مجموعة من صحابة الرسول ، وكانوا خمسة عشر رجلاً، قُتل منهم أربعة عشر، وَارْتُثَّ (حُمِلَ) الأخير من بين القتلى، وعاد إلى المدينة المنورة، وشرح للرسول تفاصيل تلك الخيانة التي قامت بها قضاعة، وذلك الغدر الذي فعلته مع صحابته.



وهنا كان لا بد للرسول أن يقف وقفة جادة مع قبيلة قضاعة؛ كي لا تهتز صورة الدولة الإسلامية في الجزيرة العربية. وبالفعل قرر أن يُخرِج جيشًا كبيرًا إلى مناطق قضاعة.


الإعداد للسرية

كان قرار الرسول هذا بمجرد عودة الجيش الإسلامي من مؤتة إلى المدينة المنورة، وكانت أحداث مؤتة قد وقعت في جمادى الأولى في السنة الثامنة من الهجرة، وفي جمادى الثانية من نفس العام أخرج الرسول الجيش الثاني متجهًا إلى قضاعة.



كانت منطقة قضاعة تسمى (السلاسل)، وذلك أنه كان فيها عين أو بئر بهذا الاسم؛ فسميت المنطقة بكاملها (ذات السلاسل)، ومنه عُرف هذا الجيش أو تلك السرية التي خرجت إلى هذه المنطقة في التاريخ باسم سرية ذات السلاسل[1].



ولكن مَن يختار لقيادة هذه السرية ذات المهمة الصعبة المتمثلة في حرب قبيلة كبيرة قوية (قضاعة)، والتي تقع في شمال الجزيرة العربية، وعلى مسافة كبيرة من المدينة المنورة، وليس لها مدد تمامًا كما كانت ظروف موقعة مؤتة؟!



قد يعجب الكثيرون لاختيار الرسول لقيادة هذه السرية عمرو بن العاص ، لكن حين نحلل أمر هذا الاختيار نجد أنه اختيار في غاية الحكمة من رسول الله .



ووجه العجب في هذا الاختيار أنه لم يكن قد مرَّ على إسلام عمرو بن العاص إلا شهور قليلة، حيث إنه أسلم في صفر سنة ثمانٍ من الهجرة، أي أنه مر على إسلامه ثلاثة أو أربعة أشهر فقط، ثم اختير ليكون قائدًا لسرية مهمة في حرب عظيمة للمسلمين.


أوجه الحكمة في اختيار عمرو بن العاص

إن الحكمة في اختيار رسول الله لعمرو بن العاص دون غيره، تتبدى فيما يلي:



أولاً: أنه اختاره ليتألف قلبه؛ فقد كان عمرو بن العاص شخصية محورية في مكة المكرمة، وكان انضمامه للمعسكر الإسلامي وجيش المدينة المنورة بمنزلة إضافة كبيرة، وكان على المسلمين أن يحافظوا عليها قدر المستطاع.



فقد كان لعمرو بن العاص تاريخ طويل في العداء مع المسلمين، بداية من أوائل أيام مكة، ومرورًا بسفره إلى الحبشة لإعادة المسلمين المهاجرين هناك إلى مكة المكرمة، ثم خروجه بعد ذلك مرات متعددة لقتال المسلمين.



وهو في الوقت نفسه شخصية ليست كبيرة في المقام فقط، ولكن أيضًا كبيرة في السن؛ إذ كان يبلغ من العمر وقت إسلامه سبعًا وخمسين سنة، أي من كبار قادة قريش، ومن دهاة العرب، وكان لا بد أن يحفظ له مكانته في داخل الدولة الإسلامية حتى يستمر في المسيرة معها.



فهذا كان أول سبب، وقد رأينا كيف عظَّم الرسول من قدر خالد بن الوليد ، عندما أخذ الراية والقيادة في غزوة مؤتة، وأخبر أنه سيف الله المسلول، كما جاء في حديثه ، ورفع قدره كثيرًا في الدولة الإسلامية.



ولا شك أن أقدام خالد بن الوليد كانت أثبت بعد موقعة مؤتة عنها قبل ذلك؛ وذلك أنه أصبح له إضافة ودور، وأصبح له وضع في الدولة الإسلامية، وكان الناس بصفة عامَّة ينظرون إليه على أنه حقق نصرًا مهيبًا، الأمر الذي ثبتت معه أقدامه بإذن الله.



وهو الأمر نفسه الذي أراد أن يفعله الرسول مع عمرو بن العاص ، يعطيه قيادة الجيش، فيحقِّق انتصارًا، فتصبح له مكانة في داخل الدولة الإسلامية، ومن ثَمَّ تثبت أقدامه.



ثانيًا: ليس هذا فحسب، إنما كان هناك أمر آخر غاية في الأهمية، ويعبر عن مدى عمق نظرة الرسول الحكيم ؛ إذ إن أم عمرو بن العاص كانت من فرع من قبيلة قضاعة يسمَّى (بَلِيّ).



فكان ذهاب عمرو بن العاص إلى قضاعة وأمُّه منها، سيعطي بُعدًا مهمًّا في القتال، فهو قد يتألف قلوب هؤلاء القوم، وذلك حين يرون واحدًا منهم على رأس الجيش الذي أتى إليهم، الأمر الذي قد يفتح بينهم حالة حوار أو مفاوضات وقبول لفكرة الإسلام، وفي الوقت نفسه فلن يأخذهم الكبر والعناد والفجور والخصام، فتزداد الهوة بينهم وبين الإسلام. وكان الرسول يقرب -دائمًا- قلوب الناس إلى الإسلام، وكان إسلام الناس أحبَّ إليه من أموالهم .



ثالثًا: أن أم عمرو بن العاص كانت من قضاعة، ولا شك أن عمرو بن العاص قد ذهب إلى قضاعة أكثر من مرة، فهو إذن أعرفُ بديارهم ومساكنهم وطرقهم ودروبهم أكثر من غيره من الصحابة.



من هنا كان اختيار الرسول لعمرو بن العاص اختيارًا عسكريًّا مهمًّا؛ لأنه عبقرية عسكرية وقيادة فذة، واختيارًا دعويًّا؛ لأنه سيتألف قلوب قضاعة أكثر من غيره، وفي ذات الوقت فهو أعلم بالطريق من غيره، ولهذه الأمور كان اختيار عمرو بن العاص فيه من أوجه الحكمة الكثيرُ.


إسناد رسول الله مهمة القيادة إلى عمرو

حين أراد الرسول أن يبلغ عمرو بن العاص بهذه المهمة العظيمة، أرسل إليه، ثم قال له: "خُذْ عَلَيْكَ ثِيَابَكَ وَسِلاَحَكَ ثُمَّ ائْتِنِي".



يقول عمرو -كما جاء في رواية ابن حبان والحاكم وأحمد، وهي صحيحة-: فأتيته وهو يتوضأ ، فصعَّد فيَّ النظر، ثم طأطأ فقال: "إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَكَ عَلَى جَيْشٍ، فَيُسَلِّمُكَ اللَّهُ وَيُغَنِّمُكَ، وَأَرْغَبُ لَكَ مِنَ الْمَالِ رَغْبَةً صَالِحَةً"[2].



أي أنك ستذهب إلى موقعة ستنتصر فيها بإذن الله ويكثر مالك، وذلك أن أربعة أخماس الغنائم توزع على الجيش.



وهنا قال عمرو بن العاص : يا رسول الله، ما أسلمتُ من أجل المال، ولكني أسلمت رغبةً في الإسلام، وأن أكون مع رسول الله .



وليست هذه فقط هي المنقبة، ولكن المنقبة العظيمة فيما سيقوله الرسول ، فقد قال: "يَا عَمْرُو، نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ"[3].



فقد شهد له بالصلاح، وبأنه من الصالحين.



وبالفعل أمَّره على الجيش الإسلامي، على رأس ثلاثمائة من وجوه الأنصار والمهاجرين من الصحابة.



وهنا أيضًا تتجلى عظمة الصحابة في قبولهم قيادة هذا البطل الإسلامي الجديد، بما فيهم من وجوه المهاجرين والأنصار ممن لهم تاريخ طويل في الإسلام، وصل فيه بعضهم إلى عشرين سنةً متصلة، ومع ذلك قَبِلوا أن يترأس عليه في هذا الجيش من كان عمره في الإسلام أربعة أشهر فقط.



وقد خرج الجيش الإسلامي وسنرى موقعة وكأنها صورة مصغرة من موقعة مؤتة، وكأن الله أراد أن يحقق لعمرو بن العاص ما حقق لخالد بن الوليد قبل ذلك؛ لتثبت أقدامهما في الإسلام.


تجلي عبقرية عمرو بن العاص الحربية

منذ اللحظات الأولى لخروج عمرو بن العاص بالجيش ظهرت عبقريته الفذة في الحروب، فمن أول الطريق قرر أن يسير بالمسلمين ليلاً ويكمن نهارًا؛ وذلك لئلاّ ترصده عيون الأعداء إن كانت على الطريق، ووصل -بالفعل- بالجيش الإسلامي إلى قضاعة دون أن يعلموا أنه قد زحف إليهم.



وبدأ أيضًا بعبقرية واضحة وبحكمة عسكرية لافتة للنظر، يبث العيون هنا وهناك حتى يستطلع أعداد العدو، وقد وجد بالفعل أن أعدادهم كبيرة، وعلم أن طاقته لن تكون قادرة على مواجهة هذه الأعداد الكبيرة من قضاعة.



والحقيقة أن عمرو بن العاص كان في غاية الواقعية، ولم يكن متهورًا على الإطلاق، وما كان ليندفع بجيشه أبدًا إلا بعد دراسة متأنية للواقع الذي هو مُقبِل عليه، وسنرى مثل ذلك كثيرًا في فتوحاته في فلسطين وفي مصر.



فحين وجد أن أعداد قضاعة كبيرة، أرسل إلى الرسول في المدينة المنورة يطلب منه المدد، وأمر الجيش الإسلامي ألاّ يقاتل حتى يصل ذلك المدد.



وبالفعل أرسل الرسول إليه مددًا في نحو مائتين من الصحابة من وجوه الأنصار والمهاجرين أجمعين، وعلى رأسهم أبو عبيدة بن الجرَّاح أمين هذه الأمة، ومن السابقين، ومن العشرة المبشرين بالجنة، وصاحب تاريخ طويل مع المسلمين.



وكان تحت إمرة أبي عبيدة بن الجراح في هذا المدد عددٌ كبير من السابقين، في مقدمتهم أبو بكر الصِّدِّيق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وكفى بهما! وكان معظم المائتين من السابقين، وكلهم على هذا المستوى العالي من الإيمان، وأصحاب خبرة وسبق وتاريخ طويل في الإسلام.


صورة حضارية رائعة

حين وصل المدد إلى عمرو بن العاص انضم المائتان إلى الثلاثمائة، فأصبح عدد الجيش تمام الخمسمائة، ولكن تُرى من الذي يكون أمير هذا الجيش؟! أهو عمرو بن العاص أم أبو عبيدة بن الجراح؟!

انظر خريطة غزوة ذات السلاسل



والحقيقة أن الأمر لم تتحدد معالمه بعدُ، فحين أراد المسلمون الصلاة تقدم أبو عبيدة بن الجراح ليؤمَّ المصلين، وكانت العادة أن قائد الجيش هو الذي يؤم الناس في الصلاة.



فقد اعتقد أبو عبيدة أنه هو الأمير؛ لأنه قد جاء على إمرة مائتين من وجوه الأنصار والمهاجرين، وفيهم أبو بكر وعمر، فتقدم هو ليقود الصفوف.



وهنا ما كان من عمرو بن العاص إلا أن تقدم، وقال لأبي عبيدة: "إنما قدمت عليَّ مددًا لي، وليس لك أن تؤُمَّنِي، وأنا الأمير، وإنما أرسلك النبي إليَّ مددًا".



كان عمرو بن العاص ما زال حديث عهد بالإسلام، وكان -كما ذكرنا- كبير السن؛ إذ يبلغ السابعة والخمسين من عمره، أي تقريبًا أكبر من أبي عبيدة بعشر سنين، وكان له تاريخ عسكري معروف، إضافةً إلى أنه من فرسان قريش ودهاة الحرب، الأمر الذي رأى فيه أنه أحق بالإمارة، ليس لكونه عسكريًّا وعبقريًّا في إدارة الجيوش فقط، وإنما أيضًا لأن الرسول قد وضعه على إمارة الجيش الأصلي.



والحقيقة أن الصحابة في عادتهم ما كانوا يتنازعون الإمارة بهذه الصورة، إلا أنه بعد أن قال عمرو بن العاص هذا الكلام تكلم المهاجرون، وكان أبو عبيدة رجلاً حَيِيًّا، فتحرَّج أن يتكلم عن نفسه، فقالوا لعمرو: "كلا، بل أنت أمير أصحابك وهو أمير أصحابه".



وهذا بالطبع لا يمكن أن يحدث، إذ لا يمكن أن يكون في الجيش قائدان، فقال عمرو ثانية: "لا، بل أنتم مدد لنا".



وحين رأى أبو عبيدة هذا الاختلاف ما كان منه إلا أن خاطب عمرو بن العاص بكلمات قلَّ أن نجد أشباهها في أمثال مواقفها، وهي تعبر عن عمق فَهْم أبي عبيدة لقضية الإمارة في الإسلام، فقد قال له: "لتطمئن يا عمرو، ولتعلمَنَّ أن آخر ما عهد إليَّ رسول الله أن قال: (إِذَا قَدِمْتَ عَلَى صَاحِبِكَ فَتَطَاوَعَا وَلاَ تَخْتَلِفَا)، وإنك والله إن عصيتني لأطيعنَّك"[4].



فأطاع أبو عبيدة بن الجراح ، وصلى عمرو بن العاص بالناس، وفيهم أبو عبيدة وأبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وفيهم الكثير والكثير من المهاجرين والأنصار، الجميع يصلي وراء عمرو بن العاص حديث الإسلام، والذي لم يسلم إلا منذ أربعة أشهر فقط.



وهذه بالطبع صورة حضارية رائعة في تاريخ المسلمين، ومظهر من مظاهر الوحدة، ومن أبلغ أسباب النصر؛ إذ الجميع يعمل في سبيل الله، لا يتهافت أحد منهم على إمارة.


وقفة مع موقف عمرو بن العاص

مع موقف عمرو بن العاص السابق، كان لا بد أن نقف معه وقفة. وحقيقة الأمر أنه لم يخطئ في هذا الحدث؛ إذ كان لديه حجج قوية.



فالرسول بعث إليه، وأمَّره على هذا الجيش، وقال له: إنه يريد أن يسلمه الله وأن يغنمه. أي أن هناك ما يفسر وبصورة واضحة لعمرو بن العاص وللصحابة وغيرهم أن الرسول اختاره لإمارة هذا الجيش.



وعلى الجانب الآخر، فإن أبا عبيدة كان قد جاء بمائتين من الصحابة مددًا لعمرو بن العاص، ولم يصرح له الرسول بأنه هو الأمير على الجيوش، فكان مفهومًا أنه جاء مددًا فقط.



وفي الوقت نفسه فعمرو بن العاص ليس بالعقلية العسكرية البسيطة، وإنما كان بالفعل قائدًا وعسكريًّا، يشهد له الجميع من المسلمين وغير المسلمين بكفاءته اللافتة للنظر في الجزيرة العربية، وهو الأمر الذي كان معه موقف عمرو بن العاص موقفًا سليمًا.



وقد تولى عمرو بن العاص قيادة الخمسمائة رجل من الصحابة ، وظهرت عبقريته في أكثر من مرة منها:



1- أراد الجيش أن يوقد نارًا بغرض التدفئة من برودة الجو ليلاً، فطلبوا ذلك من عمرو بن العاص إلا أنه رفض ولم يجبهم إلى طلبهم، فذهب الصحابة إلى أبي بكر الصديق ليتوسط عند عمرو في إيقاد النار، وحين ذهب إليه أبو بكر الصديق يكلمه في ذلك، قال له عمرو بن العاص في منتهى الحزم: "لا يوقد أحد منهم نارًا إلا قذفته فيها".



سبحان الله! منع كل الناس من إيقاد النار، حتى غضب عمر بن الخطاب، وتحادث في ذلك الأمر مع أبي بكر الصديق، فأخبره أبو بكر بأن الرسول أمَّره على إمارة الجيش وهو أعلم. أي أنه أعلم بحكمته وبقدرته على إدارة الجيش، ونحن نسمع ونطيع.



وبالطبع كانت حكمة عمرو بن العاص في هذا الأمر واضحة؛ إذ إنه حين رجع الصحابة إلى المدينة المنورة، واشتكوا ذلك للرسول ، سأله عن علَّةِ فعله، فقال: "كرهتُ أن آذن لهم أن يوقدوا نارًا؛ فيرى عدوُّهم قلتَهم"[5].



2- ومنها أيضًا أن الصحابة التقوا مع قضاعة في معركة هائلة، وقد استطاع عمرو بن العاص بخطة عسكرية بارعة أن يحقق فيها النصر، وتكررت من جديد صورة مصغرة لغزوة أو سرية مؤتة، فكان انتصار كبير بعدد قليل من الرجال على مجموعة ضخمة من قضاعة.



وبعد هذا الانتصار فرَّت قبائل قضاعة هنا وهناك، الأمر الذي حمَّس الصحابة وفكروا في أن يتبعوهم، إلا أن عمرو بن العاص منعهم من ذلك، فاستجابوا لأمره، لكنهم حاروا في ذلك ولم يقتنعوا برأيه.



وحين عادوا إلى الرسول اشتكوا له ذلك، فسأله عن ذلك الأمر، فقال: "يا رسول الله، كرهتُ أن يتبعوهم فيكون لهم مدد"[6].



وحين سمع ذلك منه ، استحسنه وأقره.



3- أيضًا احتلم عمرو بن العاص في ليلة من ليالي سرية ذات السلاسل، وكانت هذه الليلة باردة، فأشفق أن يغتسل بالماء البارد في هذه الليلة، فتيمَّم ثم صلى بالناس صلاة الصبح، فاستغربوا ذلك.



وحين ذهبوا إلى الرسول اشتكوا له أيضًا هذا الأمر، فسأله : "أَصَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟" فقال عمرو بن العاص: يا رسول الله، إني سمعت الله يقول: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29].



فخشي أن يغتسل بالماء البارد فيموت، فاجتهد هذا الاجتهاد، وضحك رسول الله ولم يقل شيئًا[7]. وضَحِكُ الرسول إقرارٌ وقَبُول لذلك الاجتهاد الذي اجتهده عمرو بن العاص .



ومعنى هذا أنه كان هناك أكثر من مشكلة قد حدثت بين عمرو بن العاص والصحابة ، ورغم أن في الصحابة الكثيرين ممن لهم السبق والقدم، إلا أن الرسول أقرَّ آراء عمرو بن العاص ، وهذه من أعظم مناقبه وعن الصحابة أجمعين.



وقد كانت هذه الموقعة بالفعل موقعة عظيمة، وقد انتصر فيها المسلمون، وازدادت سمعة الدولة الإسلامية هيبةً ورهبة في قلوب الناس، وذاع صيتها في كل مكان.


عمرو بن العاص بعد ذات السلاسل

بعد سرية ذات السلاسل ارتفعت ثقة الرسول بفقهِ وذكاء وأمانة وقيادة عمرو بن العاص ، فأرسله إلى مهمة أخرى عظيمة، وهي السفارة إلى دولة عُمَان.



كانت عُمَان في ذلك الوقت دولة مشركة، وكان يحكمها رجل يُدْعَى جَيْفَرًا ومعه أخوه عَبْدٌ، وكان الاثنان يسيطران على منطقة واسعة من الأراضي في عمان وما حولها.



وقد أرسل الرسول لهم عمرو بن العاص يدعوهم إلى الإسلام، وإلى الانضمام إلى الدولة الإسلامية.



وبعد حوار طويل مع جيفر وعياذ تبدت فيه الحكمة الشديدة والذكاء الواضح من عمرو بن العاص ، استطاع أن يقنعهما بالإسلام، وقد أسلما بالفعل، بل وأسلم شعبهما بالكامل، ودخلت دولة عُمان بكاملها في دولة المسلمين.



ولم يكتفِ الرسول فقط بجعل عمرو بن العاص سفيرًا عنه إلى جيفر وعياذ في عُمان، بل عيَّنَه جامعًا للزكاة هناك، وكان هو عامل الرسول بعد تثبيت جيفر وعياذ على زعامة البلاد.



ومن هنا سنرى أنه سيختفي ذكره منذ هذه اللحظة، وحتى آخر عهد السيرة النبوية من أحداث المدينة المنورة أو مكة المكرمة، وأنه سيظل هناك في منطقة عُمان إلى أن يلحق الرسول بربِّه.



أي أن الرسول في كل حياته المتبقية بعد إسلام عمرو بن العاص قد وثق فيه ، وجعله واليًا من قِبله على هذه البلاد، ولم يكن من السهل أبدًا أن يقبل بولاية إنسان إلا إذا اطمأنَّ إلى دينه وكفاءته.



د. راغب السرجاني

[1] المباركفوري: الرحيق المختوم، دار الوفاء - مصر، الطبعة السابعة عشرة، 1426هـ- 2005م، ص338.

[2] رواه أحمد (17798، 17835) ترقيم النسخة الميمنية، وابن حبان في صحيحه (3211) ترقيم شعيب الأرناءوط، والحاكم في مستدركه (2130، 2926) ترقيم مصطفى عطا، وقال الحاكم: هذا الحديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وقال الذهبي في التلخيص: على شرط مسلم.

[3] الحديث السابق نفسه.

[4] الصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد، تحقيق عادل عبد الموجود وعلي معوض، دار الكتب العلمية - بيروت، 6/167.

[5] رواه ابن حبان في صحيحه (4540)، وصححه شعيب الأرناءوط.

[6] الحديث السابق نفسه.

[7] رواه أبو داود (334) ترقيم محيي الدين عبد الحميد، وصححه الألباني.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 2 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:26 pm

وسائل يهود المدينة في محاربة الإسلام

وسائل اليهود في محاربة الإسلام

اليهوداتبع اليهود في حربهم ضد الإسلام أكثر من وسيلة لإبعاد الناس عن الإسلام، وهو ما سنبينه في السطور القادمة.


الوسيلة الأولى: الحرب الإعلامية وإثارة الشبهات

فقد بدء اليهود بالتأثير الفكري على المسلمين، وعلى مشركي المدينة. ولما كان في المدينة مؤمنون، وآخرون ما زالوا يفكرون في الإسلام، بدأ اليهود بإثارة الشبهات لزعزعة عقيدة المؤمنين، وصرف من يفكر في الإسلام عنه - وهذا ما يقوم به الآن الإعلام اليهودي الذي هو من أكبر أدوات الحرب اليهودية ضد الإسلام والمسلمين - فعلى سبيل المثال: يعلنون أمام الأنصار أن رسولنا محمدًا ليس الرسول الذي في كتبهم، ونحن أدرى بكتبنا. وقد دخل معاذ بن جبل في حوار مع اليهود وقال لهم: "يا معشر اليهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ". تستفتحون علينا أي: كانوا يقولون إنه سيُبعث نبي في آخر الزمان، نقتلكم معه قتل عادٍ وإرم، يهددونهم بالرسول ، فلما بُعث رسول الله كفروا؛ فيقول لهم معاذ بن جبل: "كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهلُ شِرْكٍ ، وتخبروننا أنه مبعوث، وتصفونه لنا بصفته". فلماذا كفرتم به؟ وما الذي غيرَّكم؟ فقال سَلاَم بن مِشْكَم من بني النضير: "ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم"[1]. فأنزل الله في كتابه تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89].



ومن أمثلة محاولات التأثير الفكري أيضًا أنهم فكروا في خطة في منتهى الخبث، فكروا أن يؤمنوا قليلاً مع رسول الله ، ثم يتركوه ويقولوا: لما دخلنا معه وعرفنا الإسلام على حقيقته وجدنا أنه على باطل ثم تركناه؛ فيهتز المسلم الجديد، ويتردد الذي يفكر في الإسلام. قال الله في ذلك: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران: 72].



ثم إنهم بدءوا يكذِّبون القرآن الكريم، فعلى سبيل المثال ذكر القرآن الكريم أن الجنة للمؤمنين وأن النار لمن كذب وكفر، وفي ذلك يقول الله I: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البيِّنة: 6].



فيقولون: لا، نحن سندخل النار فترة محدودة جدًّا من الزمن؛ قالوا في بعض الروايات: سبعة أيام. وفي روايات أخرى قالوا: أربعين يومًا، وبعد ذلك نخرج من النار، ويُدخِل الله المسلمين النار أبد الآبدين؛ فأنزل الله : {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 80].



ورغم ذلك لما دعاهم الرسول لتمنِّي الموت فيموت أكذب الفريقين رفضوا ذلك؛ قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: لو تمنى اليهود الموت لماتوا. وقال الله في ذلك: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 94، 95].



فهم يعرفون أنهم إذا تمنوا الموت أمام رسول الله ، وأن الذي سيموت هو أكذب الفريقين أنهم سيموتون؛ لأنهم الأكذب؛ ولذلك لم يفعلوا. وقِسْ على هذا الأمر أحداثًا كثيرة مثل إنكارهم نبوة سليمان ؛ لأن الله ذكر في كتابه أنه نبي فأنكروا نبوته، واتهموه بالسحر، حتى أنبياؤهم طعنوا فيهم لأجل الطعن في القرآن الكريم، والآيات التي نزلت في ذلك كثيرة، وليس هنا مجال للتفصيل في ذلك.



إذن أهم وسائل حرب اليهود ضد المسلمين هي التأثير الفكري في الحرب الإعلامية التي أشعلوها، وإثارة الشبهات عند المسلمين أو عند من يفكر في الإسلام.


الوسيلة الثانية:التأثير الاقتصادي

أموال ونقود ذهبيةفقد ذهبوا إلى الأنصار الذين نصروا رسول الله وأمروهم بعدم الإنفاق على من عند رسول الله ، قال الله في ذلك: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 37].



أي يكتمون التوراة وهم قد بخلوا بالمال وأمروا الأنصار بالبخل بمالهم، وبذلك يؤثرون سلبًا على اقتصاد المسلمين.


الوسيلة الثالثة: إحداث الفرقة في الصف المسلم

محاولة تفريق الصف المسلم ومحاولة فك الرابط القوي الذي صنعه الرسول بين الأوس والخزرج، وقد قام بهذه المحاولة رجل يهودي كبير في السن اسمه شاس بن قيس؛ فقال كلمة تُعتبر في الحقيقة حكمة حيث قال: يا معشر يهود، تعلمون أنه والله لا مقام لكم في يثرب إذا اجتمع بنو قيلة (الأوس والخزرج) ؛ لأنه لو حدث هذا الاجتماع ستتوطد قوة الرسول عليه الصلاة والسلام في داخل المدينة المنورة، وفي هذا إيذاء لليهود؛ لأنهم على كراهية شديدة لرسول الله ، كما أن اليهود تجار سلاح وكانوا يربحون أموالاً طائلة من الحرب بين الأوس والخزرج، فإذا وحَّد الرسول بين الأوس والخزرج كما حدث وانتهت الحرب بين الأوس والخزرج، سيضيع جزء كبير من القوة الاقتصادية لليهود وهو قوة تجارة السلاح؛ فماذا فعل؟ لقد أرسل شابًّا يهوديًّا كان يسير معه، وقال له: اجلس مع الأنصار، وذكِّرهم بيوم بُعاث، وأنشدهم من الأشعار التي قيلت فيه، فتتحرك فيهم الحمية والقبلية والعصبية الجاهلية؛ فيصطرع القومان.



وبالفعل ذهب الشاب وفعل ما أمر به؛ فدخل الشيطان بين الأوس والخزرج مع أنهم من عمالقة الإيمان، لكن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم من العروق، وقام رجلان واحد من الأوس وآخر من الخزرج؛ فتصارعا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها جَذَعَةً. أي نعود للحرب مرة أخرى كأيام الجاهلية؛ فغضب الفريقان جميعًا الأوس والخزرج، وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة (الحَرَّة الآن)، السلاحَ السلاحَ. فخرجوا إليها في لحظة من لحظات الضعف لما دخل الشيطان إلى قلوب الأوس والخزرج، وكادت أن تقوم مهلكة عظيمة بين الفريقين، وفي ذلك الوقت كان الرسول جالسًا وسط مجموعة من المهاجرين، ووصله النبأ الخطير، فقام مسرعًا حتى وصل إلى الأنصار. وانتبه لاختلاف الكلمات عن الكلمات التي قالها الرسول في حل المشكلة القديمة التي دارت قبل ذلك بين مشركي الأوس والخزرج ومؤمنيهم، وكان عبد الله بن أُبيّ ابن سلول هو الذي أثار المشكلة، ساعتها ذكرهم الرسول بالقبلية والتحدي لقريش، أما الآن فالرسول يخاطب حضورًا من المسلمين فقط، قال : "يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهَ اللَّهَ، أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟!" دعوى الفُرقة بين المسلمين دعوى الجاهلية، هكذا عرَّفها : "أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم"؛ دعوى القومية، أنا أوسي وأنت خزرجي، هذه دعوى الجاهلية، بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به، وقطع عنكم الجاهلية، واستنقذكم بها من الكفر وألَّف بين قلوبكم. الحوار هنا مختلف تمامًا، يذكرهم بالله تعالى، يذكرهم بالشرع الحكيم، يذكرهم بقال الله وقال الرسول؛ لأن نوعية المخاطب مختلفة، شتَّان بين خطابه لمجموعة مختلطة من المسلمين والمشركين، وخطابه لمجموعة خالصة من المسلمين.



عرف القوم أنها نزغة من نزعات الشيطان، وكيد من أعدائهم؛ فبكوا في لحظتهم، وتأثروا جميعًا في لحظة واحدة، وعانق رجالُ الأوس والخزرج بعضهم بعضًا، ثم انصرفوا مع رسول الله سامعين مطيعين كأن شيئًا لم يكن.



مرت المشكلة التي حاول شاس بن قيس أن يشعلها، ولم يحدث أذى داخل الصف المسلم، ولكن ظهرت خطورة اليهود بشكل أكبر على المسلمين، وأنزل الله في شاس بن قيس قوله I: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 98، 99]. وأنزل الله I في الأوس والخزرج قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 100، 101].



وتتوالى الآيات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 102، 103].


قصة أبي بكر وفنحاص اليهودي

إذن كانت هناك محاولات مستمرة من اليهود للتفريق بين المسلمين، ولحصار المسلمين اقتصاديًّا، وللتشكيك في الدين، كل هذه محاولات مكثفة متكررة، ومع ذلك كان ردُّ فعل المسلمين كظم الغيظ، ومحاولة تجنُّب الصدام قدر المستطاع، ونزل التوجيه الرباني للمسلمين، قال I: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ} [البقرة: 109].



إذن ماذا نفعل؟



يقول تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 109].



فنحن نرى هنا مخالفة واضحة من اليهود، ولكن المخالفة لم تصل إلى درجة القتال، وإلى درجة مظاهرة الكفار على إخراج المسلمين من ديارهم. لم تصل إلى هذه الدرجة؛ لذلك حتى هذا الوقت فالمطلوب من الرسول أن يعفو ويصفح، ويصل بدعوته حتى إلى اليهود أولئك المكذبين الجاحدين، فاستمرت الدعوة الإسلامية إليهم، واستمرت محاولات تجنب الصدام من المسلمين، وفي الوقت نفسه فإن الرسول يعرف أن قوة المسلمين ما زالت في طور الإنشاء كما ذكرنا، وقوة اليهود كبيرة، ولعل الدخول في معركة مع اليهود في كل صغيرة وكبيرة ليس في مصلحة الأمة الإسلامية في ذلك الوقت؛ فكان الصبر هو الحل، ومع ذلك فهذا الصبر وهذه الحكمة شجعت اليهود لحمقهم على تجاوزات أكبر.



من ذلك ما حدث عندما دخل أبو بكر الصِّدِّيق على بيت المِدْرَاس، وكان بيتًا كبيرًا يُعَلَّمُ فيه اليهودُ التوراة، ويقوم فيه بالتعليم حَبْر من أحبار اليهود اسمه فِنْحَاص، ومعه آخر يساعده يسمى أشيع، فدخل أبو بكر على اليهود وهم يُعَلَّمُون التوراة بطريقة اليهود بتحريفها وتزويرها بإنكار نبوة الرسول ، فلما دخل الصِّدِّيق وسمع هذا الكلام قال لفنحاص ومن معه: "يا فنحاص، اتقِ الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمدًا لَرسول الله ، وقد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل".



فقال فنحاص لأبي بكر: "والله يا أبا بكر". وانتبه لهذه الكلمات لتعرف طبيعة اليهود، هذا الكلام من 1400 سنة، فما بالكم بما يقال الآن! قال: "والله يا أبا بكر، ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير". حاشا لله! يقول: "وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، وما هو عنَّا بغنيٍّ، ولو كان عنا غنيًّا ما استقرض أموالنا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا وَيُعْطِينَاهُ، ولو كان غنيًّا لما أعطانا الربا".



ربنا I يقول في كتابه الكريم: {إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن: 17].



ففنحاص يقول: إن هذا نوع من الربا، ألست تعطي الله أموالاً ويضاعفها لك؟ فهو ربا. إذن كيف ينهى الله عن الربا ويأخذه؟! أرأيت هذا العقل المعوَّج؟! هذا كلام فنحاص يعبر عن نفسيَّة ممزقة تمامًا، نفسيَّة بشعة! نفسية فنحاص ومَن معه ممن على دينه.



ماذا فعل أبو بكر الصديق أمام هذا الكلام؟ في الحقيقة لم يجد كلامًا يرد به، فردَّ بيديه وضرب فنحاص ضربًا شديدًا في وجهه حتى اختفت معالم وجه الرجل. لم يستطع التصرف مع هذه الكلمات البشعة إلا بهذا التصرف، ثم ذهب للرسول يحكي له الموقف، وهذا - لا شك - على غير ما اتفق عليه المسلمون؛ فالمسلمون كانوا معتادين على العفو والصفح وعدم الإيذاء. ومن الناحية الأخرى جاء فنحاص يشتكي لرسول الله ما فعله أبو بكر فيه، وقال له: أرأيت؟ انظر ما صنع بي صاحبك. فقال لأبي بكر الصديق: ما حملك على ما صنعت؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن عدو الله هذا قال قولاً عظيمًا، إنه زعم أن الله فقير، وأنهم أغنياء؛ فلما قال هذا غضبتُ لله مما قال، وضربت وجهه. هنا قال فنحاص: ما قلت ذلك. وأنكر ما قال، فأنزل الله قوله:{لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران: 181].



بهذا أيَّد ربنا I كلام أبي بكر الصديق، وكشف ما قاله فنحاص عليه لعنة الله، وأنزل الله في حق الصديق قولاً آخر، قال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران: 186].



مع أن الغضب هنا كان لله ، وليس للنفس، ومع أن العقاب الذي فعله الصِّدِّيق يعتبر مناسبًا للحدث؛ لأنه يعتقد أن الدفاع الذي فعله هذا بضرب وجه فنحاص يعتبر مناسبًا للجريمة التي فعلها؛ فقد سبَّ الله تعالى، وجَرَّح المسلمين، وهذا مخالفٌ للعهد، وكان الصِّدِّيق يستطيع قتل فنحاص، فقد قال لفنحاص في إحدى الروايات: "والذي نفسي بيده، لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربتُ رأسك يا عدو الله"[2]. اكتفى الصديق بالضرب مع كل هذا، إلا أن الله أمر المسلمين بالتعقل والصبر في ذلك الوقت حتى لو كانت الجريمة قد تمت؛ لأن الدخول في حرب أهلية في هذا التوقيت لعله يفتح على المسلمين أبوابًا كثيرة من الفتن، ولعله يؤدِّي إلى تداعيات لا يتحملها موقف المسلمين في هذه اللحظة.


الوضع في المدينة

هذه الأحداث التي ذكرناها من بداية حديثنا عن العهد المدني من السيرة النبوية وحتى هذه اللحظة، حدثت على أرض الواقع في ستة أشهر، والآن أصبحت المدينة تتوقع هجومًا من قريش. تتوقع تعاملاً من قريش مع المشركين في المدينة. تتوقع تعاملاً من قريش مع اليهود الذين كذبوا ورفضوا الدخول في الإيمان. تتوقع هجومًا من الأعراب. كل هذه ظروف قد تحدث بين يوم وليلة، وساعتها ماذا سيكون ردُّ المسلمين؟ مع أن القاعدة التي تحكم حياة المسلمين إلى هذه اللحظة هي: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94]. القاعدة التي تحكم تعاملات المسلمين مع المشركين بشتى أنواعهم: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}. كيف سيعرض المسلمون عن المشركين مع هذا الإيذاء المستمر؟ وهل ستتغير القاعدة ويصبح هناك صدام وحرب وقتال؟



هذا ما سوف نعرفه في الصفحات القادمة إن شاء الله.



د. راغب السرجاني

[1] ابن هشام: السيرة النبوية 1/ 547.

[2] ابن هشام: السيرة النبوية 1/ 558.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 2 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:28 pm

رسول الله يستشير أصحابه قبل بدر

أبو سفيان بن حرب يدعو قريشًا للرجوع

وأمرهم شوري بينهمخرج جيش مكة الذي أعده رأس الكفر أبو جهل لعنه الله، لكن في الطريق وقبل أن يصلوا إلى بدر وصلتهم رسالة ثانية من أبي سفيان بن حرب، يقول فيها: إنكم إنما خرجتم لتحرزوا عيركم ورجالكم وأموالكم، وقد نجاها الله فارجعوا.



والقصة أن أبا سفيان اكتشف تحركات الجيش المسلم، وعرف أنه سينتظر في بدر، وبسرعة غيَّر اتجاهه ناحية الغرب، وسار على ساحل البحر الأحمر وأفلت بالقافلة، وأبو سفيان كان يرى أنه لا داعي للدخول في صدام دون إعداد جيد، والأفضل تدبير أمر الجيش بتروٍّ. هذه الرسالة وجدت هوًى في قلوب معظم الجيش المكي، أمية بن خلف وغيره، كان الكل يريد الرجوع، لكن أبا جهل قام لهم يدفعهم دفعًا، كما دفع فرعون جنده للدخول في البحر خلف موسى ؛ قال أبو جهل للجيش: "والله لا نرجع حتى نَرِدَ بدرًا، فنقيم عليه ثلاثًا (كعادة الجيوش المنتصرة)، فننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونُسقي الخمر، وتعزف القيان (المطربات)، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدًا"[1].


انقسام في الجيش المكي

برغم إصرار أبي جهل إلا أن مجموعة من المشركين انشقَّت عن الصف ورفضت إكمال الطريق، وكان يقود هذه المجموعة الأخنس بن شريق، وأخذ معه بني زهرة بالكامل وكانوا ثلاثمائة رجل وعاد بهم. والانقسامات داخل حزب الباطل نصرٌ كبير للمؤمنين.



أصبح تعداد الجيش المكي ألف مقاتل، وأكمل هذا الجيش الطريق حتى نزل قريبًا من بدر عند مكان يعرف بالعدوة القصوى على حدود وادي بدر.


عودة إلى الجيش المؤمن

نقلت الاستخبارات الإسلامية خبرين في منتهى الأهمية:



الخبر الأول: هروب القافلة.



الخبر الثاني: جيش مكة على مقربة من بدر.



أصبح الوضع الآن من الخطورة بمكان، فإعداد المسلمين كان قويًّا جدًّا بالنسبة لقافلة تجارية، لكنه ضعيف جدًّا بالنسبة لجيش نظاميّ خرج مستعدًّا للقتال، ماذا نفعل؟!



لا يوجد إلا أحد خيارين: الرجوع إلى المدينة وتجنُّب القتال، أو التقدم إلى بدر والصدام المروع.



ومن الآن كل موقف سيحمل ملمحًا من ملامح النصر، كل موقف ستكون فيه إشارة إلى عامل من عوامل نصر الأمة. نحن قلنا: إن كل صفات الجيش المنتصر اجتمعت في جيش بدر، وأيُّ جيل مسلم يريد أن ينتصر لا بد أن يعرف صفات جيش بدر كاملة، ولا بد أن يستوعب سورة الأنفال جيدًا، السورة التي تحدثت عن غزوة بدر.



أصبح أمام رسول الله أحد خيارين: الرجوع أو القتال؛ من داخله هو يريد القتال، فالرجوع له آثار سلبية كبيرة؛ الرجوع سيهزُّ صورة المسلمين جدًّا، وسيضيِّع مكاسب سرية نخلة، وسيشجع الكفار على التمادي في الحرب على المسلمين، فكلما يرجع المسلم خطوة يحتلها عدوه، ولا يُستبعد مطلقًا إذا رجع الجيش المسلم أن يستمر الجيش المكي في المسير ويغزو المدينة، وساعتها سيكون الخطر أكبر. لكن في الوقت نفسه لم يكن رسول الله قائدًا دكتاتورًا كأبي جهل، فالقائد الدكتاتور يعتقد في داخله أن رأيه فقط هو الرأي الصحيح، وأنه يفهم في كل المجالات، ومن ثَمَّ فلا داعي لأن يضيِّع وقته ووقت شعبه في أيِّ استشارات، لكن الرسول لم يكن كذلك أبدًا.


تطبيق مبدأ الشورى

رسول الله كان يستشير أمته في كل القضايا التي لم ينزل فيها وحي، طبعًا إذا كان هناك أمر من الله في قضية من القضايا لا يجوز للمسلمين أن يتشاوروا في تطبيق الأمر من عدمه، لكن إذا لم يكن هناك أمر من الله، فلا بد من الشورى، فكل تحركاته كانت بشورى، عندما خرج من المدينة للقافلة خرج بشورى، وعندما قرَّر أن يحارب لم يحارب إلا بشورى، وسنرى الشورى في مواضع أخرى كثيرة في بدر. إذن نستطيع أن نقول ببساطة: إن من أهم ملامح الجيش المنتصر، أنه جيش يعظّم الشورى، الشورى الحقيقية، وليست التمثيليات الهزلية على الشعب، بل شورى حقيقية تهدف إلى قرار يصلح الأمة.



عقد الرسول مجلسًا استشاريًّا كبيرًا، تبادل فيه الرأي ليس فقط مع قادة الجيش ولكن مع عامة الجيش، فالقضية خطيرة. قام المستشار الأول لرسول الله أبو بكر الصديق وأيد الحرب ضد الكافرين، وكذلك قام المستشار الثاني عُمَر بن الخطاب فقال نفس الكلام، ثم قام المقداد بن عمرو وقال كلامًا رائعًا، هذا الكلام الذي قاله المقداد علَّق عليه عبد الله بن مسعود بعد ذلك وقال: "شهدت من المقداد بن الأسود مشهدًا، لأن أكون صاحبه أحبُّ إليَّ مما عدل به"[2]. أي أنه ليس هناك موقف أحسن من ذلك الموقف.


موقف المقداد بن عمرو وسعد بن معاذ

قال المقداد بن عمرو : "يَا رَسُولَ اللَّهِ، امْضِ لِمَا أَرَاكَ اللَّهُ فَنَحْنُ مَعَكَ، وَاللَّهِ لاَ نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ، وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَجَالَدْنَا مَعَكَ مِنْ دُونِهِ حَتَّى تَبْلُغَهُ"[3].



رسول الله سُرَّ كثيرًا بكلام المقداد، ومن قبله بكلام أبي بكر وعمر، لكنه ما زال يطلب الاستشارة ويقول: "أشيروا عليَّ أيها الناس"[4].



وقد كان رسول الله في مواقف كثيرة يكتفي باستشارة أبي بكر وعمر، ويقول: "لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما"[5]. ولكنه هنا ما زال ينتظر استشارة، وحتى بعد كلام المقداد، فلماذا؟



الرسول لم يسمع رأي الأنصار، الأنصار قبل ذلك في المدينة أعلنوا موافقتهم على الخروج معه إلى القافلة، لكن الآن ليس هناك قافلة، هناك جيش وجيش كبير، والرسول يعلم أنه لو أمر الأنصار لأطاعوه، فهم في أعلى قمم الإيمان، لكن الرسول يذكر بيعة العقبة الثانية، وفيها بايع الأنصار على نصرة الرسول إذا قدم إليهم في المدينة، ولم يبايعوه على الحرب خارج المدينة. والأمر ليس فيه تكليف إلهي الآن فيسمع الجميع ويطيع، ولكنها الشورى. والرسول لا يريد أن يُكرِه الأنصار على القتال، فشتَّان بين مَن يقاتل وهو مكرَه، ومن يقاتل وهو راغب في الجهاد. ولا ننسى أن الأنصار ثلثا جيش المسلمين، هذا الطلب المتكرر للاستشارة لفت نظر سعد بن معاذ ؛ فقام وقال: لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال رسول الله بصراحة: "أجَلْ".



قال سعد (واسمع وتدبر فهذه من أبلغ صفات الجيش المنتصر): "فَقَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ، وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَامْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَا أَرَدْتَ، فَوالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَّا عَدُوَّنَا غَدًا، إِنَّنَا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ، صُدُقٌ فِي اللِّقَاءِ، وَلَعَلَّ اللَّهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ"[6].



ثم قال (وتكلم في صراحة): "لَعَلَّكَ تَخْشَى أَنْ تَكُونَ الأَنْصَارَ تَرَى حَقًّا عَلَيْهَا أَنْ لاَ تَنْصُرَكَ إِلاَّ فِي دِيَارِهِمْ، وَإِنِّي أَقُولُ عَنِ الأَنْصَارِ وَأُجِيبُ عَنْهُمْ، فَاظْعَنْ حَيْثُ شِئْتَ، وَصِلْ حَبْلَ مَنْ شِئْتَ، وَاقْطَعْ حَبْلَ مَنْ شِئْتَ، وَخُذْ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا شِئْتَ، وَأَعْطِنَا مَا شِئْتَ، وَمَا أَخَذْتَ مِنَّا كَانَ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِمَّا تَرَكْتَ، وَمَا أَمَرْتَ فِينَا مِنْ أَمْرٍ فَأَمْرُنُا تَبَعٌ لِأَمْرِكَ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ سِرْتَ حَتَّى تَبْلُغَ الْبَرْكَ مِنْ غُمْدَانَ لَنَسِيرَنَّ مَعَكَ، وَاللَّهِ لَئِنِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ"[7].



هؤلاء هم الأنصار! لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق.



سمع الرسول هذا الكلام، فتحرك في منتهى النشاط، وقال للناس في حماسة: "سِيرُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَوَاللَّهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ"[8].



بل في رواية مسلم أن عمر بن الخطاب ، ذكر أن الرسول مرَّ مع المسلمين على أرض بدر ليلة المعركة، وعرَّفهم أين يموت كل طاغية من طواغيت مكة، وكان يقول: "هذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله، وهذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله". فما أخطأ رجلٌ الموضع الذي حدده رسول الله .



د. راغب السرجاني

[1] ابن كثير: السيرة النبوية 2/399.

[2] البخاري: كتاب المغازي، باب قول الله تعالى: "إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم" (3736) ترقيم البغا.

[3] البخاري: كتاب التفسير، باب تفسير سورة المائدة (4333)، وأحمد (12041، 12977) طبعة مؤسسة قرطبة. وانظر: ابن هشام: السيرة النبوية 1/ 615.

[4] ابن هشام: السابق نفسه 1/ 615.

[5] رواه أحمد (18023). وعلق عليه شعيب الأرناءوط قائلاً: إسناده ضعيف لضعف شهر بن حوشب، وحديث عبد الرحمن بن غنم عن النبي مرسل.

[6] ابن هشام: السيرة النبوية 1/ 615.

[7] ابن القيم: زاد المعاد، تحقيق شعيب وعبد القادر الأرناءوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الرابعة عشرة، 1986م، 3/ 153.

[8] ابن هشام: السيرة 1/ 615.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 2 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:29 pm

إسلام مكة

الرسول يأمر بتكسير الأصنام

مكة المكرمةدخل رسول الله مكة فاتحًا عزيزًا منتصرًا، ودخل مكة في عشرة آلاف من أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم. وكما ذكرنا لم يلقَ مقاومة تُذكر في مكة المكرمة، إلا عند منطقة واحدة، واستطاعت فرقة خالد بن الوليد أن تقضي على هذه المقاومة في لحظات، ودانت مكة لحكم المسلمين بعد أقل من يوم واحد من فتحها، والرسول دخل بموكبه المهيب إلى صحن الكعبة، اخترق مكة بكاملها حتى وصل إلى صحن الكعبة ، وأول شيء فعله أنه بدأ في تكسير الأصنام. وكانت الأصنام كثيرة حول الكعبة، فقد كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنمًا، وكانت موزَّعة حول الكعبة وفوقها وداخلها، غير هُبَل أعظم آلهتهم.



وهذا الأمر لا بد أن يلفت أنظارنا؛ فبعد صبر إحدى وعشرين سنة كاملة، الرسول الآن يكسِّر الأصنام، وكان يطوف بالكعبة ثلاث عشرة سنة متتالية في فترة مكة المكرمة، ولم يفكر مرة واحدة في كسر صنم واحد، وكان يطوف منذ عام واحد فقط في عمرة القضاء، ولم يفكر في كسر صنم من هذه الأصنام، وهذه المفارقة، وهذه المقارنة بين الموقفين تحتاج منا إلى وقفة؛ فقد صبر الرسول إحدى وعشرين سنة، والآن لا يصبر لحظة واحدة، فهو لم يقم الصلاة، ولكنه بدأ قبل أن يفعل أي شيء بكسر الأصنام.


فقه الواقع عند الرسول في كسره للأصنام

عند دراسة سيرة الرسول لا بد أن نهتم اهتمامًا خاصًّا بالأعمال التي يقوم بها ، فإنه إذا بدأ بشيء ما فهذا الأمر مقصود منه ، فهو أمر إلهي، ومتابعة بالوحي، وفيه رعاية كاملة من الله ، وفيه تشريع من الله للمسلمين. الآن الرسول لا يصبر دقائق على وجود صنم يُعبد من دون الله ، هذا ما نسمِّيه بـ (فقه الموازنات)، وفقه الواقع، وفقه دفع أكبر الضررين وجلب أكبر المنفعتين، لو كان الرسول كسر هذه الأصنام في فترة مكة المكرمة لقامت الدنيا ولم تقعد! ولاستُؤْصِل المسلمون بكاملهم من مكة المكرمة، أما الآن بعد أن أصبح حاكمًا لمكة المكرمة، بل لأجزاء كبيرة من الجزيرة العربية، وبهذه القوة؛ لذا فهو لا يصبر على وجود هذا المنكر الشنيع، وأن يعبد صنم من دون الله ، فكسر كل الأصنام وهو يقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81].



وكان تكسير الأصنام خطوة سياسية في منتهى الروعة، فهذه الخطوة كسرت تمامًا كل معنويات مكة، فكل صنم يقع على الأرض يكسر من معنويات أهل مكة؛ لأن هذه الأصنام ظلت تعبد من دون الله، لا أقول عشرات السنين، بل مئات السنين؛ ففي داخل مكة المكرمة أجيال وراءها أجيال تعبد هذه الأصنام، والجميع يعتقد في داخله أنها ستصيبه بضرر أو بسوء؛ لأنه كسرها، ومع ذلك لم يحدث له شيء، والجيش الإسلامي بكامله لم يحدث له شيء، وظهرت الحقيقة واضحة أمام أعين المشركين أنهم كانوا في ضلال مبين في كل هذه السنوات السابقة.



وكانت خطوة كسر الأصنام مهمَّة للغاية؛ لأن القرشيين الكفار بعد هذا التكسير للأصنام خارت قواهم، وفقدوا كل أمل في المقاومة، ولم يكتفِ الرسول بتكسير الأصنام في مكة المكرمة، بل حرص على تكسير الأصنام في كل المناطق المحيطة بمكة المكرمة. ونحن نعلم أن أهل مكة كانوا يعبدون كثيرًا من الأصنام، منها ما هو داخل مكة، ومنها ما هو في خارج مكة، فأرسل سرية بقيادة خالد بن الوليد لكسر العُزَّى، وكان صنم العزى من أكبر الآلهة التي كانت تعبد من دون الله ، وأرسل سرية بقيادة سعد بن زيد لكسر صنم مَنَاة، وكان من أشهر أصنام العرب أيضًا، وأرسل سرية بقيادة عمرو بن العاص لهدم صنم سُوَاع، وصنم سواع من الأصنام المشهورة عند العرب، وكسر الرسول بنفسه صنم هُبَل في صحن الكعبة، ولم يبقَ إلا صنم مشهور من أصنام العرب، وهو صنم اللاّت، وكان موجودًا في مدينة الطائف عند قبيلة ثقيف، وهو من أعظم الأصنام عند العرب، ولم يُكسر إلا بعد إسلام ثقيف في السنة التاسعة من الهجرة.



فالرسول كسر كل الأصنام حول مكة، وبذلك كسر كل معنويات قريش، وحطَّم كل أمل عندهم للمقاومة، وكانت هذه أول خطوة قام بها الرسول في مكة.


حكمة الرسول من تأذين بلال فوق الكعبة

واتخذ الرسول خطوة مهمَّة في طريق تربية قريش على تعاليم الإسلام العظيمة، وحتى يفقهوا الإسلام على حقيقته، وهو أن الله يُعِزُّ من انتمى إلى هذا الدين، بصرف النظر عن جنسه ولونه وقبيلته، بل إن الذي لم ينتمِ إليه ذليل. ورآه المشركون من أهل قريش بأعينهم، فقد نادى رسول الله على بلال ليؤذِّن للصلاة، وهذه هي المرة الثانية التي يفعل فيها بلال هذا الأمر؛ فقد أَذَّن في عمرة القضاء، والآن يقوم بنفس الأمر، ويصعد بلال فوق أشرف بقعة في الأرض؛ ليرفع الأذان لله ، وكلنا نتذكر ذكريات بلال في مكة، وهو يقول: أحد أحد.



في ذلك الوقت كان يهمس بها همسات لا يسمعها إلا من يعذِّبه، أما الآن فهو يعلو بها في كل أرجاء مكة المكرمة، والجميع مسلمهم ومشركهم يسمع إليه .



وكان أذان بلال من فوق الكعبة له تأثير شديد في نفوس المشركين، ودليل ذلك ما حدث من أبي سفيان بن حرب، وعَتَّاب بن أَسِيدٍ، والحارث بن هشام، وكان الثلاثة في فناء الكعبة يستمعون إلى بلال وهو يؤذن، وكان أبو سفيان قد أعلن إسلامه قبل ذلك بين يدي الرسول ، ولكن عتاب بن أسيد كان من الشباب في قريش، وكان عمره اثنتين وعشرين سنة، وهو ما زال مشركًا، والحارث بن هشام أيضًا ما زال مشركًا -والحارث بن هشام أخو أبي جهل- فهم من كبار الزعماء في مكة، فقال عتاب بن أسيد -وهو يعلِّق على أذان بلال فوق الكعبة-: لقد أكرم الله أسيدًا ألاّ يكون سمع هذا، فيسمع منه ما يغيظه، ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنًا؟!



فقال الحارث بن هشام: أما والله لو أعلمُ أنه محق لاتبعته.



فقال أبو سفيان: لا أقول شيئًا، فلو تكلمت لأخبرت عني هذه الحَصَى.



فقد أدرك أبو سفيان أن محمدًا نبيٌّ، وأنه إذا تكلم سيعرف ذلك الوحي. وجاءهم الرسول بعد هذه الكلمات، وقال: "قَدْ عَلِمْتُ الَّذِي قُلْتُمْ". ثم ذكر ذلك لهم، فقال الحارث وعتَّاب: نشهد أنك رسول الله، ما اطَّلع على هذا أحد فنقول أخبرك[1].



وأسلموا في هذا الموقف العظيم، وعندما رأى بعض بني سعيد بن العاص بلالاً يؤذن على الكعبة، قالوا: لقد أكرم الله سعيدًا إذ قبضه قبل أن يسمع هذا الأسود على ظهر الكعبة. وقال رجل من قريش للحارث بن هشام: ألا ترى هذا العبد أين صعد؟ فردَّ عليه الحارث بن هشام وقال: دعه؛ فإن يكن الله يكرهه فسيغيِّره[2].



ونعتقد أن هذا الكلام قاله الحارث بن هشام بعد أن أسلم ، وكان هذا في بداية إسلامه.


أبو محذورة يعلن إسلامه

وسار بعض شباب قريش يستهزئ ويقلِّد صوت بلال غيظًا، حتى قلده أحد الشباب، وكان اسمه أبي محذورة الجمحي، وكان عمره ست عشرة سنة، ولكن صوته كان جميلاً، وكان من أحسن قريش صوتًا، فلما رفع صوته بالأذان مستهزئًا سمعه الرسول ، فاكتشف طاقةً موجودة داخل مكة، فناداه، فمَثَلَ الرجل بين يديه وهو يظن تمام الظن أنه مقتول؛ لأنه كان يستهزئ بالأذان، فمسح على صدر هذا الشاب وناصيته بيديه الشريفة، فقال أبو محذورة: فامتلأ قلبي -والله- إيمانًا ويقينًا، وعلمت أنه رسول الله[3].



والرسول بعد أن آمن هذا الشاب علَّمه الأذان، وأصبح هو الذي يؤذن لأهل مكة بعد رحيل الرسول إلى المدينة المنورة، وظل الأذان في أبي محذورة وعَقِبِه بعد موته إلى فترة طويلة من الزمان. فقد وضَّح الرسول بهذا الأذان لقريش أن الله يعز من يشاء، ويذل من يشاء، وأن العزة الحقيقية لا تكون إلا بالإسلام، وفهم القرشيون ذلك في هذا الموقف العظيم.


حكمة الرسول في إحكام التخطيط لفتح مكة

تم فتح مكة بحرب عسكرية، وحرب سياسية، وحرب معنوية، وأتقن الرسول كل هذه الحروب بمنتهى الدقة؛ حرب عسكرية أُعِدَّ لها الجيش إعدادًا قويًّا، وقد وضع الرسول خُطَّة محكمة تخفي تحركات الجيش قدر المستطاع، حتى وصل إلى قريش دون أن تعلم بوصوله إلا على بُعد اثنين وعشرين كيلو مترًا من مكة المكرمة، وأدار حربًا سياسية بارعة عندما حيَّد أبا سفيان زعيم مكة، بل استخدمه لصالح المسلمين في منع القرشيين من المقاومة عند دخول الجيش الإسلامي إلى مكة المكرمة، ثم مارس الحرب المعنوية بكل أشكالها، ابتداءً من إظهار عدد الجيش الإسلامي، وإشعال النيران، وجَعْل أبي سفيان يرى الجيوش الإسلامية الكثيرة، والقبائل المتعددة، وكسر الأصنام، وأذان بلال فوق الكعبة، وكل هذا تحطيم لمعنويات القرشيين؛ لتخمد عندهم روح المقاومة الحقيقية.



إنه إعدادٌ باهر ومتقن وحكيم، يبرز لنا كيف كان الرسول يجمع بين القيادة والنبوة .


الرسول يضرب المثل في الوفاء

لم يكتفِ الرسول بهذا الإعداد القوي ليفتح مكة، بل لجأ إلى وسيلة قَلَّما يلجأ إليها زعيم من زعماء الدنيا بصفة عامَّة، وهي وسيلة امتلاك قلوب الشعب الذي فُتِح الآن على يدي الرسول ، والرسول يعلم ما بداخلهم من الحقد والحسد؛ لذلك أراد أن يؤلِّف قلوبهم. ورأينا أن الرسول ألَّف قلب أبي سفيان بإعطائه الفخر، وأبو سفيان زعيم قبيلة بني أمية، وبنو أمية قبيلة كبيرة داخل قريش، وقد ألَّف الرسول قلب أحد أكبر القبائل القرشية داخل مكة المكرمة، ثم يؤلِّف الرسول قلب قبيلة أخرى كبيرة في قريش؛ فعندما دخل الرسول الكعبة المكرمة وصلى فيها ثم خرج، نادى على عثمان بن طلحة الذي أسلم في أوائل العام الثامن من الهجرة قبل فتح مكة بعدة أشهر مع عمرو بن العاص وخالد بن الوليد في يوم واحد.



وعثمان بن طلحة من بني عبد الدار، وبنو عبد الدار من أعظم القبائل القرشية، وفيها شرف كبير، وهي حاملة مفتاح الكعبة لسنوات طويلة قبل ذلك. والرسول في ذلك الوقت نادى على عثمان بن طلحة، وأمره أن يأتي بمفتاح الكعبة، والجميع ظنَّ أن الرسول سيأخذ منه مفتاح الكعبة؛ ليعطيه أحدَ أقاربه من بني هاشم، بل إن علي بن أبي طالب طلب ذلك صراحةً، وأن يضم مفتاح الكعبة إلى شرف بني هاشم، فعندهم السقاية والحجابة، فيكون عندهم أيضًا مفتاح الكعبة، فيكون ذلك شرفًا لهم.



ولكن الرسول أخذ المفتاح، ووضعه في يد عثمان بن طلحة . ونرى في هذا الموقف مدى العظمة والحكمة، فقد دار بينه وبين عثمان بن طلحة حوارٌ قبل الهجرة، وطلب فيه الرسول من عثمان بن طلحة أن يعطيه مفتاح الكعبة ليدخل الكعبة، ولكن عثمان بن طلحة رفض في ذلك الوقت، فقال الرسول : "يَا عُثْمَانُ، لَعَلَّكَ تَرَى هَذَا الْمِفْتَاحَ يَوْمًا بِيَدِي أَضَعُهُ حَيْثُ شِئْتُ". فقال عثمان: لقد هلكت قريش يومئذٍ وذَلَّت. فقال: "بَلْ عَمَرَتْ وَعَزَّتْ يَوْمَئِذٍ"[4].



ومرت الأيام وجاء فاتحًا مكة المكرمة، وطلب المفتاح من عثمان بن طلحة، ودون تردد أتى عثمان بالمفتاح، وهو الآن قد أصبح من الصحابة المؤمنين البررة، فأتى بالمفتاح، ووضعه في يد الرسول ، وهو يظن أن الرسول سيعطي المفتاح إنسانًا غيره، ولكن الرسول وضع المفتاح مرةً ثانية في يد عثمان بن طلحة، وقال: "هَاكَ مِفْتَاحُكَ يَا عُثْمَانُ، الْيَوْمُ يَوْمُ بِرٍّ وَوَفَاءٍ، خُذُوهَا خَالِدَةً تَالِدَةً، لاَ يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إِلاَّ ظَالِمٌ"[5].



وظل مفتاح الكعبة في بني عبد الدار، وهو إلى الآن في نسل بني عبد الدار. وهذا الموقف من أروع المواقف التي استطاع الرسول أن يكسب به قلوب بني عبد الدار جميعًا، وشعرت بنو عبد الدار أن الرسول يُنزِل الناس منازلهم، وسيبقى لهم الفخرُ الذي كان لهم؛ وبذلك استطاع أن يسيطر على الموقف إلى درجة كبيرة في داخل مكة المكرمة، وقبل ذلك استطاع أن يكسب قلوب بني أمية، والآن هو يكسب قلوب بني عبد الدار.


العفو عن أهل مكة !

لقد فعل أمرًا من المستحيل أن تجده في تاريخ أي دولة من الدول، وقف الرسول الله في صحن الكعبة، ونادى على شعب مكة جميعًا أن يأتوا إلى الكعبة، فأتوا جميعًا وهم في حرجٍ شديد بعد صراعهم الطويل مع الإسلام والمسلمين، وإيذاء للرسول ، ومصادرة للأموال والديار، وقَتْل بعض الأصحاب، وجلد وتعذيب وغيرها، تاريخ طويل من العناء من أهل مكة، وسألهم الرسول سؤالاً واحدًا: "مَا تَظُنُّونَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟".



ما تنتظرون مني بعد الذي فعلتموه معي ومع أصحابي من إيذاء في هذه السنوات المتتالية؟ وكان الطبيعي أن يُؤخذ كل أهل مكة أسرى وسبايا وغنائم، فهذا فتح عسكري، ودخل الرسول مكة المكرمة بالقوة، وأحاطها بعشرة آلاف مقاتل، ولكن الرؤية كانت واضحة عنده ، فهو لم يدخل مكة؛ ليهلك أهلها، ولم يفتح بلدًا من البلاد سواء مكة أو غير مكة ليهلك أهلها، بل كان دائمًا حريصًا على إسلامهم، وإسلام رجل كان أحبَّ إليه من أموال الدنيا جميعًا. وعلم الرسول أن قوة أهل مكة قد انهارت، ورأوا أصنامهم قد كُسِرت، وأصبح يأمل في إسلامهم، فهم على مقربة من الإسلام، ولم يبقَ إلا أن ينطقوا بالشهادة؛ لذلك قال لهم وهو يتلطف بهم، ويشعرون ذلك في نبرات صوته: "مَا تَرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟".



فقالوا: خيرًا، أخٌ كريم وابن أخ كريم.



فقريش الآن في أزمة شديدة، والرسول لم يرد عليهم، أنتم تعلمون ذلك منذ زمن بعيد، وتعلمون أني أشرف العرب نسبًا، وأشرف قريش نسبًا، والصادق الأمين، وكل ذلك أنكرتموه بعد أن نزلت عليَّ الرسالة، ولم يذكرهم الرسول بكل ذلك، ولم يعنِّفهم، بل قال في سماحةٍ ورحمة: "فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ كَمَا قَالَ يُوسُفُ لِإِخْوَتِه: {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92]، اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ"[6].



فأطلقهم جميعًا مَنًّا بغير فداء، مع أنه كان من الممكن أن يأخذهم أسرى، والدولة الإسلامية في مرحلة النشأة، وتحتاج إلى أموال، ومع ذلك أطلقهم لأن إسلامهم أحبُّ إليه من أموال الدنيا كلها.


إسلام أهل مكة

بعد هذا الإطلاق العظيم اجتمع شعب مكة مع الرسول عند الصفا، وأخذوا يبايعونه جميعًا إلا أقل القليل على الإسلام، وهذا هو منتهى أحلام الرسول : {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3].



والرسول كان يحزن حزنًا شديدًا على فَقْد رجل واحد لا يسلم، وتخيل مدى فرحته وسعادته عندما أسلم شعب مكة جميعًا في يوم واحد. هذا نصر مهيب، وهذا فتح من الله كما سمَّاه الله في كتابه الكريم: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} [النَّصر: 1].



ولكي ندرك فرحة النبي ، نرجع بأذهاننا سنوات يوم أن وقف في المكان نفسه على الصفا يدعو الناس إلى الإسلام، ويدعو أهل مكة إلى الإسلام، فلم يجبه منهم أحد، وقال لهم : "وَاللَّهِ لَتَمُوتُنَّ كَمَا تَنَامُونَ، وَلَتُبْعَثُنَّ كَمَا تَسْتَيْقِظُونَ، وَلَتُحَاسَبُنَّ بِمَا تَعْمَلُونَ، وَإِنَّهَا لَجَنَّةٌ أَبَدًا، أَوْ نَارٌ أَبَدًا"[7].



ما اقتنع أحد من أهل مكة طيلة هذه السنوات الكثيرة إلا القليل، فقد خرج من مكة المكرمة بعد ثلاث عشرة سنة مستمرة من الدعوة بحوالي مائة وستين، أو مائة وسبعين صحابيًّا، وبعد مرور هذه السنوات الطويلة يسلم شعب مكة بكامله في يوم واحد، فأيُّ نصرٍ، وأيُّ عزة، وأي سيادة للإسلام والمسلمين!!



د. راغب السرجاني

[1] ابن هشام: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وآخرين، دار المعرفة - بيروت، القسم الثاني (الجزء الثالث والرابع) ص413.

[2] ابن كثير: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة - بيروت، 1396هـ- 1971م، 3/576.

[3] السهيلي: الروض الأنف، دار إحياء التراث العربي - بيروت، الطبعة الأولى، 1421هـ- 2000م، 7/239.

[4] ابن قيم الجوزية: زاد المعاد، مؤسسة الرسالة، بيروت - مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، الطبعة السابعة والعشرون, 1415هـ- 1994م، 3/409.

[5] المصدر السابق 3/409.

[6] السابق نفسه 3/407، 408.

[7] المباركفوري: الرحيق المختوم، دار الوفاء - مصر، الطبعة السابعة عشرة، 1426هـ- 2005م، ص83.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 2 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:30 pm

صفات الجيش الإسلامي في بدر

من صفات الجيش المنتصر

غزوة بدر الكبرىفي الحقيقة أن جيش المسلمين في غزوة بدر تحققت فيه صفات عدة أهلته لأن يكون جيشا منتصرا، وفي في المواقف السابقة للمسلمين مع رسول الله سنجد أكثر من صفة من صفات الجيش المنتصر:



أولاً: الشورى وأهميتها في بناء الأمة الإسلامية.



ثانيًا: ظهرت لنا صفة من أهم صفات الجيش المنتصر، بل هي أهم الصفات مطلقًا، وهي الصفة التي بذل رسول الله كل الجهد في زرعها في المسلمين طوال الفترة المكية وطوال الفترة الماضية في المدينة، وحتى مات ، وهي صفة الإيمان الكامل بالله ، وتوجيه النية كاملة له I، والإيمان الكامل برسوله الكريم ، واتباعه اتباعًا لا تردد فيه. رأينا جيش مكة خارجًا إلى المعركة كي يتحدث الناس عنه؛ خارجًا لإرضاء شهوات النفس، خارجًا بغرض الصدِّ عن سبيل الله {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال: 47].



بينما كان صدق التوجه واضحًا في كل كلمة من كلمات الصحابة ، فهم يعلمون أنهم في مهمة سامية وغرض نبيل، ولا يرجون من ورائها إلا الثواب من الله.



الله غايتهم، بكل معنى الكلمة، ومن غير صفة الإيمان ليس هناك نصر.



الجيش العلماني لن ينتصر.



الجيش العاصي لن ينتصر.



الجيش الفاسق لن ينتصر.



الجيش الذي يقاتل من أجل القائد لن ينتصر.



الجيش الذي يقاتل من أجل قبيلة أو عصبية لن ينتصر.



الجيش الذي لا يعرف لماذا يقاتل أصلاً لن ينتصر.



هناك جيوش كثيرة -وأحيانًا مسلمة- لا تعرف لماذا تقاتل؟



القائد أمر، لماذا أمر؟ وكيف أمر؟ وهل ترضي هذه الحرب ربنا ولا تغضبه، أم لا؟ لا أحد يسأل.



هذا الجيش لا يمكن أن ينتصر.



النصر في المفهوم الإسلامي من عند الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].



وكيف ننصر الله ؟



نصر الله يكون بطاعته وتطبيق شرعه، والجيش الإسلامي ظل خمسة عشر عامًا كاملة يُربَّى على هذا المعنى، هذه أهم صفة من صفات الجيش المنتصر.



-ثالثا: صفة مهمة من صفات الجيش المنصور، وهي صفة الأمل "سِيرُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَوَاللَّهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ".



الجيش المحبط من المستحيل أن ينتصر، والإحباط يأتي من تفاهة المهمة التي يقاتل من أجلها الجيش، والدنيا بكاملها لا تعدل عند الله جناح بعوضة، فالذي يقاتل من أجل الدنيا لا شك أنه سيحبط، ومن أُحبط لا شك أنه سيُهزم.



- رابعا: صفة رابعة من صفات الجيش المنصور، وهي صفة الحسم وعدم التردد.

-

مرحلة الشورى هي مرحلة تداول الرأي، فإن استقر المسلمون على رأيٍ فلا بد من الحسم في تنفيذه، التردُّد والتسويف يضعف الهمة، ويزيد من جرأة العدو، ويفتح أبوابًا للشيطان {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].



مع خطورة الموقف، وقلة أعداد المسلمين، وقوة الجيش الكافر إلا أن المسلمين أقدموا دون تردد.


صفات الجيش المكي

هذا على عكس ما كان عليه الجيش الكافر تمامًا:



- رأينا تردد أميَّة بن خلف في الخروج.



- ورأينا انسحاب الأخنس بن شريق.



- ورأينا رفض الجميع للقتال ودفع أبي جهل لهم.



- كما رأينا خوفهم من الخروج في البداية، وتمثَّل الشيطان لهم في صورة سُراقة بن مالك بن جعشم.



رأينا كل هذا، وسنرى تردُّدًا أشدَّ:



- عتبة بن ربيعة كان رافضًا للقتال، وقف يقول للقوم: "يا قوم، أطيعوني في هؤلاء القوم، فإنكم إن فعلتم (أي قاتلتم) لن يَزال ذلك في قلوبكم، ينظر كل رجل إلى قاتل أخيه وقاتل أبيه". أي: كيف ستعيشون مع بعضكم البعض، وكل واحد منكم سيقتل أخًا للآخر. ثم يوجِّه لهم النصيحة قائلاً: "فاجعلوا جَنْبَها برأسي، وارْجِعُوا"[1].



غضب أبو جهل وقال: "انتفخ والله سَحْرُه حين رأى محمدًا وأصحابه" (السَّحْر هو الرئة وهذه علامة على الجبن). ثم قال: "إنما محمد وأصحابه أَكَلَةُ جزور لو قد التقينا"[2]. أي أنهم لا يتجاوزون المائة.



قال عتبة يرد على أبي جهل: "ستعلم من الجبان المُفسِد لقومه، أما والله إني لأرى قومًا يضربونكم ضربًا، أما ترون رءوسهم كالأفاعي، وكأن وجوههم السيوف"[3]. هذه هي نفسية من يحاربون الإسلام.



- جاء حكيم بن حزام إلى عتبة بن ربيعة يقول له: يا أبا الوليد، هل لك أن تذهب بشرف هذا اليوم ما بقيت؟ قال: أفعل ماذا؟ قال: إنكم لا تطلبون من محمد إلا دم ابن الحضرمي (الذي قتل في سرية نخلة) وهو حليفك، فتحمل بديته، ويرجع الناس. فقال: أنت وذاك وأنا أتحمل ديته، واذهب إلى ابن الحنظليَّة -يعني أبا جهل- فقل له: هل لك أن ترجع اليوم بمن معك عن ابن عمك (يُذكِّره بالقرابة مع رسول الله)؟! فذهب حكيم إلى أبي جهل وقال له ذلك، فردَّ أبو جهل: أمَا وجد رسولاً غيرك؟ قال حكيم: لا، ولم أكن لأكون رسولاً لغيره[4]. فرفض أبو جهل وأصرَّ على القتال.



- وذهب عمير بن وهب الجمحي ليقدر أعداد المسلمين، فعاد إلى قريش وقد قدَّر العدد بثلاثمائة أو نحو ذلك. يعني قدَّر التقدير الصحيح، ومع أن هذا يعني أن جيش المسلمين ثلث جيش الكفار إلا أن عمير بن وهب قال وهو مرعوب:



"ولكني قد رأيتُ يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا، نواضحُ يثرب تحمل الموت الناقعَ، قومٌ ليس لهم منعة إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يُقتل رجلٌ منهم حتى يَقتل رجلاً منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم، فما خير العيش بعد ذلك؟! فَرُوا رأيكم"[5].



انظر التردد الذي يعيشه أهل الباطل!



كيف يمكن لأناس كهؤلاء أن يحاربوا؟!



كونوا على يقين من أن كل مَن يحارب الإسلام تكون هذه حاله.



إذن الجيش المسلم عكس الجيش الكافر تمامًا، الجيش المسلم جيش مؤمن بالله ورسوله، لا يعمل إلا لله ، متفائل، عنده يقين كامل في نصر الله، حاسم غير متردد، يعمل بالشورى في كل قضاياه إلا إذا كان هناك أمر من الله أو رسوله فلا شورى فيه. هذا جيش لا بد أن ينتصر.


حدود الخوف المشروع

ليس معنى أن الروح العالية التي وجدناها في موقف أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب والمقداد بن عمرو وسعد بن معاذ أن كل الجيش كان كذلك؛ لا، فهناك بعض المؤمنين كانوا خائفين من جيش مكة، ليس ضعفًا في اليقين، ولكن لإحساسهم أنهم لم يخرجوا بالاستعداد الكافي، وأن هذا من الممكن أن يضر بالجيش الإسلامي، وأن هناك أعدادًا من المسلمين بالمدينة لو علمت أن هناك جهادًا لخرجت.



الخلاصة أنهم كرهوا الحرب، وتمنوا أن لو كانوا يحاربون القافلة فقط {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: 5- 7].



هل يمثل هذا الشعور الذي كان عندهم مشكلة؟ هل هذا شعور خطير؟



أبدًا، ليس معنى الإيمان بالله عدم الخوف، لكن المطلوب من المؤمن أن لا يؤثِّر هذا الخوف في طاعته لله ولرسوله، لا يصح أن يقود الخوف إلى مخالفة شرعية، وهذا فارق ضخم بين (غزوة بدر) و(غزوة أُحُد).



في (بدر) خوف المؤمنين لم يدفعهم إلى مخالفة.



وفي (أُحُد) خوف المؤمنين دفعهم ليس إلى مخالفة واحدة، بل إلى عدة مخالفات.



الأمر المهم أن يكون في الجيش عدد من عمالقة الإيمان الذين يستطيعون أن يحرِّكوا الخير الموجود داخل عموم المؤمنين، ففي الناس خير كثير لكنهم يحتاجون من يحركهم، وليس بالضرورة أن يكون الجيش كله أبا بكر وعمر، ولكن من الضروري أن يكون في الجيش أمثال أبي بكر وعمر.



كل هذه الأحداث التي تحدثنا عنها كانت يوم الخميس 16 من رمضان سنة 2 هجرية، واليوم التالي سيكون يوم الجمعة 17 من رمضان 2 هجرية، وهو يوم بدر، يومٌ من أعظم أيام الإسلام، بل من أعظم أيام الدنيا. وفي هذا اليوم سنعرف صفات أخرى للجيش المنصور، وسنعرف كيف يتم النصر، وسنعرف سننًا كثيرة للحرب بين الحق والباطل.



د. راغب السرجاني

[1] ابن الهيثمي: مجمع الزوائد، دار الفكر، بيروت، 1414هـ، 6/ 99.

[2] ابن الهيثمي: مجمع الزوائد 6/ 99.

[3] السابق نفسه، الصفحة نفسها.

[4] ابن كثير: السيرة 2/ 408، 409.

[5] ابن هشام: السيرة 1/ 622.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 2 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:30 pm

مقدمات غزوة حنين

الصراع القبلي في شبه الجزيرة العربية

غزوة حنينتحدثنا من قبل عن الفتح العظيم فتح مكة، وإسلام معظم أهل مكة، وإضافة قوتهم الهائلة إلى الدولة الإسلامية، وهي ليست قوة بشرية أو اقتصادية فحسب، بل هي في الأساس قوة دينية واجتماعية وسياسية وأدبية، فقد أصبحت الكعبة المشرفة في يد المسلمين، ولا يخفى أثر ذلك في العرب الذين كانوا يعظمونها كثيرًا حتى في زمان الجاهلية.



عاد إلى المسلمين الكثير والكثير من أملاكهم المسلوبة، ومن جديد توثقت العلاقات بين الأُسر التي فرقت الهجرة إلى المدينة أو الحبشة بينها وبين بقية أفرادها في مكة المكرمة، وأصبح للمسلمين وضع متميز ألقى الرهبة في قلوب كل العرب، وبدأت الكثير من القبائل تحسب للمسلمين ألف حساب، فليس من السهل أن تهزم قريش، أو تُفتح مكة، أو يقبل سدنة الأصنام وكهنة هُبَل والعُزَّى ومَنَاة أن يدخلوا في الإسلام.



لقد كان فتح مكة بالفعل فتحًا عظيمًا بكل المقاييس، ومع أن هذا الفتح دفع الكثير من أهل الجزيرة إلى التفكير في الإسلام، إلا أن هناك بعض القوى الأخرى في الجزيرة العربية أخذت موقفًا معاديًا من الإسلام ومن الدولة الإسلامية، وشعرت أن هذا النمو اللافت للنظر للدولة الإسلامية معناه ابتلاع القبائل الأخرى خلال زمن قصير؛ ومن أجل ذلك بدأت هذه القبائل في إعداد العُدَّة لحرب الدولة الإسلامية قبل أن يتفاقم الوضع، ويصبح خارج السيطرة.


مرض العصبية والقبلية عند العرب

وكان من أخطر القبائل التي أخذت هذا النهج أو هذا الأسلوب قبيلة هَوازِن، والجميع يعلم مدى الروح القبلية عند العرب، ومدى انتماء كل فرد لقبيلته بصرف النظر عن الحق أو العدل، وكان ذلك من الأمراض الخطيرة التي حاربها الإسلام منذ اللحظة الأولى لنزول الرسالة. وإذا أردنا أن نفهم قصة هوازن مع المسلمين فلا بد من العودة إلى الوراء بعض الشيء؛ لكي نتعرف على جذور هذه القبيلة وعَلاقتها بقريش. ونحن نعلم أن العرب بصفة عامة ينقسمون إلى قسمين رئيسيين: عدنانيين وقحطانيين؛ فالعدنانيون ينقسمون إلى ربيعة ومضر، ومضر تنقسم إلى إلياس وعيلان، وتأتي قبيلة قريش من فرع إلياس بعد تفرعات كثيرة، وتأتي قبيلة هوازن من عيلان بعد تفرعات كثيرة أيضًا، وكلما بعدت الأنساب ازدادت الصراعات بين القبائل، وفَقَد الناس الشعور بالرحم التي ينتمون إليها، وإذا كانت التنافسات والصراعات تحدث بين البطون القريبة من بعضها البعض بسبب القبلية، فما بالك بالبعيدة الأنساب!



نحن نعرف ما كان يحدث من صراع بين بني هاشم وبني مخزوم، والاثنان مخزوم وقصيّ كانوا أولاد عم مباشرة؛ فمخزوم جاءت منه قبيلة بني مخزوم، وقصيّ أتت منه بنو هاشم، ولكن مع ذلك حدث تنافس شديد بين القبيلتين بسبب القبلية. وقد يصل الأمر في بعض الأحيان إلى المنافسة العسكرية الدموية كما حدث في الصراع بين الأوس والخزرج مع أنهما من أصل قريب جدًّا، فهما أولاد حارثة بن ثعلبة من فروع قحطان، لكنَّ داء القبلية كان يعصف بالجزيرة العربية؛ فلذلك قامت الحروب بين قبائلها.



وكما نعلم أن الرسول خرج من قريش، ومن ثَمَّ نجد القبائل البعيدة عنها تفكر في الإسلام بصورة أكثر تحفظًا من القبائل القريبة من قريش، وقد رأينا من قبل أن أبا جهل لم يدخل في الإسلام بسبب القبليّة فقط، مع أنه قريب للرسول . وعندما نرجع إلى شجرة الأنساب مع وضع النظرة القبلية هذه، سنفهم أحداثًا كثيرة جدًّا في السيرة؛ منها أن الفروع البعيدة جدًّا عن قريش كانت من أواخر القبائل التي أسلمت، ومن أشد القبائل قسوة على المسلمين، وأبعد الفروع عن قريش هي التي خرجت من قحطان، فهؤلاء لم يسلموا إلا متأخرين، مثل: قُضاعة وطيِّئ ومَذْحِج وبَجِيلة، ومنهم من كان شديدًا إلى درجة كبيرة على المسلمين مثل بني لِحيان، وقد ذكرنا لهم قصة طويلة.



ولكن يشذُّ عن هذه القاعدة قبائل الأوس والخزرج، إذْ أسلم هؤلاء في وقت مبكر، ويبدو أن ذلك للجذور اليمنيَّة لهذه القبائل، وهم من قبيلة الأزد اليمنية، ونحن نعلم أن أهل اليمن يمتازون برقة القلب، وقوة العاطفة، وهذا ليس كلامي إنما كلام رسولنا الكريم -كما في البخاري ومسلم- إذ يقول: "أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ، هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً، وَأَلْيَنُ قُلُوبًا"[1].



فهذه قصة قحطان وفروعها باستثناء الأوس والخزرج. وأسلم أيضًا من الفروع البعيدة جدًّا عن قريش فروع ربيعة، وربيعة هي الفرع الموازي لمضر، والخلاف بين ربيعة ومضر كبير جدًّا، وطويل أيضًا، وهؤلاء أيضًا قد تأخر إسلامهم مثل بني بكر بن وائل، وبني تغلب، وبني عبد القيس، ومنهم من كان شديد العداء لم يسلم إلا مضطرًّا، وسارع بالردة بعد وفاة الرسول مباشرةً، أو حتى قبل وفاته مثل بني حنيفة. ثم يأتي بعد ذلك مضر، وهي تنقسم إلى قسمين رئيسيين هما: إلياس وعيلان، وعيلان مشهورة في التاريخ بقيس عيلان، وقيس أشهر أبنائها؛ فلذلك اشتهرت القبيلة بكاملها بهذا الاسم، وقريش كما ذكرنا تأتي من إلياس، فلذلك نجد قبائل عيلان تنافس بشدة قبائل إلياس، ومنها قريش. وإذا نظرنا إلى قبائل عيلان نجد أنها كثيرة جدًّا، من أشهرها ثلاث قبائل عندما نسمع عنها سنفسِّر أحداثًا كثيرة جدًّا في السيرة؛ وهم غطفان، وبنو سليم، وهوازن.



وقد رأينا مدى المعاناة التي عاناها المسلمون من غطفان على مدار سنوات مختلفة، وكذلك من بني سليم، وبعد ذلك أسلمت غطفان وبنو سليم، ويبدو أن إسلامهما كان إسلام المضطر؛ فقد بهروا بقوة الإسلام، وشعروا أنه لا طاقة لهم بالمسلمين، وقد يجتاحهم المسلمون اجتياحًا مدمرًا؛ فلذلك آثروا السلامة، وأن يعيشوا تحت كنف الدولة الإسلامية، وجاءت الوفود كما رأينا إلى المدينة المنورة، وبايعت على الإسلام بعد انتصار مؤتة، وقبيل فتح مكة المكرمة، ولم يكن الإسلام قد تمكَّن كثيرًا من قلوبهم، وكان الرسول يدرك هذا الأمر تمامًا؛ ولذلك سيحاول أن يتألف قلوبهم في الأيام القادمة. والشاهد من كلامنا هذا أن فرعين مهمين جدًّا من عيلان أسلما وهم مضطرون، وأعلنا هزيمتهما أمام الرسول القرشيّ ، ولم يبقَ إلا هوازن التي ظلت رافعة راية عيلان؛ فلذلك كانت انتصارات الرسول المتكررة تمثل نذير خطر كبير على هوازن، وقد تفاقم الأمر جدًّا بعد فتح مكة؛ لأن منازل هوازن قريبة جدًّا من مكة المكرمة في الشمال الشرقيّ منها، ولا يستبعد أبدًا أن تكون الدائرة على هوازن في المرة القادمة.



وعندما ننظر نظرة تحليلية في داخل هوازن نفسها نجد أن هوازن أيضًا قبائل كثيرة جدًّا، ولكن من أشهرها ثلاث قبائل؛ وهم بنو نصر، وبنو سعد الذين أرضعوا الرسول ، ومنهم حليمة السعدية، والقبيلة الثالثة وهي خطيرة جدًّا ومشهورة، وهي قبيلة ثقيف. وإذا كان التجمع الرئيسي لهوازن كما ذكرنا في الشمال الشرقي من مكة المكرمة، نجد أن ثقيف اختارت لها مدينة أخرى تعيش فيها، وهي مدينة الطائف في الجنوب الشرقي من مكة المكرمة، واستقرت فيها منذ قديم الزمان، وكانت ثقيف من أهم القبائل العربية مطلقًا، ومن أقواها بدليل أن مدينة الطائف هذه هي المدينة الثانية في الجزيرة العربية بعد مكة المكرمة، فعندما قال الكفار: {وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزُّخرف: 31].



كانوا يقصدون قريتي مكة والطائف. وأعظم سادة في الجزيرة العربية سادة مكة والطائف، أي سادة قريش وثقيف، ومن الأدلة على أهمية ثقيف وقوتها ذيوع شهرة الصنم الذي يُعبد فيها، وهو اللاّت، وكان من أشهر أصنام العرب كما يعرف الجميع، وصنم العُزَّى، وكان يقع في منطقة نخلة، داخل أملاك هوازن. ونحن نعلم أن العرب بشتى طوائفهم كانوا يُقسمون باللات والعزى، وقد ورد ذكرهما في القرآن الكريم عندما قال الله : {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى} [النَّجم: 19].



وهذان الصنمان لهوازن، واحد في ثقيف، والآخر في هوازن نفسها في بني نصر وبني سعد؛ فلذلك كانت ثقيف تشعر بمساواة دائمة مع قريش، بل إنها كانت تشعر بالتفوق عليها عسكريًّا واقتصاديًّا وعدديًّا؛ فقد كانت أراضي الطائف جيدة جدًّا، والتجارة فيها رائجة، لولا أن قريش كانت ترعى البيت الحرام المعظَّم عند العرب، وهذا كان يرفع منزلة قريش عند العرب فوق ثقيف، ولكن ذلك لم يغيِّر من العَلاقة القبلية المتنافرة بين القبيلتين الكبيرتين؛ فلذلك كان إسلام ثقيف صعبًا جدًّا، وهذا الكلام يفسر لنا العداء الشديد الذي قوبل به رسول الله عندما ذهب إلى الطائف؛ لأنه في نظرهم قرشي، وقد رأينا أنه لم يسلم في هذه الزيارة ثقفي واحد، فقد تأخر إسلامهم كثيرًا، ومعظمهم لم يؤمنوا إلا في العام التاسع من الهجرة، والذين أسلموا قبل ذلك كانوا قليلين جدًّا، ومعدودين على الأصابع، كان منهم المغيرة بن شعبة الثقفي ، والكلام نفسه يصدق على هوازن وبني سعد، فلا تجد أحدًا منهما أسلم حتى العام الثامن أو التاسع من الهجرة، فمعظمهم قد أسلم في أخريات العام الثامن.



هذه نفسيَّة هوازن بفروعها الثلاث الرئيسية: بني نصر، وبني سعد، وثقيف. وأعتقد أن هذه المقدمة ستفسر لنا كثيرًا جدًّا من المعارك المهمة القادمة. وكعادة العرب فإنهم كانوا يعيشون حياة التفرُّق حتى في بطون القبائل الواحدة، فما أكثر الحروب التي وقعت في داخل الفرع الواحد من القبيلة، كما يصور ذلك شاعرهم[2]:

وَأَحْيَانًا عَلَى بَكْرٍ أَخِينَا *** إِذَا مَا لَمْ نَجِدْ إِلاَّ أَخَانَا



وكانت قبيلة هوازن تسير بنفس النمط، ففروعها كثيرة، ولكنها لم تتوحد في كيان سياسي اقتصادي عسكري واحد، بل عاشوا حياة الفُرقة، كما عاشها بقية العرب قبل الإسلام، وكما يعيشها العرب دائمًا، كلما ابتعدوا عن الإسلام.


مالك بن عوف النصري يوحد قبائل هوازن

ظهرت في قبيلة هوازن في الفترة التي سبقت فتح مكة مباشرة، وأثناء فتح مكة ظهرت شخصية هوازنية قلبت الموازين في هذه القبيلة الكبيرة، وغيّرت كل شيء فيها، وهي شخصية مالك بن عوف النصريّ من بني نصر من هوازن. وأمثال هذه الشخصية كثير في التاريخ، فهذا الرجل كان شابًّا لم يبلغ الثلاثين من عمره بعدُ، ولكنه كان يملك ملكات قيادية متميزة، وعنده علم كبير بالخطط العسكرية، والفنون القتالية، كما كان خطيبًا مفوَّهًا، له قدرة كبيرة على التأثير في الناس، كما كان يتميز بقدرته الفائقة على حَشْد وتجميع الطوائف المختلفة لأداء مهمة معينة، ولديه طاقات هائلة، ولكن -للأسف الشديد- كل طاقاته هذه كانت موظَّفة في الشر.



بدأ مالك بن عوف يجمع كل فروع هوازن تحت راية واحدة، وهذا حدث فريد في تاريخ هوازن، فهذه هي المرة الأولى التي تتجمع فيها بطون بني نصر وبني سعد وثقيف تحت راية واحدة. وبالطبع هذا يدلنا على مدى كفاءة هذا القائد، وخاصةً أنه من بني نصر، وجمع تحت رايته ثقيفًا، ومعروفٌ أن ثقيفًا هي أعظم قبيلة من قبائل هوازن وأعزها، ومع ذلك قَبِلت أن تسير تحت راية مالك بن عوف النصري. ولكن كم جمع منهم؟ لقد جمع أكثر من خمسة وعشرين ألف مقاتل، وهذا أكبر رقم يُجمع في معركة واحدة في تاريخ العرب قاطبةً، جيش هائل فعلاً، ولكن على أيِّ شيء جمعهم؟!



لقد جمعهم على شيء واحد فقط، ألا وهو (القبليَّة)، نحن من هوازن، ومحمد من قريش، هذا هو المنطق. مع أن الرسول ما سعى قَطُّ إلى تجميع القرشيين ضد القبائل العربية الأخرى، بل على العكس، فقد كان العدو الأكبر للرسول في خلال السنوات العشرين السابقة قبيلة قريش، وكان جيشه يضم أفرادًا من كل قبائل العرب، فقد كان الجانب الأعظم من جيش فتح مكة من الأوس والخزرج، وغفار، وأسلم، والأزد، ومزينة، وجهينة، وغطفان، وبني سليم، وبني تميم، وغير ذلك من الفروع القريبة، والبعيدة عن قريش، ولم يكن من القرشيين. وقد رأينا أن غطفان وبني سليم -وهما الأكثر قربًا لهوازن- كانا في جيش الرسول الذي فتح مكة.



وقد كان المُحفِّز الوحيد الذي استخدمه مالك بن عوف في ذلك هو قضية (القبلية)، وأقنع الناس بما نشأ عليه العرب من أن القبيلة فوق كل شيء، وقبل كل شيء، وأن عز القبيلة مُقدَّم على الحق، وعلى العدل، وعلى القيم، وعلى المثل العليا، وعلى أي شيء. وهي فكرة القومية نفسها التي ينادي بها الكثيرون في زماننا، أو في الأزمان التي سبقت، أو الأزمان التي ستأتي بعد ذلك، فكرة (القومية) أو (الوطنية) فيها تقديم مصلحة -أي مصلحة- القوم أو الوطن أو العنصر، بصرف النظر عن الحق، فإذا خاض الوطن أو القوم حربًا ظالمة، فأنا معهم؛ لأن مصلحة الوطن مقدمة على الحق والعدل. هذا منطقهم إذا رأى البعض أن مصلحة القوم أو الوطن تتعارض مع حكم شرعي، أو عُرْف دولي، أو قاعدة أخلاقية، يترك الحكم الشرعي أو العرف الدولي أو القاعدة الأخلاقية، وتُقدَّم مصلحة القوم أو الوطن، وهذا الكلام سقيمٌ لا وزن له عند ربِّ العالمين I.

وليس معنى ذلك أن فكرة حب القوم أو الوطن مرفوضة إسلاميًّا، أبدًا، بل على العكس؛ إذْ إن حب الأهل والعشيرة فضيلة يحض الإسلام عليها، لكن بشرط ألاّ تكون على حساب الدين والحق والعدل، اسمع لكلام المولى I إذ يقول في كتابه الكريم: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].



ففي هذه الآية الجامعة وضح لنا ربُّنا I أن تقديم الأهل والعشيرة وتقديم المساكن -أي الوطن- على أمر الدين، هو نوع من الفسق، ومن فَعَله فعليه أن ينتظر العقاب من رب العالمين، والعقاب مَخُوفٌ جدًّا، حتى إن ربنا I أخفاه، ولم يُعيّنه لزيادة الرهبة، قال : {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24].



فما هذا الأمر؟ لقد أخفاه رب العالمين I، لكن على الناحية الأخرى، هل معنى الآية أن حب الآباء والأجداد والأبناء والعشيرة والقوم والقبيلة والوطن والتجارة، هل هذا حب مذموم؟



حاش لله! ليس هذا هو المعنى المراد مطلقًا، بل أمرنا الله أن نصل آباءنا وأجدادنا وأهلنا، ولو كانوا مشركين، لكن إذا تعارض الأمر مع الدين، فلا بد من مفاصلة، إذا تعارض الأمر مع الحق والعدل، فلا بد من المفاصلة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135].



الوضع عند القوميين أو عند مالك بن عوف النصريّ كان على خلاف ذلك، فهو على علمٍ يقيني، وهو بليغ من أهل اللغة، أن القرآن حق، وأن الرسول صادق، غير أنه ضحَّى بهذا الحق والدين في مقابل إعلاء القومية الهوازنية، وهذه -بمنتهى الوضوح- أزمة أخلاقية وعقائدية خطيرة، وهذه هي الجاهلية بعينها، وكل من دعا إلى هذا الفكر، فهو يدعو إلى فكر جاهلي.



وهذا ليس كلامي، إنما هو كلام الرسول ، واسمع إلى رواية مسلم، وابن ماجه، والنسائي، وأحمد عن أبي هريرة ، أن رسول الله قال: "مَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ، أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً، فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ"[3].



أي لا يدري لأي سبب أو هدف يقاتل، فهو يغضب من أجل عائلته أو قومه، فإذا فعل ذلك وقُتِل، فهو يموت ميتة جاهلية. والرسول قال -فيما رواه أبو داود عن جبير بن مطعم -: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ"[4].



الكلام في منتهى الوضوح، وكانت هذه أول نقطة سلبية عند مالك بن عوف، فهو يدعو إلى قومية وقبلية، بصرف النظر عن مواطن الحق والعدل.



أما النقطة السلبية الثانية، فقد كانت خطيرة جدًّا، فهو يستخدم البلاغة وحسن البيان في خداع الناس، فهو يوهمهم بخلاف الواقع، ومن ثَمَّ يغرِّر بشعبه. وانظر إلى قوله لهم عندما وقف يخطب فيهم وهو يقول: إن محمدًا لم يقاتل قَطُّ قبل هذه المرة، وإنما كان يلقى قومًا أغمارًا لا علم لهم بالحرب فيظهر عليهم، أما نحن فأهل الحروب، وإذا التقينا سيكون الظفر لنا[5].



وهذا الخطاب من الخداع غير المقبول بالمرَّة لشعب ساذج حقًّا، شعب هوازن، الذي -يما يبدو- كان شعبًا معزولاً عن العالم الخارجي، لا يقرأ، ولا يكتب، ولا يرى، ولا يسمع، وإلا فما كان من السهل أن يُخدع بهذه الصورة. ولكن أيُّ أقوام أولئك الذين لقيهم رسول الله ، وكانوا أغمارًا لا علم لهم بالحرب؟! هل قريش التي هُزمت منذ أيام في عقر دارها أو قبل ذلك في بدر والأحزاب لا علم لهم بالحرب؟



هل غطفان التي اكتُسحت في ديارها فأذعنت، وأطاعت، وسلَّمت، وأسلمت لا علم لها بالحرب؟ هل اليهود من بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، بل في خيبر لم يكن لهم علم بالحرب؟ هل الرومان وأعوان الرومان من نصارى العرب بأعدادهم الهائلة، وأسلحتهم المتقدمة، وتاريخهم الطويل في الحروب، وخبرتهم الفائقة فيها، هل كل هؤلاء لم يكن لهم علم بالحرب؟!



حقًّا إن شعبًا لا يدرك أحوال الدنيا حوله، لجدير أن يُدَلَّس عليه، ويُسخر منه، ويُهزم، ويُذل. نَعَمْ قد خدعهم مالك بن عوف بكلامه المعسول، وخطابه البلاغي، فهم شعب ساذج، قابل للخداع، قَبِلَ أن يرى الدنيا بعيون مالك بن عوف؛ فلذلك كان لا بد له أن يدفع الثمن باهظًا. وهذه كانت خصلة خطيرة فيه، فهو مخادع، يتكلم بكلام جميل، ولكنه خلاف الواقع، ويقنع الناس بأمور وهميَّة، ليس لها أصل أو واقع في حياة الناس.



وأما النقطة السلبية الثالثة فيه أنه لم يقم وزنًا يُذكر لشعبه مع أنه في الظاهر يعمل لشعبه، فهو لم يكن لديه أي مانع أن يضحي بشعبه كله من أجل تحقيق المجد الشخصي له، ولننظر ماذا فعل بشعبه؟



لقد أمر أن تؤخذ النساء والأطفال والأنعام والأموال، وكل ممتلكات شعب هوازن معه إلى أرض القتال، فتوضع خلف الجيش؛ تحفيزًا للجيش على القتال. كأنه يقول لهم: إذا انهزم جيش هوازن، أو فرَّ من أرض القتال، فسيستولي المسلمون على كل ممتلكات هوازن. ولا شك أنه لم ينظر بالمرة إلى احتمالية الهزيمة، وهذا أمر وارد في أي معركة، فلا يوجد مانع أن يدفع الشعب كله، رجالاً ونساءً وأطفالاً، ثمنَ تحقيق النصر لمالك بن عوف؛ ليحقِّق مجده الشخصي.



أما النقطة السلبية الرابعة في قائد هوازن أنه كان دكتاتورًا لا يستمع لرأي الآخرين، ولو كانوا من الخبراء، كما أخبر الله تعالى عن فرعون الذي كان يقول لقومه: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29].



لقد حاول بعض الخبراء العسكريين في هوازن أن يبعدوا عن ذهن مالك بن عوف قرار أخذ النساء والأطفال والأنعام والأموال إلى أرض المعركة، لكنه أصرَّ إصرارًا عجيبًا. وقد نقلت لنا كتب السيرة حوارًا دار بينه وبين دُرَيد بن الصِّمَّة أحد المخضرمين عسكريًّا في هوازن، كان عمره أكثر من مائة سنة، تعجَّب لاصطحاب كل ممتلكات هوازن في أرض القتال، فسأل مالك عن ذلك، فقال مالك: "أردتُ أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله؛ ليقاتل عنهم". فغضب دريدٌ غضبًا شديدًا، وقال: "راعي ضأن والله". أي أنت لا تعدو إلا أن تكون راعيًا للغنم، والله ما تصلح للقيادة العسكرية، ثم ذكر له وجهة نظره، وكانت وجهة نظر صحيحة، فقال: "وهل يَرُدُّ المنهزمَ شيءٌ؟! إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك، فُضِحت في أهلك ومالك".



ثم قال دريد بن الصمة -وهو رجل مجرب خبير-: "إنك تقاتل رجلاً كريمًا، قد أوطأ العرب، وخافته العجم، وأجلى اليهود".



فدريد قدَّر قوة الرسول تقديرًا سليمًا، وقال الرأي الأصوب، لكن مالك لم يأخذ بمشورته، ولم يسمع له؛ لأنه لم يكن يرى إلا رأيه فقط، ومع ذلك لم ييئس دريد واستمر معه في الحوار، ثم سأله: "ما فعلت كعب وكلاب؟".



فهو يسأل عن آراء الخبراء من قومه أفضل بطون هوازن عسكريًّا، وفيهم العدد والعُدَّة، فهو يودُّ أن يعرف رأيهم في هذه الكارثة التي قد تحدث بعد قليل، فردَّ الحاضرون: "لم يشهدها منهم أحدٌ". أي: لم يحضر أحد منهم المعركة. فقال دريد -وقد ازداد يقينًا برأيه-: "غاب الحَدُّ والجِدُّ، ولو كان يوم علاء ورفعة، لم تغب عنه كعب وكلاب"[6].



ثم نصح مالك مرة ثانية، لكن مالك رفض بإصرار شديد؛ فنفسيَّة الدكتاتور لا تقبل أبدًا أيَّ رأي معارض لرأيه، ولو على سبيل الاقتراح أو المشورة. وهكذا دومًا الأنظمة الدكتاتورية ترفض الشورى، وتعتبرها طاعنة للكبرياء والكرامة، ومن ثَمَّ فهم لا يريدون الخير إلا إذا جاء منسوبًا لهم. وهذه كانت خصلة خطيرة جدًّا في مالك بن عوف، إذْ كان دكتاتورًا لا يستمع أبدًا للشورى.



أما النقطة السلبية الخامسة لمالك بن عوف -وهذه آخر نقطة نذكرها في تحليلنا هذا- فهو التلاعب بعواطف الناس بصورة هزلية تؤثر في العَوَامِّ، فهو يستغل الأزمات التي تحدث للأمة في صالحه، فماذا فعل عندما رأى توجُّهًا في الشعب لعزله؟ عندما شعر أن هناك ميلاً شعبيًّا لتخطئته في قضية صحبة النساء والأطفال والأنعام إلى أرض المعركة، وقف يخطب في شعبه كأنه ممثل كبير على مسرح درامي، يهددهم بأنه سيترك منصبه: "والله لتطيعُنَّنِي يا معشر هوازن أو لأتكِئَنَّ على هذا السيف حتى يخرج من ظهري".



الشعب مخدوع، فقد أُقنع قبل ذلك أن هذا هو الزعيم الأوحد، وأنه حبيب الملايين، وأنه صاحب الإنجازات الضخمة، وأن الحياة لا تستقيم بدونه، وكيف يعيشون من غيره!! وكأني بشعبه الساذج يخرج في مظاهرات يطلب من مالك ألاّ يتنحَّى مهما كان الثمن، ونَسِي الشعب المصائب التي فعلها مالك، وما سيفعله بعد قليل. وإزاء هذا الضغط الشعبي الجارف، اضطر مالك أن يقبل زعامة هوازن رحمةً بهم، أما الناصح الخبير دُرَيد فقد توجه بكلمة إلى الشعب، قال لهم فيها: "يا معشر هوازن، والله ما هذا لكم برأي، إن هذا فاضحكم في عورتكم (يقصد النساء والذرية والأطفال)، وممكِّن منكم عدوكم، ولاحق بحصن ثقيف وتارككم، فانصرفوا واتركوه"[7].



تأمل هذه النظرة العميقة لدريد، فالقوّاد من هذه النوعية سيتركون شعوبهم في الأزمات، ويلحقون بالأمان في حصون وقلاع، وقد يغادرون البلاد إلى غيرها، ومالك سيتركهم ويلحق بدولة أخرى حيث أصدقاؤه من الزعماء؛ فالشعب المسلوب الإرادة قد افتقد أي قدرة على الإبصار، واتبع مالكًا فيما يرى، وأحضر كل رجل من هوازن كل ما يملك، ووضعه خلف الجيش المقاتل. وخرج مالك بالجيش إلى سهل أوطاس بالقرب من حُنَيْن، وبدأ بالفعل في تنظيم الجيوش هناك، ووضع الكمائن على جانبي سهل حُنَيْن حيث سيمرُّ المسلمون.



وقد ذكرنا قبل ذلك أنه كان يتمتع بعبقرية عسكرية فريدة، وعنده قدرة على تنظيم الصفوف، والترتيب للحروب؛ فقد رتب جيشه في صفوف متوازية، ووضع الخيل في المقدمة، ثم الرَّجَّالة خلفهم، ثم وضع النساء فوق الإبل خلف الرجال؛ لكي يوهم المسلمين أن هناك أيضًا من الرجال عددًا كبيرًا فوق الجمال؛ فيتزايد العدد إلى الأضعاف، ويؤثر ذلك سلبًا في نفسية المسلمين. ثم صفَّ بعد ذلك الغنم، وأخيرًا النَّعَم.



لقد كان هذا الترتيب بالفعل ترتيبًا عسكريًّا في غاية الإتقان، حتى إن أنس بن مالك يصف جيش هوازن بقوله متعجبًا: "فجاء المشركون بأحسن صفوف رأيت".



لقد كان مالك بالفعل شخصية قيادية بمعنى الكلمة، له القدرة على تجميع الناس وتحميسهم، وإقناعهم بوجهة نظره، سواء عن طريق العقل أو العاطفة. كما كان له قدرة أيضًا على وضع الخطط العسكرية وتنفيذها، ولولا ما ذكرناه من سلبيات في حقه لكان مالك هذا يُحسب من القوّاد المعدودين في تاريخ الجزيرة العربية.



د. راغب السرجاني

[1] البخاري: كتاب المغازي، باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن (4127) ترقيم مصطفى البغا. مسلم: كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان فيه ورجحان أهل اليمن فيه (52) ترقيم فؤاد عبد الباقي.

[2] هو القطامي التغلبي.

[3] رواه مسلم (1848) ترقيم فؤاد عبد الباقي، والنسائي (4114) ترقيم عبد الفتاح أبي غدة، وابن ماجه (3948) ترقيم فؤاد عبد الباقي، وأحمد (7931) ترقيم النسخة الميمنية.

[4] رواه أبو داود (5121) ترقيم محيي الدين عبد الحميد، وضعفه الألباني.

[5] الصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد، تحقيق عادل عبد الموجود وعلي معوض، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى، 1414هـ- 1993م، 5/313.

[6] المصدر السابق 5/310- 312.

[7] السابق نفسه 5/311.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 2 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:31 pm

غزوة الطائف


حقيقة النصر في الإسلام

غزوة الطائفانتصر المسلمون يوم حُنين، ولم يَدُرْ فيه قتال يذكر، ومع ذلك كان له من الآثار ما لا يحصى، وكان من أهم هذه الآثار أن المسلمين فقهوا جيدًا حقيقة النصر في الإسلام، وعلموا تمام العلم أن المسلم الذي يَعِدُّ العُدَّة دون أن يرتبط بالله ، فإن نصره بعيد، وثباته محال. وكان هذا الدرس من أبلغ الدروس التي تعلمها المسلمون في كل حياتهم السابقة، ورأينا فرار جيش هوازن بكل بطونها من أمام جيش المسلمين عندما عاد المسلمون إلى ربهم I، وعادوا إلى الفقه السليم، فرت جيوش هوازن، حتى وصلوا في فرارهم إلى مدينة الطائف.



وفر معهم زعيمهم القومي مالك بن عوف النصريّ، فقد ظل زعيمهم حتى بعد هزيمته في حُنين. وبعد ذلك أخذ الرسول معظم الجيش، وذهب لحصار مدينة الطائف، وحرب جيش هوازن، واستغلال فرصة انهزام هوازن حتى يقابلهم في معركة فاصلة؛ لذلك لم يقسِّم الرسول غنائم حُنين الهائلة إلا عندما ينتهي من قضية هوازن وثقيف، وتستقر الأوضاع.


الرسول يسير بالجيش إلى الطائف

سار الرسول في جيشه الضخم متجهًا إلى الطائف، والمقارنة عجيبة بين هذا المسير المهيب للطائف، وبين مسيره إليها منذ أحد عشر عامًا، وكان الرسول وقتها متجهًا إلى الطائف، وهو في أشد حالات الحزن والضيق، وكان يسير ماشيًا على قدميه، وليس معه إلا غلامه زيد بن حارثة ، فقد طردته مكة، وأخرجته وتنكرت له، وماتت السيدة خديجة رضي الله عنها، ومات عمه أبو طالب، وليس معه في مكة إلا أقل القليل من المؤمنين الذين لا يتجاوزون المائة. فالوضع كان في قمة المأساة، ولم تخفف الطائف من آلامه ، بل عمقت هذه الآلام، ورفضت الدعوة الإسلامية بتكبر، وحاربت الرسول بشدة، واستقبلته استقبال اللئام، لا استقبال الكرام، وطردوه هو وصاحبه زيد ، وقد أمطروهما بوابل من الحجارة والتراب والسباب، حتى ألجئوهما إلى حائط عتبة وشيبة ابني ربيعة.



ونحن نعلم الدعاء المشهور الذي دعا به الرسول هناك، وهو دعاء يعبر عن درجة الألم والأسى والحزن الشديد التي وصل إليها . وغادر الرسول في ذلك اليوم هذه الحديقة، وعاد متجهًا إلى مكة -كما تقول الرواية- مهمومًا على وجهه، في ظروف لا يتحملها عامة البشر، ومع ذلك ومع كون حالته النفسية قد وصلت إلى أقصى درجات الألم، إلا أنه رفض تدمير قريتي الطائف ومكة المكرمة اللتين كفرتا بالله ، مع أن ملك الجبال عرض عليه هذا الأمر، ولكن الرسول قال في منتهى التجرد: "بَلْ أَرْجُو مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا"[1].



ومرت الأيام، وكما يقول الله : {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 140].



وغيّر الله الأحوال، وجاء الرسول بعد أحد عشر عامًا كاملة بما لا يتخيله أحد، لا من الطائف، ولا من مكة، ولا من أهل الجزيرة بكاملها. جاء الآن عزيزًا منتصرًا مُمَكَّنًا، رافعًا رأسه، ومحاطًا بجيش مؤمن جرّار، يزلزل الأرض من حوله، ويرفع راية (لا إله إلا الله محمد رسول الله). أحد عشر عامًا فقط فرّقت بين الموقفين، وتحقق ما ذكره لصاحبه زيد بن حارثة يوم قال له في يقين -بعد عودتهم المحزنة من الطائف-: "يَا زَيْدُ، إِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لِمَا تَرَى فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرٌ دِينَهُ، وَمُظْهِرٌ نَبِيَّهُ"[2].



وسبحان الله! جاء الفرج والمخرج على صورة أعظم بكثير من تخيل الجميع، ونصر الله الدين، وأظهر النبي الكريم. ولا شك أن الرسول وهو ذاهب إلى الطائف كان في رأسه ذكريات كثيرة تجول في خاطره، إنها ذكريات لا حصر لها؛ الجيش يقطع صمت الصحراء في اتجاه الطائف للمرة الثانية في حياته، ولعله تذكر صاحبه زيد بن حارثة حِبّه ، عندما كان يصحبه في رحلة الطائف، والآن زيد لا يسير معه، فقد سبق زيد إلى الجنة ، إذْ استشهد في موقعة مؤتة.



ولعله تذكّر أهل الطائف، وهم يرفضون دعوته جميعًا -بلا استثناء- في تعنت أشد من تعنت أهل مكة. ولعله تذكر عبد يالِيل بن عمير الثقفي -الذي انتهت إليه زعامة ثقيف- عندما وقف يسخر من النبي ، ويقول: هو يَمْرُطُ[3] ثيابَ الكعبة، إنْ كان الله أرسلك. ويقول الآخر: أمَا وَجَدَ الله أحدًا يرسله غيرك[4]. فقد فرَّ فرارًا مخزيًا من أرض حُنين، وذهب يختبئ في حصون الطائف.



ولعله تذكر عَدَّاس النصراني الغلام الصغير الذي آمن ، واختفى ذكره من السيرة بعد ذلك، ولا نعلم من حاله شيئًا، لكنَّ الله يعلمه. ولعله تذكر عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة صاحبي الحديقة التي لجأ إليها ، الآن عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة يرقدان في قَلِيب بدر يُعذَّبان مع قادة الكفر في مكة المكرمة في قبورهم. ولعله تذكر وهو يمر على وادي نخلة مجموعة الجن التي آمنت به في رحلته إلى الطائف، وهو في طريق عودته إلى مكة المكرمة، ويتذكر جبريل، وملك الجبال. ذكريات كثيرة بعضها سعيد وبعضها أليم، والأيام على أي حال تمرّ، وكل شيء يذهب، ولا يبقى إلا العمل.


الجيش الإسلامي يصل إلى أرض الطائف

خريطة غزوة الطائفوصل الجيش الإسلامي العملاق إلى الطائف، وتوقع الجميع معركة هائلة بين هذا التجمع الضخم من المسلمين، وبين تجمع هوازن وثقيف في حصون الطائف في عقر دارهم. وكان الجيش الإسلامي بكامله موجودًا في الطائف، ويبلغ اثني عشر ألفًا، وتوقع الجميع معركة هائلة، ولكن -سبحان الله- رفض المشركون الخروج للحرب، واختاروا أن يمكثوا في حصونهم دون قتال. وإذا قرر أهل ثقيف وهوازن عدم الخروج فسيكون القتال صعبًا للغاية، ولكنهم -فعلاً- رفضوا مع أن عَددهم وعُدَّتهم أضعاف المسلمين، ومع أنهم يقاتلون في بلادهم التي خبروها وبالقرب من مددهم، وفي ظروف اعتادوا عليها، ولكن الله ألقى الرهبة في قلوبهم، فما استطاعوا أن يأخذوا قرار الحرب مرة ثانية، واكتفوا بفضيحة حُنين.



ولا شك أن في هذا خزيًا كبيرًا؛ لأن نساء وأموال هوازن مع المسلمين الآن، ومع ذلك فضلوا ألاّ يخرجوا من حصونهم، وعدم السعي لاستخلاص هذه الأنعام، وهذه الأموال، وهذه النساء من أيدي المسلمين. فماذا فعل الرسول عندما رأى أن أهل الطائف من هوازن وثقيف يرفضون الخروج للقتال؟!


المسلمون يضربون الحصار على الطائف

لم يَفُتّ تحصن هوازن وثقيف عزيمةَ الرسول وصحابته الكرام، ولكنه أمر بتجمُّع الجيش الإسلامي، وأخذ يحاصر الحصون المنيعة لعلهم يخرجون. وبدأ حصار المسلمين للطائف، فقام أهل الطائف بإطلاق السهام والرماح على المسلمين، وحصونهم عالية وكبيرة، واشتد رميهم مع مرور الوقت، واستشهد من المسلمين اثنا عشر من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، ولم تكن سهام المسلمين تصل إلى الحصون، وأصبحت المشكلة كبيرة على المسلمين.



فأشار الحُبَاب بن المنذر أن يبتعد المسلمون عن الحصن حتى لا تصيبهم السهام، وبالفعل عسكر الرسول في مكان بعيد، ولكنه ما زال يحاصر الطائف.



ماذا يفعل الرسول في هذا الموقف؟ وكيف يُخرِجهم من داخل الحصن؟



قام الرسول بعمل أكثر من طريقة لضرب هذا الحصار؛ فقد قام سلمان الفارسيّ بصناعة منجنيق؛ لقذف حصون الطائف بالحجارة، وصنعوا دبابةً خشبية كان يختبئ تحتها الجنود؛ ليصلوا إلى القلاع والحصون دون أن تصيبهم السهام. وبدأ المسلمون في قذف أسوار الطائف بالمنجنيق الذي صنعه سلمان ، وسار المسلمون تحت الدبابة الخشبية، وبالفعل كسروا جزءًا من السور، وكاد المسلمون يدخلون داخل أسوار الطائف، لولا أن أهل الطائف فاجئوا المسلمين بإلقاء الحَسَك الشائك المُحمَّى في النار، وهو عبارة عن أشواك حديدية ضخمة أوقدت عليها النار حتى احمرّت فألقوها على المسلمين. وهذه كانت مأساة كبيرة على المسلمين، فقد أصيبوا إصابات بالغة دفعت المسلمين إلى العودة من جديد إلى معسكرهم، ولم يستطيعوا أن يقتحموا حصن الطائف. لم ييئس المسلمون، وأخذ الرسول قرارًا ثانيًا.



وأخذ الرسول القرار بحرق حدائق العنب حتى يدفع أهل الطائف إلى الخروج للقتال، وكانت هذه الحدائق كثيرة، وتحيط بالحصن، والرسول لا يحرق هذه الأشجار، وهذه الأعناب بغرض التدمير، ولكن بغرض إجبار أهل الطائف على الخروج للقتال. وبدأ المسلمون في حرق كَمِّيَّةٍ ضخمة من العنب؛ ولكن ثقيفًا نادت على المسلمين من وراء الأسوار: لمَ تقطع أموالنا؟ إما أن تأخذها إنْ ظهرت علينا، وإما أن تدعها لله وللرَّحِم.



فقال رسول الله : "فَإِنِّي أَدَعُهَا لِلَّهِ وَلِلرَّحِمِ"[5].



لأن العَلاقة بين ثقيف وقريش علاقة بعيدة، فقد كانت إحدى جدات الرسول لأمِّه من ثقيف، وكانت الجدة الخامسة للرسول ، وكان اسمها هند بنت يربوع الثقفية؛ فلذلك ترك الرسول الأعناب. وكان المسلمون يقطعون الأعناب لإجبار ثقيف وهوازن على الخروج من الحصون، فآثر أن يترك الأعناب لله ، وللرحم التي بينه وبينهم .



ولم يفعل الرسول مثل ما كانت -وما زالت- تفعله الجيوش الكافرة العلمانية، مثل جيوش فارس، والرومان، والتتار، واليهود، وجيوش العصور الحديثة التي تفسد في الأرض لمجرد الإفساد، حتى إن الله يصفهم في كتابه العزيز: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205].



أي أن الإفساد هدف في ذاته، ولكن المسلمين لم يفعلوا ذلك إلا لغاية محددة، فلمّا لم تفلح في إخراج أهل الطائف توقف المسلمون عن حرق الحدائق.



فكر الرسول في وسيلة تفتُّ عزيمةَ أهل الطائف، فنادى الرسول على العبيد في داخل الحصون، وقال: "أَيُّمَا عَبْدٍ نَزَلَ مِنَ الْحِصْنِ وَخَرَجَ إِلَيْنَا فَهُوَ حُرٌّ"[6].



ونحن نعلم أن العبيد كانت أعدادهم كبيرة في المجتمع العربي القديم، وكانت سياسة الإسلام تهدف إلى تحرير العبيد في كل مناسبة ممكنة، وكانت هذه فرصة طيبة لتحرير العبيد، وهؤلاء العبيد في الغالب سيسلمون، وبذلك يستنقذون من ظلمات الكفر، وسيفقد أهل ثقيف طاقة هؤلاء العبيد، وسينقلون الأخبار من داخل ثقيف، فهناك أكثر من فائدة في فكرة الرسول ، فهي هدف دعويّ عسكري بارع من الرسول . وبدأ الصحابة رضوان الله عليهم ينادون على العبيد، وبدأ يخرج بعض العبيد من داخل الحصون، حتى وصل عددهم إلى ثلاثة وعشرين من العبيد، واكتشفت ثقيف الأمر، وشددت الحصار على الأسوار، ومنعت خروج بقية العبيد. ولكن المسلمين استفادوا من خروج مجموعة العبيد السابقين، إنهم إضافة إلى أمة الإسلام، ولأنْ يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من الدنيا وما فيها، وخير لك من حُمْر النَّعَم. والشيء الآخر أن هؤلاء العبيد أخبروا المسلمين ببعض المعلومات العسكرية الخطيرة، وأخبر هؤلاء العبيد الرسول أن الطعام والشراب اللذين في داخل الطائف يكفيان أهل الطائف للصبر على الحصار سنة على الأقل أو عدة سنوات.



وهي معلومة على جانب كبير من الأهمية؛ لأن المسلمين لا يستطيعون أن يقضوا حياتهم في هذا المكان؛ لأن القوات الإسلامية ليست مجرد فرقة من الجيش الإسلامي، ولكن هذه القوات هي المجتمع المسلم بكامله. فالرسول لم يترك في المدينة المنورة إلا القليل من الرجال لحراسة النساء والديار، وهناك الكثير من القبائل التي دخلها الإسلام حديثًا هنا وهناك تحتاج إلى متابعة مستمرة؛ خوفًا من انقلابها إلى الكفر، وخوفًا من مهاجمة المدينة المنورة وهي خالية من الرجال، وهناك اليهود في خيبر على مقربة من المدينة، وهم على عهد، وقد يخالفون كعادتهم، وهناك أهل مكة حديثو عهد بجاهلية، وهناك الغنائم الضخمة المتروكة في وادي الجِعْرانة.



وهذه مشاكل ضخمة وكثيرة، ولا يستطيع الرسول أن يترك كل هذه الأمور. ماذا يفعل الرسول ؟ فقد طال حصار الطائف حتى وصل في بعض التقديرات -في رواية مسلم عن أنس - إلى أربعين يومًا كاملة في حصار الطائف، ولا فائدة.


الرسول يستشير أحد أصحابه

استشار الرسول أحد أصحابه من أصحاب الخبرة العسكرية والرأي السديد، وحينما تسمع اسم هذا الصحابي الذي استشاره الرسول سينتابك العجب لا محالة، إنه أمر عجيب! استشار الرسول نوفل بن معاوية الديليّ . ونوفل بن معاوية الديلي كان زعيم بني بكر، وهي القبيلة التي كانت متحالفة مع قريش بعد صلح الحديبية، وقاد قومه بني بكر لقتل خزاعة، والذي كان سببًا في نقض صلح الحديبية، والذي ردَّ بالردِّ الكافر على قومه، عندما قالوا له: يا نوفل، إلهك إلهك.



فقال: يا بني بكر، لا إلهَ لكم اليوم.



هذا هو نوفل بن معاوية الذي ارتكب كل هذه الجرائم منذ شهرين أو ثلاثة في شهر شعبان سنة 6هـ، والذي كان سببًا في خروج الرسول إلى فتح مكة المكرمة، ثم حُنين، ثم الطائف. وسبحان مُقلِّب القلوب ومُصَرِّفها! أسلم نوفل بن معاوية بعد هذا التاريخ الأسود مع المسلمين، وحسن إسلامه، وانضم إلى الجيش المسلم، وأصبح مستشارًا أمينًا لرسول الله ، وإن كنا نعجب من تحوُّله من الكفر إلى الإيمان، ومن الغدر إلى الأمانة، ومن حلفه مع قريش إلى دخوله في الإسلام، فالعجب كل العجب، والانبهار كل الانبهار في الدرس الذي يعطيه لنا معلم البشرية، وسيد الخلق محمد ، ونرى التوظيف الرائع من الرسول لكل الطاقات التي حوله.



وقد رأيناه يولِّي عمرو بن العاص قيادة سرية ذات السلاسل، ولم يمر على إسلامه شهورٌ قليلة. ورأيناه يقرِّب خالد بن الوليد في كل أموره، حتى قال خالد: "والله ما كان رسول الله من يوم أسلمت يعدل بي أحدًا من أصحابه فيما حَزَبَهُ"[7].



وهذا إحساس صادق من خالد بن الوليد، ومن المؤكَّد أن الرسول كان يسأل أصحابه مثل أبي بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، وعلي، وغيرهم أكثر من استشارته لخالد بن الوليد، ولكن الرسول كان يُشعِره دائمًا بقيمته وأهميته. ورأيناه يولي عَتَّاب بن أَسِيد على مكة المكرمة، ولم يكن قد أسلم إلا منذ أيام قليلة. وهكذا يكون التعامل مع الرجال، خاصةً الذين يتمتعون بملكات قيادية، فإن لم يستفد منهم المسلمون، فقد يكونون وبالاً على الأمة. وقد بلغ الرسول -والله- قمة الحكمة في التعامل مع الناس، وقمة الحكمة في إنزال الناس منازلهم، وقمة الحكمة في الاختيار من بين آرائهم .



وكان من نتيجة هذه السياسة الحكيمة أن نوفل بن معاوية القائد العسكري المحنك يُدلِي برأيه في قضية تنفع الإسلام والمسلمين، ولو كان القائد غير رسول الله لتتبع قوّاد الجيش المعادي بالقتل والإبادة والسجن والتعذيب، ولكن الرؤية كانت واضحة جدًّا عند رسول الله "لأَن يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ"[8].



إنها سياسة نبوية ثابتة ومستقرة.



ماذا قال نوفل بن معاوية لرسول الله ؟



قال: "يا رسول الله، هم ثعلب في جُحرٍ، إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك".



أي أن أهل ثقيف مثل الثعالب في مكرهم، وهذا حقيقي ومشهور عنهم وسط العرب، حتى قال عنهم عُيَينة بن حصن: "إن ثقيفًا قومٌ مناكير"[9]. أي أصحاب دهاء وفطنة ومكر. ورأينا طرفًا من هذه الفطنة، وهذا الدهاء في هذا الحصار الصعب، وهذه المقاومة الشرسة. ثم إنه يؤكد أنه لا مهرب لهم من هذه الحصون: إن أقمت عليه أخذته.



غير أنه يشير إلى شيء في غاية الأهمية، يقول: إن شوكة ثقيف وهوازن قد كُسرت، ومعنوياتهم هبطت إلى الحضيض، ولن تقوم لهم قائمة بعد اليوم، وطارت فضيحتهم في الآفاق؛ لذلك قال نوفل في نظرة عميقة وتحليل دقيق: وإن تركته لم يضرك.



أي لو صبرت على الحصار، فستصل إلى مرادك، وستفتح الحصن؛ لأن خطرهم أصبح معدومًا، وسوف يضيع الوقت في حصارهم، وقد يكون طول الحصار ضارًّا للجيش الإسلامي أكثر من نفعه. وهنا يعقد الرسول موازنة بين الأمرين، فيجد أن بقاءه في هذه البلاد أكثر من ذلك سيوقع الدولة الإسلامية في أضرار أكثر من الفوائد المحصلة.


الرسول يأمر برفع الحصار عن الطائف

هنا يأخذ الرسول القرار الصعب بالانسحاب إلى وادي الجعرانة حيث غنائم المسلمين، وترك حصار الحصن المنيع الطائف. وكان الرسول في منتهى الحسم في هذا القرار، حتى إنه بسرعة أرسل إلى عمر بن الخطاب أن ينادي في الناس ويقول: "إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ".



فما ردُّ فعل المسلمين على هذا الكرم؟ نجد أن المتحمسين والعاطفيين من أبناء الجيش الإسلامي لم يستريحوا لهذا الخبر، فأتوا بسرعة الرسولَ ، وقالوا في استنكار: نذهب ولا نفتحه؟



فلما رآهم الرسول كثرةً احترم رأيهم، وأراد أن يتعلموا الدرس بصورة عملية، فقال لهم: "اغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ".



فسمح لهم بالقتال. وفي اليوم الثاني خرج المسلمون للقتال، وفي هذا اليوم بالذات أصيب المسلمون إصابات شديدة، إصابات بالغة فعلاً، وقام الرسول ، ولم يعنِّفهم على القرار الذي رغبوا فيه، ولم يقل لهم: ألم أقل لكم؟ وإنما قال في بساطة: "إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ"[10].



وقَبِل المسلمون هذه المرة في سرور، وامتنعوا عن الجدل، واقتنعوا بعدم جدوى القتال، وبدءوا فعلاً في جمع الرحال، ورسول الله يضحك.


وقفة مع هذا الموقف

ونقف وقفة مع هذا الموقف العظيم، والرسول يعلمنا في هذا الموقف أشياء مهمة. يريد الرسول أن يعلمنا الواقعية في الحياة، فليس عجيبًا أبدًا أو غريبًا أن تفشل في أمر من الأمور، وليس بالضرورة أن تكون كل معاركنا، أو كل مشاريعنا ناجحة، لكن المهم ألاّ نغرق في العمل دون إدراك الواقع أنه غير قابل للتحقيق، وليس معنى هذا سرعة اليأس، ولكن الرسول بذل كل ما في الوسع، واستخدم كل وسيلة لفتح الحصن، ولكن الله لم يشأ، ولم ينجح المسلمون في فتحه، فقَبِل في واقعية جميلة جدًّا أن ينسحب.



وهذا فرقٌ كبير بين المصابرة وبين تضييع الوقت؛ إن المصابرة على أداء عمل أمر مطلوب، ولكن لا بد أن تكون هناك مؤشرات للنجاح، ولا بد أن تكون هناك مقاييس تشير إلى أن هذا العمل قابل للتحقيق، ولا بد أن تكون الخسائر أقل من الفوائد؛ فلذلك لا بد من المتابعة والملاحظة والتقييم المستمر. أما تضييع الوقت والاستمرار في عمل لا يمكن تحقيقه بالإمكانيات المتاحة، أو يتسبَّب في خسائر أكبر من الفوائد، فلا داعي للإصرار على الاستمرار في هذا العمل طالما أن هناك خسائر ضخمة.



ونحن نلاحظ كيف يُعَلِّم الرسول الصحابة ، فقد تركهم النبي يحاولون، وهو يعرف أن فتح الحصن صعب جدًّا، ولكنه تركهم ليعيشوا معه في واقعيته . ولما أيقن الصحابة صعوبة المهمة، ووافقوا على الرحيل، وهم راضون، قام الرسول ليفك الحصار، ويغادر الطائف وهو يضحك. سبحان الله!



هذه القيادة الهادئة تبثُّ الأمن والراحة في قلوب الجنود، ليس هناك انفعال ولا عصبية، ولا تحميل الآخرين أخطاء لم يعملوها، وليس هناك حالة غضب، ولا حالة يأس أو إحباط، ولا حالة من الحزن، ولا كلمة لو؛ لو كنا فعلنا كذا لكان كذا وكذا، فإنها تفتح عمل الشيطان، ولكن هناك هدوء أعصاب وثقة وقدرة على التكيف في كل الظروف.


الحكمة الإلهية من فك الحصار

والحقيقة أننا سعداء بعدم فتح الطائف، وفك الحصار عنها، ومن الممكن أن نستغرب هذا الكلام؛ لأن عدم فتح الطائف له فوائد من عدة أمور:



أولاً: لو فتحت الطائف في هذه الظروف الصعبة، والقتال الشرس، والمطاردة لهوازن وثقيف، ودار القتال في داخل الحصون، لقُتل فيها ما لا نتخيل، ولفقد الإسلام قوة هؤلاء جميعًا؛ لأن كل هؤلاء قد أسلموا بعد ذلك، ولو فتح المسلمون الطائف عَنْوةً لقُتلوا ولفقد الإسلام قوتهم، ولكان عاقبتهم النار، ولكان هذا أسوأ وأشد.



ثانيًا: كان هذا الانسحاب دون إتمام المهمة كما نريد، قد فتح لنا بابًا وسُنَّة نتبعها إن تعرضنا لنفس الموقف. فلو أصرَّ الرسول على عدم الانسحاب حتى يفتح الحصن، لكان في هذا حرجٌ كبير للأمة الإسلامية؛ لأنه سيكون لزامًا علينا ألاّ ننسحب، ولكن بهذا الفعل منه ترك الأمر لقادة المسلمين ولرأي الشورى، فإن رأى المسلمون أن الحصار يُجدي صبروا كما حدث في فتح خيبر، وإن رأوا أن الأمر غير مُجْدٍ، أو أن الخسائر ستكون كبيرة كما حدث في الطائف، فلهم في كلتا الحالتين أسوة في رسول الله .


الرسول يدعو لأهل الطائف بالهداية

ولنا وقفة مهمة مع موقف في منتهى الرقي من مواقفه وهو يغادر الطائف، قال له بعض الصحابة -والصحابة رضوان الله عليهم يملأ قلوبهم الغيظ لعدم التمكُّن من فتح الحصن-: يا رسول الله، ادعُ الله على ثقيف.



فقال في هدوء، وفي حبٍّ، وفي أمل: "اللَّهُمَّ اهْدِ ثَقِيفًا وَأْتِ بِهِمْ"[11].



ما غابت عنه رسالته قَطُّ، فهو يريد أن يصل بدعوته إلى الناس لا أن يقتلهم، حتى وإن رفض أهل الطائف الإيمان، واستكبروا عنه، وقاوموا وقاتلوا. فالرسول ما زال يرجو إسلامهم، حتى مع مرور السنين تلو السنين، ما زال يرجو إسلامهم، حتى مع ذكريات الطائف في الزيارة الأولى، ومع واقع الطائف في الزيارة الثانية، ما زال يرجو إسلامهم. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: "إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا، فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ، وَيَغْلِبْنَهُ وَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا، فَأَنَا آخِذٌ بِحُجُزِكُمْ عَنِ النَّارِ، وَهُمْ يَقْتَحِمُونَ فِيهَا"[12].



أهل الطائف يدفعون أنفسهم في النار، يقتحمون فيها، والرسول حريص عليهم أكثر من حرصه على نفسه . ولم يكن هذا الموقف موقفًا عارضًا في حياته، إنه أَبَى أن يُهلك الطائف ومكة المكرمة حتى بعد أن عرض عليه ذلك ملك الجبال وجبريل عليهما السلام، وفعل ذلك أيضًا قبل ذلك مع قبيلة دوس عندما رفضوا الإسلام، قال: "اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ"[13].



وفعل ذلك مع قريش بعد أن قتلت سبعين من خيار الصحابة في أُحد، قال: "اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي، فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ"[14].



صدق الله العظيم الذي يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]. ليس رحمة للمسلمين فقط، ولكن رحمة لكل البشرية، ولكل الإنسانية.



د. راغب السرجاني

[1] البخاري: كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه (3059)، ترقيم مصطفى البغا. مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي من أذى المشركين والمنافقين (1795)، ترقيم فؤاد عبد الباقي.

[2] ابن قيم الجوزية: زاد المعاد، مؤسسة الرسالة، بيروت - مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، الطبعة السابعة والعشرون، 1415هـ- 1994م، 3/33.

[3] أي يمزق.

[4] ابن هشام: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وآخرين، دار المعرفة - بيروت، القسم الأول (الجزء الأول والثاني) ص419.

[5] ابن القيم: زاد المعاد 3/433.

[6] السابق نفسه، الصفحة نفسها.

[7] ابن كثير: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة - بيروت، 1396هـ- 1971م، 3/453.

[8] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب فضل من أسلم على يديه رجل (2847). مسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب من فضائل عليّ بن أبي طالب (2406).

[9] ابن كثير: السيرة النبوية 3/662.

[10] ابن قيم الجوزية: زاد المعاد 3/497.

[11] ابن هشام: السيرة النبوية، القسم الثاني (الجزء الثالث والرابع) ص488.

[12] البخاري: كتاب الرقاق، باب الانتهاء عن المعاصي (6118). مسلم: كتاب الفضائل، باب شفقته r على أمته ومبالغته في تحذيرهم مما يضرهم (2284).

[13] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم (2779). مسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب من فضائل غفار وأسلم وجهينة وأشجع ومزينة وتميم ودوس وطيِّئ (2524).

[14] المباركفوري: الرحيق المختوم، دار الوفاء - مصر، الطبعة السابعة عشرة، 1426هـ- 2005م، ص240.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 2 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:32 pm

مسجد الضرار وموت ابن سلول

بمجرد عودة رسول الله من غزوة تبوك، جاء إليه بعض المنافقين يطلبون منه الصلاة في مسجد بنوه بالقرب من قُباء، ولهذا المسجد قصة مهمَّة، وهو الذي عرف في التاريخ بمسجد الضِّرار، وكان المنافقون باتفاق مع أبي عامر الفاسق الذي مرت بنا قصته عند الحديث عن قدوم الرسول من مكة إلى المدينة مهاجرًا، والذي كان يَدَّعي أنه على الحنيفية، فلما جاء الرسول إلى المدينة رفض الإسلام، وكره الرسول ، وترك المدينة إلى مكة، ثم فرَّ من مكة عند فتحها إلى الشام، ومن الشام راسل المنافقين في المدينة المنورة للقيام بعمل يفسد على المسلمين حياتهم، ويفرق صفهم.



وكانت الفكرة التي تبناها أبو عامر الفاسق هي بناء مسجد آخر إلى جوار قُباء؛ ليجذب إليه مجموعة من المسلمين، فلا يذهبون للصلاة في المسجد النبوي، ولا في مسجد قُباء، وبذلك تتشتت قوة المسلمين، إضافة إلى الأفكار الهدّامة التي من الممكن أن تُبَثَّ من خلال هذا المسجد.



وقد يعجب الإنسان من أن المنافقين يتجهون إلى بناء مسجد، لكن ما أكثر المساجد التي بناها المنافقون في التاريخ والواقع! وقد تكون مساجد عملاقة وواسعة وفخمة، ولكن لا تُبنى إلا لبثِّ ما يريدون من أفكار تعارض الفهم الصحيح للإسلام، ومن ثَمَّ تكون هذه المساجد أخطر على المسلمين من الأسلحة الفتاكة، أو من الجيوش الغازية. وشبيه بالمساجد إنشاء المدارس العلمانية والتبشيرية، والجامعات التي يغلب عليها الانحراف، والقنوات الفضائية، والمحطات الإذاعية، والجرائد، والمجلات، والكتب، وكل ما يمكن أن يؤثر سلبًا على أفكار الناس عن طريق إثارة الشبهات، وتعميق الفتن في المجتمع.



والخطير أن القائمين على هذه الأعمال المضلة قد يسعون إلى إثبات شرعيتها بدعوة من يثق الناس بهم لافتتاحها، أو للعمل بها بصورة غير مؤثرة، بحيث تبقى الهيمنة، والإدارة، والقرار بين المنافقين الذين أسسوه.



وهذا عين ما فعله المنافقون في المدينة المنورة، فقد بنوا هذا المسجد، وحاولوا أن يضفوا عليه شرعية بدعوة الرسول للصلاة فيه، ولكنهم جاءوا إلى رسول الله وهو في طريقه إلى تبوك، ولم يكن جاهزًا آنذاك للذهاب معهم، فقال لهم: "إِنِّي عَلَى سَفَرٍ، وَحَالِ شُغْلٍ، فَلَوْ قَدِمْنَا لأَتَيْنَاكُمْ، وَصَلَّيْنَا مَعَكُمْ فِيهِ".


الوحي يفضح المنافقين

خرج إلى تبوك، ومرت الأيام، وعاد إلى المدينة المنورة، فأسرع إليه المنافقون ليقوموا بدعوته إلى الصلاة في المسجد الذي بنوه، ولكن نزل جبريل في ذلك الوقت بالتحذير الإلهي من ذلك المسجد الضار بالمسلمين، وذلك بمجموعة من آيات سورة التوبة:



{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 107، 108].



فلما نزلت هذه الآيات أرسل رسول الله مجموعة من الصحابة كان منهم مالك بن الدَّخْشَم، ومَعْن بن عدي، وعامر بن السكن وغيرهم، وذلك لهدم مسجد الضِّرار هذا، وبالفعل قام الصحابة بتحريق وهدم المسجد بعد أن كشفت نيّات المنافقين، ولينجو المسلمون من أزمة كبيرة كادت تعصف بالأمة الإسلامية.



وعلى الرغم من الفتن الكثيرة التي قام بها المنافقون قبل ذلك، إلا أن هذه هي المرة الأولى التي يكون فيها التعامل من رسول الله بهذه الشدة، فقد كان من عادته مع المنافقين أن يتسامح ويعفو، ويعذر ويسكت، مع علمه بنفاقهم، إلا أن خطورة هذا المسجد كانت أكبر من خطورة أفعالهم السابقة؛ لأنها خطورة تأخذ شكل الدين، وسيقع عوام المسلمين في حبائل المنافقين؛ لأن اللافتة المعلنة هي المسجد، والإسلام، ورأي الدين.



وهذا يلفت أنظارنا إلى خطورة منافقي زماننا الآن الذين يتحدثون باسم الدين، ويأتون بالأدلة الشرعية على صدق ما يقولون، فهم -ولا شك- أشد خطورة من أولئك الذين يطعنون في الدين، ويثيرون الشبهات، ولذلك كان ردّ فعل الرسول بهذه الصورة.



كما ينبغي ألاّ يفوتنا أن نحذر الدعاة والعلماء المسلمين من أن المنافقين قد يحاولون استغلالهم في بعض الأعمال الدينية؛ وذلك لإضفاء شرعية على أعمالهم الخبيثة، ولا بد أن يكون الدعاة على وعيٍ كامل بصفات المنافقين وطرقهم وأساليب خداعهم.



ولا شك أن ما فعله بهدم مسجد الضِّرار كان ضربة قاصمة للمنافقين في هذه الفترة.


موت عبد الله بن أبي بن سلول

وشاء الله أن تحدث ضربة أخرى قاصمة للمنافقين، لتصبح هذه هي الضربة الثالثة للمنافقين في خلال شهرين اثنين فقط، فكانت الضربة الأولى هي اختبار تبوك الذي كشف أوراق المنافقين بالمدينة لجميع المسلمين، وكانت الضربة الثانية هي هدم مسجدهم الفاسد، أما الضربة الثالثة فكانت موت أكبر زعماء النفاق في المدينة، والذي تولى كبر حركة النفاق لمدة سبع سنوات متتالية، وحتى العام التاسع من الهجرة، وهو عبد الله بن أُبيّ بن سلول.



وعبد الله بن أُبي بن سلول تاريخه مع المسلمين أسود حالك السواد، فما أكثر الفتن التي أثارها، والمصائب التي زرعها في الصف المسلم. وتعرضنا في هذا السيرة لعدة مواقف من حياته سواء في أُحُد، أو في الأحزاب، أو في بني المصطلق، أو في الخروج للحديبية، أو في تبوك، ووصل الأمر إلى أنه قاد حملة للطعن في شرف أم المؤمنين الطاهرة عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما، ناهيك عن موالاته للمشركين واليهود، وما ذكرناه من مواقفه أقل بكثير مما أغفلناه.



ولكن لكل شيء نهاية، المؤمن يموت، والمنافق كذلك يموت، الصادق يموت، والكاذب كذلك يموت، وكما تعب الصالحون من أبناء هذه الأمة، وجاهدوا وأنفقوا وضحوا؛ كذلك تعب عبد الله بن أُبيّ بن سلول، وجاهد وأنفق وضحى، لكن شتّان بين من يجاهد في سبيل الله، ومن يجاهد في سبيل الشيطان! قال الله تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104].



وجاءت لحظة ظنها عبد الله بن أُبيّ بعيدة، جاءت لحظة الموت، مرض عبد الله بن أُبيّ بن سلول في أواخر أيام شوال سنة 9هـ، واستمر مرضه عشرين يومًا، ومع أنه كان يدرك أن هذا هو الموت، وظهر ذلك في كلماته، إلا أنه كما قال الله : {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} [التوبة: 87].


رسول الله يزور ابن سلول في مرضه

العجيب، واللافت للنظر، والذي يحتاج إلى وقفات عديدة هو أن رسول الله كان دائم الزيارة له في بيته يعوده في مرضه الأخير، سبحان الله! بعد كل هذا الآلام التي سببها عبد الله بن أُبي بن سلول ما زال رسول الله يزور هذا الرجل، وهو ليس فقط من مردة المنافقين، بل هو أشدهم على الإطلاق، وكان رسول الله يزوره لأكثر من هدف:



- فهو ما زال يرجو إسلام عبد الله بن أُبي بن سلول، وبرغم تاريخه الطويل في النفاق، إلا أن القلوب بين أصابع الرحمن، فلعل الله أن يغير قلبه في اللحظات الأخيرة فيُستنقذ من الكفر إلى الإيمان، وينجو من النار إلى الجنة، "وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخل الجنة".



والرسول في ذلك يضرب أروع الأمثلة للدعاة، فهو لا يُكِنّ غيظًا في قلبه يدفعه إلى الرغبة في التشفي، ولكنه بمنتهى سلامة الصدر، وبمنتهى التجرد، وبمنتهى الصدق يسعى لهدايته لرب العالمين، كان هذا هدفًا أصيلاً من أهداف زيارته له .



- ومن أهداف الزيارة أيضًا أن يتألف قلوب قومه؛ فعبد الله بن أُبيّ زعيم الخزرج، وأتباعه كثير وأحبابه، ومن يستمعون لرأيه لا شك أنهم قد يتأثرون إيجابيًّا بودِّ الرسول ورفقه، وقد حدث ذلك فعلاً.



- ومن أهداف الزيارة أيضًا أن يرفع من قيمة ابن عبد الله بن أُبي بن سلول، وهو عبد الله بن عبد الله بن أُبي بن سلول، وهو من سادات وفضلاء الصحابة، وممن أثبتوا إخلاصهم، وتجردهم لله ، وممن ساهموا بشكل إيجابي في نصرة الإسلام، وفي خدمة الدولة الإسلامية، وكان الرسول لا يريد له أن يُسبّ بأبيه، أو يُعير بتاريخ النفاق الأسود لوالده، فأراد أن يقوم بهذه الزيارات؛ لعل ذلك يخفف من حدة الأزمة عند الصحابي الجليل عبد الله بن عبد الله بن أُبي بن سلول.



والحق أن هذا منتهى اللطف من الرسول ، ومنتهى الرقة والعطف؛ لأن موقف عبد الله بن عبد الله بن أُبي بن سلول صعبٌ شديد الصعوبة، وضَعْ نفسك مكانه، وهو يجلس في مجالس الصحابة، فيكون الحديث كثيرًا عن المشاكل والأزمات التي سببها أبوه، وهو لا يستطيع أن يفعل معه شيئًا، بل عليه أن يبرّه ويحسن إليه. الحق أنه موقف صعب، وكانت زيارات الرسول المتكررة لعبد الله بن أُبي من أهم الأشياء التي خففت على عبد الله بن عبد الله بن أُبي من أزماته.



ثم كان اليوم الأخير في حياة عبد الله بن أُبي بن سلول، ودخل عليه الرسول وهو حزين لاقتراب أجل عبد الله بن أُبي، وهو ما زال على النفاق، فقال له وهو متحسر: "قَدْ نَهَيْتُكَ عَنْ حُبِّ يَهُودَ".



فقال عبد الله بن أُبي في سوء أدب واضح، وفي عناد إلى آخر لحظة: قد أبغضهم أسعد بن زرارة، فما نفعه؟ أي أن بغض أسعد بن زرارة لليهود لم يمنع أسعد بن زرارة من الموت. وكان أسعد قد مات بعد الهجرة النبوية بأربعة أشهر فقط، وكان يكره اليهود جدًّا لمعاداتهم لرسول الله . وهذا تعليق غبي من عبد الله بن أُبي بن سلول.



وهو ما أسمِّيه بغباء النفاق، وسببه طمس البصيرة، فمن ذا الذي قال: إن حب قوم أو بغضهم يورث خلودًا في الدنيا؟! فجميع البشر، سواء كانوا مؤمنين أو منافقين أو كفارًا، يدركون أن الموت متحقق لكل البشر، وأنه لم يكن هناك -ولن يكون- خالدٌ على الأرض، ولا حتى الأنبياء {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34].



فكان ردّ عبد الله بن أُبي بن سلول يحمل غباءً، إضافة إلى ما يحمله من كفر وغلظة وعناد. ثم إن عبد الله بن أُبي بن سلول ترك ذلك العناد، وحاول أن يكون واقعيًّا، فقال لرسول الله : يا رسول الله، ليس هذا بحين عتاب، هو الموت! فإن مت فاحضر غسلي، وأعطني قميصك أكفن فيه.


يطلب قميص الرسول كفنا له

هذا طلب قد يستعجبه كثير من الناس، فكلنا يعلم نفاق عبد الله بن أُبي، فلماذا يطلب هذه الطلبات من رسول الله ؟!



والحق أن الطلب فعلاً عجيبٌ، ولا ندري على وجه اليقين ما الذي كان يدور بخَلَدِ عبد الله بن أُبي بن سلول؟



أتراه أدرك فجأة حقيقة الأمر؛ فأراد أن يتوب عن حياته السابقة؟!



هذا احتمال بعيد! بل لعله غير موجود أصلاً؛ لأن الله أنزل آيات شديدة في حقه، وحق المنافقين بعد موته، فهذه دلالة على الكفر حتى في لحظات موته الأخيرة، أم تراه مع نفاقه يطمع في فرصة نجاة من النار، فأراد أن يأخذ قميص رسول الله ؛ لعله يخفف عنه أو يشفع له؟



أم تراه ما زال مستمرًّا في نفاقه، فيظهر تقربه من الرسول مع إبطانه للكراهية الشديدة له؟ الله أعلم بحاله.



لكن ردّ فعل رسول الله كان رقيقًا للغاية، فأعطاه قميصه الأعلى، وكان عليه قميصان، فقال ابن أُبي: أعطني قميصك الذي يلي جلدك، وصلِّ عليَّ، واستغفر لي.



فعاد إلى بيته، ونزع ثوبه الذي يلي جلده، وأعطاه لعبد الله بن عبد الله بن أُبي ليستعمله ككفن لأبيه.


ولنا مع هذا القميص وقفة:

فلماذا أعطى رسول الله قميصه لهذا المنافق؟!



كما قلنا قبل ذلك، فهو يُعلي من قدر ومكانة ابنه عبد الله بن عبد الله بن أُبي بن سلول، وأبوه الذي طلب القميص بنفسه، وكان لا يرد سائلاً قَطُّ. كما أنه كان يتألف قلوب قومه، بل إنه قال في رواية: "إِنَّ قَمِيصِي لاَ يُغْنِي عَنْهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ يُسْلِمَ بِفِعْلِي هَذَا أَلْفَ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ".



وقد ذكر ابن إسحاق والقرطبي أن كثيرًا من جماعة عبد الله بن أُبي بن سلول قد أسلموا وحسن إسلامهم بسبب هذه الفعلة.



وفوق ذلك، فإن الرسول كان يكافئ عبد الله بن أُبي بن سلول على جميل صنعه في عم رسول الله العباس في موقف مشابه، والقصة في البخاري، وفيها أن العباس عندما أتي به أسيرًا في بدر، لم يكن عليه ثوب سليم، فأرادوا أن يأتوا له بثوب، وكان رجلاً طويلاً، فلم يجدوا له إلا ثوب عبد الله بن أُبي بن سلول، فجاء به، وأعطاه لرسول الله ، فأراد أن يرد له ثوبًا بثوبه الذي أعطاه لعمه؛ لكي يكافئه على جميله السابق.



ولهذه الأسباب أعطى رسول الله ثوبه لعبد الله بن عبد الله بن أُبي بن سلول ليكفن فيه أباه، غير أن عبد الله لم يكتفِ بذلك، إنما قال لرسول الله : يا رسول الله، وصلِّ عليه، واستغفر له.



فلم يتردد رسول الله ، وقام من فوره ليصلي على رأس المنافقين عبد الله بن أُبي بن سلول، ولم تكن آية: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84] قد نزلت بعدُ، وإن كانت الآية: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 80]، كانت قد نزلت.



فلما قام الرسول تعلق به عمر بن الخطاب ، وأمسك بثوبه وقال له: يا رسول الله، تصلي عليه، وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟!



وهذا اجتهاد موفَّق من عمر بن الخطاب ، لأنه -كما ذكرنا- لم تكن آية النهي عن الصلاة قد نزلت بعدُ، ولكن الذي نزل كان آية النهي عن الاستغفار، ولقد حمل عُمر معنى الصلاة على أنها استغفار، وإنها لكذلك؛ لأن الصلاة من الله رحمة، ومن النبي استغفار، ومن المؤمنين دعاء، لكن الرسول كان له فقه آخر للآية، فقد فقه الآية في إطار رحمته المعروفة، وفي ضوء حبِّه لنجاة أهل الأرض جميعًا من النار.



قال في عطف شديد: "إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ، فَقَالَ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 80]. ثم قال : وَسَأَزِيدُهُ عَلَى سَبْعِينَ".



أي سأحاول قدر المستطاع أن أسأل الله له المغفرة، مع أن معنى الآية الواضح أنه ليس مقصودًا فيها عدد السبعين بالذات، إنما ذكر العدد لضرب المثل للكثرة، أي مهما استغفرت لهم، فلن يغفر الله لهم، فلن يجدي أيضًا استغفار ثمانين، أو تسعين، أو مائة، لكن الرسول أخذ بظاهر الآية؛ لأن في ذلك موافقة لجانب الرحمة والشفقة الذي يتصف به ، لكن ذلك لم يقنع عمر بن الخطاب فقال: إنه منافق.



أي ماذا يجدي الاستغفار لرجل يبطن الكفر ويظهر الإسلام؟ لكن رسول الله أصر على رأيه، وصلى عليه بالفعل رحمة به، ورحمة بابنه وتأليفًا لقلوب قومه.



عند ذلك نزل قول الله ، موافقًا لرأي عمر ، وناهيًا رسوله الكريم عن أن يفعل ذلك ثانية، فقال الله : {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84].



فأثبت الله لهم الكفر، ونهى عن الصلاة عليهم، وأصبح هذا الحكم عامًّا في المنافقين المعلومين عن طريق الوحي بأنهم من المنافقين، ولا يجري بالطبع هذا الحكم على بقية المسلمين الذين يشك في إسلامهم ما دام ظاهرهم الإسلام، ولم يكن في أمرهم وحي، لذلك كان عمر بن الخطاب يصلي على كل المسلمين، ويصلي حتى على من شك أنه منافق، إلا أن يرى حُذيفة بن اليمان لا يصلي على واحد منهم، فيعلم أن رسول الله قد أخبره أن هذا الرجل منافق كافر، وكان رسول الله قد أخبر حذيفة بن اليمان بأسماء كل المنافقين الذين لم يتوبوا وظلوا على نفاقهم.


انحسار حركة النفاق بالمدينة المنورة

بموت عبد الله بن أُبي بن سلول انحسرت جدًّا حركة النفاق في المدينة المنورة، وكُسرت إلى حد كبير شوكتهم، ولم نجد لهم حضورًا يذكر في العام العاشر من الهجرة، وإن كان استمرار وجودهم مؤكدًا؛ لأنه -كما ذكرنا قبل ذلك- لا يختفي المنافقون أبدًا من أي مجتمع مسلم، ولكن تتفاوت أعدادهم وقدراتهم، وتأثيرهم بحسب مستوى التربية في المجتمع، وبحسب القوة التي وصلت إليها الدولة الإسلامية.


من آثار تبوك

من الآثار العظيمة أيضًا لغزوة تبوك أن العرب جميعًا علمت أنها ليست لها طاقة بحرب المسلمين، فها هي قريش قد سلّمت وأسلمت، وفتحت أبواب مكة لرسول الله ، وها هي كذلك هوازن قد دخلت في الإسلام، وها هو رسول الله يُخرِج جيشًا قوامه ثلاثون ألف مقاتل لمواجهة أعتى قوة في الأرض، وهي الدولة الرومانية، للمرة الثانية في غضون سنة ونصف، وهذا ما لا يتخيله العرب أصلاً في أحلامهم، فضلاً أن يكون واقعًا يرونه رأي العين.



ولذلك؛ فبعد عودة الرسول من تبوك أخذت القبائل العربية قرارًا شبه جماعي بالقدوم إلى المدينة المنورة للتواصل مع رسول الله ، ومن هذه القبائل من جاء يُعلن الإسلام مقتنعًا به، ومحبًّا له، ومنها من جاء مسلمًا لكونه يرهب الدولة الإسلامية، أو يرجو وُدَّها، ومنها من جاء ليفاوض ويطلب لنفسه شيئًا، ومنها من جاء ليعقد عهدًا ويظل على دينه، وهكذا جاء الجميع، ولم يستطع منهم أحدًا أن يتجاهل القوة الإسلامية الجديدة.



وقد بدأت هذه الوفود الكثيرة في التوافد على المدينة المنورة في أواخر العام التاسع من الهجرة، وأثناء العام العاشر أيضًا، وعُرف العام التاسع الهجري بعام الوفود؛ لكثرة الوفود التي أتت فيه، وكان عددها على الأقل ستين وفدًا، ووصل في بعض التقديرات إلى أكثر من مائة وفدٍ.



ولن نستطيع أن نقف على تفاصيل كل مقابلة لهذه الوفود مع رسول الله ، مع ما فيها من فوائد جمة، وعظات لا تقدر بثمن، وتحتاج إلى تفريغ جهد خاص، ودراسات متأنية، لكني أقف على بعض الوفود فقط، والتي كان لها دلالات خاصة جدًّا، وتطبيقات مهمَّة في فترة السيرة النبوية المتبقية، بل وبعد وفاة الرسول .



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 2 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:34 pm

السيرة النبوية وبناء الأمة

أثر رسول الله على العالم

السيرة النبويةكم هو صعب على النفس أن نكتب خاتمة السيرة؛ لأن نفوسنا كانت متعلقة تمام التعلق بالحديث عن رسولنا ، فحديثنا عنه أسعد حديث، وتدبرنا في سيرته أجمل تدبر، واستفادتنا من دراسة منهج حياته أعظم استفادة.



لكن لا بد من تعليق ختامي على هذه السيرة العظيمة، وعزاؤنا أن هذا لن يكون آخر حديثنا عن حبيبنا ، وستتوالى -إن شاء الله- بعد ذلك دراسات ودراسات تتناول جوانب شتى من حياته .



لقد كانت سيرته مثالاً يُحتذى في كل شيء، وكانت مثالاً للفرد والجماعة، وكانت مثالاً للمجتمعات الصغيرة والكبيرة، وكانت مثالاً واضحًا لبناء الأمم.



لقد استطاع الرسول بالمنهج الرباني الذي أُوحي إليه أن يبني أمة من لا شيء، وأن يجمع العرب والعجم على دين واحد، ومبدأ واحد، وأن يقيم حضارة استحال على الزمان أن يجود بمثلها.



كان تغييرًا هائلاً ذلك الذي أحدثه رسول الله في الدنيا، ولا شك أن دراسة تجربته ليست أمرًا مفضلاً أو محببًا فقط، ولكنها أمر واجب على كل مسلم أراد النجاة في الدنيا والآخرة، وأراد لأمته العزة والكرامة والسيادة والريادة.



بُعِث في أمة مُفرّقة مُشتتة، فشا فيها الظلم، وتعددت فيه صور الباطل، وكثرت الآثام والشرور، وتمكن فيها المتكبرون والمتجبرون، فبدأ في أناة عجيبة، وصبر رائع يغيّر الأوضاع، ويعدل من المسار، ويُقوّم المعوج، ويوضّح الطريق، ويكمل الأخلاق.



ما ترك معروفًا إلا وأمر به، ولا منكرًا إلا ونهى عنه، ولم يكن طريقه سهلاً أو ناعمًا، بل كان مليئًا بالصعاب والأشواك، وعارضه الكثيرون، وحاربه القريب والبعيد، حتى حاربته عشيرته، وقاومه أهله، فما لانت له قناة، وما فترت له عزيمة.



لقد بَنَى الأمة بناءً راسخًا، وبخطًا ثابتة ومنهج واضح، يستطيع كل صادق أراد لأمته القيام أن يحاكيه، ويقتدي به.



يقول فيما رواه ابن ماجه، وأحمد، والحاكم، والطبراني عن العرباض بن سارية السلمي : "قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ، لَيْلِهَا كَنَهَارِهَا، لا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلاَّ هَالِكٌ".


مراحل بناء الأمة

مر في بنائه لأمته بمراحل محددة لا بد أن تمر بها كل أمة لكي تُبنى، وكان له سنة ثابتة في كل مرحلة، من بداية البعثة، وحتى غزوة بدر الكبرى.


المرحلة الأولى

وهي التي أسمِّيها (مرحلة الإعداد)، وبدأت منذ نزول الوحي، واستمرت فترة طويلة من حياته ، وكانت هذه الفترة حوالي خمسة عشر عامًا من عمر الدعوة.



وكانت فترة الإعداد في معظمها في مكة المكرمة، وبدأ فيها في انتقاء الأفراد الصالحين لحمل هذه الأمانة الثقيلة، وقد نجح في تربيتهم وإعدادهم لهذه المهمة الضخمة، مهمة حمل الدين، ليس إلى أهل مكة أو إلى العرب فقط، بل إلى العالم أجمع. لقد كان بناء شاقًّا أشد صعوبة من بناء ناطحات السحاب، لقد كان بناءً للإنسان من جديد، حرص فيه على توجيه نيات وقلوب الصحابة إلى ربهم I الواحد الأحد الذي بيده مقاليد السموات والأرض، فخلصت قلوبهم لله، وعظموا قدره وأحبوا جنته، وخافوا من ناره، فتحركت كل ذرة في كيانهم له، وأصبح منتهى آمالهم أن يعملوا له I، وأن يرضى عنهم ويقبل منهم، ويغفر لهم ويرحمهم، فلما أصبحوا على هذه الصورة هانت عليهم كل المصاعب والمشكلات، وصغرت في أعينهم جبابرة الأرض، ومن ثَمَّ حملوا الرسالة العظيمة، وقاوموا بإصرار كل من حاول أن يثنيهم عن الوصول بها إلى آفاق الأرض، وإلى كل العالمين.



لم يترك أهل مكة رسول الله يفعل ذلك دون مقاومة أو صدّ، بل حاربوه بكل طريقة هو وأصحابه، فعذبوهم، وقهروهم، وبطشوا بهم، بل قتلوا منهم حتى اضطروهم إلى الهجرة إلى بلاد الحبشة البعيدة مرة ثم الثانية، ومع ذلك كان المؤمنون في ازدياد مستمر، كانوا في ازدياد في العدد، وكذلك ازدياد في الإيمان، فاضطر المشركون أن يحصروهم في شِعْب أبي طالب ثلاث سنوات كاملة فما ضعفوا وما استكانوا، وخرجوا من الشِّعب أشد قوة، وأعظم بأسًا.



ومات نصيره من أعمامه أبو طالب، وماتت زوجته الوفية خديجة -رضي الله عنها- فاشتد عليه قومه أكثر من ذي قبل، حتى خرج يبحث عن النصرة في الطائف، فما وجدها، بل وجد الصد والإعراض والتكذيب والشقاق وسوء الأخلاق، فعاد مرة ثانية إلى مكة، يكلم كل صغير وكبير في الإسلام، ويخاطب كل وافد على مكة في حج أو غيره ليشرح له رسالة ربه، فكذبته عامة القبائل ورفضوا دعوته، حتى شاء الله له أن يقابل ستة من الخزرج من أهل يثرب، فآمنوا به وصدقوه، وعادوا إلى قومهم بالدين الجديد يدعون إليه، فآمن معهم آخرون، وجاءوا بعد عام إلى مكة ليبايعوا رسول الله بيعة العقبة الأولى، ثم عادوا إلى المدينة، ومعهم مصعب بن عمير، فما تركوا بيتًا ولا شارعًا ولا حديقة ولا مجتمعًا إلا وعرّفوه بالدين، فانتشر الإسلام في المدينة انتشارًا باهرًا، وجاء منهم بعد عام آخر ثلاثة وسبعون من الرجال وامرأتان؛ ليبايعوا رسول الله بيعة العقبة الثانية، ليصبحوا بذلك أنصار الله ورسوله.



وما هي إلا شهور قليلة، حتى ترك رسول الله مكة بكفرها، وهاجر إلى المدينة المؤمنة، التي صارت معقل الإسلام، ونواة الدولة الإسلامية الأولى.



وهاجر الصحابة المكيون إلى المدينة مع رسولهم ، وعُرفوا بعد ذلك بالمهاجرين، واجتمع المهاجرون والأنصار بقيادة الرسول على بناء الدولة الإسلامية كما ينبغي -حقيقة- أن تُبنى الدول.



بَنَى دولته بشمول عجيب، وتوازن لافت للنظر، واستكمل كل جوانب دولته السياسية، والعسكرية، والاقتصادية، والاجتماعية، والعلمية، وقبل كل ذلك العقائدية، فصارت دولة مضربًا للمثل لأي دولة في العالم في الرقي والحضارة، وسموّ الأخلاق، كل ذلك على صغر حجمها، وضعف إمكاناتها المادية.



ولم يتركه أعداؤه من المشركين من أهل قريش، أو من الذين لم يؤمنوا من أهل المدينة، بل تعاونوا مع الأعراب، ومع اليهود على حربه، والكيد له ، ولكنه قاومهم بحكمة شديدة وحنكة لافتة للنظر، تارة بالمعاهدات، وتارة بالإعراض، وتارة بالسرايا.



وظل في كل ذلك محافظًا على نهجه التربوي للمهاجرين والأنصار حتى أذن الله للصدام الأول بين الكفر والإيمان، وبين أهل الحق وأهل الباطل أن يحدث، فدخل المسلمون في مرحلة جديدة فكانت غزوة بدر الكبرى، أو يوم الفرقان، وحدث ما لا يتخيله عامة البشر، وانتصرت الفئة القليلة المؤمنة على الكثرة المشركة، وتحقق وعد الله، وارتفع شأن المسلمين في الجزيرة العربية، وسمع بهم كل العرب، وخضع مشركو المدينة، ودخلوا في الإسلام، إما اقتناعًا به، وإما نفاقًا له، فظهرت بذلك طائفة المنافقين الخطيرة، الذين يبطنون الكفر، ويظهرون الإسلام، وصارت هذه الفئة أخطر الفئات مطلقًا على الأمة الإسلامية، لكونهم يدبرون ويكيدون للإسلام، بينما ظاهرهم عكس ذلك تمامًا.


المرحلة الثانية

وكان لا بد من وسيلة للتفرقة بين المؤمن والمنافق، وبين الصادق والكاذب، ومن ثَمَّ دخل المسلمون في مرحلة جديدة مهمة أسمِّيها (زمن وضوح الرؤية)، وهي عبارة عن سلسلة مضنية من الأزمات، والابتلاءات، والمعارك، فكانت غزوة بني قينقاع بعد أقل من شهر من غزوة بدر، وحدثت مفاصلة مع اليهود مع شدة احتياج المسلمين في ذلك الوقت لمال وسلاح اليهود، ولكن المؤمن الصادق لم يكترث بذلك، بينما ظهر ولاء المنافقين لليهود، ثم كانت مصيبة أُحد، ومأساة بئر معونة، وحادث ماء الرجيع.



فكان لهذه الأزمات المتتالية أبلغ الأثر في تمييز الصف، وهذه المصائب لم يخترها رسول الله ، بل هي السُّنة الإلهية في اختبار المجتمع المسلم، فيثبت الصادقون وينجحون، ويهتز المنافقون ويفشلون، ولم تكن هذه الفترة العصيبة بلا انتصارات تبشر المؤمنين، بل كان الانتصار المهيب على بني النضير، وكذلك الانتصار في بعض السرايا والغزوات، حتى شاء الله أن يحدث التمحيص الكبير، والابتلاء العظيم، والتفرقة الواضحة بين المؤمنين الصادقين والمنافقين الكاذبين، فكان اجتماع المشركين من قريش وغطفان وغيرهما على حرب المسلمين بمساعدة يهود خيبر، وذلك فيما عرف في السيرة بغزوة الأحزاب، أو غزوة الخندق في واحدة من أشد الأزمات التي مرت بالأمة الإسلامية ضراوة، إن لم تكن أشدها على الإطلاق، وبفضل الله ثبت المؤمنون وصبروا وتحملوا الجوع والخوف والبرد، وكتب الله لهم في النهاية النصر، بعد أن كشف لهم تمامًا أوراق المنافقين، وعلا نجم المؤمنين جدًّا حتى قال رسول الله بعد رحيل الأحزاب كلمته المشهورة التي تعبر عن الدخول في مرحلة جديدة: "الآنَ نَغْزُوهُمْ وَلا يَغْزُونَا، نَحْنُ نَسِيرُ إِلَيْهِمْ".


مرحلة الفتح والتمكين

ثم كتب الله النصر للمسلمين في غزوة بني قريظة على القبيلة اليهودية الثالثة بالمدينة، وبذلك أَمِنت المدينة من شرّ يهود الداخل، ولم يبقَ من اليهود إلا تجمعهم الكبير في خيبر، وكان العام السادس، وهو العام الذي تلا غزوة الأحزاب عامًا عسكريًّا بحتًا، انتشرت فيه سرايا المسلمين هنا وهناك، ودانت لهم السيطرة على بقاع كثيرة في الجزيرة، وانتهى هذا العام بحدث جليل مهيب سماه الله فتحًا مبينًا، ألا وهو صلح الحديبية، الذي اعترفت فيه قريش -وللمرة الأولى- بدولة المسلمين، وازدادت هيبة المسلمين في الجزيرة بشكل واضح.



وأعقب ذلك تحركات سياسية، وعسكرية، ودعوية من المسلمين على أعلى مستوى، وانتقل المسلمون من المحلية إلى العالمية، ومن الجزيرة العربية إلى كافة الممالك والإمبراطوريات المعاصرة، وراسل ملوك وأمراء العالم يدعوهم إلى الإسلام، وأعقب ذلك بانتصار جليل على اليهود في خيبر، ثم انتصار أجلّ على الرومان في مُؤتة، وأسلم الكثير من عظماء العرب وفرسانهم، حتى توجت الانتصارات الإسلامية بالفتح العظيم في العام الثامن من الهجرة، حيث فتحت مكة أحب بلاد الله إلى الله ورسوله، وآمن أهلها بعد رحلة صدٍّ طويلة عن الإيمان.



وبعدها مباشرة انتصر المسلمون انتصارًا باهرًا على قبيلة هوازن وثقيف في موقعة حنين المشهورة، بعد هزة أولى أُتْبِعَت بهجوم ساحق وسيطرة كاملة على مجريات الأمور، وغنم المسلمون ما لا يتخيلونه من الأموال والأنعام، وذاع صيت المسلمين في كل مكان، وجاءت الوفود من كل ناحية إلى المدينة المنورة تبايع الرسول على الإسلام، وأشرقت الأرض بنور ربها، وقُرّت عين رسول الله برؤية الإسلام يدخل كل بيت، وبرؤية الناس يسعدون بإيمانهم، وينقذون من النار، وتخلل هذا الإقبال الشديد على دين الإسلام، دعوةٌ جريئة من رسول الله إلى جهاد الرومان في تبوك، وكان التجمع الإسلامي الرائع في ثلاثين ألف مقاتل مؤمن يقطعون الصحراء في ظروف صعبة قاسية، دون تردد، ولا وجل، فأنزل الله عليهم نصره دون قتال، وفرت جحافل الرومان من جيوش الإيمان، وارتفعت راية الإسلام في ربوع الجزيرة، بل في أطرافها وحولها.



ثم ختم حياته بحجة الوداع في العام العاشر من الهجرة بمظاهرة إيمانية رائعة، حضرها ما يزيد على مائة ألف مؤمن، فكانت هذه الحجة تتويجًا لجهود مضنية وتضحيات سخية، واطمأن على اجتماع أمته، وعلى فقهها ودينها، وكمل الدين، وتمت النعمة بنزول قوله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3].



ومن ثَمَّ انتهت مهمة الرسول في تبليغ الرسالة وبناء الأمة، وحان وقت رحيله لينتقل إلى حياة لا تعب فيها، ولا نصب في مقعد صدق عند مليك مقتدر.



لقد كانت حياة حافلة، سيظل البشر إلى يوم القيامة ينهلون من خيرها، ويستفيدون من دروسها، ويتعلمون من مواقفها، ويستمتعون بأحداثها.



إنها سيرة خير البشر، وسيد المرسلين، وإمام الدعاة، وخاتم النبيين، حبيب الرحمن، وحامل لواء الحمد يوم القيامة، وأول شافع، وأول مشفَّع، رسول الله .



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 2 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:34 pm

محاولات قريش قتل رسول الله بعد بدر

قريش تفكر في قتل رسول الله

خنجربعد الهزيمة المرّة التي نالتها قريش من المسلمين في غزوة بدر، بدأ تفكير قريش في غزو المدينة المنورة، ومحاولة قتل رسول الله ؛ وقد ظهرت أكثر من محاولة لقتل النبي ، نذكر منها محاولتين:


الأولى: محاولة عمير بن وهب الجمحي وإسلامه

كان وهب بن عمير بن وهب أسيرًا لدى المسلمين، فكان عمير بن وهب يريد أن يفكَّ ابنه من الأسر، وكان بقلبه حقد كبير على رسول الله ، وجلس هو وصفوان بن أمية في حِجْر الكعبة يتذاكران أمر بدر، وكان أبو صفوان وأخوه قد قُتِلا في بدر أيضًا، فقال صفوان: "والله إنْ في العيش بعدهم خير". أي: لا خير في العيش بعد أن قتل هؤلاء. فقال له عمير: "صدقت والله، أما والله لولا دَيْنٌ عليَّ ليس له عندي قضاء، وعيال أخشى عليهم الضَّيْعة بعدي، لركبتُ إلى محمد حتى أقتله، فإني لي قِبَلَهم عِلَّةً؛ ابني أسيرٌ في أيديهم".



فقال صفوان: "عليَّ دينك، وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا".



قال عمير: "فاكتم عني شأني وشأنك".



قال صفوان: "أفعل".



وجهَّز عمير سيفه جيدًا ووضعه في السُّمِّ مدةً، ثُمّ أخذه وانطلق به إلى المدينة المنورة، ووصل إليها ومرَّ على مجموعة من أصحاب النبي يتحدثون في أمر بدر، وكان من بينهم عمر بن الخطاب ، فلما رآه عمر وكان صاحب فراسة شديدة قال: "هذا الكلب عدو الله عمير، ما جاء إلا لشرٍّ". ودخل سريعًا على رسول الله فقال: "يا رسول الله، هذا عدو الله عمير بن وهب، قد جاء متوشِّحًا سيفه". فقال : "فَأَدْخِلْهُ عَلَيَّ".



فلبَّبَهُ عمر بحمالة سيفه، أي وضع سيفه على رقبته، وأدخله مكتوفًا على رسول الله . ولم يكتفِ عمر بذلك، بل قال لرجال من الأنصار: "ادخلوا على رسول الله فاجلسوا عنده، واحذروا عليه من هذا الخبيث؛ فإنه غير مأمون".



ولما دخل به عمر على رسول الله بهذه الهيئة، قال له الرسول في بساطة شديدة: "أَرْسِلْهُ يَا عُمَرُ، ادْنُ يَا عُمَيْرُ". فدنا وقال: "أنعموا صباحًا". فقال النبي : "قَدْ أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِتَحِيَّةٍ خَيْرٌ مِنْ تَحِيَّتِكَ يَا عُمَيْرُ، بِالسَّلاَمِ تَحِيَّةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ". ثم قال: "مَا جَاءَ بِكَ يَا عُمَيْرُ؟"



قال: جئتُ لهذا الأسير الذي في أيديكم -يقصد ابنه- فأحسنوا فيه".



قال رسول الله : "فَمَا بَالَ السَّيْفِ فِي عُنُقِكَ؟"



قال عمير: "قَبَّحَهَا اللَّهُ مِنْ سُيُوفٍ، وَهَلْ أَغْنَتْ عَنَّا شَيْئًا".



قال : "اصْدُقْنِي، مَا الَّذِي جِئْتَ لَهُ؟"



قال: ما جئتُ إلا لذلك.



قال : "بَلْ قَعَدْتَ أَنْتَ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ فِي الْحِجْرِ، فَذَكَرْتُمَا أَصْحَابَ الْقَلِيبِ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ قُلْتَ: لَوْلاَ دَيْنٌ عَلَيَّ وَعِيَالٌ عِنْدِي لَخَرَجْتُ حَتَّى أَقْتُلَ مُحَمَّدًا، فَتَحَمَّلَ لَكَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ بِدَيْنِكَ وَعِيَالِكَ عَلَى أَن تَقْتُلَنِي، وَاللَّهُ حَائِلٌ بَيْنَكَ وَبَيْنَ ذَلِكَ".



فقال عمير: "أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذِّبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمرٌ لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام وساقني هذا المساق"[1].



وسبحان الله! فعمير إنما جاء لقتل النبي ، ولكن الله أراد به خيرًا، فأصبح من كبار أصحاب النبي ، فهو ترتيبٌ ربَّانيّ عجيب.



ثم شهد عمير بن وهب شهادة الحق، فقال رسول الله لأصحابه: "فَقِّهُوا أَخَاكُمْ فِي دِينِهِ، وَعَلِّمُوهُ الْقُرْآنَ، وَأَطْلِقُوا أَسِيرَهُ"، ففعلوا.



وكان صفوان حين خرج عمير بن وهب يقول: "أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام، تنسيكم وقعة بدر". وكان صفوان يسأل عنه الركبان، حتى قدم راكب فأخبره عن إسلامه، فحلف أن لا يكلمه أبدًا، ولا ينفعه بنفعٍ أبدًا، وظل كذلك بالفعل حتى فتح مكة.


إيجابية عمير بن وهب

أود أن أذكر هنا أمرًا إيجابيًّا كان عند عمير بن وهب ، فما إن أسلم -وليس عنده من العلم إلا القليل- حتى قال: "يا رسول الله، إني كنتُ جاهدًا على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله، وأنا أحب أن تأذن لي فأقدم مكة؛ فأدعوهم إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام، لعل الله يهديهم وإلا آذيتهم في دينهم كما كنتُ أوذي أصحابك في دينهم"[2]. فأذن له رسول الله ، فلحق بمكة.



ومع أن كل ما تعلمه ما هو إلا مجموعة قليلة جدًّا من الآيات والأحكام، إلا أنه كان يمتلك إيجابية عظيمة للغاية، فرجع إلى مكة المكرمة وبدأ يدعو إلى الله ، وكان من عائلة قوية (بني جمح) واستطاعوا حمايته، وكان سيِّد قومه ، وظل يدعو إلى الله حتى فتح مكة، وبعد فتح مكة كان له دورٌ كبير في إسلام صديقه القديم صفوان بن أمية ودخوله في حظيرة الإسلام، أجمعين.



كانت هذه إحدى محاولات قريش الفاشلة لقتل النبي في المدينة المنورة، وانتهت كما رأينا بإسلام عمير بن وهب .


المحاولة الثانية: محاولة أبي سفيان بن حرب قتل الرسول

كانت هذه أيضًا إحدى المحاولات الخطيرة لقريش لقتل رسول الله ، وقد قام بها أبو سفيان بن حرب زعيم مكة بعد أن فَقَدت مكة كل زعمائها السابقين، وكان أبو سفيان بعد بدر قد أخذ قرارًا ألا يمسَّ رأسَهُ ماءٌ من جنابة حتى يغزو محمدًا. ثم استشار قريش بعدم التصرف في أموال القافلة التي نجت، وجعلها تمويلاً لغزو المدينة بعد ذلك. وإلى أن يتم تجهيز هذا الجيش، حاول أبو سفيان عَمَل محاولة قرصنة (لُصُوصِيَّة) للمدينة المنورة؛ لتحقيق بعض المكاسب ورفع هِمَّة القرشيين، وأن تعود لقريش بعض هيبتها المفقودة في الجزيرة العربية.



وجمع أبو سفيان مائتي فارس، وذهب إلى المدينة المنورة لِيَبَرَّ يمينَه. وبالفعل وصل إلى المدينة المنورة، ولكنه خشي من دخولها نهارًا، فدخل في الظلام، واستطاع أن يقتل رجلين من الأنصار، وأخذ بعض الماشية، وانطلق في طريقه إلى مكة راجعًا، فكانت محاولة طفولية وصبيانية؛ فقد كان معه مائتا فارس، ومع هذا لم يستطع أن يواجه المسلمين في قتال، ولكنه هرب سريعًا بعد أن قتل اثنين.


غزوة السويق

وقد علم رسول الله ما فعل أبو سفيان، فجمع أصحابه وخرج سريعًا يتبع أَثَر أبي سفيان، لكن استطاع أبو سفيان أن يهرب سريعًا، وكان معهم أحمال ثقيلة من السَّويق[3]؛ فألقوا هذا الطعام ليتخففوا من أحمالهم ويستطيعوا الهرب سريعًا، وجمع المسلمون هذا السويق وأخذوه بعد ذلك كغذاء في المدينة المنورة.



انظر فلاشة غزوة السويق والمحاولة الثانية لقتل رسول الله



وعُرِفت هذه الغزوة بغزوة السويق، وكانت في ذي الحجة 2هـ، أي بعد بدر بشهرين[4]. فكانت هذه إحدى محاولات قريش أيضًا.



د. راغب السرجاني

[1] ابن كثير: السيرة النبوية 2/486، 487.

[2] السابق نفسه 2/487، 488.

[3] السويق: نوع من الطعام خليط من الحنطة والشعير.

[4] ابن هشام: السيرة النبوية، القسم الثاني (الجزء الثالث والرابع) ص44، 45.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 2 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:35 pm

قتل كعب بن الأشرف

كعب بن الأشرف

راية الجهادكان أحد يهود بني النضير يقود حربًا ضروسًا ضد المسلمين، وليس قبيلة بني النضير بكاملها، وكان اسمه كعب بن الأشرف، وهو من قادة وزعماء بني النضير، وكان يصرِّح بسبِّ الله وسبِّ الرسول الكريم ، وينشد الأشعار في هجاء الصحابة ، ولم يكتفِ بهذا الأمر، بل إنه ذهب ليؤلِّب القبائل على الدولة الإسلامية، وذهب أيضًا إلى مكة المكرمة، وألّب قريشًا على المسلمين، وبدأ يذكِّرهم ويتذاكر معهم قتلاهم في بدر، بل فعل ما هو أشد من ذلك وأنكى -وهو كما نعرف من اليهود ويعلم أن الرسول مُرسَل من رب العالمين- فعندما سأله القرشيون وهم يعبدون الأصنام، قالوا له: "أديننا أحب إليك أم دين محمد وأصحابه؟ وأيُّ الفريقين أهدى سبيلاً؟"



فقال الكافر: "أنتم أهدى منهم سبيلاً"[1].



وفي ذلك أنزل الله : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاَءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} [النساء: 51].



وهذا الكلام الذي قاله كعب لقريش شجَّعهم على حرب المسلمين، بل فعل هذا الكافر أمورًا تخرج عن أدب العرب وعن فطرتهم، سواء في إسلامهم أو في جاهليتهم، فقد بدأ يتحدث بالفاحشة في أشعاره عن نساء الصحابة، رضي الله عنهن وعن أزواجهن جميعًا.



ارتكب كعب بن الأشرف -إذن- مجموعة من الجرائم والمخالفات الصريحة والواضحة للمعاهدة بينه وبين الرسول ؛ لأنه كان من نصوص المعاهدة ألا تُجار قريش ولا تُنصر على المسلمين، وقد كان ما فعله كعب كفيلاً بأن يأخذ النبي قرارًا في منتهى الحسم، وهو قرار قتل كعب بن الأشرف، فقال : "مَنْ لِي بِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ؛ فَإِنَّهُ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟".



انظر فلاشة التخلص من كعب بن الأشرف



فقام محمد بن مسلمة وعباد بن بشر وأبو نائلة والحارث بن أوس ومجموعة من الأوس ، وقرروا القيام بهذه المهمة، وأدوها على أحسن وجه، وبهذا تخلصت الدولة الإسلامية من أحد ألدِّ أعدائها، وهو كعب بن الأشرف.


السيئة لا تعمُّ عند رسول الله

لماذا قتل الرسول كعب بن الأشرف وحده دون قبيلته، بينما في بني قينقاع أخرج القبيلة بكاملها عندما خالفت؟



الفرق بين الموقفين أن قبيلة بني قينقاع كانت تجاهر بالعداء كقبيلة، وكان موقفها العدائي واضحًا وصريحًا مع الرسول ومع المسلمين، بينما لم تجاهر قبيلة بني النضير بهذا العداء إلى هذه اللحظة، بل إنهم بعد قتل كعب بن الأشرف جاءوا إلى الرسول يقرُّون العهد ويطيلون المدة. إذن فالعداء الظاهر هنا في هذا الموقف من كعب بن الأشرف كان عداءً فرديًّا، والسيئة عند رسول الله لا تَعُمّ.


اليهود والانحراف الجنسي

يظهر من خلال مواقف بني قينقاع وكعب بن الأشرف مدى الانحراف الجنسي ومحاولة إثارة الغرائز واستخدام ذلك في إفساد الأرض؛ ففي قصة المرأة حاولوا كشف وجهها، ثم بعد ذلك كشفوا عورتها، وفي قصة كعب بن الأشرف نجده يتحدث عن نساء الصحابة رضي الله عنهن؛ يتحدث بالفاحشة وبما لا يستقيم مع صاحب فطرة سليمة، فكانت هذه إحدى طرق اليهود التي استخدموها قبْل النبي وفي عصره وبعده، كما فشا فيهم الزنا.



قال : "أَوَّلُ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ"[2].



وكان هذا شيئًا عامًّا في تاريخهم وإلى الآن؛ فمعظم وسائل الإعلان من سينما وغيرها من برامج وأفلام إباحية تمتّ بصلة قوية إلى اليهود، فأكثر من 50 % من وسائل الإعلام في العالم مملوكة لليهود، وما بين 80 إلى 90 % من الإعلانات التي تقدم في هذه الوسائل من البرامج أو الأفلام تقوم أساسًا على إثارة الغرائز والجنس والنساء، ولا بد أن ينتبه المسلمون إلى هذا الأمر جيدًا.



كان هذا هو موقف الرسول من بني قينقاع، ومن كعب بن الأشرف.



ونستطيع هنا أن نقول: إن الوضع داخل المدينة المنورة أصبح مستقرًّا إلى حد ما، ومعظم الناس قد أعلنوا إسلامهم، ومنهم منافقون، لكن الذي يحكم المدينة المنورة حُكمًا تامًّا كاملاً هو الرسول .



وبعد الموقف الحاسم من رسول الله مع بني قينقاع ومع كعب بن الأشرف، بدأ اليهود من بني النضير وبني قريظة يتربصون بالمسلمين.



د. راغب السرجاني

[1] ابن كثير: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة، بيروت، 1971م، 3/11، 12.

[2] رواه مسلم (2742) ترقيم عبد الباقي، وأحمد (11185) طبعة مؤسسة قرطبة، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (911).
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 2 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:36 pm

استعدادات قريش لغزوة أحد

موقف قريش بعد بدر

استعدادات قريش لغزوة أحدكان موقف قريش بعد هزيمتهم في غزوة بدر سيئًا للغاية، فهي في أزمة اقتصادية كبيرة حيث قُطعت طرق تجارتها مع الشام، وأزمة سياسية ضخمة حيث أُهينت كرامتها وضاعت هيبتها في الجزيرة العربية بعد الهزيمة المرّة التي مُنيت بها على يد المسلمين، وخاصةً أنهم كانوا أضعاف الجيش الإسلامي، إضافةً إلى وجود أزمة اجتماعية بقتل سبعين من أشرافها، وكلٌّ يريد أن يأخذ الثأر لأبيه أو أخيه أو عمه أو خاله أو كذا أو كذا من أقاربه، ثم إن لديهم أزمة دينية؛ لأن الله أخبر أن الصراع مستمر بين أهل الكفر وأهل الإيمان ما دام أهل الإيمان على إيمانهم، يقول الله : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36].



فهذا أحد الأهداف الواضحة عندهم، ورسول الله ينشر الإسلام في المدينة المنورة وما حولها، وهذا -بلا شك- يرفع من درجة الفوران والغليان في داخل مكة.


استعدادات قريش لحرب المسلمين

قلنا قبل ذلك إن قريشًا أوقفت التصرف في قافلة أبي سفيان التي أفلتت في بدر لتجهيز جيش بأموالها لحرب المسلمين، وكانت قيمة هذه القافلة تُقدر بخمسين ألف دينار من الذهب، كمية هائلة من الأموال، ومع هذا فإن هذه الأموال كلها أُنفقت للصدِّ عن سبيل الله، ولم تكتفِ قريش بتجهيز الجيش من داخل مكة بل بدأت تستنفر القبائل المحيطة بها للمساعدة والمعاونة لها، وكوَّنت قريش بالفعل جيشًا كبيرًا.


قوام الجيش المكي في المعركة

تمثَّل قوام الجيش المكي في المعركة ثلاثة آلاف مقاتل، وأخرجوا كل زعمائهم على رأس هذا الجيش، والقائد العام لهم هو أبو سفيان بن حرب، وأكبر المساعدين له في هذه المعركة هم: صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وخالد بن الوليد، فكانت هذه هي القوة البشرية التي تمَّ تجهيزها، وهي قوة هائلة كما نرى.



أما قوة السلاح فقد تمَّ تجهيز ثلاثة آلاف بعير؛ وهو رقم كبير جدًّا، ومائتي فرس، وسبعمائة درع، وخرج مع الجيش خمس عشرة امرأة من نساء قريش، تتقدمهم سيدة مكة الأولى في ذلك الوقت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان، ومعها زوجات القادة العظام الكبار في جيش مكة من أمثال صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، والحارث بن هشام، وغيرهم.



ثم أشعلت قريش حربًا إعلامية ضخمة تحفِّز الناس على حرب المسلمين، وقاد هذه الحرب الإعلامية أبو عزة الجمحي، وهو الأسير الذي أطلقه رسول الله مَنًّا بغير فداء، وأخذ عليه عهدًا ألا يشارك مع المشركين ولا يحفِّز أحدًا على حرب المسلمين، وها هو الآن يخالف العهد، ويحفّز من يستطيع من العرب على حرب المسلمين، وهذا الموقف من أبي عزة سيكون له مردوده في (أُحُد) كما سنرى إن شاء الله.



وكانت القيادة العامة في جيش المشركين لأبي سفيان، وكان سلاح الفرسان بقيادة خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل، وكان اللواء مع بني عبد الدار.



انظر فلاشة استعدادات قريش لحرب المسلمين في أحد


استقبال المسلمين لإعلان قريش الحرب

مع أن هذا الجيش بهذه القوة وبهذا الإعداد الجيد، إلا أنه كان من المفترض أن تكون هذه الموقعة أسهل على المسلمين من موقعة بدر؛ وذلك لعدة أسباب:



أولاً: فَقَدت قريش معظم قادتها في بدر، فهذا الجيش يخلو من أسماء ضخمة في تاريخ مكة، فليس في هذا الجيش: الوليد بن المغيرة، أو أبو جهل، أو عقبة بن أبي معيط، أو النضر بن الحارث، أو أميّة بن خلف، وأضرابهم ممن قُتل في بدر.



ثانيًا: كان المسلمون يعلمون بأمر هذه الحرب وعلى استعداد لها، فقد وصل الخبر من مكة إلى المدينة المنورة مباشرة، ولدى المسلمين من الوقت ما يستطيعون فيه أن يجهِّزوا أنفسهم لهذه الحرب جيدًا، ثم يخرجون ومعهم عُدَّة المحارب وليس المسافر كما كانوا في بدر.



ثالثًا: مكان المعركة سيكون إما في المدينة المنورة أو قريبًا منها، ومعنى ذلك أن على المشركين -وهم ثلاثة آلاف- لكي يصلوا إلى مكان المعركة أن يسيروا مسافة خمسمائة كيلو مترٍ، وهي مسافة كبيرة جدًّا في الصحراء، ومشقة بالغة على الجيش كله.



أما بالنسبة للمسلمين فإنْ خرجوا من المدينة فسوف يخرجون إلى مكان قريب، سواء في أُحُد أو غيرها حسب ما يتحدد مكان المعركة، وهي مسافة لن تتجاوز العشرين كيلو مترًا على الأكثر، وهذا الأمر يجعل الجيش الإسلامي متوافر النشاط، غير منهك بكثرة السير في الصحراء.



رابعًا: الحالة المعنوية لكلا الفريقين متباينة تمامًا؛ فالجيش الإسلامي في حالة معنوية مرتفعة للغاية، بينما الحالة المعنوية لكفار قريش في الحضيض، فهم ليسوا مغلوبين فقط في بدر، بل هناك أزمات كثيرة مرت بهم خلال السنة الماضية، وآخر هذه الأزمات كانت سرية زيد بن حارثة، وقد أُخذ في هذه السرية قافلة قريش التي كانت تحمل من البضائع ما يقدر بمائة ألف دينار، وكانت ضربة قاسية على قريش، خاصةً أن هذه القافلة كانت تسير على مسافة بعيدة جدًّا من المدينة، ومع ذلك استطاع المسلمون السيطرة عليها؛ مما يثبت الكفاءة العسكرية والمخابرات الإسلامية في المدينة المنورة، وهذا -بلا شك- يضعف كثيرًا من نفسية الجيش المكي.



فهذه العوامل كلها كما نرى تصبُّ في صالح الجيش الإسلامي، فهو في علوٍّ وقوة وبأس، ومع أن عدده كان أقل من عدد الجيش المكي -كما سنرى بعد ذلك- إلا أن عوامل النصر فيه كانت كثيرة.



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 2 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:36 pm

استعدادات المسلمين لغزوة أحد

رسول الله يتأهّب للمعركة

سيف عربيوصلت أنباء الاستعدادات القرشية للمدينة المنورة، فكان أول ما فعله رسول الله مع أصحابه الشورى، وانبثق عنها عدة أمور:



أولاً: تأمين المدينة المنورة، فكانت هناك فرقة لحماية رسول الله ، فهو بلا شك مستهدف، وربما تحدث أيّ جريمة اغتيال، وهذا سيؤثر حتمًا على المدينة المنورة، وكان على رأس هذه الفرقة التي تحمي الرسول كبار الأوس والخزرج: سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وأسيد بن حضير، وكانت هذه فرقة من أقوى الفرق الإسلامية، وبدأت مهمتها بإحاطة بيت الرسول والمسجد النبوي، والسير معه في كل وقت وفي كل مكان.



ثانيًا: عمل فرق لحماية مداخل المدينة المنورة، حتى لا يباغت المسلمون ليلاً أو نهارًا.



ثالثًا: عمل دوريات مراقبة حول المدينة المنورة؛ لاستطلاع مكان وخطوات وتحركات جيش المشركين.



رابعًا: الجميع في المدينة المنورة، سواء من المهاجرين أو الأنصار (الأوس والخزرج)، كانوا لا يتحركون إلا بالسلاح، وفي أثناء الصلاة أيضًا يكون معهم سلاحهم، وهذا الأمر يوضح صفة في غاية الأهمية من صفات الجيش المنتصر، وهي الإعداد الجيد؛ مخابرات قوية ومتمكنة أتت بالأخبار، حماية قوية للقائد ، حماية قوية للمدينة واستعداد كامل للقتال.



انظر فلاشة قبيل معركة أحد


قرار القتال خارج المدينة

بدأ المسلمون في التفكير في الأمر ماذا يصنعون، هل يخرجون لملاقاة الجيش القادم خارج المدينة المنورة، أم ينتظرون قدومه إليهم؟ هل يحددون أرض المعركة أم يتركون ذلك لعدوهم؟



وقبل أن يحددوا موقفهم من هذا الأمر قصَّ رسول الله عليهم رؤيا، وقال لهم : "إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ وَاللَّهِ خَيْرًا؛ رَأَيْتُ بَقَرًا يُذْبَحُ، وَرَأَيْتُ فِي ذُبَابِ سَيْفِي ثُلْمًا[1]، وَرَأَيْتُ أَنِّي أَدْخَلْتُ يَدِي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ"[2].



فرسول الله رأى ثلاثة أشياء:



1- رأى أن بقرًا يُذبح، وأوَّلَ ذلك أن نفرًا من أصحابه يُقتلون.



2- رأى أن في سيفه كسرًا، فأوَّلَ ذلك بأن رجلاً من أهل بيته يُصاب.



3- رأى أنه أدخل يده في درع حصينة، وأوَّلَ ذلك بالمدينة المنورة، أي أنه يقاتل في داخل المدينة المنورة.



وهو عندما قصَّ للمسلمين هذه الرؤيا لم يقصها على أنها قرار يجب عليهم أن يأخذوا به، ولكنه عرضها عليهم في صورة رأي يستأنسون به، ولأنه لو كان وحيًا ما جاز له أن يستشيرهم فيه، فهو يشير من بعيد إلى أنه يفضل أن يقاتل في داخل المدينة المنورة، وقد صرَّح بعد ذلك بهذا الرأي فقال: "يُقَاتِلُ الْمُسِلْمُونَ عَلَى أَفْوَاهِ الأَزِقَّةِ، وَالنِّسَاءُ مِنْ فَوْقِ الْبُيُوتِ". أي أنهم لو ظلوا في المدينة المنورة سيضطر جيش مكة إلى دخول المدينة، وستكون الحرب حرب شوارع، وهذه الحرب سوف تكون صعبة جدًّا على الجيش المهاجم.



لكنَّ معظم المسلمين وخاصةً من لم يشاركوا في بدر، كانوا في شوق إلى قتال المشركين خارج المدينة المنورة، حتى قال قائلهم: "يا رسول الله، كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله، فقد ساقه إلينا وقرب المسير، اخرج إلى أعدائنا لا يرون أنا جَبُنَّا عنهم". وكان من أشد المتحمسين للخروج حمزة بن عبد المطلب ، وقد قال كلمة عجيبة لرسول الله : "والذي أنزل عليك الكتاب، لا أطعم طعامًا حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة"[3].



وكان معظم الناس على هذا الرأي، ولم يكن على رأي الرسول إلا القليل من الصحابة جميعًا.



وممن كان على رأي الرسول أيضًا زعيم المنافقين عبد الله بن أُبيّ بن سلول، ولم يكن هذا لاقتناعه برأي الرسول ، ولكن ليسهل عليه الفرار في داخل المدينة المنورة، لكن الرسول في نهاية الأمر نزل على رأي الشورى، حتى وإن كان مخالفًا لرأيه، وإن كان يتأوَّل في رؤياه أن نفرًا من أصحابه سوف يقتلون، وأن واحدًا من أهل بيته سيُصاب، وأنه من الأفضل أن يقاتل داخل المدينة، لكنه لما رأى أن ذلك ليس وحيًا من الله I، تنازل عن رأيه لصالح رأي الأغلبية، وقرَّر الخروج من المدينة المنورة لقتال المشركين.


استنفار المدينة للقتال

صلَّى رسول الله بالناس يوم الجمعة ووعظهم وأمرهم بالاجتهاد والجد، وبشرهم بالنصر إن هم صبروا، وإن هم ساروا على نهج الله وعلى نهج نبيه ، وقد فرح الناس بالخروج وتجهّزوا بنشاط، وبعد أن صلَّى الرسول العصر في ذلك اليوم الجمعة 6 من شوال، حشد أهل العوالي وأهل المدينة المنورة، وجمع أصحابه أجمعين، وبدأ هو شخصيًّا يستعدّ للخروج للقتال؛ فأخذ معه أبا بكر وعمر ودخل بيته ليجهّزاه بعُدَّة الحرب، ولبس العدة الكاملة للحرب، فلبس درعين، وحمل سيفه، وقبل أن يخرج من بيته اجتمع الأنصار مع المهاجرين، وقال لهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير: "استكرهتم رسول الله على الخروج، فرُدُّوا الأمر إليه".



إذن، فعموم الصحابة يشعرون أن الأمر على غير رأي الرسول ، ويعلمون أن رأيه هو الأحكم والأعلم والأنسب لأنه رسول الله، فقرروا أن يردوا إليه الأمر مرة ثانية، فلما خرج وهو يرتدي عدة الحرب قالوا له: "يا رسول الله، ما كان لنا أن نخالفك، فاصنع ما شئت، إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل". لكن الرسول قد أخذ القرار واستعد واستعد معه الناس للخروج، فقال لهم كلمة جميلة: "مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ -درع الحرب- أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ"[4].



وهذا الأمر يوضح لنا أهمية الحسم وعدم التردد، وهي صفة مهمة من صفات الجيش المنتصر.



وكان قد حفَّز الجيش بالجنة في خطبة الجمعة، وكذلك عندما خرج بعد صلاة العصر، وعندما سمع الناس بعد ذلك نداء الجهاد في سبيل الله خرج الجميع للجهاد، حتى خرج حنظلة بن عامر وكان حديث عهد بعرس، ولكنه خرج مباشرة دون تردد، فالناس في أُحُد خرجوا لله رب العالمين، وكان هذا عموم الجيش المسلم، إلا طائفة المنافقين الذين كانوا في داخل جيش المسلمين، وسوف نرى ما كان من أمرهم.


الإعداد القوي لغزوة أحد

بدأ رسول الله يُعِدّ العدة ويصفُّ الصفوف، فجهّز ألف مقاتل، وجعل على كتيبة المهاجرين مصعبَ بن عمير ، وعلى كتيبة الأوس أُسيد بن حضير، وعلى كتيبة الخزرج الحباب بن المنذر، وجهّز الجيش بمائة درع، ولم يكن مع المسلمين في هذه الموقعة أيّ خيول -وهذا في أصح الروايات-؛ وهذا نظرًا لما كان عليه المسلمون من الفقر.



إذن فقد أَعدَّ النبي الجيش بقدر ما يستطيع من قوة، بدايةً من المخابرات السليمة، وحماية المدينة المنورة، وتجهيز العدة، وإعداد الأفراد وإعداد السلاح، وخرج بهذا الإعداد الجيد، وقد ولَّى قيادة كتائب الجيش إلى عمالقة العسكريين الإسلاميين، مثل مصعب بن عمير وأسيد بن حضير والحباب بن المنذر، وغيرهم من قادة الصحابة، ورَدَّ الأطفال الذين لا يستطيعون القتال مثل عبد الله بن عمر -وكان قد رده في غزوة بدر- وردَّ زيد بن أرقم، وزيد بن ثابت، وأبا سعيد الخدري، وأسامة بن زيد أجمعين.



وسَّد الرسول -إذن- الأمر إلى أهله، هذا ما كان أيضًا في بدر، واليوم نراه ينطبق تمامًا على الجيش المشارك في أُحُد.



وكما ردَّ النبيُّ أحد المشركين ومنعه من المشاركة مع المسلمين في بدر، وقال : "لاَ أَسْتَعِينُ بِمُشْرِكٍ"[5]، ردَّ كذلك غير المسلمين ومنعهم من المشاركة في أُحُد، فقد جاءت كتيبةٌ -وكانت حسنة التسليح- للاشتراك مع المسلمين في أُحُد، فسأل عنها الرسول ، فقالوا له: هذه كتيبة من اليهود من حلفاء الخزرج. فقال : "هَلْ أَسْلَمُوا؟" فقالوا: لا. فردَّهم الرسول وقال: "قُولُوا لَهُمْ: فَلْيَرْجِعُوا، فَإِنَّا لاَ نَسْتَعِينُ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ"[6].



ملمحٌ آخر من ملامح الجيش المنتصر وجدناه في هذا الجيش، وهو الاعتماد على الشباب، وكما نعرف فإن جيش أُحُد هو جيش بدر، مضافًا إليه بعض الناس.



ومما يدل على حرص الشباب على المشاركة في القتال في أُحُد، ما رواه رافع بن خديج عندما لم يجزه النبي ، فَقَالَ ظُهَيْرُ بْنُ رَافِعٍ: يَا رَسُولَ اللّهِ، إنّهُ رَامٍ. وَجَعَلْت أَتَطَاوَلُ وَعَلَيَّ خُفّانِ لِي، فَأَجَازَنِي رَسُولُ اللّهِ ، فَلَمّا أَجَازَنِي قَالَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ لِرَبِيبِهِ مُرَيّ بْنِ سِنَانٍ الْحَارِثِيّ -وَهُوَ زَوْجُ أُمِّهِ-: يَا أَبَتِ، أَجَازَ رَسُولُ اللّهِ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ وَرَدّنِي، وَأَنَا أَصْرَعُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ. فَقَالَ مُرَيّ بْنُ سِنَانٍ الْحَارِثِيّ: يَا رَسُولَ اللّهِ، رَدَدْتَ ابْنِي وَأَجَزْتَ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، وَابْنِي يَصْرَعُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ : "تَصَارَعَا". فَصَرَعَ سَمُرَةُ رَافِعًا، فَأَجَازَهُ رَسُولُ اللّهِ [7].



فكان هذا اختبارًا للقدرات القتالية للمشاركين في غزوة أُحُد.



وكما نرى في جيش أُحُد؛ الإيمان بالله ، وبرسوله الكريم ، وباليوم الآخر، والتحفيز بالجنة، وحب الموت في سبيل الله، والحسم وعدم التردد، والإعداد الجيد، وتوسيد الأمر إلى أهله، وقيمة الشباب، والشورى والأخوة.



فالجيش بهذه الصفات وعلى هذه الهيئة سوف ينتصر، وقد قال لهم ذلك، وأنهم لو استمروا على هذا النهج سوف ينتصرون، وهذه بشرى من رب العالمين لكل من أخذ بهذه المبادئ.


انسحاب المنافقين

خرج الجيش الإسلامي وتوجه في طريق أُحُد، لأنه يعرف أن جيش المشركين يعسكر بالقرب من أُحُد، وحاول الرسول قدر استطاعته التكتم أثناء السير، وسار من وسط المزارع التي تقع حول المدينة المنورة، حتى لا يُكتشف أمره من قِبَل الجيش المشرك، ووصل إلى منطقة أُحُد، ومن بعيدٍ رأى جيش المشركين.



وبينما هم على مسافة قريبة من أُحُد حدث أمر هائل في الجيش المسلم.



خرج عبد الله بن أُبي بن سلول في حركة تمردٍ على المسلمين، وأبدى أنه غير موافق على القتال في هذه المعركة، متعلّلاً بأنه لم يكن من الموافقين على رأي الخروج من المدينة، ورجع هو ومن على شاكلته وكانوا ثلاثمائة، أي ما يقرب من ثلث الجيش.



وناشد عبد الله بن حرام -والد جابر بن عبد الله- المنافقين وهم ينصرفون من أرض المعركة، يقول لهم: "تعالَوْا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا". فقالوا: "لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع". وحاول معهم كثيرًا لكنهم رفضوا تمامًا، فقال لهم : "أبعدكم الله أعداء الله! فسيغني الله عنكم نبيه"[8].



ونزل بعد ذلك قول الله : {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران: 167].



ربما يتصور أحد أن هذه خسارة للجيش المسلم، لكن على العكس من ذلك، قال الله يصف حال المنافقين: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: 47].



فوجود المنافقين في الصف المسلم خطر كبير، ليس فقط لأنهم سوف يكونون عينًا على المسلمين، أو يُدلِون بآراء فاسدة للجيش المسلم، لكن الأخطر أنهم قد يثيرون بعض الشبهات في داخل الجيش المسلم، والتي تجعل بعض المؤمنين الصادقين يترددون في أمر القتال، وهذا عينُ ما حدث في غزوة أُحُد، فهذه الكلمات التي قالها عبد الله بن أُبيّ في أرض المعركة، أو قبيل دخول أرض المعركة بقليل، قد أثَّرت هذه الكلمات في طائفتين من المسلمين الصادقين المؤمنين: طائفة بني حارثة من الأوس، وطائفة بني سلمة من الخزرج؛ فهاتان الطائفتان فكرت كل منهما جديًّا في أمر الرجوع، لولا أن الله ثبّتهم بصدق إيمانهم، وقد وقف معهم الرسول والصحابة ، وأقنعوهم بالبقاء في أرض المعركة حتى يكملوا اللقاء، وفي حقهم نزل قول الله : {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122].



د. راغب السرجاني

[1] أي كسرًا في حدِّ سيفه صلى الله عليه وسلم.

[2] المباركفوري: الرحيق المختوم، دار الوفاء، مصر، الطبعة السابعة عشرة، 2005م، ص227.

[3] المباركفوري: الرحيق المختوم ص227.

[4] المباركفوري: الرحيق المختوم ص228.

[5] رواه مسلم (1817) ترقيم عبد الباقي، والترمذي (1558) ترقيم أحمد شاكر، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1101).

[6] الزيلعي: نصب الراية لأحاديث الهداية، مؤسسة الريان للطباعة والنشر - بيروت/ دار القبلة للثقافة الإسلامية - جدة، الطبعة الأولى، 1997م، 3/423، 424.

[7] الواقدي: المغازي، تحقيق مارسدن جونس، عالم الكتب، بيروت، 1/216.

[8] المباركفوري: الرحيق المختوم ص229.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 2 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:37 pm

وصول الجيشين في أرض أحد

الوصول إلى أُحُد

غزوة أحددخل رسول الله أرض أُحُد، وبدأ ينظر إلى أرض المعركة نظرة عسكرية ثاقبة، ويختار لمعسكره المكان المناسب، واختار مكانًا في منتهى العبقرية، فقد وقع اختياره على مكان يكون فيه جبل أُحُد حاميًا لظهر المسلمين وللجزء الأيمن من جيشهم، ويكون المسلمون في مكان مرتفع نسبيًّا والجيش المكي في مكان منخفض، وهذا يعطي قوة أكثر على القتال.


جبل الرماة

خريطة غزوة أحدواكتشف في أرض المعركة جبلاً صغيرًا، عُرف بعد ذلك في التاريخ بجبل الرماة، كان هذا الجبل على شمال الجيش الإسلامي، ويعتبر ثغرة ضد المسلمين إذا استطاع المشركون الالتفاف حوله، وسيقع المسلمون حينها في حصار المشركين من أمامهم ومن خلفهم.



ومن أجل أن يؤمِّن النبي هذه النقطة الحساسة والخطيرة في أرض القتال، انتخب من أصحابه خمسين من الرماة المهرة، ووضعهم على هذا الجبل، وأمرهم أن يصدوا عنه هجمات الفرسان المشركين، وكان على رأس هؤلاء الفرسان عبد الله بن جبير الأوسي البدري ، وهو من أعظم الصحابة وأمهر الرماة، وذكر الرسول له وللفرقة التي معه بعض الأوامر.


أوامر القيادة العامة للرماة

ونقف وقفة مهمة مع أوامر رسول الله لقائد الرماة، وللفرقة التي معه، المكلفين بهذا الجبل.



فالنبي قال لهم هذا الأمر بصورة فريدة، وبطريقة تجعل فَهْم هذا الأمر بصورة خاطئة أمرًا مستحيلاً. تعالَوْا نرى ما قاله النبي ، خاطب أولاً القائد أمام الجميع، قال له: "انْضَحْ عَنَّا الْخَيْلَ بِالنَّبْلِ".



فهذه الجملة وحدها كانت تكفي، فالمهمة في غاية الوضوح، وهي منع جيش المشركين من الالتفاف حول الجيش الإسلامي، وليس المنع عن طريق القتال، وإنما عن طريق النضح (الرمي) من أعلى الجبل، فهذا هو التوجيه الأول. ولم يكتفِ النبي به، بل قال: "لاَ يَأْتُونَ مِنْ خَلْفِنَا". وهذا تأكيد وتوضيح للأمر السابق، ثم قال توجيهًا ثالثًا في كلمات عجيبة: "إِنْ كَانَتْ لَنَا أَوْ عَلَيْنَا، فَاثْبُتْ مَكَانَكَ".



وكأن النبي يرى ما سوف يحدث بالفعل على أرض المعركة، وينبه الناس مرة بعد مرة.



الأمر الرابع: "لاَ نُؤْتَيَنَّ مِنْ قِبَلِكَ".



يحرِّك فيه النبي مشاعر عظيمة، ويحمله مسئوليات جسيمة، فيشير أن خسارة المسلمين أو نجاحهم في هذه المعركة، إنما يتوقف على مدى التزام مجموعة (الرماة الخمسين) بهذه الأوامر الصادرة من القائد الحكيم : "لاَ نُؤْتَيَنَّ مِنْ قِبَلِكَ".



وهذا الكلام موجَّه للقائد عبد الله بن جبير، وكل من معه يسمعون هذه الأوامر جيدًا. ولم يكتفِ الرسول بذلك، بل خاطب مجموعة الرماة وقال لهم كلامًا في منتهى العجب، قال لهم -وهذا هو التوجيه الخامس-: "إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ، فَلاَ تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هَذَا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ".



التوجيه السادس: "وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا الْقَوْمَ وَوَطِئْنَاهُمْ، فَلاَ تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ"[1]. أي في حال النصر الساحق وفرار المشركين، واحتلال المسلمين لمعسكر الكافرين، لا تبرحوا مكانكم.



بعد هذا كله إذا حدثت مخالفة، فلا شك أنها ستكون مخالفة متعمدة، وإذا حدثت مخالفة متعمدة لأمر الرسول فلا تتوقع نصرًا على الإطلاق، وهذا ما سنراه في موقعة أُحُد.



إذن الرسول وجَّه التوجيهات الواضحة الجليّة هذه إلى فرقة الرماة الخمسين، ونزل مرة أخرى إلى جيشه وبدأ يحفِّز الناس على الجهاد في سبيل الله، ويذكرهم بالجنة، ويحثهم على التنافس في أعمال الخير والجهاد والقتال في سبيل الله، وجعل بينهم تنافسًا على شيء مهم للغاية.


الرسول يحفز الجيش للمعركة

أخذ رسول الله سيفًا من السيوف ورفعه بين الصحابة، وقال: "مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السَّيْفَ بِحَقِّهِ؟"



فقام إليه رجال ومنهم علي بن أبي طالب والزبير بن العوام، وعمر بن الخطاب، وغيرهم، حتى قام إليه أبو دجانة سِمَاك بن خَرَشَة الأنصاري ، فقال: "ما حقه يا رسول الله؟" قال : "أَنْ تَضْرِبَ بِهِ وُجُوهَ الْعَدُوِّ حَتَّى يَنْحَنِيَ".



فقال بمنتهى القوة: "أنا آخذه بحقه يا رسول الله".



فأعطاه النبي السيف، وما إنْ أخذه أمسك به وأخرج من جيبه عصابة حمراء وربط بها رأسه، فقال الأنصار: "لقد ربط أبو دجانة عصابة الموت". فهذه العصابة الحمراء كان أبو دجانة يضعها على رأسه عندما يطلب الموت، وبدأ يمشي متبخترًا بين صفوف المسلمين والمشركين، فقال : "هَذِهِ مِشْيَةٌ يَكْرَهُهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ"[2].



وسنرى ما سيفعله أبو دجانة بالسيف الذي أعطاه إيّاه رسول الله .


أبو سفيان يحفز جيش المشركين

وعلى الجانب الآخر وفي جيش المشركين نرى التحميس والتحفيز، فهذا أبو سفيان بن حرب يرتب جيشه وينظمه، فوضع خالد بن الوليد على الميمنة، وعكرمة بن أبي جهل على الميسرة، وصفوان بن أمية على المشاة، وعبد الله بن ربيعة على رماة النبل، وأعطى اللواء لبني عبد الدار. وكما نعرف أن بني عبد الدار كانوا دائمًا حملة اللواء، سواء قبل الإسلام أو بعد ظهوره؛ ففي بدر كانوا يحملون اللواء، وها هم في أُحُد يحملونه، ولكن أبا سفيان يريد أن يستثير كل ما عند القوم من حميّة وبأس وقوة، فقال لهم: "يا بني عبد الدار، قد وُلِّيتم لواءنا يوم بدر، فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يُؤتَى الناس من قِبل راياتهم، إذا زالت زالوا، فإما أن تكْفُونا لواءنا، وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه".



وأثار هذا الكلام من أبي سفيان حميَّة وغضب بني عبد الدار، فقالوا: "نحن نُسلِم إليك لواءنا!! ستعلم غدًا إذا التقينا كيف نصنع"[3]. وقد صدقوا في كلمتهم، وأبيدوا بالفعل على بكرة أبيهم وهم حول اللواء، كما سيتبيّن في أحداث الغزوة.



فكانت هذه محاولة من أبي سفيان لاستثارة الجيش المشرك ضد المسلمين.



ليس هذا فحسب، بل إن نساء المشركين أخذن يحمِّسن المشركين بالحرب ضد المسلمين، فوقفت هند بنت عتبة ومن معها من النساء يشجِّعن الجيش المشرك على القتال وينشدن الأشعار في ذلك.



ثم كانت محاولة من أبي سفيان لتشتيت الجيش المسلم، فراسل الأنصار قائلاً لهم: "خلُّوا بيننا وبين بني عمنا وننصرف عنكم، لا حاجة لنا إلى قتالكم"[4].



ولكن هيهات لهذه الكلمات أن تجد لها موقعًا في قلوب الأنصار وهم من أعظم الناس إيمانًا، وردَّ عليه الأنصار ردًّا عنيفًا، وأسمعوه ما يكره.



واقتربت ساعة الصفر، ودنا الجيشان بعضهما من بعض.


أبو عامر الفاسق ومحاولة فاشلة

وقامت قريش بمحاولة أخرى لتفتيت الجيش المسلم، فخرج أبو عامر الفاسق، وكان يسمَّى الراهب، ولكنه لما أسلم ثم ارتدّ سماه النبي أبا عامر الفاسق، وها هو قادم اليوم مع قريش لحرب المسلمين، ويحاول تفتيت الجيش المسلم، فنادى على قومه -وكان من الأوس- قال: "يا معشر الأوس، أنا أبو عامر". وكان ابنه حنظلة بن أبي عامر في صفِّ المسلمين، وشتان بين الابن وأبيه! فقالوا له: "لا أنعم الله بك عينًا يا فاسق". فقال: "لقد أصاب قومي بعدي شر".



وسنرى عندما يبدأ القتال سيقاتل هذا الفاسق قتالاً شديدًا ضد المسلمين، وسيرمي الحجارة الكثيرة على الجيش المسلم.



فكانت هذه محاولة أخرى من قريش لتفتيت الجيش المسلم، ولكنها كسابقتها باءت بالفشل. والتقى الجيشان، وستبدأ بعد قليل معركة من أشرس وأعنف المعارك في تاريخ المسلمين، وكانت هذه الموقعة في أولها شديدة الشبه بموقعة بدر الكبرى التي مرت بنا، لكن -سبحان الله- بعض التغييرات البسيطة في الجيش المسلم أدت إلى نتائج عكسية هائلة.



د. راغب السرجاني

[1] رواه البخاري (2874) ترقيم البغا، وأبو داود (2662) ترقيم محيي الدين. وانظر: المباركفوري: الرحيق المختوم ص230.

[2] ابن هشام: السيرة النبوية، القسم الثاني (الجزء الثالث والرابع) ص66، 67.

[3] المباركفوري: الرحيق المختوم ص232.

[4] المباركفوري: الرحيق المختوم ص232.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 2 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:38 pm

مصيبة المسلمين يوم أحد


غنائم الكفار وأثرها على الرماة

هزيمة المسلمين يوم أحدفي هروب المشركين إلى مكة ألقوا وراءهم كل شيء، فألقوا الأمتعة والأثقال والأحمال، ألقى المشركون الدنيا ليتخففوا ويستطيعوا الهرب، والرماة من فوق الجبل رأوا الدنيا التي ألقاها المشركون خلفهم.



وقرر الرماة أن يتركوا مكانهم ليجمعوا دنيا المشركين، فكانت مخالفة صريحة واضحة لأوامر النبي .



وقد أَعْمت هذه الغنيمة أبصارهم عن تذكر ما قاله النبي ، لكن عبد الله بن جبير القائد ذكرهم بما قاله النبي وقال: "أَنَسيتم ما أمركم به رسول الله ؟!" فقالوا: "الغنيمة الغنيمة"[1].



فكانت مخالفة متعمدة لكلام النبي وللقائد المباشر، وتخلى أربعون رجلاً من الرماة عن مواقعهم بنسبة ثمانين في المائة، ونزل الرماة ليجمعوا الغنيمة مع المسلمين.


اقتناص الفرصة

ولفت هذا الموقف نظر القائد العسكري خالد بن الوليد، وقد حاول أن يخترق خالد جيش المسلمين من هذه الثغرة أكثر من مرة، ولكنه فشل في ذلك عندما التزم المسلمون بكلام النبي ، ولما خالف الرماة ورأى خالد تكالب المسلمين على الغنيمة وتَرْكهم الجبل؛ التفَّ هو بجيش المشركين حول الجبل ليخترق صفوف الجيش المسلم من خلفه، وحاول عبد الله بن جبير ومن تبقى معه من الرماة أن يبعدوا خالد بن الوليد ومن معه من الدخول خلف الجيش الإسلامي، لكنه فشل في ذلك، وخرج إليهم عبد الله بن جبير وحاول قتالهم، لكن صعد إليه على الجبل مجموعةٌ من الكافرين وأبادوهم، واستشهد عبد الله بن جبير ومن تبقى معه من المسلمين.



والتف خالد بن الوليد حول الجيش الإسلامي، وصاح صيحة أدرك منها المشركون الهاربون أن خالدًا التف حول الجيش الإسلامي، فعادوا للقتال، وحوصر المسلمون بين خالد بن الوليد من خلف الجيش والمشركين من أمام الجيش، ووُضِع المسلمون كما يقولون بين فكي كماشة، وأسرعت امرأة من المشركين واسمها عمرة بنت علقمة، ورفعت اللواء الساقط على الأرض من أول المعركة، واهتاج المشركون، وتحمسوا للقتال حماسًا كبيرًا وهم يحملون بين نفوسهم ذكريات بدر، وذكريات الهزيمة في بداية معركة أُحُد، وبدءوا بالضغط على المسلمين.


ثبات الرسول

وكان ينظم الصفوف في مؤخرة الجيش، لما التف خالد بن الوليد حول الجيش المسلم، فكانت أول فرقة قابلها خالد الفرقة التي فيها النبي . ولم يكن أمام، النبي إلا اختياران:



الاختيار الأول: إما أن يهرب بالفرقة التي معه إلى أيِّ مكان في أرض المعركة؛ ليستطيع المقاومة من جديد.



الاختيار الثاني: أن ينادي على الجيش ليجتمع من جديد، ويبدأ في المحاولة لاستعادة الموقف على أرض أُحُد، لكن مناداة النبي للمسلمين قد تلفت إليه نظر المشركين الذين هم في خلف الجيش الإسلامي، ولو سمعوا النبي لأحاطوا به وقتلوه.



لكن النبي في شجاعة معهودة منه اختار الحل الثاني، ونادى بأعلى صوته لاستعادة الموقف من جديد، فقال: "إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ، إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ، أَنَا رَسُولُ اللَّهِ".



وبدأ النبي يرفع صوته ليَسْمع المسلمون، وكان المسلمون في حالة اضطراب شديدة، والمشركون في حالة نشاط عجيب. وكان الموقف مأساويًّا للغاية، وسمع خالد صوت الرسول ، فحاصر النبي ، وقاتلت الفرقة التي مع النبي قتالاً شديدًا، وبدأ النبي يشجعهم ويقول: "مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ؟" أو: "مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَهُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ"[2].


ثبات الصحابة

فتقدم أحد الأنصار وقاتل قتالاً شديدًا حتى قُتل شهيدًا، فتقدم الثاني ثم الثالث ثم الرابع ثم الخامس ثم السادس حتى وصل الأمر إلى سابعهم وهو عمارة بن يزيد بن السكن، فقاتل قتالاً شديدًا عنيفًا حتى أصيب، وسقط على الأرض، واقترب من النبي حتى وضع وجهه على قدم النبي ، فاستشهد ووجهه ملتصق بقدم الحبيب ، وتأثر النبي بهذا الموقف وقال: "مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا"[3].



فأثار هذا الموقف طلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص فقاما فقاتلا قتالاً شديدًا، وماذا يفعل طلحة وسعد في مواجهة كتيبة من المشركين، وتقدم عتبة بن أبي وقاص -أخو سعد بن أبي وقاص- يقذف بالحجارة وجه رسول الله ، فتفجرت الدماء من وجه النبي ، وجاء عبد الله بن شهاب الزهري أحد المشركين وشجَّ النبي شجةً منكرة في رأسه، ثم جاء إليه رجل اسمه عبد الله بن قمئة وضرب الرسول في كتفه ضربة ظل يشتكي منها شهرًا كاملاً، ثم ضرب النبي في وجهه فدخلت حلقتان من المِغْفَر التي كان يلبسها النبي في وجنته، وهو يقول: "خذها وأنا ابن قمئة". فقال له النبي : "أَقْمَأَكَ اللَّهُ"، أي أهلكك الله. وقد وقع هذا الرجل من فوق جبل وقُتل بعد ذلك.



كان موقفًا متأزمًا، وكان يقول: "كَيْفَ يَفْلَحُ قَوْمٌ شَجُّوا رَأْسَ نَبِيِّهِمْ"[4]. فأنزل الله قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128].


سعد وطلحة في مواجهة المشركين

في هذا الوقت قام سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله بعمل لا يستطيع أن يقوم به إلا جيش كامل، فقد كان النبي محاصَرًا بفرقة من المشركين، ومع ذلك قام سيدنا سعد برمي المشركين بسهامه، وكان النبي معجبًا بأداء سعد، فقال له: "ارْمِ سَعْدٌ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي"[5]. وهو الوحيد الذي جمع له النبي أبويه، وكان يفتخر بها بعد ذلك، فكان يرمي رميًا عظيمًا في ذلك اليوم.



وحارب طلحة حربًا ضروسًا في هذا اليوم، قاتل من كل مكان حول النبي ، حتى وصلت الجروح التي بجسده إلى حوالي تسعة وثلاثين جرحًا، ورغم كل هذه الجروح ظل يقاتل .



وجاء سهم من بعيد كاد يصيب النبي ، فوضع يده أمام السهم فوقع السهم في يده، وأنقذ الرسول وشُلِّت يد طلحة من ذلك السهم.


بلاء المهاجرين والأنصار في الدفاع عن النبي

بعد هذا القتال الشرس حول النبي ، وصل بعض الصحابة إليه وكانوا قد رأوه محاصرًا، فكان موقفًا صعبًا على النبي ، وأول من عاد إلى النبي سيدنا أبو بكر الصديق ، ورأى رجلاً يقاتل حول النبي فقال الصِّدِّيق: "كن طلحة، فداك أبي وأمي". ثم وجده طلحة كما توقع أجمعين؛ لأنه كان يعلم أن طلحةَ فارسٌ مغوارٌ، وهو الذي يستطيع أن يقاتل ذلك القتال.



وبعد أن وصل أبو بكر، كان بعده سيدنا عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح، ووجد أبو بكر الصديق أن حلقات المِغْفَر في وجه النبي ، فذهب لينزعها، فقال له أبو عبيدة: "نشدتك بالله يا أبا بكر، نشدتك بالله يا أبا بكر إلا تركتني". وبدأ يجذب أبو عبيدة حلقات المغفر بأسنانه من وجه النبي بخفة شديدة؛ لئلا يؤذي النبي ، وبخروج حلقة المغفر الأولى سقطت سِنٌّ من أسنان أبي عبيدة بن الجراح، وتوجه أبو بكر إلى النبي لينزع الحلقة الأخرى، فقال له أبو عبيدة: "نشدتك بالله يا أبا بكر إلا تركتني". ولما جذب أبو عبيدة الحلقة الثانية سقطت سنٌّ أخرى من أسنانه[6]، وعن الصحابة أجمعين.



ولما رأى النبي طلحة يقاتل رغم كثرة الجراح التي ألمت به، قال : "دُونَكُمْ أَخَاكُمْ، فَقَدْ أَوْجَبَ"[7]. وسقط سيدنا طلحة من الإصابات الكثيرة التي ألمت به.



وبدأ الصحابة في الدفاع عن النبي ، وجاءت مجموعة أخرى من الصحابة، جاء أبو دجانة، ومالك بن سنان -وهو والد أبو سعيد الخدري - وحاطب بن أبي بلتعة، وجاءت أم عمارة إحدى النساء تقاتل حول الرسول ، وكان أبو طلحة الأنصاري يضع نفسه أمام الرسول ليحميه من سهام المشركين، وكان الرسول إذا أراد أن يرمي بسهم أشرف فوق رأس أبي طلحة، فكان يقول له: "بأبي أنت وأمي، لا تشرف يا رسول الله؛ فيصيبك سهمٌ من سهام القوم، نَحْرِي دون نَحْرِك"[8].



وكانت أم عمارة تقاتل عن يمين النبي وعن شماله، وكان يقول: "مَا نَظَرْتُ يَمِينِي وَلاَ يَسَارِي وَلاَ أَمَامِي وَلاَ خَلْفِي إِلاَّ وَجَدْتُ أُمَّ عِمَارَةَ تُقَاتِلُ عَنِّي بِسَيْفِهَا".



نظر إليها النبي نظرة المعجب من قتال هذه المرأة، وهي الضعيفة التي لم تكلف بالقتال بالسيف في هذه المعركة التي فرَّ منها بعض الرجال، لكنه نظر إليها وهو يبتسم، فشاهدته أم عمارة فقالت: "يا رسول الله، ادعُ الله أن نكون معك في الجنة". فقال: "أَنْتُمْ مَعِي فِي الْجَنَّةِ"[9].



وكانت تقاتل هي وزوجها وابنها حول النبي . وجاء حاطب بن أبي بلتعة وقتل عتبة بن أبي وقاص الذي كان يرضخ وجه النبي بالحجارة.



وقاتل عبد الرحمن بن عوف قتالاً شديدًا حتى تحطمت أسنانه، وأصيب إصابة بالغة في جسده، كانت سببًا في إصابته بالعرج الدائم بعد ذلك.



أبو دجانة فعل فعلاً غريبًا، فقد وقع الرسول في حفرة من الحفر التي حفرها المشركون ككمين للمسلمين، ورأى السهام تأتي إلى النبي من كل مكان، فألقى أبو دجانة بنفسه على النبي وسدَّ الحفرة بجسده ليتلقى السهام في ظهره[10].



الجميع من المهاجرين والأنصار أبلوا بلاءً حسنًا في هذه المعركة، ولم يدَّخِروا جهدًا في الدفاع عن النبي .



وتقدم مصعب بن عمير وهو يحمل راية المهاجرين، وقاتل حول النبي قتالاً شديدًا، فقطعت يمينه، فحمل الراية بشماله، فقطعت شماله، فبرك على الراية وهو قابض عليها بعضديه، وجاء المشركون من خلفه وقتلوه[11]، فسقط على الأرض وهو يقول: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144].


إشاعة مقتل النبي وأثرها على المسلمين

لما قتل مصعب بن عمير وكان شديد الشبه بالرسول ، ظن المشركون أنهم قتلوا النبي ، فقال ابن قمئة -الذي قتل مصعب بن عمير-: "قتلتُ محمدًا"[12].



وانتشر الخبر في أرض المعركة بكاملها عند المشركين وعند المسلمين، وكانت مأساة على المسلمين؛ فمقتل النبي أمرٌ لا يتخيله المسلمون، هم لا يستطيعون أن يعيشوا بدون النبي ، وكيف ينقطع الوحي ولم تتم الرسالة بعدُ؟ أسئلة كثيرة جالت في أذهان الناس، وأحبط كثير من المسلمين في أرض القتال، ووصل الإحباط بالبعض أن قعد عن الجهاد والقتال من حوله وهو لا يرفع سيفه ليدافع حتى عن نفسه، وهذا فَهْم مغلوط تمامًا؛ فالقتال ليس من أجل المسلمين، ولا من أجل النبي ، إنما القتال في سبيل الله ، والله حي لا يموت، فلماذا القعود والإحباط؟! فقضية القتال في سبيل من المفروض ألا تغيب عن ذهن المؤمن، وليكن كثابت بن الدَّحْدَاح -وكان مشاركًا في غزوة أُحُد- لما رأى اليأس والإحباط بلغ من المسلمين مبلغًا عظيمًا حتى أقعدهم عن الجهاد، فقال لهم في إيمان عميق وفَهْمٍ دقيق: "إن كان محمدٌ قد قُتل، فإن الله حي لا يموت"[13]. ثم قاتل حتى استشهد.



وقال ذلك أيضًا أنس بن النضر لما رأى المسلمين وهم جلوس في أرض القتال، وقد افتقدوا أيَّ روح للقتال وأي حمية للمقاومة، فقال لهم: "ماذا تنتظرون؟" قالوا: "قتل النبي ". فقال لهم في منتهى الشجاعة والقوة: "قوموا فموتوا على ما مات عليه؛ إن كان محمد قد قتل فإن الله حي لا يموت". ثم قال للمسلمين القاعدين عن القتال: "اللهم إني أعتذرُ إليك مما صنع هؤلاء (يعني المسلمين)، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء" يعني المشركين الذين ضربوا النبي أو قتلوه كما أشيع، ثم تقدم ليقاتل المشركين، فلقيه سعد بن معاذ، فقال له سعد: "أين يا أبا عمر؟" فقال أنس: "واهًا لريح الجنة يا سعد، إني أجدها دون أُحُد". فتقدم وقاتل المشركين قتالاً ضاريًا حتى قُتل شهيدًا ، وقد طُعن أكثر من ثمانين طعنةً في جسده، وما عرفته إلا أخته من علامة في بنانه[14].



واستمرت إشاعة مقتل النبي في أرض المعركة إلى أن اكتشف كعب بن مالك أن النبي حيًّا ولم يُقتل، فنادى في المسلمين: "يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله ". فأشار إليه النبي أن اصمت؛ لئلا يعرف موضعه المشركون، ومع ذلك فقد سمع ثلاثون من المسلمين كلام كعب بن مالك، ففاءوا إلى النبي وأحاطوا به، وقادهم النبي إلى الانسحاب المنظم في اتجاه الجبل، وينادي النبي على مجموعة أخرى من المسلمين: "إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ"[15].



وهناك مجموعة لم تقعد عن القتال في أرض المعركة وحسب، بل فعلت ما هو أشد وأنكى؛ فقد قررت الفرار من أرض المعركة، والفرار من الزحف كبيرة من الكبائر، فمنهم من فرَّ وهو يصعد إلى الجبل، والبعض فرَّ في طريقه إلى المدينة حتى وصل إلى المدينة المنورة في فراره، والرسول ينادي عليهم وهم يسمعون ولا يلبون. ولقد ذكر الله ذلك في كتابه فقال: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} [آل عمران: 153].



وبرغم ذلك استطاع النبي أن ينسحب إلى الجبل، هو ومن معه من المسلمين، وقد رآه أُبيّ بن خلف أحد كبار المشركين وهو يصعد فوق الجبل، فجاء من بعيد وهو يقول: "لا نجوت إن نجا". فقال أحد المسلمين: "أيعطف عليه أحدٌ منا فيقتله؟" فقال النبي : "دَعُوهُ". ولما دنا من النبي ، تناول حربته وضربه ضربة قد خدشت فيه خدشًا بسيطًا جدًّا، وصرخ أُبيّ بن خلف وصرع على الأرض، وقام وظل يجري وهو يقول: "قتلني والله محمد". واستعجب المشركون، وقالوا: "ذهب والله فؤادُك، والله إنْ[16] بك من بأس". فهو خدش بسيط، فقال: "إنه قد قال لي بمكة: أنا أقتلك؛ فوالله لو بصق عليَّ لقتلني"[17].



وكانت هذه الكلمات تعبر عن اقتناع المشركين جميعًا بأن كلام النبي حق، وأن ما بُعث به الصدق، وأنهم كانوا يكذِّبون -لعنهم الله- من أجل مصالحهم وأهوائهم.



وكما تنبأ النبي ، وكما أخبر قبل ذلك بالوحي، مات عدو الله أبيّ بن خلف والمشركون قافلون إلى مكة من جرَّاء الخدش البسيط الذي أصابه من رسول الله .


انسحاب الجيش الإسلامي إلى الجبل

وبدأ الصعود إلى جبل أُحُد، وكان قد أصيب بإصابات كثيرة حالت بينه وبين صعود الجبل، واعترضته صخرة كبيرة لم يستطع تسلقها، فجاء طلحة بن عبيد الله رغم الإصابات التي في جسده، فقد أصيب بتسع وثلاثين إصابة إلا أنه جلس ليصعد النبي على ظهره، فقال : "أَوْجَبَ طَلْحَةُ"[18].



قد فعل ما يجب أن يفعل، وكان من العشرة المبشرين بالجنة، وكان إذا ذُكر أمام أبي بكر يومُ أُحد قال: "هذا اليوم كان كله لطلحة"[19]. رضوان الله عليهم أجمعين.



وبدأ النبي يصعد الجبل هو ومن معه، ورآه خالد بن الوليد ورآه أبو سفيان فقدِما لمنع المسلمين من صعود الجبل وإكمال القتال، فقال : "اللَّهُمَّ إِنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَعْلُونَا"[20].



وانتدب فرقة ممن معه على رأسهم عمر بن الخطاب لردِّ المشركين عن صعود الجبل، فقاتلوا قتالاً شديدًا، واستطاعوا أن يردوا المشركين بالفعل عن صعود الجبل. واستطاع النبي أن يصعد إلى الجبل هو ومن معه من المسلمين، واختفى المسلمون في داخل الجبل.


التمثيل بالشهداء الكرام

أما المشركون فالتفتوا إلى جثث المسلمين الملقاة على أرض أُحُد، وكانوا سبعين شهيدًا، ومثَّلوا بجثث المسلمين، وبدأت النساء في تقطيع آذان المسلمين وأنوفهم، وصنعوا منها خلاخيل وقلائد ليلبسوها، وذهبت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان -وكانت من أشد الكفار ضراوة على المسلمين، ومن أشد مَن حمِّسْنَ الكفار في الحرب ضد المسلمين- إلى حمزة عم النبي ، وشقت بطنه وأخرجت قطعة من كبده، وحاولت أن تأكلها ولم تستطع فلفظتها من فمها[21]. وهذه الفعلة تعبر عن مدى الغل والحقد الذي كان في قلوب المشركين، وكانت هند موتورة؛ فقد قتل في غزوة بدر أربعة من أقاربها: قُتل أبوها عتبة بن أبي ربيعة، وعمها شيبة بن أبي ربيعة، وأخوها الوليد بن عتبة، وابنها حنظلة بن أبي سفيان. وكان حمزة ممن شارك في قتل أقاربها، فقد قتل الوليد بن عتبة، وقتل شيبة بن ربيعة. وكان هذا الموقف في أرض القتال بعد صعود النبي إلى الجبل.



وبعد صعوده ما زالت الدماء تتفجر من رأسه، وحاول الصحابة أن يمنعوا سيلان الدماء، وصبوا على رأسه الماء، وكان لا يزيدها إلا نزيفًا، وكانت السيدة فاطمة بنت النبي في غزوة أُحُد، فأتت بحصير وأحرقتها ودفعتها في رأس النبي حتى توقف النزيف.



وكان المسلمون يقاتلون من الصباح إلى الظهيرة، وجاء وقت صلاة الظهر، فجُمع المسلمون للصلاة ولم يستطع أن يقف من شدة الإصابات، فصلى قاعدًا وصلى المسلمون قعودًا بقعوده .



وإلى هذه المرحلة والمشركون يعتقدون أن النبي قد قُتل، وبعض المسلمين مع النبي ، وبعض المسلمين شهداء في أرض المعركة، والبعض فرَّ إلى الجبل في أماكن مختلفة، وبعض المسلمين فر إلى المدينة، وكان المسلمون يعيشون مأساةً حقيقية.



د. راغب السرجاني

[1] المباركفوري: الرحيق المختوم ص237.

[2] المباركفوري: الرحيق المختوم ص239.

[3] رواه مسلم (1789)، وأحمد (4414).

[4] المباركفوري: الرحيق المختوم ص240.

[5] رواه البخاري (3833)، ومسلم (2411)، والترمذي (2829)، وابن ماجه (129)، وأحمد (709).

[6] المباركفوري: الرحيق المختوم ص242.

[7] السابق نفسه، الصفحة نفسها.

[8] ابن كثير: السيرة النبوية 3/53.

[9] الواقدي: المغازي 1/272، 273.

[10] المباركفوري: الرحيق المختوم ص242، 243.

[11] المباركفوري: الرحيق المختوم ص244.

[12] ابن هشام: السيرة النبوية، القسم الثاني (الجزء الثالث والرابع) ص73.

[13] الواقدي: المغازي، تحقيق مارسدن جونس، عالم الكتب، بيروت، 1/281.

[14] المباركفوري: الرحيق المختوم ص238، 239.

[15] السابق نفسه ص244.

[16] هي "إن" النافية، أي: ما بك من بأس.

[17] ابن هشام: السيرة النبوية، القسم الثاني (الجزء الثالث والرابع) ص84.

[18] رواه الترمذي (1692، 3738)، وأحمد (1417). قال الشيخ الألباني: حسن. انظر حديث رقم (2540) في صحيح الجامع.

[19] ابن كثير: السيرة النبوية 3/58.

[20] رواه أحمد (2609)، وحسنه شعيب الأرناءوط. وانظر: ابن هشام: السيرة النبوية، القسم الثاني (الجزء الثالث والرابع) ص86.

[21] ابن هشام: السيرة النبوية، القسم الثاني (الجزء الثالث والرابع) ص91.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 2 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:38 pm

نهاية يوم أحد


شماتة المشركين في المسلمين

غزوة أحدو جاء أبو سفيان ليشمت في المسلمين، وقد عرف أن هناك مجموعة من المسلمين قد هربت في الجبل، فجاء هو ومن معه من المشركين ليخاطب رسول الله إن كان حيًّا أو ليطمئن هل قتل أم لا؟ فنادى أبو سفيان وقال: "أفيكم محمد؟" فأشار النبي إلى أصحابه لا تجيبوه لئلا يعرف مكانهم. فقال: "أفيكم ابن أبي قحافة؟" فأشار النبي لا تجيبوه، فلم يجبه أحد. فقال: "أفيكم عمر بن الخطاب؟" فهو يعرف أهم الشخصيات بين المسلمين، ومن هو الوزير الأول، ومن هو الوزير الثاني، فأشار النبي لا تجيبوه، فسَعِد أبو سفيان وقال: "أما هؤلاء الثلاثة فقد كفيتموهم، ولو كانوا أحياءً لأجابوا".



فلم يملك عمر بن الخطاب نفسه، وقام فقال: "أيْ عدو الله، إن الذين ذكرت هم أحياء، وقد أبقى الله ما يسوءُك". وكانت نفس أبي سفيان قد مُلئت غيظًا، وأراد أن يغيظ المسلمين فقال: "قد كانت فيكم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني". ثم قال: "اُعْلُ هُبَلْ". وسكت الصحابة، فقال النبي : "أَلاَ تُجِيبُونَه؟"



فقالوا: "ما نقول؟"



فقال: "قُولُوا: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ".



فقال الصحابة: "الله أعلى وأجل".



فقال أبو سفيان: "لنا العزى ولا عزَّى لكم".



فقال النبي: "أَلاَ تُجِيبُونَهُ؟" فقالوا: ما نقول يا رسول الله؟ فقال: "قُولُوا: اللَّهُ مَوْلاَنَا وَلاَ مَوْلَى لَكُمْ".



فقال أبو سفيان: "يوم بيوم بدر، والحرب سجال".



فأجاب عمر : "لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار". وفي روايةٍ أن الذي قال هذا الكلام هو النبي .



فقال أبو سفيان: "هلُمَّ إليَّ يا عمر". فقال له النبي : "ائْتِهِ، فَانْظُرْ مَا شَأْنُهُ؟"



فقال له أبو سفيان: "أنشدك الله يا عمر، أقتلنا محمدًا؟" فقال عمر: "اللهم لا، وإنه ليسمع كلامك الآن".



فقال أبو سفيان كلامًا يدل على احترام المشركين للمسلمين، قال: "أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبرُّ"[1].



وهذا الأمر عند كل المشركين، فهم يحاربون المسلمين لكن في أعماق نفوسهم يكنون الاحترام لكل المسلمين؛ لقيمتهم ولدفاعهم عن مبادئهم ولتضحيتهم في سبيل دينهم وفي سبيل فكرتهم؛ فأبو سفيان يصدق عمر عدوه في هذه اللحظة، ولا يصدق ابن قمئة أحد جنوده. وانسحب أبو سفيان ولم يفكر في صعود الجبل مرة أخرى، واكتفى بما فعل وعاد بالمشركين تجاه مكة، وانتهت معركة أُحُد بذلك.


شهداء المسلمين في غزوة أحد

نزل النبي من فوق الجبل ليتفقد الشهداء وكان موقفًا مريعًا؛ فسبعون من أفاضل المسلمين على أرض المعركة، وكان فيهم حمزة بن عبد المطلب، وعمرو بن الجموح، وعبد الله بن حرام، ومصعب بن عمير، وعبد الله بن جحش، وحنظلة بن أبي عامر، وخيثمة؛ كثير من المسلمين سقطوا شهداء في يوم أُحُد. ونظر النبي إلى الشهداء وقال: "اللَّهُمَّ إِنِّي شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلاَءِ، إِنَّهُ مَا مِنْ جَرِيحٍ يُجْرَحُ فِي اللَّهِ إِلاَّ وَيَبْعَثُهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدْمَى جُرْحُهُ، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ"[2].



وكان بعض الصحابة قد أخذوا بعض الشهداء ليدفنوهم في المدينة، فأمر النبي بردهم ليدفنوا في أرض أُحُد، وألا يغسلوا وألا يكفنوا، بل يدفنوا في ثيابهم بعد أن تنزع الدروع والجلود من على أجسادهم، وكان يدفن الاثنين والثلاثة في القبر الواحد، ويجمع بين الرجلين أحيانًا في ثوب واحد ويقول: "أَيُّهُمَا أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟" فيدفنه أولاً، وقال: "أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلاَءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". قالها مرة ثانية وقالها مرارًا في ذلك اليوم. وكان إذا علم أن بين اثنين محبة كبيرة دفنهما معًا، فقد دفن عبد الله بن عمرو بن حرام مع عمرو بن الجموح[3]، رضي الله عنهما وعن الصحابة أجمعين.



ولما رأى ما فُعِل بحمزة اشتد حزنه ، وبكى بكاءً شديدًا، وانتحب حتى نَشَع[4] من البكاء .



ويقول ابن مسعود : "ما رأينا النبي باكيًا قَطُّ أشد من بكائه على حمزة بن عبد المطلب".



بل وضعه النبي في القبلة، وصلى عليه مع كل شهيد، رضي الله عنهم أجمعين وأرضاهم.



وكان مصعب بن عمير ممن قتل شهيدًا في هذه المعركة، وكفن في ثياب بسيطة جدًّا، كما يقول عبد الرحمن بن عوف: "قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، وكُفِّن في بردة إن غُطِّي رأسه بدت رجلاه، وإن غطِّي رجلاه بدا رأسه". وذكروا ذلك للرسول ، فقال رسول الله : "غَطُّوا بِهَا رَأْسَهُ، وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ مِنَ الإِذْخَرِ"[5]. كان هذا هو الحال مع الشهداء، وكان موقفًا مؤلمًا.


شكر النبي لله

ورغم ما ألم بالمسلمين جمع النبي من معه وقال: "اسْتَوُوا حَتَّى أُثْنِي عَلَى رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ". ففي كل مواقفه حمدٌ لله ، ولا بد أن هناك خيرًا ما وراء هذه المصيبة، فصار المسلمون خلفه صفوفًا، فوقف يدعو والمسلمون يؤمِّنون على دعائه:



"اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، اللَّهُمَّ لاَ قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ، وَلاَ بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ، وَلاَ هَادِيَ لِمَنْ أَضْلَلْتَ، وَلاَ مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ، وَلاَ مُبْعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ، اللَّهُمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ وَرِزْقِكَ.



اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الَّذِي لاَ يَحُولُ وَلاَ يَزُولُ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَوْنَ يَوْمَ الْعِيلَةِ وَالأَمْنَ يَوْمَ الْخَوْفِ. اللَّهُمَّ إِنِّي عَائِذٌ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا، وَشَرِّ مَا مَنَعْتَنَا. اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ. اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ، غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ مَفْتُونِينَ.



اللَّهُمَّ قَاتِلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ. اللَّهُمَّ قَاتِلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، إِلَهَ الْحَقِّ"[6].



دعاء فيه الشكر الدائم لله في كل الظروف، حتى ولو كان بعد مصيبة أُحُد. هذا الدعاء فيه إعلان أن كل شيء بين يدي الله .



إن الله قادر على منع الهزيمة، لكنه أوقع المصيبة لحكم كثيرة يعلمها، قال I: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ} [آل عمران: 166].



هذا الدعاء فيه معنى تعظيم الآخرة، وخاصةً في هذا الموقف؛ ليعلم الصحابة أن الجزاء الأوفى يوم القيامة، وذلك عندما قال : "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الَّذِي لاَ يَحُولُ وَلاَ يَزُولُ". حتى ولو ضاعت كل الدنيا، وأخذنا الجنة فنحن الفائزون.



دعاء فيه وضوح الرؤية، حرب كل من صد عن سبيل الله، يدعو الله أن يمكِّنهم من حرب كل من صد عن سبيله، سواءٌ أكان من المشركين الكفرة أو من كفرة أهل الكتاب الذين قاتلوا المسلمين، فكان دعاءً جامعًا وشاملاً يعبِّر عن فهم دقيق للنبي .


رجوع النبي إلى المدينة

رجع النبي إلى المدينة المنورة واستُقْبل في حزن شديد جدًّا، فكل بيت تقريبًا فيه شهيد، وقابلته في الطريق حَمْنَة بنت جحش رضي الله عنها، ونَعَى إليها أخاها عبد الله بن جحش، فاسترجعت واستغفرت له الله ، ثم نعى لها خالها حمزة بن عبد المطلب فاسترجعت واستغفرت له الله ، ثم نعى لها زوجها مصعب بن عمير، فصاحت وولولت، فقال : "إِنَّ زَوْجَ الْمَرْأَةِ مِنْهَا لَبِمَكَانٍ".



ومرت به امرأة من بني دينار، وهذه المرأة أصيب زوجها وأخوها وأبوها في أُحُد نُعوا إليها جميعًا، فقالت: "ما فعل رسول الله ؟" فقالوا: "خيرًا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين". قالت: "أرونيه حتى أنظر إليه". فأشاروا إليه، فقالت: "كل مصيبة بعدك جَلَلٌ"[7]، أي صغيرة. فكانت مشاعر الحب للنبي كبيرة رغم المصاب الفادح الذي أصيب به الجميع.



د. راغب السرجاني

[1] ابن هشام: السيرة النبوية، القسم الثاني (الجزء الثالث والرابع) ص93، 94.

[2] ابن هشام: السيرة النبوية، القسم الثاني (الجزء الثالث والرابع) ص98.

[3] السابق نفسه، الصفحة نفسها.

[4] النشع: الشهيق.

[5] المباركفوري: الرحيق المختوم ص251.

[6] ابن كثير: السيرة النبوية 3/77.

[7] ابن كثير: السيرة النبوية 3/93.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 2 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:39 pm

هل ما حدث يوم أحد هزيمة بالمعنى العسكري؟


الاسم الصحيح لما حدث

هزيمة أحدولا بد من وقفة مع غزوة أُحُد، وماذا نسميها؟ هل نسميها هزيمة أم نكسة؟

بالنظر إلى غزوة أُحُد من بدايتها نجد أن كلمة هزيمة لا تنطبق انطباقًا كاملاً على وصف غزوة أُحُد، فالجيش المكي لم يحتل مواقع الجيش المسلم، والجيش المسلم الأساسي لم يفر مع شدة الارتباك، ومع أن بعض المسلمين فروا من أرض المعركة إلا أن مجموعة كبيرة بقيت في أرض المعركة، منهم من قاتل حول النبي حتى النهاية، ومنهم من قاتل حتى نال الشهادة.



ولم يفكر الجيش المكي أن يطارد المسلمين مع علمه أن النبي حيٌّ من حديثهم مع عمر بن الخطاب ، ولم يصعد إلى الجبل مرة ثانية برغم قلة الصحابة الذين مع النبي ، ولم يقع أسير واحد من المسلمين في أيدي الكفار رغم ما أصاب المسلمين، والمسلمون في غزوة بدر كانوا قد أسروا سبعين من المشركين. لم تكن هناك غنائم من المسلمين في أيدي الكفار، ولم يقم الجيش المكي يومًا أو يومين أو ثلاثة كعادة الجيوش المنتصرة في ذلك الوقت، فعادة العرب أن الجيش المنتصر يقيم في أرض المعركة أيامًا؛ ليعلموا أنهم لا يهابون الجيش الآخر، فالرسول أقام في بدر ثلاثة أيام، وكان يقيم في كل الغزوات ثلاثة أيام، وأحيانًا كان يقيم شهرًا كاملاً في أرض القتال، ولم يفكر المشركون في غزو المدينة المنورة مع أن المدينة خالية من أيِّ جيش.



فكل هذه الأشياء وغيرها تنفي إطلاق لقب هزيمة على هذه الغزوة، ولكن نسمِّيها كما سماها الله في كتابه مصيبة، قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165]. وقال سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ التَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 166].


المصيبة الأولى

ليست المصيبة في استشهاد سبعين من الصحابة فهؤلاء من أكرم الخلق على الله ، وقد نالوا الدرجات العالية، هؤلاء اصطفاهم رب العالمين، يقول الله تعليقًا على غزوة أُحُد: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران: 140].



إن المصيبة تكمن في اضطراب بعض المفاهيم عند المسلمين، حتى ولو كان الاضطراب لحظة واحدة.

اضطرب المسلمون لحظة واحدة لما تغلغلت الدنيا في نفوسهم فانقلبت الآية؛ فبعد أن كانوا يقاتلون في سبيل الله ومن أجل الجنة، أصبح فريق منهم يقاتلون من أجل الدنيا. وقد وصل هذا التغلغل في القلب إلى درجة أن يخالفوا كلام النبي مخالفة صريحة متعمدة، وكان كلام النبي للرماة ولعبد الله بن جبير في غاية الوضوح، وأكَّد عليهم مرارًا وتكرارًا.



وأثناء القتال يلتف خالد بن الوليد حول الجيش ثلاث مرات، واستطاعت فرقة الرماة أن يصدوا خالد بن الوليد، وعرفوا خطر مكانهم وأهمية دورهم في صدِّ المشركين؛ فالرسول وجه إليهم ستة توجيهات، ووجه إليهم خالد بن الوليد ثلاثة توجيهات لما التف حول الجبل يريد اختراق جيش المسلمين؛ ليعرفوا مدى أهمية دورهم في المعركة، ووجه إليهم عبد الله بن جبير التوجيه العاشر لما نزلوا وقالوا: "الغنيمة الغنيمة". فقال لهم: "أنسيتم ما قال لكم رسول الله ؟!"[1] ومع ذلك لم يستمعوا له.



وكل ذلك يثبت أن المخالفة كانت صريحة ومتعمدة، وكل ذلك من أجل الدنيا. الرسول كان يقول لأصحابه: "فَوَاللَّهِ لاَ الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا"[2].



وقد وصف الله ذلك في كتابه تعليقًا على أُحُد: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152].



فكان المسلمون فريقين: فريق أراد الآخرة كأنس بن النضر، وثابت بن الدحداح، وأبي طلحة وغيرهم ممن أرادوا الآخرة، وقاتلوا حتى النهاية؛ منهم من قاتل واستشهد وثبت على شهادته، ومنهم من قاتل حول الرسول ليحميه، ما نكصوا على أعقابهم وما فروا.



وفريق قليل من الجيش تغلغلت الدنيا في قلوبهم، وثبت الباقون، ومع ذلك فمن غير المقبول أن يصل حب الدنيا بفريق من الجيش المسلم إلى درجة أن يدفعه إلى المخالفة.



وفي موقعة بدر حدثت مخالفة من أجل الدنيا، قال الله في صدر سورة الأنفال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1].



لكن لما ذكرهم النبي استجاب الجميع لأوامر الله ، ووزع النبي الغنائم كما أراد الله ، وكما شرع الله .

وفي غزوة أُحُد كانت المخالفة متعمدة بعد تأكيد النبي ، فلا بد لهذه المخالفة من مصيبة، ولو كان الجيشُ جيشَ رسول الله كانت مصيبة حقيقية أن تدخل الدنيا إلى قلوب الصحابة إلى هذه الدرجة.



يقول عبد الله بن مسعود : "ما كنت أحسب أن أحدًا من أصحاب النبي يريد الدنيا حتى نزل فينا ما نزل: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران: 152].


لماذا عمت المصيبة كل الجيش ولم تعم أصحاب المخالفة فقط؟

لأن هذا المرض فيهم منذ زمن، وأمر الدنيا قد تغلغل في قلوب البعض قبل ذلك، وهذا هو دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ كان من الواجب أن يفتشوا عن إيمان الآخرين وطاعة الآخرين وعبادة الآخرين والتزام الآخرين بمنهج رب العالمين I، لكن أن تسأل الإنسان عن دنياه ولا تسأله عن آخرته، فهذا أمر خطير يؤثر تدريجيًّا حتى تأتي مصيبة كبيرة فتعم المسلمين جميعًا. وهذا ما أصاب المسلمين في غزوة أُحُد، فكانت مصيبة كبيرة، مصيبة تَمَكُّن الدنيا في القلب إلى درجة أن تدفع المسلم إلى المخالفة الصريحة المتعمدة لكلام الحبيب .


المصيبة الثانية

والمصيبة الثانية في غزوة أُحُد قَتْل سبعين من المسلمين بسبب خطأ من الأخطاء؛ إن استشهاد سبعين من المسلمين هذا ليس عيبًا ولكن هو اصطفاء من الله لهم، أما أن يستشهدوا بسبب خطأ من المسلمين، فهذا غير مقبول.

إن قتلوا بعد أن قضوا ما عليهم وحاربوا كحرب بدر وقد أخذوا بكل أسباب النصر متصفين بصفات الجيش المنصور، يكون استشهادهم نعمة من الله I، أما أن يقتلوا بسبب خطأ فهذا يحتاج إلى وقفة.


المصيبة الثالثة

والمصيبة الثالثة هي قعود المسلمين عن القتال إحباطًا، فالإحباط غير مقبول في عرف المسلمين، فالإحباط من شيم الكافرين، قال تعالى في كتابه الكريم: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} [الحجر: 56]. وقال: {إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].

هذه ليست من صفات المؤمنين، أن يقعد المسلم ويفتر ويكسل عن القتال في أرض القتال، هذا غير مقبول حتى مع إشاعة أن النبي قد قُتِل، فهذا الأمر غير مقبول.


المصيبة الرابعة

والمصيبة الرابعة والخطيرة أن المسلمين سمعوا نداء النبي : "إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ، إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ". ومع ذلك أصروا على الفرار، وهذه ليست مصيبة فحسب، بل كبيرة من الكبائر وهي التولي يوم الزحف.


والخلاصة

كل هذه الكلمات تجمعها كلمة واحدة وهي مصيبة، وهذه المصيبة في الأساس جاءت من ذنب واحد، جاءت من غياب عنصر واحد من عناصر قيام الأمة المسلمة، جاءت من غياب صفة واحدة من صفات الجيش المنتصر، وهي صفة الزهد في الدنيا، وتقديم الاستشهاد على الدنيا، فلما حدث حب الدنيا ألقى الله في قلوب المسلمين الوهن والضعف.



وتذكروا حديث النبي لما سأله الصحابة عن الوَهْنِ الذي سيصيب المسلمين فينهزموا بسببه، فقال: "حب الدنيا وكراهية الموت"[3].



دخل الوهن في قلوب المسلمين إلى درجة أنهم لم يستطيعوا أن يُسقِطوا لواء المشركين وقد حملته امرأة، ولما كانوا أقوياء أسقطوا اللواء بعد أن تعاقب على حمله أكثر من عشرة رجال من بني عبد الدار الذين قُتلوا جميعًا، وما استطاع المشركون أن يحملوا اللواء مرة أخرى. ولما دخل الوهن قلوب المسلمين رفع لواء المشركين امرأة ولم يستطيعوا إسقاطه!!



فهذه موازنات لا بد من التفكير فيها، فالنصر من عند الله والتمكين بيد الله I، ولا يُنزِل الله النصر والتمكين إلا لمن أخذ بأسباب النصر كاملة، واتصف بصفات الجيش المنصور كاملة دون نقص.



ومع ذلك لم تكن هذه المصيبة شرًّا محضًا بل كان في داخلها الخير الكثير، مع كل هذه الكوارث التي حدثت في ذلك اليوم؛ فمع فَقْد سبعين من أعظم صحابة النبي ، ومع تغلغل هذه المصيبة في نفوس المسلمين وشعورهم بالخزي والذل والعار والهوان؛ لفرارهم من أرض القتال إلا أنه كان في داخلها خير كثير.

ما هذا الخير الكامن في بطن غزوة أُحُد؟ ما الطريقة التي اتبعها النبي في إخراج المسلمين من هزيمتهم النفسية؟ ما المنهج الرباني الحكيم الذي نزل ليعالج كل صغيرة من صغائر الذنوب أو كبائرها في قلوب الصحابة ؟



كيف عاد المسلمون من جديد لمطاردة المشركين؟ كيف عادت الهيبة من جديد للدولة الإسلامية بعد هذه المصيبة الكبيرة؛ مصيبة أُحُد؟



د. راغب السرجاني

[1] المباركفوري: الرحيق المختوم ص237.

[2] رواه البخاري (2988، 6061)، ومسلم (2961)، والترمذي (2462)، وابن ماجه (3997)، وأحمد (17273).

[3] رواه أبو داود (4297)، وأحمد (22450)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (958).
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 2 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:40 pm

نماذج من شهداء أحد



نماذج عطرة

غزوة أحدشهداء أحد هم رجال رباهم النبي ، فباعوا الدنيا، واشتروا الآخرة بأغلى الأثمان؛ لقد اشتروا الآخرة بدمائهم وأرواحهم، وقدموها لله ، إنهم القدوة لمن جاء بعدهم، ولمن أحب أن يصدق فيه قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69].



وعند الكلام عن شهداء أُحد فلا بد أن نبدأ بسيِّد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، كما قال رسول الله : "سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ"[1].


حمزة بن عبد المطلب

أسلم في العام السادس من النبوة، وكان قبل الإسلام يعيش حياة لهو ولعب وعبادة للأصنام، ويذهب للصيد، حياة لا قيمة لها، أما بعد الإسلام فقد انتقل من كونه سيِّدًا في قبيلته الصغيرة إلى كونه سيدًا لشهداء الأرض كلها إلى يوم القيامة، وكانت له مواقف تميزه سواء في مكة أو في شِعْب بني هاشم.



وفي غزوة بدر قال المشركون: مَن هذا الملثم الذي على صدره ريشة النعام؟ فقالوا: حمزة. فقالوا: هذا الذي فعل بنا الأفاعيل[2]. وقد أنفق كثيرًا، وضحى كثيرًا، وبذل كثيرًا، حتى وصل إلى مرتبة الشهادة في سبيل الله؛ لقد طلب الشهادة بصدق فنالها، فإن تصدق الله يصدقك.


مصعب بن عمير

لقد سلك طريقًا طويلاً حتى وصل إلى درجة الشهادة في سبيل الله، فقد أسلم قديمًا وجاهد في سبيل الله في مكة، وفي الحبشة، وفي المدينة، وفي بدر وأُحُد، فلقي ربه شهيدًا، وصدق فيه قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23].



وقد أورد الإمام القرطبي في تفسيره عن أبي هريرة أن رسول الله حين انصرف من أُحد مرَّ على مصعب بن عمير وهو مقتول، فوقف عليه ودعا له، ثم تلا هذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23].



ثم قال رسول الله : "أَشْهَدُ أَنَّ هَؤُلاَءِ شُهَدَاءُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأْتُوهُمْ وَزُورُوهُمْ، والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلاَّ رَدُّوا عَلَيْهِ"[3].



فزيارة شهداء أُحد سُنَّة شرعها لنا رسول الله ، وكان يحرص على زيارتهم، والدعاء لهم.


سعد بن الربيع

لما قدم النبي المدينة مع أصحابه وآخى بين المهاجرين والأنصار، آخى بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع الأنصاري، فعرض سعد بن الربيع على عبد الرحمن أن يناصفه ماله، وقال له: "انظر أيّ زوجتيَّ شئتَ، أنزل لك عنها". فقال عبد الرحمن: "بارك الله لك في أهلك ومالك". ويحضر معركة أُحد ويقاتل قتالاً عظيمًا، ويقدِّم حياته لله .



بعد انتهاء معركة أُحد قال رسول الله : "مَنْ رَجُلٍ يَنْظُرُ لِي مَا فَعَلَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ -وَسَعْدُ أَخُو بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ- أَفِي الأَحْيَاءِ هُوَ أَمْ فِي الأَمْوَاتِ؟" فقال رجل من الأنصار: "أنا أنظر لك يا رسول الله ما فعل". فنظر فوجده جريحًا في القتلى به رمقٌ، فقلتُ له: "إن رسول الله أمرني أن أنظر له: أفي الأحياء أنتَ أم في الأموات؟" قال: "فأنا في الأموات، أبلغ رسول الله عني السلام وقل له: إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله خير ما جُزِي نبيًّا عن أمته، وأبلغ عني قومك السلام، وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم إنه لا عذر لكم عند الله إن خُلِصَ إلى نبيكم وفيكم عين تطرف"، ثم لم أبرح حتى مات[4].



فسعد بن الربيع إلى اللحظة الأخيرة وهو إيجابي يحفِّز المسلمين على الجهاد، ويقول لهم: "لا عذر لكم إن خُلص إلى رسول الله، وفيكم عين تطرف".


عبد الله بن حرام

قال عبد الله بن حرام : "رأيتُ في النوم قبل أُحد كأني رأيت مبشر بن عبد المنذر -وهو من شهداء بدر- يقول لي: أنت قادم علينا في هذه الأيام. فقلت: وأين أنت؟ قال: في الجنة نسرح فيها كيف نشاء. قلت له: ألم تقتل يوم بدر؟ قال: بلى، ثم أحييت". فذكر ذلك لرسول الله ، فقال رسول الله : "هذه الشهادة يا أبا جابر".



حضر أبو جابر المعركة، ولقي ربه شهيدًا، ويقال إنه أول من قتل يوم أُحد. وقد ذهب إلى عبد الله بن أُبي بن سلول يعاتبه على انسحابه من أرض المعركة في هذا الوقت العصيب، ويرجوه أن يثبت للقتال، ولما رأى إصراره على الرجوع قال له: "قبحك الله! سوف يغني رسول الله عنك". وقاتل في المعركة قتالاً مجيدًا.



وروى ابن ماجه أنه لما استشهد يوم أحد جاء ابنه جابر بن عبد الله وهو متأثر بموت أبيه، فيكشف عن وجهه ثم يضع الغطاء، ثم يعيده ثم يضعه ثانية، والصحابة ينهونه والرسول لا ينهاه؛ لأنه يقدِّر موقف الصحابي الجليل من فَقْدِ أبيه، فقال له رسول الله : "يَا جَابِرُ، أَلاَ أُخْبِرُكَ مَا قَالَ اللَّهُ لأَبِيكَ؟" وقال يحيى في حديثه: فقال: "يَا جَابِرُ، مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟ قال: قلت: يا رسول الله، استشهد أبي وترك عيالاً ودينًا. قال: "أَفَلاَ أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ؟" قال: بلى يا رسول الله. قال: "مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلاَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَكَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا، فَقَالَ: يَا عَبْدِي، تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ. قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي، فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً. فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: إِنَّهُ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لاَ يَرْجِعُونَ. قَالَ: يَا رَبِّ، فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي. قال: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]"[5].



فهو حريصٌ -حتى بعد موته - على المسلمين، وعلى أن ينال درجة الشهادة في سبيل الله مرات ومرات؛ لأنها منزلة لا تدانيها منزلة.


خيثمة أبو سعد

في غزوة بدر استهم خيثمة مع ابنه سعد وقد استشهد سعد يوم بدر، وفي غزوة أُحد يقول خيثمة: "وقد رأيت ابني أمس على أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها، ويقول لي: الْحَق بنا". وقد أصبحت مشتاقًا إلى مرافقته في الجنة، فادعُ الله لي يا رسول الله أن أرافقه في الجنة، وقد كبرت سني ورقَّ عظمي[6]. فدعا رسول الله له، فنال الشهادة في سبيل الله. لقد صدق الله في طلب الشهادة، فكتبها الله له.


عمرو بن الجموح

كان عمرو بن الجموح أعرج شديد العرج، وكان كبير السن، وكان له أربعة بنين شباب يغزون مع رسول الله إذا غزا، فلما أراد رسول الله أن يتوجه إلى أُحد، أرادَ أن يَتَوجَّهَ معه، فقال له بنوه: "إن الله قد جعل لك رخصة، فلو قعدت ونحن نكفيك، فقد وضع الله عنك الجهاد". فأتى عمرو بن الجموح إلى رسول الله فقال: "يا رسول الله، إن بَنِيَّ هؤلاء يمنعون أن أخرج معك، والله إني لأرجو أن أستشهد فأطأ بعرجتي هذه في الجنة". فقال له رسول الله : "أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ وَضَعَ اللَّهُ عَنْكَ الْجَهَادَ"، وقال لبنيه: "وَمَا عَلَيْكُمْ أَنْ تَدَعُوهُ؛ لَعَلَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَرْزُقَهُ الشَّهَادَةَ". فخرج مع رسول الله فقُتل يوم أُحد شهيدًا[7].



إنه خرج يريد الشهادة بصدق مع أنه قد تجاوز الستين من العمر، فرزقه الله الشهادة؛ لأنها رزقٌ، ولا ينال هذا الرزق العظيم إلا من يسره الله له.


حنظلة بن أبي عامر

كان حنظلة قد ألمَّ بأهله حين خروجه إلى أُحد، ثم هجم عليه الخروج في النَّفير فأنساه الغسل أو أعجله، فلما قُتل شهيدًا أخبر رسول الله أصحابه أن الملائكة غسَّلته؛ فسمِّي غَسِيل الملائكة.



وعن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله قال لامرأة حنظلة: "مَا كَانَ شَأْنُهُ؟" قالت: خرج وهو جُنُبٌ حين سمع الهاتفة[8]. فقال رسول الله : "لِذَلِكَ غَسَّلَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ"[9].



فقد خرج في صبيحة عرسه وهو جنب، فلقي ربه شهيدًا.


عبد الله بن جحش

جهاد طويل لهذا الصحابي الجليل، جهاد في مكة، وجهاد في الحبشة، وجهاد في المدينة المنورة. وقد دار حوار رائع بينه وبين سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما، قال عبد الله بن جحش لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما يوم أُحد: "ألا تأتي ندعو الله؟" فخلا في ناحيةٍ، فدعا سعد فقال: "يا رب، إذا لقينا القوم غدًا، فلَقِّني رجلاً شديدًا بأسُهُ، شديدًا حَرْدُهُ فأقاتله فيك ويقاتلني، ثم ارزقني عليه الظفر حتى أقتله وآخذُ سلبَهُ".



فقام عبد الله بن جحش، ثم قال: "اللهم ارزقني غدًا رجلاً شديدًا حردُه، شديدًا بأسُه، أقاتله فيك ويقاتلني، ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غدًا قلت: يا عبد الله، فيمَ جدع أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك. فتقول: صدقت".



قال سعد بن أبي وقاص: "يا بُنيَّ، كانت دعوة عبد الله بن جحش خيرًا من دعوتي، لقد رأيته آخر النهار وإن أذنه وأنفه لمعلقان في خيط"[10].



موقف رائع لعبد الله بن جحش ، الذي آثر الشهادة في سبيل الله على كل شيء، فيتمنى لقاء الله وقد شُوِّهت معالمه، وذلك في ذات الله، وطمعًا في دخول الجنة، وحدث ما تمناه .


فريق ينتقل من الكفر إلى الإيمان في لحظة وينال الشهادة

فالمسلم حتى يصل إلى درجة الشهادة في سبيل الله، فإنه يقدم الكثير والكثير من التضحية بالمال والوقت والجهد، ولا بد أن يتوافر لديه الإخلاص، وأن يسأل الله الشهادة بصدق، ولكننا قد نجد بعض الناس قد يُنعِم الله عليهم بنعمة الشهادة في سبيل الله فور دخولهم في دائرة الإيمان.



فسحرة فرعون مثلاً عندما رأوا الحق واضحًا، أعلنوا دخولهم في دائرة الإيمان، وتلقوا التعذيب من فرعون بل والقتل بصدور رحبة، وقالوا لفرعون: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ العُلاَ} [طه: 72- 75]. فكانوا في أول النهار سحرة، فصاروا في آخره شهداء بررة.


الأصيرم

في موقعة أُحد نجد رجلاً قد انتقل من الكفر إلى الإيمان في لحظة واحدة وهو الأصيرم ؛ فقد كان يأبى الإسلام على قومه، فلما كان يوم أُحد وخرج رسول الله إلى أُحد بدا له الإسلام فأسلم، فأخذ سيفه فغدا حتى أتى القوم فدخل في عرض الناس، فقاتل حتى أثبتته الجراحة، فبينما رجال بني عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذا هم به، فقالوا: "والله إن هذا للأصيرم، وما جاء به؟ لقد تركناه وإنه لمنكر هذا الحديث". فسألوه ما جاء به، قالوا: "ما جاء بك يا عمرو، أحربًا على قومك أو رغبة في الإسلام؟" قال: "بل رغبة في الإسلام، آمنتُ بالله ورسوله وأسلمت، ثم أخذت سيفي فغدوت مع رسول الله ، فقاتلت حتى أصابني ما أصابني". ثم لم يلبث أن مات في أيديهم، فذكروه لرسول الله فقال: "إِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ". يقول أبو هريرة: "ولم يُصَلِّ لله صلاةً قَطُّ"[11].



ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء! إنها لحظة إيمان وصدق.


مخيريق

لما خرج النبي إلى أُحد، قال مخيريق لليهود: "ألا تنصرون محمدًا؟ والله إنكم لتعلمون أن نصرته حق عليكم". فقالوا: "اليوم يوم السبت". فقال: "لا سبت". وأخذ سيفه ومضى إلى النبي فقاتل حتى أثبتته الجراحة، فلما حضره الموت قال: "أموالي إلى محمد يضعها حيث شاء". وقُتل يوم أُحد، فقال رسول الله : "مخيريق خير يهود"[12].



وعلى النقيض من الصورة السابقة نجد قصة قُزْمَان، فقد قتل ثلاثة من حملة راية المشركين يوم أُحد، وفي رواية سبعة أو ثمانية من المشركين، وقاتل قتالاً شديدًا وبشره المسلمون، فقال: "إن قاتلتُ إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك ما قاتلت". وكانت جراحه شديدة فنَحَرَ نفسه، فأخبر المسلمون رسولَ الله بما قال قزمان، فقال رسول الله : "إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ"[13].



لا يدخل الجنة إلا من يقاتل حتى تكون كلمة الله هي العليا، أما من يقاتل من أجل القومية أو الوطنية أو القبيلة فلا ينال الشهادة في سبيل الله.



روى البخاري أن رجلاً جاء إلى النبي فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذِّكْرِ، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمَن في سبيل الله؟ قال: "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"[14].



وروى الترمذي وأحمد، أن رسول الله قال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ[15] الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمِهَا بِآبَائِهَا، فَالنَّاسُ رَجُلاَنِ: بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، قال الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]"[16]. فالفخر بالقبائل والأحساب لا قيمة له، ولكن التقوى هي ميزان الأفضلية.



فهذه مصيبة أُحد وهذا هو الخير الموجود في هذه المصيبة، وقد لا نرى نحن هذا الخير، ولكنه موجود بالفعل، وليس معنى ذلك أن نبحث عن المصائب ونسعى إليها، ولكن معنى ذلك أن المصيبة ليست نهاية الدنيا.



د. راغب السرجاني

[1] رواه الحاكم في مستدركه برقم (4884)، والطبراني في المعجم الكبير برقم (2958)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (3676).

[2] ابن هشام: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وآخرين، دار إحياء التراث العربي، بيروت، بدون تاريخ، القسم الأول (الجزء الأول والثاني) ص632.

[3] رواه الحاكم في مستدركه برقم (2977)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة برقم (5221).

[4] ابن هشام: السيرة النبوية، القسم الثاني (الجزء الثالث والرابع) ص94، 95.

[5] رواه ابن ماجه (190، 2800) ترقيم عبد الباقي، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (7905).

[6] الواقدي: المغازي، تحقيق مارسدن جونس، عالم الكتب، بيروت، 1/212، 213.

[7] ابن قيم الجوزية: زاد المعاد، مؤسسة الرسالة، بيروت - مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، الطبعة السابعة والعشرون, 1415هـ/ 1994م، 3/ 208، 209.

[8] الهاتفة: الصيحة.

[9] ابن هشام: السيرة النبوية، القسم الثاني (الجزء الثالث والرابع) ص75.

[10] رواه الحاكم في مستدركه (2409)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وعلق عليه الذهبي في التلخيص قائلاً: على شرط مسلم.

[11] رواه أحمد (23684)، وحسنه شعيب الأرناءوط. انظر: ابن قيم الجوزية: زاد المعاد 3/201.

[12] ابن كثير: السيرة النبوية 2/344.

[13] المباركفوري: الرحيق المختوم، دار الوفاء، مصر، الطبعة السابعة عشرة، 1426هـ- 2005م، ص250.

[14] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا (2655).

[15] العبية: الكبر والفخر.

[16] رواه الترمذي (3270) ترقيم شاكر، وأحمد (8721)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (7867).
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة - صفحة 2 Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 1:40 pm

كيف عالج القرآن الكريم مصيبة أحد؟


معالجة القرآن الكريم لمصيبة أحد

غزوة أحدكنا قد تكلمنا عن الشهداء فماذا عن الذين فروا من أرض المعركة، وماذا عَمَّن وجد نفسه لم يدافع عن الإسلام، ولم يثبت بجوار رسول الله ؟



لقد نزل المنهج الرباني يعالج هذه المصيبة، ويخرج بأصحابه إلى العودة إلى السيادة من جديد. ومن ثَمَّ فنحن نحتاج إلى دراسة سورة آل عمران حتى نتعلم منها كيف عالج القرآن الكريم هزيمة أُحد رغم الهزيمة، ورغم المخالفات الشرعية، وارتكاب الكبائر مثل الفرار من أرض المعركة:


أولا: رفع الروح المعنوية للمسلم بلفت نظره إلى أماكن القوة فيه

يقول تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]. كل إنسان بداخله جوانب إيجابية وجوانب سلبية، فعليه أن ينظر إلى الجوانب الإيجابية؛ فالقرآن الكريم يقول: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]. لقد لفت النظر إلى القوة حتى يقوم من هذه الكبوة التي وقع فيها، فالمسلم لم يفقد الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر الذي هو أعظم ما يجعل المؤمن يقوم من كبوته مرة أخرى.



فعندما نرى دولة غير إسلامية قد سادت العالم فلا تجزع، فإن عند المسلمين من أدوات القيام الكثير والكثير، فهناك إمكانيات إستراتيجية ومادية وبشرية تكفي للقيام من جديد.


ثانيا: رفع الروح المعنوية بلفت النظر إلى الجوانب الإيجابية في المصيبة نفسها

فقد لفت القرآن الكريم نظر المسلمين إلى شؤم المعصية، وبيان خطورة المنافقين، وبيان عقوبة مخالفة النبي ، وخطورة الدنيا، وإلى انتقاء بعض المسلمين شهداء؛ فهذه جوانب إيجابية في هذا الحدث تطمئن النفس إليها في العودة مرة ثانية.


ثالثا: لا سبيل إلى تفادي ما قدر الله من مصائب

فلا داعي للإنسان أن يقول (لو) ويكثر من تكرارها؛ لأنها تفتح عمل الشيطان، وعلى الإنسان أن يعمل على عدم وقوع هذه المصائب، فهو يأخذ بالأسباب ولكن مع كل هذا فسوف تقع المصيبة، فالحذر لا يمنع القدر، ولكن إذا وقعت المصيبة فعلى الإنسان أن يعالج هذه المصيبة وَفْق المنهج الرباني، فلا يكسل ولا يفتر، ولكن يعمل لرفع المصيبة.


رابعا: الوعد بالقيام من جديد

{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160].



فإن نصرنا الله فلنا السيادة والغلبة بشرط أن ننصر الله ، ونصر الله يكون بتطبيق شرع الله ، فهذه الآية فيها وعدٌ بالقيام من جديد.


خامسا: الاعتبار بالتاريخ

فما حدث لكم قد حدث للأمم السابقة لكم، فالقيام بعد السقوط حدث كثيرًا في السابق، قال الله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146].



فما حدث لكم قد حدث لمن قبلكم، والقيام بعد السقوط هو القاعدة التي ينطلق منها المسلم.


سادسا: المقارنة بين المسلمين وأعدائهم

يقول تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 140]. وقوله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104].



فقد قُتل من المشركين يوم أُحد اثنان وعشرون، وفي رواية أصح: سبعة وثلاثون. وهذا عدد كبير إذا نظرنا إلى معركة أُحد، وقد فقدوا قبل ذلك يوم بدر سبعين من كبار المشركين، وأساطين الضلالة.


سابعا: عدم ثبات الناس على حال

يقول تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140].



فمن سُنَّة الله في كونه تداول السلطة بين الأمم، وأمة الإسلام لا تخرج عن هذا القانون، فعندما نعلم ذلك لا نجزع وقت نزول الهزيمة بنا.


ثامنا: الأمل الدائم في مغفرة الله

المسلم يستطيع أن يبدأ بداية جديدة وبصفحة بيضاء دون خطايا أو ذنوب، مهما يكون ما فعل قبل ذلك، يقول تعالى في بداية الحديث عن غزوة أُحد: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133].



فهذه الآية تَعِدُ المسلمين بالمغفرة، ويقول تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135].



وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران: 155].



وأما قوله: {وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ} فإن معناه: ولقد تجاوز الله عن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان. فقد ذَكَر العفو مباشرة بَعْدَ ذِكْر ما حدث من المسلمين يوم أُحد، فهذا تحفيز للمسلمين إلى البداية من جديد بصفحة بيضاء.


تاسعا: أن المسلم غير مطالب بالنتيجة

فالإنسان لا يحاسب يوم القيامة على النتائج وإنما يحاسب على الأعمال، يقول تعالى: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَدِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 196، 197].



فهؤلاء المشركون مآلهم جهنم وبئس المصير، ربما ينتصرون في معركة أو معركتين، ولكن مصيرهم جهنم يَصْلَونها بما قدمت أيديهم.



أما بالنسبة للمسلمين يقول تعالى: {فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآَخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 148]. فالثواب الحق هو ثواب الآخرة.


وأخيرا: التحذير من الركون إلى الراحة والقعود

فالمسلم يكون بين الخوف والرجاء، فكما أن هناك تبشيرًا فهناك التحذير من المعصية، وهناك العقاب من الله إنْ خالف الإنسان أوامر الله ورسوله. وبهذا المنهج المتوازن بين الخوف والرجاء يسير المسلم في هذه الحياة.



بهذه الأمور عالج القرآن الكريم هذه المصيبة التي ألمت بهم، وأخذ بيدهم حتى يستعيدوا مكانتهم من جديد؛ فقد غفر ذنوبهم، ووعدهم النصرَ إنْ هم نصروه .


حمراء الأسد

على الفور أخذ الرسول قرار الخروج إلى حمراء الأسد، وهي تبعد عن المدينة بمقدار ثمانية أميال، وعلم الرسول أن المشركين على بُعد ستة وثلاثين ميلاً. خرج الرسول في اليوم الثاني من الغزوة مباشرة رغم الآلام التي يعانون منها، ورفض أن يخرج معه إلا الذين قاتلوا بالأمس، وهذا قرار حكيم من الرسول ، فقد أراد أن يعيد الثقة إلى جيشه، فهو يقول لهم: أنا أثق بكم، وأثق في قدرتكم على القتال، وإن الذي حدث بالأمس إنما كان هفوة من رجال عظماء، وفي المواجهة القادمة سوف يلقنون المشركين درسًا لن ينسوه.



يقول الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 173، 174].



وفكر أبو سفيان في العودة إلى المدينة لاستئصال شأفة المسلمين من المدينة المنورة فما زال الرسول حيًّا، وما زال أبو بكر وعمر على قيد الحياة، وهنا تتجلى عبقرية الرسول ، فهو - فعلاً - قد خرج إلى حمراء الأسد، ولكنه يعلم مدى الضعف والمعاناة التي يمر بها جيش المدينة؛ ومن ثَمَّ لجأ إلى حيلة ذكية وهي أنه أرسل رجلاً يسمَّى مَعْبَد بن أبي معبد، حتى يخذِّل قريشًا، فذهب إلى قريش وقابل أبا سفيان، فلما رأى أبو سفيان معبدًا مقبلاً، قال: "ما وراءك يا معبد؟" قال: "محمد قد خرج في أصحابه في طلبكم في جمعٍ لم أرَ مثله قَطُّ، يتحرقون عليكم تحرُّقًا". قال: "ويلك ما تقول؟! والله لقد أجمعنا الكرة على أصحابه لنستأصلهم". قال: "فإني والله أنهاك عن ذلك بهم، والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل"[1].



وهنا خاف أبو سفيان وخافت قريش، وصدق قوله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء: 104].



وأقام رسول الله ثلاثة أيام في حمراء الأسد ينتظر قريشًا، فأصبح في مكان المنتصر والمنتظر لعدوه.



ومرَّ بأبي سفيان ركبٌ من عبد القيس، فقال: "أين تريدون؟"



قالوا: "نريد المدينة".



قال: "ولمَ؟"



قالوا: "نريد الميرة".



قال: "فأخبروا محمدًا أنا قد أجمعنا الكرة عليه وعلى أصحابه لنستأصله وأصحابه".



ثم رحل أبو سفيان إلى مكة، ومر الركب برسول الله فأخبروه بما قال أبو سفيان، فقال رسول الله والمسلمون: "حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ". فأنزل الله جل وعلا في ذلك: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 172- 175].



لقد خرج المسلمون من هزيمتهم النفسية وقهروا ما هم فيه، وتحولوا إلى أبطال شجعان، فقد كانت أُحد مصيبة عاجلة، وقد عالجها المنهج الرباني خير علاج، فهو منهجٌ ليس فيه عوج أو خطأ، إنه حقًّا {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصِّلت: 42].



د. راغب السرجاني

[1] ابن هشام: السيرة النبوية، القسم الثاني (الجزء الثالث والرابع) ص102.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

صفحة 2 من اصل 4 الصفحة السابقة  1, 2, 3, 4  الصفحة التالية

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى