حياة الرسول
صفحة 1 من اصل 1
حياة الرسول
زهد رسول الله
تُعَدُّ حياة رسول الله من أنصع الأدِلَّة على نُبُوَّتِه؛ لما تَتَّصف به من نقاء ووضوح، ولا يكون ذلك إلاَّ لنبي مُرْسَل من ربِّه، لا يُمَثِّلُ نفسه، وإنما يُمَثِّل الإرادة العليا؛ مصداقًا لقوله تبارك وتعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 3-5]. فانظروا إلى الرسول العابد الذي لا يفتر عن ذكر ربِّه في ليله ونهاره، والأمي الذي علَّمه شديد القوى، والحريص على أُمَّته من عذاب رب العالمين، والزاهد في الدنيا رغم أنها أتته راغبة، وانظروا أيضًا إلى عصمة الله له وإلى نقاء حياته؛ ستدركون عندها أن محمدًا رسول من رب العالمين؛ فهذه الحياةُ النقية لا يمكن أن يكون صاحبها دَعِيًّا، ولا يمكن أن يكون دجالاً، كما لا يمكن أن يكون طالب مُلْكٍ، ولا يمكن أن يكون رجل دُنْيَا.
وفي المقالات التالية نُقَدِّمُ بعضًا من جوانب حياته، والتي تَدُلُّ دلالةً واضحةً على صِدْقِ نُبُوَّة رسول اللهِ .
زهد رسول الله
نظرة الإسلام للحياة الدنيا
إن نظرة الإسلام للحياة الدنيا نظرة فريدة؛ لأنها تخلق إنسانًا متوازنًا يُدرك أن الحياة الدنيا مهما طالت فهي قصيرة، وأن الآخرة هي خير وأبقى؛ لذلك قال تعالى عن الدنيا: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]. كما وضع القرآن الكريم المعيار الحقيقي أمام الإنسان عند تطلُّعه للدنيا: {وَإِنَّ الدَّارَ الآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].
فالدنيا في المنظور الإسلامي ما هي إلاَّ مزرعة الآخرة، وهي كذلك مجرَّد طريق يعبر عليه الإنسان لوِجْهَته الحقيقيَّة، وهو ما قاله رسول الله : "كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ"[1].
وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُويُعَلِّم رسول الله أُمَّته حقيقة العَلاقة بين الدنيا والآخرة، وأن الآخرة أكرم وأفضل عند الله، فيقول رسول الله : "وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ -وَأَشَارَ يَحْيَى[2] بِالسَّبَّابَةِ- فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ"[3].
صور من زهد رسول الله
ومن عظمة رسول الله أن حياته كانت نموذجًا عمليًّا لهذه النظرة الربَّانيَّة للدنيا، وهذه صور ونماذج من زهد رسول الله ، فقد وصف عمر بن الخطاب t بيت وحال رسول الله بقوله:... فدخلت عليه فإذا هو مضطجع على رُمَال حصير[4]، ليس بينه وبينه فراش، قد أَثَّرَ الرمالُ بجنبه، مُتَّكِئًا على وسادة من أَدَم حشوها ليف... ثم رفعتُ بصري في بيته، فوالله ما رأيت فيه شيئًا يَرُدُّ البصر غير أَهَبَة[5] ثلاثة، فقلتُ: ادعُ الله فليوسِّع على أُمَّتِك؛ فإن فارس والروم وُسِّعَ عليهم، وأُعْطُوا الدنيا، وهم لا يعبدون الله. وكان متَّكِئًا، فقال: "أَوَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَابْنَ الْخَطَّابِ؟ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا"[6].
ولقد أشفق أصحاب رسول الله –رضي الله عنهم- عليه عندما وجدوا الحصير قد أثَّر في بدنه؛ فعن عبد الله بن مسعود t قال: اضطجع النبي على حصير، فأثَّر في جلده، فقلتُ: بأبي وأمي يا رسول الله، لو كنتَ آذنتنا ففرشنا لك عليه شيئًا يقيك منه. فقال رسول الله : "مَا أَنَا وَالدُّنْيَا، إِنَّمَا أَنَا وَالدُّنْيَا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا"[7].
وهذا رسول الله -وهو القائد العامُّ لجموع المسلمين في الجزيرة العربيَّة، ومع ما فتح الله عليه من الفتوح- مستمسِّكًا بحياة الزهد، مبتعدًا عن الزعامة المتصنَّعة، متواضعًا في مأكله ومشربه، وقد لا يجد هذا المأكل في كثير من الأحيان، فقد خطب النعمان بن بَشِير t، فقال: ذَكَر عُمَرُ t ما أصاب الناس من الدنيا، فقال: "لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ يَظلُّ الْيَوْمَ يَلْتَوِي[8] مَا يَجِدُ دَقَلاً[9] يَمْلأُ بِهِ بَطْنَهُ"[10].
وكثيرًا ما كان يلتوي رسول الله من الجوع طيلة حياته!! ومن هذه المواقف ما ذكره أبو هريرة t بقوله: خرج رسول الله ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال: "مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ؟" قالا: الجوع يا رسول الله. قال: "وَأَنَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا، قُومَا". فقامَا معه: فأتى رجلاً من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلمَّا رأته المرأة قالت: مرحبًا وأهلاً. فقال لها رسول الله : "أَيْنَ فُلانٌ؟" قالت: ذهب يستعذب لنا من الماء. إذ جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله وصاحبيه، ثم قال: الحمد لله، ما أحد اليوم أكرم أضيافًا منِّي. قال: فانطلق فجاءهم بعِذْق[11] فيه بُسْر وتمر ورُطب. فقال: كُلُوا من هذه. وأخذ المدية[12]، فقال له رسول الله : "إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ". فذبح لهم، فأكلوا من الشاة ومن ذلك العِذْق، وشربوا، فلمَّا أن شبعوا وَرَوُوا، قال رسول الله لأبي بكر وعمر: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ"[13].
لقد كان زهد رسول الله في حقيقته علامة من علامات نبوَّته، ودليلاً على صدق بعثته، فقد تؤثِّر الدنيا في أحدنا فتغيِّره، فيصبح عندها موضع انتقاد الجميع، ولكن رسول الله ظلَّ على عهده بالزهد، مصاحبًا له، ومقترنًا به إلى موته، وهو ما تُقرِّره أمُّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- بقولها: "مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعًا مِنْ خُبْزِ بُرٍّ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ"[14].
ولمَّا جاءته الدنيا بما تشتهي كل نفس زهد فيها غاية الزهد، فها هو ذا يوم حُنين تهون عليه الدنيا كلها ويعطيها دون تردُّدٍ لأصحابه وللمؤلَّفة قلوبهم، فهي عنده لا تعدل جناح بعوضة، حتى إنه لم يُبقِ منها ما يعوِّض فقر السنين وانقضاء العمر الذي تجاوز الستِّين، ثم يقول للأعراب بعد أن أخذ بعضهم رداءَهُ: "رُدُّوا عَلَيَّ رِدَائِي، أَتَخَافُونَ أَلاَ أَقْسِمَ بَيْنَكُمْ مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْكُمْ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوْ كَانَ لَكُمْ عِنْدِي عَدَدَ شَجَرِ تِهَامَةَ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ عَلَيْكُمْ، ثُمَّ لا تَجِدُونِي بَخِيلاً..."[15].
نظرة رسول الله للزهد
ورغم زهد رسول الله للدنيا إلاَّ أن نظرته للزهد كانت نظرة رائعة؛ لأنها علَّمت الأُمَّة أن تَزْهَدَ دون أن تترك إعمار الأرض، فليس عدم التعلُّق بالدنيا داعيًا إلى خرابها، بل يعمرها المسلم دون أن يتمسك بمتاعها؛ لذلك يقول رسول الله : "إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ"[16].
هذه هي النظرة الإسلاميَّة للدنيا؛ نظرة توازن لا تُغْفِل الدنيا لحساب الآخرة، ولا الآخرة لحساب الدنيا، وهذه هي عظمة الإسلام، وعظمة نبيِّه التي تُثْبِتُ -بما لا يدع مجالاً للشكِّ- صدق نبوَّته، وربانية دعوته.
د. راغب السرجاني
[1] البخاري عن عبد الله بن عمر: كتاب الرقائق، باب قول النبي : "كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ" (6053)، والترمذي (2333)، وابن ماجه (4114)، وأحمد (6156).
[2] هو يحيى بن سعيد بن فروخ القطان، من الطبقة الصغرى من التابعين، ثقة ثبت مرضي حجة حافظ، تُوُفِّيَ سنة 198هـ. انظر: المِزِّي: تهذيب الكمال 31/329، وابن حجر: تهذيب التهذيب 11/190- 193.
[3] مسلم عن المستورد بن شداد: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة (2858)، وأحمد (18037)، وابن حبان (6265).
[4] الرمال: بكسر الراء وضمِّها، ما نُسِجَ، وقيل: المنسوج بالسعف. انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 1/125، وابن منظور: لسان العرب، مادة رمل 11/294.
[5] الأهبة: بمعنى الأُهُب والهاء فيه للمبالغة وهو جمع إهاب، وهو الجلد مطلقًا دُبغ أو لم يُدبغ. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة أهب 1/217.
[6] البخاري: كتاب المظالم، باب الغرفة والعلية المشرفة في السطوح وغيرها (2336)، ومسلم: كتاب الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء... (1479).
[7] ابن ماجه (4109)، والترمذي (2377) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
[8] يلتوي: أي يتقلَّب ظهرًا لبطنٍ ويمينًا وشمالاً. انظر: السيوطي: شرح سنن ابن ماجه ص306.
[9] الدقَل: رديء التمر. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة دقل 11/246.
[10] مسلم: كتاب الزهد والرقائق (2978)، والترمذي (2372)، وابن ماجه (4146).
[11] الْعِذْق: الغصن من النَّخل. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة عذق 10/238.
[12] المدية: السكين والشَّفْرة. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة مدي 15/272.
[13] مسلم: كتاب الأشربة، باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه... (2038)، وأبو يعلى (6181).
[14] البخاري: كتاب الأطعمة، باب ما كان السلف يدخرون... (5107)، ومسلم: كتاب الزهد والرقائق (2970)، واللفظ له.
[15] البخاري: كتاب الخمس، باب ما كان للنبي يعطي المؤلفة قلوبهم (2979)، وابن حبان (4820)، والموطأ برواية يحيى الليثي عن عمرو بن شعيب (977)، واللفظ له.
[16] أحمد (13004)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
رد: حياة الرسول
عبادة رسول الله
شكر رسول الله
أَفَلا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًاكان رسول الله شاكرًا لأَنْعُمِ الله العظيمة التي وهبها اللهُ له وأحاطه بها؛ فقد كان واقع رسول الله منسجمًا مع ما أعطاه الله تعالى من نِعَمٍ، فلم يكن شكر رسول الله مجرَّد كلمات تقال، ولكنَّها كانت واقعًا حيًّا مَعِيشًا، فنرى رسول الله في سيرته راكعًا ساجدًا عابدًا لله تعالى، فاعلاً للخير، مسبِّحًا بحمد الله، مُتَّبِعًا في ذلك الآيات القرآنيَّة التي تحضُّ على العبادة والحمد؛ منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77].
حقيقة عبادة رسول الله
رسول الله والصلاة
ذُكرت أحاديثُ كثيرةٌ، ومواقفُ عديدةٌ فَسَّرت وأبانت حقيقة عبادة رسول الله لربِّه جلَّ وعلا؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- أنَّ نبي الله كان يقوم من الليل حتى تتفطَّر[1] قدماه، فقالت عائشة: لِمَ تصنعُ هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟! قال: "أَفَلا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا"[2]. وقد أبان هذا الردُّ الجميل رؤية رسول الله لمسألة العبادة، فهو لا يراها تكليفًا ربَّانيًّا فقط، بل إنه يقوم بها عن حُبٍّ وإرادة، كنوع من الشكر العميق للإله القدير الذي أعطى ومنح، وهذا يُفَسِّر أيضًا طول عبادته وشِدَّة إرهاقه لنفسه فيها.
وتصف السيدة عائشة -رضي الله عنها- في حديث آخر صلاة رسول الله بالليل، بقولها: "إِنَّ رَسُولَ اللهِ كَانَ يُصَلِّي إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، كَانَتْ تِلْكَ صَلاتُهُ -تَعْنِي بِاللَّيْلِ- فَيَسْجُدُ السَّجْدَةَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرَ مَا يَقْرَأُ أَحَدُكُمْ خَمْسِينَ آيَةً قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ، وَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاةِ الْفَجْرِ، ثُمَّ يَضْطَجِعُ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ لِلصَّلاةِ"[3].
فكان رسول الله يجد راحته في الإكثار من الصلاة وقراءة القرآن؛ فيروي حذيفة قائلاً: صلَّيْتُ مع النبي ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلتُ: يركع عند المائة. ثم مضى، فقلتُ: يُصَلِّي بها في ركعة. فمضى، فقلتُ: يركع بها. ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسِّلاً؛ إذا مرَّ بآية فيها تسبيح سبَّح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مرَّ بتعوُّذ تعوَّذ، ثم ركع، فجعل يقول: "سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ". فكان ركوعه نحوًا من قيامه، ثم قال: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ". ثم قام طويلاً قريبًا ممَّا ركع، ثم سجد، فقال: "سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى". فكان سجوده قريبًا من قيامه[4].
وكان رسول الله يُكثر من قيام الليل؛ لما فيه من الخلوة بينه وبين ربِّه I؛ لذلك قال عنه رسول الله : "أَفْضَلُ الصَّلاةِ بَعْدَ الْمَفْرُوضَةِ قِيَامُ اللَّيْلِ"[5]. ومن شِدَّة حُبِّ رسول الله لقيام الليل كان يقضيه في الصباح إذا فاته لأمر ما؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "... كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ إِذَا صَلَّى صَلاَةً أَحَبَّ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَيْهَا، وَكَانَ إِذَا غَلَبَهُ نَوْمٌ أَوْ وَجَعٌ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً..."[6].
وهذا الحُبُّ العميق لعبادة الله -خاصَّة الصلاة- يُفَسِّر أيضًا قول رسول الله لبلال بن رباح t: "قُمْ يَا بِلالُ فَأَرِحْنَا بِالصَّلاةِ"[7]. ويقول رسول الله في حديث آخر: "وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ"[8].
ولا غَرْوَ أنَّ نِعم الله I وعطاياه وفضله تستتبع حمدًا جزيلاً، وهو ما كان يقوم به رسول الله ؛ فكان لسان رسول الله دائمًا رطبًا بذِكْرِ الله وحَمْدِه على نِعمه وأفضاله؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "كَانَ النَّبِيُّ يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ"[9].
رسول الله والصوم
ونرى رسول الله في الصوم يَزِيدُ البذلَ والعطاء، وفي العشر الأواخر من شهر رمضان يتعهَّد نفسه بمضاعفة العبادة، فقد روت عائشة -رضي الله عنها- فقالت: "كَانَ النَّبِيُّ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ[10]، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ"[11].
كذلك، كان رسول الله مواظبًا على صيام الاثنين والخميس، وقد ذكر عِلَّة ذلك بقوله: "تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ"[12]. وكان رسول الله يحبُّ الصيام في الهواجر[13] وفي الأيام شديدة الحرِّ؛ فعن أبي الدرداء t قال: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولُ اللهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، حَتَّى إِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ إلاَّ رَسُولُ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ"[14].
وهكذا كان رسول الله يتعامل مع قضيَّة العبادة من منطلق الشكر لا الفرض فقط، ومن منطلق البذل والتطوع والزيادة لا أداء الواجب؛ ممَّا أعطى عبادته شكلاً متميِّزًا باهرًا في صورته.
د. راغب السرجاني
[1] تتفطر: أي تتشقُّ، وفي رواية للبخاري: "حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ". انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 3/2820، والمباركفوري: تحفة الأحوذي 2/461، وابن منظور: لسان العرب، مادة فطر 5/55.
[2] البخاري: كتاب التفسير، باب سورة الفتح (4557)، ومسلم: كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة (2820).
[3] البخاري: كتاب الوتر، باب ما جاء في الوتر (949)، وأبو داود (1336)، وعند الترمذي: "عن زيد بن ثابت، قال: تسحرنا مع النبي ثم قمنا إلى الصلاة. قال: قلت: كم كان قدر ذلك؟ قال: قدر خمسين آية" (703).
[4] مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل (772)، والنسائي (1133)، وأحمد (23415).
[5] أبو داود: كتاب الصيام، باب في صوم المحرم (2429)، وأحمد (8488)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين. والنسائي (1614)، ومسند عبد بن حميد عن أبي هريرة (1427)، واللفظ له، وقال الألباني: صحيح. انظر: مشكاة المصابيح (1236).
[6] مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض (746)، وأحمد (24314)، وابن حبان (2552).
[7] أبو داود: كتاب الأدب، باب في صلاة العتمة (4985)، وأحمد (23137)، وقال شعيب الأرناءوط: رجاله ثقات، لكن اختلف على سالم بن أبي الجعد في إسناده. والطبراني: المعجم الكبير (6215)، والبوصيري: إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة (900)، وقال الألباني: صحيح. انظر: مشكاة المصابيح (1253).
[8] أحمد عن أنس بن مالك (13526)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن. والنسائي (3939)، والبيهقي: السنن الكبرى 7/78، ومصنف عبد الرزاق (7939)، والطبراني في المعجم الكبير (17388)، وقال الألباني: حسن صحيح. انظر: السلسلة الصحيحة (658).
[9] مسلم: كتاب الحيض، باب ذكر الله تعالى في حال الجنابة وغيرها (373)، والترمذي (3384)، وأبو داود (18)، وابن ماجه (302)، وأحمد (26419).
[10] شدَّ مئزره: المئزر ثوب يحيط بالنصف الأسفل من البدن، وشده كناية عن اعتزال النساء، وقيل: أَراد تشميره للعبادة، يقال: شَدَدْتُ للأَمر مئزري أَي تشمَّرت وتهيَّأتُ له. انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 4/269، وابن منظور: لسان العرب، مادة أزر 4/16.
[11] البخاري: كتاب صلاة التراويح، باب العمل في العشر الأواخر من رمضان (1920)، وأحمد (24422)، وابن خزيمة (2029)، وسبل السلام (653).
[12] الترمذي عن أبي هريرة: كتاب الصوم، باب ما جاء في صوم يوم الاثنين والخميس (747)، وأحمد (21801)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن. والنسائي (2358)، وقال الألباني: صحيح. انظر: صحيح الجامع (2959).
[13] الهواجر: جمع الهاجرة، وهي اشتدادُ الحرِّ نصفَ النهار. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة هجر 5/250.
[14] البخاري: كتاب الصوم، باب إذا صام أيام من رمضان ثم سافر (1843)، ومسلم: كتاب الصيام، باب التخيير في الصوم والفطر في السفر (1122).
شكر رسول الله
أَفَلا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًاكان رسول الله شاكرًا لأَنْعُمِ الله العظيمة التي وهبها اللهُ له وأحاطه بها؛ فقد كان واقع رسول الله منسجمًا مع ما أعطاه الله تعالى من نِعَمٍ، فلم يكن شكر رسول الله مجرَّد كلمات تقال، ولكنَّها كانت واقعًا حيًّا مَعِيشًا، فنرى رسول الله في سيرته راكعًا ساجدًا عابدًا لله تعالى، فاعلاً للخير، مسبِّحًا بحمد الله، مُتَّبِعًا في ذلك الآيات القرآنيَّة التي تحضُّ على العبادة والحمد؛ منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77].
حقيقة عبادة رسول الله
رسول الله والصلاة
ذُكرت أحاديثُ كثيرةٌ، ومواقفُ عديدةٌ فَسَّرت وأبانت حقيقة عبادة رسول الله لربِّه جلَّ وعلا؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- أنَّ نبي الله كان يقوم من الليل حتى تتفطَّر[1] قدماه، فقالت عائشة: لِمَ تصنعُ هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟! قال: "أَفَلا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا"[2]. وقد أبان هذا الردُّ الجميل رؤية رسول الله لمسألة العبادة، فهو لا يراها تكليفًا ربَّانيًّا فقط، بل إنه يقوم بها عن حُبٍّ وإرادة، كنوع من الشكر العميق للإله القدير الذي أعطى ومنح، وهذا يُفَسِّر أيضًا طول عبادته وشِدَّة إرهاقه لنفسه فيها.
وتصف السيدة عائشة -رضي الله عنها- في حديث آخر صلاة رسول الله بالليل، بقولها: "إِنَّ رَسُولَ اللهِ كَانَ يُصَلِّي إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، كَانَتْ تِلْكَ صَلاتُهُ -تَعْنِي بِاللَّيْلِ- فَيَسْجُدُ السَّجْدَةَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرَ مَا يَقْرَأُ أَحَدُكُمْ خَمْسِينَ آيَةً قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ، وَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاةِ الْفَجْرِ، ثُمَّ يَضْطَجِعُ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ لِلصَّلاةِ"[3].
فكان رسول الله يجد راحته في الإكثار من الصلاة وقراءة القرآن؛ فيروي حذيفة قائلاً: صلَّيْتُ مع النبي ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلتُ: يركع عند المائة. ثم مضى، فقلتُ: يُصَلِّي بها في ركعة. فمضى، فقلتُ: يركع بها. ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسِّلاً؛ إذا مرَّ بآية فيها تسبيح سبَّح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مرَّ بتعوُّذ تعوَّذ، ثم ركع، فجعل يقول: "سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ". فكان ركوعه نحوًا من قيامه، ثم قال: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ". ثم قام طويلاً قريبًا ممَّا ركع، ثم سجد، فقال: "سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى". فكان سجوده قريبًا من قيامه[4].
وكان رسول الله يُكثر من قيام الليل؛ لما فيه من الخلوة بينه وبين ربِّه I؛ لذلك قال عنه رسول الله : "أَفْضَلُ الصَّلاةِ بَعْدَ الْمَفْرُوضَةِ قِيَامُ اللَّيْلِ"[5]. ومن شِدَّة حُبِّ رسول الله لقيام الليل كان يقضيه في الصباح إذا فاته لأمر ما؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "... كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ إِذَا صَلَّى صَلاَةً أَحَبَّ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَيْهَا، وَكَانَ إِذَا غَلَبَهُ نَوْمٌ أَوْ وَجَعٌ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً..."[6].
وهذا الحُبُّ العميق لعبادة الله -خاصَّة الصلاة- يُفَسِّر أيضًا قول رسول الله لبلال بن رباح t: "قُمْ يَا بِلالُ فَأَرِحْنَا بِالصَّلاةِ"[7]. ويقول رسول الله في حديث آخر: "وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ"[8].
ولا غَرْوَ أنَّ نِعم الله I وعطاياه وفضله تستتبع حمدًا جزيلاً، وهو ما كان يقوم به رسول الله ؛ فكان لسان رسول الله دائمًا رطبًا بذِكْرِ الله وحَمْدِه على نِعمه وأفضاله؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "كَانَ النَّبِيُّ يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ"[9].
رسول الله والصوم
ونرى رسول الله في الصوم يَزِيدُ البذلَ والعطاء، وفي العشر الأواخر من شهر رمضان يتعهَّد نفسه بمضاعفة العبادة، فقد روت عائشة -رضي الله عنها- فقالت: "كَانَ النَّبِيُّ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ[10]، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ"[11].
كذلك، كان رسول الله مواظبًا على صيام الاثنين والخميس، وقد ذكر عِلَّة ذلك بقوله: "تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ"[12]. وكان رسول الله يحبُّ الصيام في الهواجر[13] وفي الأيام شديدة الحرِّ؛ فعن أبي الدرداء t قال: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولُ اللهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، حَتَّى إِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ إلاَّ رَسُولُ اللهِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ"[14].
وهكذا كان رسول الله يتعامل مع قضيَّة العبادة من منطلق الشكر لا الفرض فقط، ومن منطلق البذل والتطوع والزيادة لا أداء الواجب؛ ممَّا أعطى عبادته شكلاً متميِّزًا باهرًا في صورته.
د. راغب السرجاني
[1] تتفطر: أي تتشقُّ، وفي رواية للبخاري: "حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ". انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 3/2820، والمباركفوري: تحفة الأحوذي 2/461، وابن منظور: لسان العرب، مادة فطر 5/55.
[2] البخاري: كتاب التفسير، باب سورة الفتح (4557)، ومسلم: كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة (2820).
[3] البخاري: كتاب الوتر، باب ما جاء في الوتر (949)، وأبو داود (1336)، وعند الترمذي: "عن زيد بن ثابت، قال: تسحرنا مع النبي ثم قمنا إلى الصلاة. قال: قلت: كم كان قدر ذلك؟ قال: قدر خمسين آية" (703).
[4] مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل (772)، والنسائي (1133)، وأحمد (23415).
[5] أبو داود: كتاب الصيام، باب في صوم المحرم (2429)، وأحمد (8488)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين. والنسائي (1614)، ومسند عبد بن حميد عن أبي هريرة (1427)، واللفظ له، وقال الألباني: صحيح. انظر: مشكاة المصابيح (1236).
[6] مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض (746)، وأحمد (24314)، وابن حبان (2552).
[7] أبو داود: كتاب الأدب، باب في صلاة العتمة (4985)، وأحمد (23137)، وقال شعيب الأرناءوط: رجاله ثقات، لكن اختلف على سالم بن أبي الجعد في إسناده. والطبراني: المعجم الكبير (6215)، والبوصيري: إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة (900)، وقال الألباني: صحيح. انظر: مشكاة المصابيح (1253).
[8] أحمد عن أنس بن مالك (13526)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن. والنسائي (3939)، والبيهقي: السنن الكبرى 7/78، ومصنف عبد الرزاق (7939)، والطبراني في المعجم الكبير (17388)، وقال الألباني: حسن صحيح. انظر: السلسلة الصحيحة (658).
[9] مسلم: كتاب الحيض، باب ذكر الله تعالى في حال الجنابة وغيرها (373)، والترمذي (3384)، وأبو داود (18)، وابن ماجه (302)، وأحمد (26419).
[10] شدَّ مئزره: المئزر ثوب يحيط بالنصف الأسفل من البدن، وشده كناية عن اعتزال النساء، وقيل: أَراد تشميره للعبادة، يقال: شَدَدْتُ للأَمر مئزري أَي تشمَّرت وتهيَّأتُ له. انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 4/269، وابن منظور: لسان العرب، مادة أزر 4/16.
[11] البخاري: كتاب صلاة التراويح، باب العمل في العشر الأواخر من رمضان (1920)، وأحمد (24422)، وابن خزيمة (2029)، وسبل السلام (653).
[12] الترمذي عن أبي هريرة: كتاب الصوم، باب ما جاء في صوم يوم الاثنين والخميس (747)، وأحمد (21801)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن. والنسائي (2358)، وقال الألباني: صحيح. انظر: صحيح الجامع (2959).
[13] الهواجر: جمع الهاجرة، وهي اشتدادُ الحرِّ نصفَ النهار. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة هجر 5/250.
[14] البخاري: كتاب الصوم، باب إذا صام أيام من رمضان ثم سافر (1843)، ومسلم: كتاب الصيام، باب التخيير في الصوم والفطر في السفر (1122).
رد: حياة الرسول
حرص رسول الله على أمته
أرسل الله نبيَّه محمد طوقًا لنجاة البشريَّة من غيِّها وضلالها، فاستحقَّ رسول الله بحقٍّ أن يكون منقذًا للإنسانيَّة، فكانت سيرة رسول الله أعظم نبعٍ لمن يُريد تربية الأمم -أفرادًا وجماعاتٍ- على قيم الحبِّ والرأفة، التي تمثَّلت في حرص رسول الله على الناس عامَّة، وأُمَّته خاصَّة، وكان هذا الحرص نابعًا من رأفة رسول الله ورحمته بهم، كما كان ذلك دليلاً على صدق نُبُوَّتِهِ ؛ لذلك وصف الله I حرص رسول الله على أُمَّتِه بقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].
صور من حرص رسول الله
لقد بلغ حرص رسول الله على أُمَّته حدًّا لا يتخيَّله أحد من البشر؛ فمن صور حرص رسول الله ، أنه منذ اللحظات الأُولى للدعوة وهو يأمر القلَّة المستضعفة في مكة بالهجرة للحبشة فِرارًا بدينهم، فيقول رسول الله : "لَوْ خَرَجْتُمْ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ؛ فَإِنَّ بِهَا مَلِكًا لا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ، وَهِي أَرْضُ صِدْقٍ؛ حَتَّى يَجْعَلَ اللهُ لَكُمْ فَرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ.."[1].
وكثيرًا ما رأينا رسول الله يُعرِض عن عمل من الأعمال -وهو مُقرَّب إلى قلبه، ومحبَّب إلى نفسه- لا لشيء إلاَّ لخوفه أن يُفْرَض على أُمَّته، فيعنتهم ويشقّ عليهم؛ لذا قالت السيدة عائشة -رضي الله عنها: "إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ لَيَدَعُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ"[2].
وكان رسول الله يُحَذِّر الأُمَّة من الذنوب، ويُوَضِّح خطرها على كيانها وقوَّتها مهما كانت الذنوب بسيطة في عين المسلم؛ فعن عبد الله بن مسعود t أن رسول الله قال: "إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ؛ فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ". وإنَّ رسول الله ضرب لَهُنَّ مَثَلاً: "كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضَ فَلاَةٍ، فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ فَيَجِيءُ بِالْعُودِ وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ، حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا فَأَجَّجُوا نَارًا، وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا"[3].
كما خشي رسول الله على أُمَّته من الأئمة المضلِّين، الذين يقودونها إلى الهلاك والضياع، فيقول مخاطبًا أُمَّته: "إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الأَئِمَّةُ الْمُضِلُّونَ"[4].
وامتدَّ حرص رسول الله ورفقه بالمؤمنين في شئون دينهم المختلفة، وخاصَّة في جانب العبادات، فمع أن التقرُّب إلى الله والتبتُّل إليه أمرٌ محمود مرغوب، بل هو مأمور به، لكن رسول الله كان يخشى على أُمَّته من المبالغة في الأمر، فيفتقدون التوازن في حياتهم، فقال رسول الله : "لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَخَّرْتُ صَلاَةَ الْعِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفِ اللَّيْلِ"[5]. فهذا الحديث وغيره يُبَيِّن مدى حُبِّ رسول الله لأُمَّته، وحرصه عليها وعلى مصالحها في أمور دينها.
ومِنْ ثَمَّ كان رسول الله يتحيَّن الفرص في إبراز حقيقة حرصه على الناس كافَّة؛ فقد سَمِعَ رسول الله أن ثلاثةً من الصحابة يُريدون أن يَشُقُّوا على أنفسهم؛ ظنًّا منهم أن هذا الأمر سيكون سببًا قويًّا في قربهم لله تعالى؛ فعن أنس بن مالك t أنه قال: "جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ ، قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟! قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا. وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ. وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: (أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي"[6].
وما أجمل أن نختم كلامنا بموقف يعكس مدى انشغال رسول الله بأُمَّته وحرصه عليها، ومدى تقدير ربِّ العالمين I لهذا الحرص! فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- إذ يروي "أن النبي تلا قول الله تعالى في إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36]، وقال عيسى u: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: "اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي". وَبَكَى، فَقَالَ اللهُ : يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ -وَرَبُّكَ أَعْلَمُ- فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ u فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ بِمَا قَالَ، وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللهُ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلا نَسُوءُكَ"[7].
د. راغب السرجاني
[1] البيهقي: كتاب السير، باب الإذن بالسير (18190)، وابن هشام: السيرة النبوية 1/322، 323، وقال الألباني: صحيح. انظر: السلسلة الصحيحة (3190).
[2] البخاري: أبواب التهجد، باب تحريض النبي على صلاة الليل... (1076)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة الضحى... (718).
[3] أحمد (3818)، وقال شعيب الأرناءوط: حسن لغيره. والطبراني: المعجم الكبير 5/449، والبيهقي: شعب الإيمان (7017)، وقال الألباني: صحيح. انظر: صحيح الجامع (2687).
[4] أبو داود: كتاب الفتن والملاحم، باب ذكر الفتن ودلائلها (4252)، والترمذي: (2229)، وأحمد عن أبي الدرداء (27525)، واللفظ له، وقال شعيب الأرناءوط: صحيح لغيره. والدارمي (211)، وقال الألباني: صحيح. انظر: السلسلة الصحيحة (1582).
[5] الترمذي عن زيد بن خالد الجهني: أبواب الطهارة، السواك (23)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجه (691)، وقال الألباني: صحيح. انظر: مشكاة المصابيح (390).
[6] البخاري: كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح (4776)، ومسلم: كتاب النكاح، باب استحباب النكاح (1401).
[7] مسلم عن عبد الله بن عمرو: كتاب الإيمان، باب دعاء النبي لأمته وبكائه شفقة عليهم (202)، والنسائي (11269)، والطبراني: المعجم الكبير (1515)، وشعب الإيمان للبيهقي (308)، وابن حبان (7357).
أرسل الله نبيَّه محمد طوقًا لنجاة البشريَّة من غيِّها وضلالها، فاستحقَّ رسول الله بحقٍّ أن يكون منقذًا للإنسانيَّة، فكانت سيرة رسول الله أعظم نبعٍ لمن يُريد تربية الأمم -أفرادًا وجماعاتٍ- على قيم الحبِّ والرأفة، التي تمثَّلت في حرص رسول الله على الناس عامَّة، وأُمَّته خاصَّة، وكان هذا الحرص نابعًا من رأفة رسول الله ورحمته بهم، كما كان ذلك دليلاً على صدق نُبُوَّتِهِ ؛ لذلك وصف الله I حرص رسول الله على أُمَّتِه بقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].
صور من حرص رسول الله
لقد بلغ حرص رسول الله على أُمَّته حدًّا لا يتخيَّله أحد من البشر؛ فمن صور حرص رسول الله ، أنه منذ اللحظات الأُولى للدعوة وهو يأمر القلَّة المستضعفة في مكة بالهجرة للحبشة فِرارًا بدينهم، فيقول رسول الله : "لَوْ خَرَجْتُمْ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ؛ فَإِنَّ بِهَا مَلِكًا لا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ، وَهِي أَرْضُ صِدْقٍ؛ حَتَّى يَجْعَلَ اللهُ لَكُمْ فَرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ.."[1].
وكثيرًا ما رأينا رسول الله يُعرِض عن عمل من الأعمال -وهو مُقرَّب إلى قلبه، ومحبَّب إلى نفسه- لا لشيء إلاَّ لخوفه أن يُفْرَض على أُمَّته، فيعنتهم ويشقّ عليهم؛ لذا قالت السيدة عائشة -رضي الله عنها: "إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ لَيَدَعُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ"[2].
وكان رسول الله يُحَذِّر الأُمَّة من الذنوب، ويُوَضِّح خطرها على كيانها وقوَّتها مهما كانت الذنوب بسيطة في عين المسلم؛ فعن عبد الله بن مسعود t أن رسول الله قال: "إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ؛ فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ". وإنَّ رسول الله ضرب لَهُنَّ مَثَلاً: "كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضَ فَلاَةٍ، فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ فَيَجِيءُ بِالْعُودِ وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ، حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا فَأَجَّجُوا نَارًا، وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا"[3].
كما خشي رسول الله على أُمَّته من الأئمة المضلِّين، الذين يقودونها إلى الهلاك والضياع، فيقول مخاطبًا أُمَّته: "إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الأَئِمَّةُ الْمُضِلُّونَ"[4].
وامتدَّ حرص رسول الله ورفقه بالمؤمنين في شئون دينهم المختلفة، وخاصَّة في جانب العبادات، فمع أن التقرُّب إلى الله والتبتُّل إليه أمرٌ محمود مرغوب، بل هو مأمور به، لكن رسول الله كان يخشى على أُمَّته من المبالغة في الأمر، فيفتقدون التوازن في حياتهم، فقال رسول الله : "لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَخَّرْتُ صَلاَةَ الْعِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفِ اللَّيْلِ"[5]. فهذا الحديث وغيره يُبَيِّن مدى حُبِّ رسول الله لأُمَّته، وحرصه عليها وعلى مصالحها في أمور دينها.
ومِنْ ثَمَّ كان رسول الله يتحيَّن الفرص في إبراز حقيقة حرصه على الناس كافَّة؛ فقد سَمِعَ رسول الله أن ثلاثةً من الصحابة يُريدون أن يَشُقُّوا على أنفسهم؛ ظنًّا منهم أن هذا الأمر سيكون سببًا قويًّا في قربهم لله تعالى؛ فعن أنس بن مالك t أنه قال: "جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ ، قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟! قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا. وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ. وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: (أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي"[6].
وما أجمل أن نختم كلامنا بموقف يعكس مدى انشغال رسول الله بأُمَّته وحرصه عليها، ومدى تقدير ربِّ العالمين I لهذا الحرص! فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- إذ يروي "أن النبي تلا قول الله تعالى في إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36]، وقال عيسى u: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: "اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي". وَبَكَى، فَقَالَ اللهُ : يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ -وَرَبُّكَ أَعْلَمُ- فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ u فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ بِمَا قَالَ، وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللهُ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلا نَسُوءُكَ"[7].
د. راغب السرجاني
[1] البيهقي: كتاب السير، باب الإذن بالسير (18190)، وابن هشام: السيرة النبوية 1/322، 323، وقال الألباني: صحيح. انظر: السلسلة الصحيحة (3190).
[2] البخاري: أبواب التهجد، باب تحريض النبي على صلاة الليل... (1076)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة الضحى... (718).
[3] أحمد (3818)، وقال شعيب الأرناءوط: حسن لغيره. والطبراني: المعجم الكبير 5/449، والبيهقي: شعب الإيمان (7017)، وقال الألباني: صحيح. انظر: صحيح الجامع (2687).
[4] أبو داود: كتاب الفتن والملاحم، باب ذكر الفتن ودلائلها (4252)، والترمذي: (2229)، وأحمد عن أبي الدرداء (27525)، واللفظ له، وقال شعيب الأرناءوط: صحيح لغيره. والدارمي (211)، وقال الألباني: صحيح. انظر: السلسلة الصحيحة (1582).
[5] الترمذي عن زيد بن خالد الجهني: أبواب الطهارة، السواك (23)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجه (691)، وقال الألباني: صحيح. انظر: مشكاة المصابيح (390).
[6] البخاري: كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح (4776)، ومسلم: كتاب النكاح، باب استحباب النكاح (1401).
[7] مسلم عن عبد الله بن عمرو: كتاب الإيمان، باب دعاء النبي لأمته وبكائه شفقة عليهم (202)، والنسائي (11269)، والطبراني: المعجم الكبير (1515)، وشعب الإيمان للبيهقي (308)، وابن حبان (7357).
رد: حياة الرسول
نقاء حياة رسول الله
حياة رسول الله قبل البعثة
محمد رسول الله صلي الله علية وسلماتَّصفت حياة رسول الله قبل البعثة وبعدها بالنقاء التامِّ والأخلاق والشمائل العظيمة التي قَلَّمَا تجتمع في تلك البيئة الجاهليَّة لأحد، فقد اشتهر رسول الله بالصدق والأمانة؛ الأمر الذي جعل أعداء رسول الله يستأمنونه على أموالهم وودائعهم رغم عدائهم الشديد له، وعدم إيمانهم بدعوته، ولم تُنْسِ رسول اللهِ عداوَةُ قومه له خصلةَ الأمانة؛ لذلك فقد استخلف رسول الله عليَّ بن أبي طالب ليلة الهجرة لردِّ الودائع إلى أصحابها، رغم أن أصحاب هذه الأمانات قد أجمعوا آراءهم على قتله في تلك الليلة.
حفظ الله لرسول الله
ولننظر إلى سيرة رسول الله العطرة لنُدرك نقاء حياته وحِفْظ الله له؛ فقد صُنِعَ بحقٍّ على عين الله تبارك وتعالى؛ ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين، فقد حفظه الله I فترة شبابه -قبل النبوة- عمَّا كان عليه أهل الجاهليَّة، وعصمه عن مقارعة الآثام أو إتيان الدنايا، فشبَّ رسول الله -كما يقول ابن إسحاق وغيره- يكلؤه الله ويحفظه، ويحوطه من أقذار الجاهليَّة ومعايبها[1].
ومن جوانب حفظ الله له وعصمته إيَّاه ما كان يُحَدِّث به رسول الله من أنه لم تُكشف له عورة وهو غلام، فقال رسول الله : "لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي غِلْمَانٍ مِنْ قُرَيْشٍ، نَنْقُلُ حِجَارَةً لِبَعْضِ مَا يَلْعَبُ بِهِ الصِّبْيَانِ، كُلُّنَا قَدْ تَعَرَّى وَأَخَذَ إِزَارَهُ[2] وَجَعَلَهُ عَلَى رَقَبَتِهِ؛ يَحْمِلُ عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ، فَإِنِّي لأُقْبِلُ مَعَهُمْ وَأُدْبِرُ إِذْ لَكَمَنِي لاكِمٌ لَكْمَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ قَالَ: شِدَّ عَلَيْكَ إِزَارَكَ. قَالَ: فَأَخَذْتُهُ فَشَدَدْتُهُ عَلَيَّ، ثُمَّ جَعَلْتُ أَنْقُلُ الْحِجَارَةَ عَلَى رَقَبَتِي وَإِزَارِي عَلَيَّ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِي"[3].
وقد وقع قريبٌ من هذا عند بناء الكعبة، فروى ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: حدَّثني أبي العباسُ بن عبد المطلب، قال: لمَّا بَنَتْ قريش الكعبة انفردتْ رجلين رجلين ينقلون الحجارة، فكنتُ أنا وابن أخي، فجَعَلْنَا نأخذُ أُزُرَنَا فنضعها على مناكبنا[4]، ونجعل عليها الحجارة، فإذا دنونا من الناس لَبِسْنَا أُزُرَنا، فبينا هو أمامي إذ صُرِعَ[5]، فسَعَيْتُ وهو شاخص ببصره[6] إلى السماء، فقلتُ: يابن أخي، ما شأنك؟ قال: "نُهِيتُ أَنْ أَمْشِيَ عُرْيَانًا". قال: فكتمتُه حتى أظهره الله بنبوَّته[7].
وكان مِنْ حِفْظ اللهِ له -أيضًا- أنه لم يركن إلى اللهو ولم يسمع الغناء، يَرْوِي في ذلك عليٌّ t فيقول: سمعتُ رسول الله يقول: "مَا هَمَمْتُ بِشَيْءٍ ممَّا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَهِمُّونَ بِهِ مِنَ الْغِنَاءِ إِلاَّ لَيْلَتَيْنِ، كِلْتَاهُمَا عَصَمَنِي اللهُ مِنْهُمَا؛ لَيْلَةٌ لِبَعْضِ فِتْيَانِ مَكَّةَ وَنَحْنُ فِي رِعَايَةِ غَنَمِ أَهْلِنَا، فَقُلْتُ لِصَاحِبِي: أَبْصِرْ لِي غَنَمِي؛ حَتَّى أَدْخُلَ مَكَّةَ فَأَسْمُرَ بِهَا كَمَا يَسْمُرُ الْفِتْيَانُ. فَقَالَ: بَلَى. فَدَخَلْتُ حَتَّى إِذَا جِئْتُ أَوَّلَ دَارٍ مِنْ دُورِ مَكَّةَ سَمِعْتُ عَزْفًا وَغَرَابِيلَ[8] وَمَزَامِيرَ، قُلْتُ: مَا هَذَا؟ قِيلَ: تَزْوِيجُ فُلانٍ فُلانَةَ. فَجَلَسْتُ أَنْظُرُ، وَضَرَبَ اللهُ عَلَى أُذُنِي، فَوَاللهِ مَا أَيْقَظَنِي إِلاَّ مَسُّ الشَّمْسِ، فَرَجَعْتُ إِلَى صَاحِبِي، فَقَالَ: مَا فَعَلْتَ؟ فَقُلْتُ: مَا فَعَلْتُ شَيْئًا. ثُمَّ أَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي رَأَيْتُ. ثُمَّ قُلْتُ لَهُ لَيْلَةً أُخْرَى: أَبْصِرْ لِي غَنَمِي؛ حَتَّى أَسْمُرَ بِمَكَّةَ. فَفَعَلَ، فَدَخَلْتُ، فَلَمَّا جِئْتُ مَكَّةَ سَمِعْتُ مِثْلَ الَّذِي سَمِعْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَجَلَسْتُ أَنْظُرُ، وَضَرَبَ اللهُ عَلَى أُذُنِي، فَوَ اللهِ مَا أَيْقَظَنِي إِلاَّ مَسُّ الشَّمْسِ، فَرَجَعْتُ إِلَى صَاحِبِي، فَقَالَ: مَا فَعَلْتَ؟ فَقُلْتُ: لا شَيْءَ. ثُمَّ أَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي رَأَيْتُ، فَوَ اللهِ مَا هَمَمْتُ وَلا عُدْتُ بَعْدَهُمَا لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى أَكْرَمَنِي اللهُ بِنُبُوَّتِهِ"[9].
كما أن رسول الله لم يشرب خمرًا قطُّ، ولم يسجد لصنم قطُّ؛ فعن عليٍّ t قال: قيل للنبي : هل عبدتَ وثنًا قطُّ؟ قال: "لا". قالوا: فهل شربتَ خمرًا قطُّ؟ قال: "لا، وَمَا زِلْتُ أَعْرِفُ أَنَّ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ كُفْرٌ، وَمَا كُنْتُ أَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ"[10].
وتروي أُمُّ أيمن -رضي الله عنها- حاضنة الرسول عن عدم سجوده لصنم قطُّ فتقول: كان بُوَانة صنمًا تحضره قريش يومًا في السنة، فكان أبو طالب يحضره مع قومه، وكان يكلِّم رسول الله أن يحضر ذلك معه فيأبى، حتى رأيتُ أبا طالب غضب عليه، ورأيتُ عمَّاته غضبن عليه، وقُلْنَ: يا محمد، ما تريد أن تحضر لقومك عيدًا، ولا تُكَثِّر لهم جمعًا؟! فلم يزالوا به حتى ذهب، فغاب ما شاء الله، ثم رجع مرعوبًا فَزِعًا، فقالت عمَّاته: ما دهاك؟ قال: "إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ بِي لَمَمٌ". فقلن: ما كان الله يبتليك بالشيطان وفيك من خصال الخير ما فيك، فما الذي رأيتَ؟ قال: "إِنِّي كُلَّمَا دَنَوْتُ مِنْ صَنَمٍ مِنْهَا تَمَثَّلَ لِي رَجُلٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ يَصِيحُ بِي: وَرَاءَكَ يَا مُحَمَّدُ، لا تَمَسَّهُ". قالت: فما عاد إلى عيد لهم[11].
وظلَّ على هذه الحال بعد نزول الوحي عليه لا يركن إلى الدنيا، ولا يبحث عن ملذَّاتها، فها هو رسول الله يقول لزعماء قريش عندما عرضوا عليه الدنيا في مقابل ترك دعوته: "مَا جِئْتُكُمْ بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ أَطْلُبُ أَمْوَالَكُمْ، وَلا الشَّرَفَ فِيكُمْ، وَلا الْمُلْكَ عَلَيْكُمْ، وَلَكِنَّ اللهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ رَسُولاً، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ كِتَابًا، وَأَمَرَنِي أَنْ أَكُونَ لَكُمْ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَبَلَّغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي، وَنَصَحْتُ لَكُمْ، فَإِنْ تَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظُّكُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِرْ لأَمْرِ اللهِ، حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ"[12]. فالهدف واضح في ذهن رسول الله ، وثقته كبيرة بنصر الله له رغم التكذيب والعناد الذي يُلاقيه.
صور من نقاء حياة رسول الله
ومن نقاء حياة رسول الله وكمالها أنه لم يَتَحَيَّن ويستغل الفرص للتعالي على قومه وأتباعه، وهناك شواهدُ كثيرةٌ على ذلك؛ منها موقفه من كسوف الشمس وقت وفاة ابنه إبراهيم؛ فعن المغيرة بن شعبة، أنه قَالَ: كَسَفَتِ الشمس على عهد رسول الله يوم مات إبراهيم، فقال الناس: كسفت لموت إبراهيم. فقال رسول الله : "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لاَ يَكْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَصَلُّوا، وَادْعُوا اللَّهَ "[13]. مثلُ هذا لا يصدر عن كاذب أو دجال، فلو كان غير رسول الله مِنْ مُدَّعِي النُّبُوَّة، لانتهز هذه الفرصة، وقال: انظروا الشمس حزنت لحزني وانكسفت. ولكن حاشا لرسول الله أن يفعل ذلك.
ومن نقاء حياته ووضوحها -أيضًا- حرص رسول الله على إظهار بشريَّتِهِ ، فما محمد إلاَّ بشر من بني آدم، وُلِد من أبوين، فيأكل الطعام ويَتَزَوَّج النساء، يجوع ويمرض، ويفرح ويحزن، والمدهش حقًّا أن يأتي هذا التأكيد منه بل ويُصِرُّ عليه. وما أجمل أن نتذَكَّر هنا موقف جرير بن عبد الله t الذي قال: أُتِيَ النبي برجل ترعد[14] فرائصه[15]، فقال له: "هَوِّنْ عَلَيْكَ، فَإِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَتْ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ[16] فِي هَذِهِ الْبَطْحَاءِ[17]"! قال: ثم تلا جرير بن عبد الله البجلي: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45][18].
ومن أعظم الأدلَّة على نقاء حياة رسول الله عتابُ الله I له ، ونزول هذا العتاب في القرآن الكريم؛ ليظل محفوظًا بين الناس على الدوام، وهذا العتاب يكشف لنا كيف كانت حياة النبي واضحةً غاية الوضوح، حتى عَلِمَ الجميعُ سِرَّه وعلانيته، فهل يَتَأَتَّى ذلك لدعِيٍّ أو كذَّاب! ومن أمثلة هذا العتاب قوله تعالى في حقِّ نَبِيِّنَا : {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس: 1، 2]، وذلك أن عبد الله بن أم مكتوم أتى النبيَّ يستهديه، فأعرض النبي عنه؛ لانشغاله بدعوة سادات قريش، فنزل عتاب الله جَلَّ وعلا لنَبِيِّه ، فكان قرآنًا يُتْلَى إلى يوم القيامة، وقد تكرر هذا العتاب في أكثر من موقف من مواقف حياته .
هكذا كان محمدٌ واضحًا غاية الوضوح، ونقيًّا غاية النقاء؛ فكانت رسالته خاتمة الرسالات.
د. راغب السرجاني
[1] انظر: ابن هشام: السيرة النبوية 1/183، وابن كثير: البداية والنهاية 2/286.
[2] الأُزُر: جمع إِزَار، وهو ثوب يحيط بالنصف الأسفل من البدن. انظر: المعجم الوسيط، مادة أزر 1/16.
[3] ابن هشام: السيرة النبوية 1/183، والسهيلي: الروض الأنف 1/312، والصالحي: سبل الهدى والرشاد 2/147.
[4] المناكب: جمع المَنْكِب، وهو مُجْتَمَع عَظْم العضد والكتف. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة نكب 1/770.
[5] صُرِعَ: أي سقط ووقع. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة صرع 8/197.
[6] شَخَصَ الرجل ببصره: رَفَعَه فلم يَطْرِفْ. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة شخص 7/45.
[7] مسند البزار (1295)، وابن أبي عاصم الشيباني: الآحاد والمثاني 1/271 (354)، والصالحي: سبل الهدى والرشاد 2/148، وابن كثير: السيرة النبوية 1/251، وقال الألباني: صحيح. انظر: صحيح الجامع (6783).
[8] الغرابيل: جمع الغِرْبال، وهو الدُّفُّ. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة غربل 11/491.
[9] ابن حبان (6272)، والحاكم (7619) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وقال الذهبي في التلخيص: على شرط مسلم. والبزار (640).
[10] الصالحي: سبل الهدى والرشاد 2/149، والمتقي الهندي: كنز العمال (35439)، والشوكاني: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير 4/546.
[11] ابن سعد: الطبقات الكبرى 1/158، والصالحي: سبل الهدى والرشاد 2/149، وابن سيد الناس: عيون الأثر 1/66.
[12] البخاري: خلق أفعال العباد ص186 حديث رقم (408)، وابن كثير: السيرة النبوية 1/479.
[13] البخاري: كتاب الكسوف، باب الصلاة في كسوف الشمس (996)، ومسلم: كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف (901)، واللفظ له.
[14] تُرْعَد فرائصه: أَي ترجف وتضطرب من الخوف. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة رعد 3/179.
[15] فرائص جمع فرِيصةُ: وهي المُضْغَةُ التي بين الثدي، ومَرْجِع الكتف من الرجل، والدابة تُرْعَد إِذا فَزِعَت. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة فرص 7/64.
[16] القديد: اللحم المَمْلُوحُ المُجَفَّف في الشمس. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة قدد 3/343.
[17] بطحاء الوادي: تراب ليِّنٌ مما جرَّته السُّيول، ومنها بطحاء مكة. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة بطح 2/412.
[18] الحاكم (3733)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال الألباني: صحيح. انظر: صحيح الجامع (7052).
حياة رسول الله قبل البعثة
محمد رسول الله صلي الله علية وسلماتَّصفت حياة رسول الله قبل البعثة وبعدها بالنقاء التامِّ والأخلاق والشمائل العظيمة التي قَلَّمَا تجتمع في تلك البيئة الجاهليَّة لأحد، فقد اشتهر رسول الله بالصدق والأمانة؛ الأمر الذي جعل أعداء رسول الله يستأمنونه على أموالهم وودائعهم رغم عدائهم الشديد له، وعدم إيمانهم بدعوته، ولم تُنْسِ رسول اللهِ عداوَةُ قومه له خصلةَ الأمانة؛ لذلك فقد استخلف رسول الله عليَّ بن أبي طالب ليلة الهجرة لردِّ الودائع إلى أصحابها، رغم أن أصحاب هذه الأمانات قد أجمعوا آراءهم على قتله في تلك الليلة.
حفظ الله لرسول الله
ولننظر إلى سيرة رسول الله العطرة لنُدرك نقاء حياته وحِفْظ الله له؛ فقد صُنِعَ بحقٍّ على عين الله تبارك وتعالى؛ ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين، فقد حفظه الله I فترة شبابه -قبل النبوة- عمَّا كان عليه أهل الجاهليَّة، وعصمه عن مقارعة الآثام أو إتيان الدنايا، فشبَّ رسول الله -كما يقول ابن إسحاق وغيره- يكلؤه الله ويحفظه، ويحوطه من أقذار الجاهليَّة ومعايبها[1].
ومن جوانب حفظ الله له وعصمته إيَّاه ما كان يُحَدِّث به رسول الله من أنه لم تُكشف له عورة وهو غلام، فقال رسول الله : "لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي غِلْمَانٍ مِنْ قُرَيْشٍ، نَنْقُلُ حِجَارَةً لِبَعْضِ مَا يَلْعَبُ بِهِ الصِّبْيَانِ، كُلُّنَا قَدْ تَعَرَّى وَأَخَذَ إِزَارَهُ[2] وَجَعَلَهُ عَلَى رَقَبَتِهِ؛ يَحْمِلُ عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ، فَإِنِّي لأُقْبِلُ مَعَهُمْ وَأُدْبِرُ إِذْ لَكَمَنِي لاكِمٌ لَكْمَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ قَالَ: شِدَّ عَلَيْكَ إِزَارَكَ. قَالَ: فَأَخَذْتُهُ فَشَدَدْتُهُ عَلَيَّ، ثُمَّ جَعَلْتُ أَنْقُلُ الْحِجَارَةَ عَلَى رَقَبَتِي وَإِزَارِي عَلَيَّ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِي"[3].
وقد وقع قريبٌ من هذا عند بناء الكعبة، فروى ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: حدَّثني أبي العباسُ بن عبد المطلب، قال: لمَّا بَنَتْ قريش الكعبة انفردتْ رجلين رجلين ينقلون الحجارة، فكنتُ أنا وابن أخي، فجَعَلْنَا نأخذُ أُزُرَنَا فنضعها على مناكبنا[4]، ونجعل عليها الحجارة، فإذا دنونا من الناس لَبِسْنَا أُزُرَنا، فبينا هو أمامي إذ صُرِعَ[5]، فسَعَيْتُ وهو شاخص ببصره[6] إلى السماء، فقلتُ: يابن أخي، ما شأنك؟ قال: "نُهِيتُ أَنْ أَمْشِيَ عُرْيَانًا". قال: فكتمتُه حتى أظهره الله بنبوَّته[7].
وكان مِنْ حِفْظ اللهِ له -أيضًا- أنه لم يركن إلى اللهو ولم يسمع الغناء، يَرْوِي في ذلك عليٌّ t فيقول: سمعتُ رسول الله يقول: "مَا هَمَمْتُ بِشَيْءٍ ممَّا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَهِمُّونَ بِهِ مِنَ الْغِنَاءِ إِلاَّ لَيْلَتَيْنِ، كِلْتَاهُمَا عَصَمَنِي اللهُ مِنْهُمَا؛ لَيْلَةٌ لِبَعْضِ فِتْيَانِ مَكَّةَ وَنَحْنُ فِي رِعَايَةِ غَنَمِ أَهْلِنَا، فَقُلْتُ لِصَاحِبِي: أَبْصِرْ لِي غَنَمِي؛ حَتَّى أَدْخُلَ مَكَّةَ فَأَسْمُرَ بِهَا كَمَا يَسْمُرُ الْفِتْيَانُ. فَقَالَ: بَلَى. فَدَخَلْتُ حَتَّى إِذَا جِئْتُ أَوَّلَ دَارٍ مِنْ دُورِ مَكَّةَ سَمِعْتُ عَزْفًا وَغَرَابِيلَ[8] وَمَزَامِيرَ، قُلْتُ: مَا هَذَا؟ قِيلَ: تَزْوِيجُ فُلانٍ فُلانَةَ. فَجَلَسْتُ أَنْظُرُ، وَضَرَبَ اللهُ عَلَى أُذُنِي، فَوَاللهِ مَا أَيْقَظَنِي إِلاَّ مَسُّ الشَّمْسِ، فَرَجَعْتُ إِلَى صَاحِبِي، فَقَالَ: مَا فَعَلْتَ؟ فَقُلْتُ: مَا فَعَلْتُ شَيْئًا. ثُمَّ أَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي رَأَيْتُ. ثُمَّ قُلْتُ لَهُ لَيْلَةً أُخْرَى: أَبْصِرْ لِي غَنَمِي؛ حَتَّى أَسْمُرَ بِمَكَّةَ. فَفَعَلَ، فَدَخَلْتُ، فَلَمَّا جِئْتُ مَكَّةَ سَمِعْتُ مِثْلَ الَّذِي سَمِعْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَجَلَسْتُ أَنْظُرُ، وَضَرَبَ اللهُ عَلَى أُذُنِي، فَوَ اللهِ مَا أَيْقَظَنِي إِلاَّ مَسُّ الشَّمْسِ، فَرَجَعْتُ إِلَى صَاحِبِي، فَقَالَ: مَا فَعَلْتَ؟ فَقُلْتُ: لا شَيْءَ. ثُمَّ أَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي رَأَيْتُ، فَوَ اللهِ مَا هَمَمْتُ وَلا عُدْتُ بَعْدَهُمَا لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى أَكْرَمَنِي اللهُ بِنُبُوَّتِهِ"[9].
كما أن رسول الله لم يشرب خمرًا قطُّ، ولم يسجد لصنم قطُّ؛ فعن عليٍّ t قال: قيل للنبي : هل عبدتَ وثنًا قطُّ؟ قال: "لا". قالوا: فهل شربتَ خمرًا قطُّ؟ قال: "لا، وَمَا زِلْتُ أَعْرِفُ أَنَّ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ كُفْرٌ، وَمَا كُنْتُ أَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ"[10].
وتروي أُمُّ أيمن -رضي الله عنها- حاضنة الرسول عن عدم سجوده لصنم قطُّ فتقول: كان بُوَانة صنمًا تحضره قريش يومًا في السنة، فكان أبو طالب يحضره مع قومه، وكان يكلِّم رسول الله أن يحضر ذلك معه فيأبى، حتى رأيتُ أبا طالب غضب عليه، ورأيتُ عمَّاته غضبن عليه، وقُلْنَ: يا محمد، ما تريد أن تحضر لقومك عيدًا، ولا تُكَثِّر لهم جمعًا؟! فلم يزالوا به حتى ذهب، فغاب ما شاء الله، ثم رجع مرعوبًا فَزِعًا، فقالت عمَّاته: ما دهاك؟ قال: "إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ بِي لَمَمٌ". فقلن: ما كان الله يبتليك بالشيطان وفيك من خصال الخير ما فيك، فما الذي رأيتَ؟ قال: "إِنِّي كُلَّمَا دَنَوْتُ مِنْ صَنَمٍ مِنْهَا تَمَثَّلَ لِي رَجُلٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ يَصِيحُ بِي: وَرَاءَكَ يَا مُحَمَّدُ، لا تَمَسَّهُ". قالت: فما عاد إلى عيد لهم[11].
وظلَّ على هذه الحال بعد نزول الوحي عليه لا يركن إلى الدنيا، ولا يبحث عن ملذَّاتها، فها هو رسول الله يقول لزعماء قريش عندما عرضوا عليه الدنيا في مقابل ترك دعوته: "مَا جِئْتُكُمْ بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ أَطْلُبُ أَمْوَالَكُمْ، وَلا الشَّرَفَ فِيكُمْ، وَلا الْمُلْكَ عَلَيْكُمْ، وَلَكِنَّ اللهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ رَسُولاً، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ كِتَابًا، وَأَمَرَنِي أَنْ أَكُونَ لَكُمْ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَبَلَّغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي، وَنَصَحْتُ لَكُمْ، فَإِنْ تَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظُّكُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِرْ لأَمْرِ اللهِ، حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ"[12]. فالهدف واضح في ذهن رسول الله ، وثقته كبيرة بنصر الله له رغم التكذيب والعناد الذي يُلاقيه.
صور من نقاء حياة رسول الله
ومن نقاء حياة رسول الله وكمالها أنه لم يَتَحَيَّن ويستغل الفرص للتعالي على قومه وأتباعه، وهناك شواهدُ كثيرةٌ على ذلك؛ منها موقفه من كسوف الشمس وقت وفاة ابنه إبراهيم؛ فعن المغيرة بن شعبة، أنه قَالَ: كَسَفَتِ الشمس على عهد رسول الله يوم مات إبراهيم، فقال الناس: كسفت لموت إبراهيم. فقال رسول الله : "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لاَ يَكْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَصَلُّوا، وَادْعُوا اللَّهَ "[13]. مثلُ هذا لا يصدر عن كاذب أو دجال، فلو كان غير رسول الله مِنْ مُدَّعِي النُّبُوَّة، لانتهز هذه الفرصة، وقال: انظروا الشمس حزنت لحزني وانكسفت. ولكن حاشا لرسول الله أن يفعل ذلك.
ومن نقاء حياته ووضوحها -أيضًا- حرص رسول الله على إظهار بشريَّتِهِ ، فما محمد إلاَّ بشر من بني آدم، وُلِد من أبوين، فيأكل الطعام ويَتَزَوَّج النساء، يجوع ويمرض، ويفرح ويحزن، والمدهش حقًّا أن يأتي هذا التأكيد منه بل ويُصِرُّ عليه. وما أجمل أن نتذَكَّر هنا موقف جرير بن عبد الله t الذي قال: أُتِيَ النبي برجل ترعد[14] فرائصه[15]، فقال له: "هَوِّنْ عَلَيْكَ، فَإِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَتْ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ[16] فِي هَذِهِ الْبَطْحَاءِ[17]"! قال: ثم تلا جرير بن عبد الله البجلي: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45][18].
ومن أعظم الأدلَّة على نقاء حياة رسول الله عتابُ الله I له ، ونزول هذا العتاب في القرآن الكريم؛ ليظل محفوظًا بين الناس على الدوام، وهذا العتاب يكشف لنا كيف كانت حياة النبي واضحةً غاية الوضوح، حتى عَلِمَ الجميعُ سِرَّه وعلانيته، فهل يَتَأَتَّى ذلك لدعِيٍّ أو كذَّاب! ومن أمثلة هذا العتاب قوله تعالى في حقِّ نَبِيِّنَا : {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس: 1، 2]، وذلك أن عبد الله بن أم مكتوم أتى النبيَّ يستهديه، فأعرض النبي عنه؛ لانشغاله بدعوة سادات قريش، فنزل عتاب الله جَلَّ وعلا لنَبِيِّه ، فكان قرآنًا يُتْلَى إلى يوم القيامة، وقد تكرر هذا العتاب في أكثر من موقف من مواقف حياته .
هكذا كان محمدٌ واضحًا غاية الوضوح، ونقيًّا غاية النقاء؛ فكانت رسالته خاتمة الرسالات.
د. راغب السرجاني
[1] انظر: ابن هشام: السيرة النبوية 1/183، وابن كثير: البداية والنهاية 2/286.
[2] الأُزُر: جمع إِزَار، وهو ثوب يحيط بالنصف الأسفل من البدن. انظر: المعجم الوسيط، مادة أزر 1/16.
[3] ابن هشام: السيرة النبوية 1/183، والسهيلي: الروض الأنف 1/312، والصالحي: سبل الهدى والرشاد 2/147.
[4] المناكب: جمع المَنْكِب، وهو مُجْتَمَع عَظْم العضد والكتف. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة نكب 1/770.
[5] صُرِعَ: أي سقط ووقع. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة صرع 8/197.
[6] شَخَصَ الرجل ببصره: رَفَعَه فلم يَطْرِفْ. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة شخص 7/45.
[7] مسند البزار (1295)، وابن أبي عاصم الشيباني: الآحاد والمثاني 1/271 (354)، والصالحي: سبل الهدى والرشاد 2/148، وابن كثير: السيرة النبوية 1/251، وقال الألباني: صحيح. انظر: صحيح الجامع (6783).
[8] الغرابيل: جمع الغِرْبال، وهو الدُّفُّ. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة غربل 11/491.
[9] ابن حبان (6272)، والحاكم (7619) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وقال الذهبي في التلخيص: على شرط مسلم. والبزار (640).
[10] الصالحي: سبل الهدى والرشاد 2/149، والمتقي الهندي: كنز العمال (35439)، والشوكاني: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير 4/546.
[11] ابن سعد: الطبقات الكبرى 1/158، والصالحي: سبل الهدى والرشاد 2/149، وابن سيد الناس: عيون الأثر 1/66.
[12] البخاري: خلق أفعال العباد ص186 حديث رقم (408)، وابن كثير: السيرة النبوية 1/479.
[13] البخاري: كتاب الكسوف، باب الصلاة في كسوف الشمس (996)، ومسلم: كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف (901)، واللفظ له.
[14] تُرْعَد فرائصه: أَي ترجف وتضطرب من الخوف. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة رعد 3/179.
[15] فرائص جمع فرِيصةُ: وهي المُضْغَةُ التي بين الثدي، ومَرْجِع الكتف من الرجل، والدابة تُرْعَد إِذا فَزِعَت. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة فرص 7/64.
[16] القديد: اللحم المَمْلُوحُ المُجَفَّف في الشمس. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة قدد 3/343.
[17] بطحاء الوادي: تراب ليِّنٌ مما جرَّته السُّيول، ومنها بطحاء مكة. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة بطح 2/412.
[18] الحاكم (3733)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال الألباني: صحيح. انظر: صحيح الجامع (7052).
رد: حياة الرسول
أمية رسول الله
أرسل الله نَبِيَّه محمدًا إلى العالمين بشيرًا ونذيرًا، وأَيَّده بالمعجزات الدالَّة على صدقه، ومن أبرز هذه المعجزات أُمِّيَّة رسول الله . فمن الثابت تاريخيًّا أن رسول الله وُلِدَ أُمِّيًّا، وظلَّ على ذلك إلى أن بعثه الله للعالمين وهو أُمِّيٌّ، وهذا كمالٌ في حَقِّ رسول الله ، ومعجزة من معجزاته الشريفة، يقول عنها ابن تيمية: "بَيَّنَ سبحانه من حاله ما يَعْلَمُه العامَّة والخاصَّة، وهو معلومٌ لجميع قومه الذين شاهدوه، متواترٌ عند مَنْ غاب عنه وبَلَغَتْهُ أخباره من جميع الناس - أنه كان أُمِّيًّا لا يقرأ كتابًا، ولا يحفظ كتابًا من الكتب؛ لا المُنَزَّلة ولا غيرها، ولا يكتب بيمينه كتابًا، ولا ينسخ شيئًا من كُتب الناس، المُنَزَّلَة ولا غيرها"[1].
القرآن يتحدث عن أمية رسول الله
وتَعَددت الآيات القرآنية التي تُثْبِتُ أُمِّيَّة رسول الله ، وتَرُدُّ على الذين يَدَّعُونَ أن رسول الله قد تَعَلَّم هذا القرآن من قراءته في كُتب الأَوَّلِينَ، ومن هذه الآيات قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]، وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]. وقال ابن عباس t: كان نَبِيُّكُم أُمِّيًّا لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب..."[2].
كما قال الله في آية أخرى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48]. ويُعَلِّقُ الزمخشري على هذه الآية قائلاً: "وأنت أُمِّيٌّ ما عَرَّفَكَ أحدٌ قَطُّ بتلاوة كتاب ولا خطٍّ. {إِذًا} لو كان شيء من ذلك، أي من التلاوة والخطِّ. {لاَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} من أهل الكتاب، وقالوا: الذي نجده في كتبنا أُمِّيٌّ لا يكتب ولا يقرأ... أو لارتاب مشركو مكة وقالوا: لعله تَعَلَّمَهُ أو كتبه بيده"[3].
أمية رسول الله من المعجزات العقلية
وتُعَدُّ أُمِّيَّة رسول الله من المعجزات العقلية على صدق النبي ، "والأُمِّيَّة وصفٌ خصَّ اللهُ به من رسله محمدًا؛ إتمامًا للإعجاز العلمي العقلي الذي أَيَّده الله به، فجعل الأُمِّيَّة وصفًا ذاتيًّا له... ليُظْهِرَ أن كماله النفساني كمالٌ لدنيّ إلهي، لا واسطة فيه للأسباب المتعارفة للكمالات، وبذلك كانت الأُمِّيَّة وصفَ كمالٍ فيه، مع أنها في غيره وصف نقصان؛ لأنه لمَّا حصل له من المعرفة وسداد العقل ما لا يحتمل الخطأ في كل نواحي معرفة الكمالات الحقِّ، وكان على يقين من علمه، وبَيِّنَةٍ من أمره، ما هو أعظم مما حصل للمتعلمين؛ صارت أُمِّيَّتُه آيةً على كَوْن ما حصل له إنَّمَا هو من فيوضات إلهيَّة"[4].
معجزة القرآن الكريم
ومن تمام هذه المعجزة النبوية أن الكتاب الذي أُنْزِلَ عليه –القرآن الكريم- معجِزٌ لمشركي العرب ولمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة، رغم أن مشركي العرب أهلُ الفصاحة والبلاغة، بل وتحدَّاهم رسول الله أن يأتوا بمثله، أو حتى بسورة أو آية من مثله؛ فليفكرْ صاحب العقل في هذه المعجزة الباهرة، كما يقول ابن عاشور صاحب التحرير والتنوير: "أفلا تعقلون أنَّ مثل هذا الحال -من الجمع بين الأُمِّيَّة والإتيان بهذا الكتاب البديع في بلاغته ومعانيه- لا يكون إلاَّ حال مَنْ أفاض الله عليه رسالته؛ إذ لا يَتَأَتَّى مثله في العادة لأحدٍ"[5].
ولقد اعترف مشركو قريش قديمًا أن هذا القرآن المعجز لا يمكن أن يتأتى لرجل أُمِّيٍّ لا يعرف القراءة ولا الكتابة؛ فَادَّعَوْا أن ذلك سحرٌ يُؤْثَر[6]، فها هو ذا عتبة بن ربيعة يقول: إني والله قد سمعتُ قولاً ما سمعتُ مثله قَطُّ، ما هو بالشعر ولا الكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، خَلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، واعتزلوه، فوالله! ليكوننَّ لقوله الذي سمعتُ نبأ، فإنْ تُصِبْهُ العرب فقد كُفِيتُمُوهُ بغيركم، وإنْ يَظْهَرْ على العرب فمُلْكُهُ مُلْكُكُم، وعِزُّه عِزُّكم، وكنتُم أسعد الناس به. قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه[7].
كما أَدْرَكَ ذلك -أيضًا- عَدَّاس ذلك الفتى النصراني الذي أرسله ابني ربيعة إلى رسول الله بقِطْفٍ[8] من العنب، بعدما لجأ إلى حائطهما، ورسول الله عائدٌ من الطائف مكروبًا حزينًا على عدم إيمان أهلها، ففعل عَدَّاس، وأقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله ، فلمَّا وضع رسول الله يده قال: "باسم الله". ثم أكل، فنظر عَدَّاس إلى وجهه، ثم قال له: والله! إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة. فقال له رسول الله : "مِنْ أَيِّ الْبِلادِ أَنْتَ؟ وَمَا دِينُكَ؟" فقال عَدَّاس: أنا نصراني، وأنا رجل من أهل نِينَوَى[9]. فقال له رسول الله : "مِنْ قَرْيَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ يُونُسَ بْنِ مَتَّى؟" فقال له عَدَّاس: وما يُدْرِيكَ ما يونس بن متى؟! والله لقد خرجتُ من نينوى وما فيها عشرة يعرفون مَتَّى، من أين عَرَفْتَ أنت مَتَّى وأنت أُمِّيٌّ وفي أُمَّةٍ أُمِّيَّة؟! فقال رسول الله : "هُوَ أَخِي، كَانَ نَبِيًّا وَأَنَا نَبِيٌّ". فأكبَّ عَدَّاس على رسول الله يُقَبِّلُ رأسه ويديه ورجليه، فلمَّا رجع عَدَّاسٌ، قالا ابنا ربيعة: ويلك يا عَدَّاسُ! ما لَكَ تُقَبِّلُ رأس هذا الرجل ويديه ورجليه؟! فقال: يا سيدي ما في الأرض خير من هذا الرجل، لقد خَبَّرَنِي بأمر لا يعلمه إلاَّ نبي[10].
وقد حاول بعضُ المشكِّكِينَ أن يَنْفُوا عن رسول الله صفة الأُمِّيَّة؛ لأن سرده لما في التوراة والإنجيل، وتنبُّؤَه بالعديد من الأحداث المستقبليَّة -كهزيمة الفرس، كما ذكرنا سابقًا، وغير ذلك- دون تعليم، إنما يُعَدُّ معجزةً عقليَّةً باهرةً لا ينكرها إلاَّ المكابرون، وهؤلاء المكابرون يعلمون جيدًا أن أُمِّيَّة النبي مذكورة في التوراة والإنجيل؛ مصداقًا لقول الله I: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157].
كما قال الله تبارك وتعالى في آية أخرى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [آل عمران: 70]، تشهدون أن صفة محمد في كتابكم، ثم تكفرون به وتنكرونه، ولا تؤمنون به، وأنتم تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل: "النَّبِيَّ الأمِّيَّ الذي يؤمن بالله وكلماته"[11].
هكذا كانت أُمِّيَّة رسول الله دليلاً من أَدِلَّة صدقه ونُبُوَّتِهِ.
د. راغب السرجاني
[1] ابن تيمية: الجواب الصحيح 5/338.
[2] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 7/298.
[3] الزمخشري: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل 3/462.
[4] ابن عاشور: التحرير والتنوير 9/133.
[5] السابق نفسه 11/123.
[6] سحر يؤثر: أي يأثره عن غيره. انظر: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 19/76.
[7] البيهقي: دلائل النبوة 2/204، 205، وابن كثير: السيرة النبوية 1/504، 505.
[8] القِطْف: ما قُطِف من الثمر. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة قطف 9/285.
[9] نينوى: قرية يونس بن متى u بالموصل، وبسواد الكوفة ناحية يقال لها: نينوى، منها كربلاء. انظر: ياقوت الحموي: معجم البلدان 5/339.
[10] ابن تيمية: الجواب الصحيح 1/391، 392.
[11] الطبري: جامع البيان في تأويل القرآن 6/503.
أرسل الله نَبِيَّه محمدًا إلى العالمين بشيرًا ونذيرًا، وأَيَّده بالمعجزات الدالَّة على صدقه، ومن أبرز هذه المعجزات أُمِّيَّة رسول الله . فمن الثابت تاريخيًّا أن رسول الله وُلِدَ أُمِّيًّا، وظلَّ على ذلك إلى أن بعثه الله للعالمين وهو أُمِّيٌّ، وهذا كمالٌ في حَقِّ رسول الله ، ومعجزة من معجزاته الشريفة، يقول عنها ابن تيمية: "بَيَّنَ سبحانه من حاله ما يَعْلَمُه العامَّة والخاصَّة، وهو معلومٌ لجميع قومه الذين شاهدوه، متواترٌ عند مَنْ غاب عنه وبَلَغَتْهُ أخباره من جميع الناس - أنه كان أُمِّيًّا لا يقرأ كتابًا، ولا يحفظ كتابًا من الكتب؛ لا المُنَزَّلة ولا غيرها، ولا يكتب بيمينه كتابًا، ولا ينسخ شيئًا من كُتب الناس، المُنَزَّلَة ولا غيرها"[1].
القرآن يتحدث عن أمية رسول الله
وتَعَددت الآيات القرآنية التي تُثْبِتُ أُمِّيَّة رسول الله ، وتَرُدُّ على الذين يَدَّعُونَ أن رسول الله قد تَعَلَّم هذا القرآن من قراءته في كُتب الأَوَّلِينَ، ومن هذه الآيات قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]، وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]. وقال ابن عباس t: كان نَبِيُّكُم أُمِّيًّا لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب..."[2].
كما قال الله في آية أخرى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48]. ويُعَلِّقُ الزمخشري على هذه الآية قائلاً: "وأنت أُمِّيٌّ ما عَرَّفَكَ أحدٌ قَطُّ بتلاوة كتاب ولا خطٍّ. {إِذًا} لو كان شيء من ذلك، أي من التلاوة والخطِّ. {لاَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} من أهل الكتاب، وقالوا: الذي نجده في كتبنا أُمِّيٌّ لا يكتب ولا يقرأ... أو لارتاب مشركو مكة وقالوا: لعله تَعَلَّمَهُ أو كتبه بيده"[3].
أمية رسول الله من المعجزات العقلية
وتُعَدُّ أُمِّيَّة رسول الله من المعجزات العقلية على صدق النبي ، "والأُمِّيَّة وصفٌ خصَّ اللهُ به من رسله محمدًا؛ إتمامًا للإعجاز العلمي العقلي الذي أَيَّده الله به، فجعل الأُمِّيَّة وصفًا ذاتيًّا له... ليُظْهِرَ أن كماله النفساني كمالٌ لدنيّ إلهي، لا واسطة فيه للأسباب المتعارفة للكمالات، وبذلك كانت الأُمِّيَّة وصفَ كمالٍ فيه، مع أنها في غيره وصف نقصان؛ لأنه لمَّا حصل له من المعرفة وسداد العقل ما لا يحتمل الخطأ في كل نواحي معرفة الكمالات الحقِّ، وكان على يقين من علمه، وبَيِّنَةٍ من أمره، ما هو أعظم مما حصل للمتعلمين؛ صارت أُمِّيَّتُه آيةً على كَوْن ما حصل له إنَّمَا هو من فيوضات إلهيَّة"[4].
معجزة القرآن الكريم
ومن تمام هذه المعجزة النبوية أن الكتاب الذي أُنْزِلَ عليه –القرآن الكريم- معجِزٌ لمشركي العرب ولمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة، رغم أن مشركي العرب أهلُ الفصاحة والبلاغة، بل وتحدَّاهم رسول الله أن يأتوا بمثله، أو حتى بسورة أو آية من مثله؛ فليفكرْ صاحب العقل في هذه المعجزة الباهرة، كما يقول ابن عاشور صاحب التحرير والتنوير: "أفلا تعقلون أنَّ مثل هذا الحال -من الجمع بين الأُمِّيَّة والإتيان بهذا الكتاب البديع في بلاغته ومعانيه- لا يكون إلاَّ حال مَنْ أفاض الله عليه رسالته؛ إذ لا يَتَأَتَّى مثله في العادة لأحدٍ"[5].
ولقد اعترف مشركو قريش قديمًا أن هذا القرآن المعجز لا يمكن أن يتأتى لرجل أُمِّيٍّ لا يعرف القراءة ولا الكتابة؛ فَادَّعَوْا أن ذلك سحرٌ يُؤْثَر[6]، فها هو ذا عتبة بن ربيعة يقول: إني والله قد سمعتُ قولاً ما سمعتُ مثله قَطُّ، ما هو بالشعر ولا الكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، خَلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، واعتزلوه، فوالله! ليكوننَّ لقوله الذي سمعتُ نبأ، فإنْ تُصِبْهُ العرب فقد كُفِيتُمُوهُ بغيركم، وإنْ يَظْهَرْ على العرب فمُلْكُهُ مُلْكُكُم، وعِزُّه عِزُّكم، وكنتُم أسعد الناس به. قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه[7].
كما أَدْرَكَ ذلك -أيضًا- عَدَّاس ذلك الفتى النصراني الذي أرسله ابني ربيعة إلى رسول الله بقِطْفٍ[8] من العنب، بعدما لجأ إلى حائطهما، ورسول الله عائدٌ من الطائف مكروبًا حزينًا على عدم إيمان أهلها، ففعل عَدَّاس، وأقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله ، فلمَّا وضع رسول الله يده قال: "باسم الله". ثم أكل، فنظر عَدَّاس إلى وجهه، ثم قال له: والله! إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة. فقال له رسول الله : "مِنْ أَيِّ الْبِلادِ أَنْتَ؟ وَمَا دِينُكَ؟" فقال عَدَّاس: أنا نصراني، وأنا رجل من أهل نِينَوَى[9]. فقال له رسول الله : "مِنْ قَرْيَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ يُونُسَ بْنِ مَتَّى؟" فقال له عَدَّاس: وما يُدْرِيكَ ما يونس بن متى؟! والله لقد خرجتُ من نينوى وما فيها عشرة يعرفون مَتَّى، من أين عَرَفْتَ أنت مَتَّى وأنت أُمِّيٌّ وفي أُمَّةٍ أُمِّيَّة؟! فقال رسول الله : "هُوَ أَخِي، كَانَ نَبِيًّا وَأَنَا نَبِيٌّ". فأكبَّ عَدَّاس على رسول الله يُقَبِّلُ رأسه ويديه ورجليه، فلمَّا رجع عَدَّاسٌ، قالا ابنا ربيعة: ويلك يا عَدَّاسُ! ما لَكَ تُقَبِّلُ رأس هذا الرجل ويديه ورجليه؟! فقال: يا سيدي ما في الأرض خير من هذا الرجل، لقد خَبَّرَنِي بأمر لا يعلمه إلاَّ نبي[10].
وقد حاول بعضُ المشكِّكِينَ أن يَنْفُوا عن رسول الله صفة الأُمِّيَّة؛ لأن سرده لما في التوراة والإنجيل، وتنبُّؤَه بالعديد من الأحداث المستقبليَّة -كهزيمة الفرس، كما ذكرنا سابقًا، وغير ذلك- دون تعليم، إنما يُعَدُّ معجزةً عقليَّةً باهرةً لا ينكرها إلاَّ المكابرون، وهؤلاء المكابرون يعلمون جيدًا أن أُمِّيَّة النبي مذكورة في التوراة والإنجيل؛ مصداقًا لقول الله I: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157].
كما قال الله تبارك وتعالى في آية أخرى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [آل عمران: 70]، تشهدون أن صفة محمد في كتابكم، ثم تكفرون به وتنكرونه، ولا تؤمنون به، وأنتم تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل: "النَّبِيَّ الأمِّيَّ الذي يؤمن بالله وكلماته"[11].
هكذا كانت أُمِّيَّة رسول الله دليلاً من أَدِلَّة صدقه ونُبُوَّتِهِ.
د. راغب السرجاني
[1] ابن تيمية: الجواب الصحيح 5/338.
[2] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 7/298.
[3] الزمخشري: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل 3/462.
[4] ابن عاشور: التحرير والتنوير 9/133.
[5] السابق نفسه 11/123.
[6] سحر يؤثر: أي يأثره عن غيره. انظر: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 19/76.
[7] البيهقي: دلائل النبوة 2/204، 205، وابن كثير: السيرة النبوية 1/504، 505.
[8] القِطْف: ما قُطِف من الثمر. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة قطف 9/285.
[9] نينوى: قرية يونس بن متى u بالموصل، وبسواد الكوفة ناحية يقال لها: نينوى، منها كربلاء. انظر: ياقوت الحموي: معجم البلدان 5/339.
[10] ابن تيمية: الجواب الصحيح 1/391، 392.
[11] الطبري: جامع البيان في تأويل القرآن 6/503.
مواضيع مماثلة
» معاملات الرسول
» الرسول والحقوق
» الرسول و حل المشكلات
» كتاب من توجيهات الرسول
» كتاب رجال حول الرسول
» الرسول والحقوق
» الرسول و حل المشكلات
» كتاب من توجيهات الرسول
» كتاب رجال حول الرسول
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى