معجزة الإسراء
صفحة 1 من اصل 1
معجزة الإسراء
معجزة الإسراء والمعراج من منظور علمي
أدمج أينشتين المكان والزمان في نظرية النسبية الخاصة عام 1905م، وأعلن أنه "ليس لنا أن نتحدث عن الزمان دون المكان، ولا عن المكان دون الزمان، وما دام كل شيء يتحرك فلا بد أن يحمل زمنه معه، وكلما تحرك الشيء أسرع فإن زمنه سينكمش بالنسبة لما حوله من أزمنة مرتبطة بحركات أخرى أبطأ منه".
ولقد تحققت ظاهرة انكماش الزمن علميًّا في معامل الفيزياء، حيث لوحظ أن الجسيمات الذرية atomic particles تطول أعمارها في نظر راصدها، إذا ما تحركت بسرعة قريبة من سرعة الضوء.
وعلى سبيل المثال، يزداد نصف العمر لجسيم البيون (نصف العمر هو الزمن اللازم لينحل هذا الجسيم إشعاعيًّا حتى يصل إلى نصف كميته) في الساعة المعملية الأرضية إلى سبعة أمثال قيمته المعروفة إذا تحرك بسرعة قدرها 99% من سرعة الضوء.
وطبقًا لنظرية أينشتين، فإننا إذا تخيلنا أن صاروخًا اقتربت سرعته من سرعة الضوء اقترابًا شديدًا، فإنه يقطع رحلة تستغرق خمسين ألف سنة (حسب الساعة الأرضية) في يوم واحد فقط (بالنسبة لطاقم الصاروخ)!! وإذا فكرت في زيارة أطراف الكون فإنك ستعود إلى الكرة الأرضية لتجد أجيالاً أخرى وتغيرات كبيرة حدثت على هذا الكوكب الذي سيكون قد مر عليه حينئذ آلاف أو ملايين أو بلايين السنين بحساب أهل الأرض الذين لم يخوضوا معك هذه الرحلة المذهلة، وذلك إذا كنت قد تحركت في رحلتك بسرعة قريبة من سرعة الضوء...!!
وخلاصة القول: إن الزمن ينكمش مع ازدياد السرعة، وتزداد السرعة مع ازدياد القدرة على ذلك.
هكذا أصبح من المقنع للماديين أن السرعة والزمن والقدرة أشياء مترابطة، ولكن إذا كان هناك مخلوق أقوى من الإنسان (ينتمي إلى غير الجنس البشري، كأن يكون من الجن أو من الملائكة)، فإنه يتحرك بقوانين أخرى غير قوانين الإنسان، فيقطع المسافات ويعبر الحواجز، وأشياء أخرى كثيرة لا يتخيلها الإنسان الذي يسكن كوكبه الأرضي.
وطبقًا للنظرية النسبية أيضًا، فإنه إذا وجد كائن يسير بسرعة أكبر من سرعة الضوء، فإن المسافات تنطوي أمامه وينمحي الزمن في قطعه هذه المسافات.
وبالرغم من أن سرعة الضوء في الفراغ (أو الهواء) هي أعلى سرعة معروفة حتى الآن، فإن العلم الحديث لا ينكر وجود سرعة أكبر من سرعة الضوء في الفراغ، وإن لم يصل إليها حتى الآن، رغم سريان دقائق بيتا (B - particles) في الماء بسرعة أكبر من سرعة الضوء فيه؛ لأن هذه الدقائق اخترقت حاجز الضوء في الماء فقط وليس في الهواء أو الفراغ، فتسببت في صدور إشعاع يدعى إشعاع كيرنكوف..!!
لماذا نتدارس معجزة الإسراء والمعراج ؟
لقد أوردنا هذا العرض العلمي لكي نقرِّب للناس فهم إحدى المعجزات الحسية التي جرت لرسول الله محمد بن عبد الله ، إنها "معجزة الإسراء والمعراج". ولسنا نسعى من وراء هذا العرض وما يليه من إيضاحات أن نثبت صدق هذه المعجزة، وإنما نريد فقط أن نقرِّب فهمها للذين يستبعدون حدوثها من غير المسلمين.
وهذه المعجزة من الصنف الذي لم يجره الله بقصد التحدي (أي: تحدي البشر)، وأعجب ما في هذه المعجزة (بشقيها) أنها غيب من جملة الغيوب التي يجب على المسلم أن يصدق بها ويثق فيها مطلقًا.
وهذه المعجزة إذا ناقشناها، فإنما نناقشها لإثبات استحالة وقوعها لبشر عادي، بكل المقاييس العلمية، أو حتى بتطبيق الفروض أو النظريات... وإلاَّ لانتفت صفتها كمعجزة، ولأمكن للإنسان العادي أن يحققها عن طريق استخدامه لأية طاقات أو سبل يخترعها العلم بمرور الزمن.
والكلام في المعجزات الحسية لرسول الله لا يجب أن نسرف فيه، بل لا يجب أن نعول على هذه المعجزات كثيرًا في الإقناع برسالة الرسول ؛ لأنها معجزات وقعت وانقضت، وقد نهى رسول الله ذاته عن التعلق بهذه المعجزات المادية، وأمرنا بالانتباه إلى معجزة واحدة باقية على مر الزمان، هي القرآن الكريم، الذي تنكشف وجوه الإعجاز فيه كلما تقادم الزمن وتوالت الأجيال، وكل جيل يكشف عن وجه أو وجوه فيه لم يكن قد كشفها الجيل السابق... فقد حدث في زمن الرسول أن انكسفت الشمس عندما مات إبراهيم بن رسول الله، فقال الناس: لقد انكسفت الشمس لموت إبراهيم. فقال لهم الرسول: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته".
تشتمل "معجزة الإسراء والمعراج" ضمن ما تشتمل السرعة الخارقة والقدرة المذهلة التي انتقل بها رسول الله في الشق الأول من المعجزة، وهو "الرحلة الأرضية"، من المسجد الحرام بمكة (في الجزيرة العربية) إلى المسجد الأقصى بالقدس (في فلسطين)، ثم السرعة والقدرة اللتان لا يستطيع الإنسان -مهما أوتي من علوم وتكنولوجيا- أن يحددهما، وذلك في الشق الثاني من المعجزة وهو "الرحلة العلوية"، أي: الصعود من حيث انتهت الرحلة الأرضية إلى الأعلى في رحلة سماوية اخترق الرسول بها طبقات الجو كلها، وعبر أرجاء الكون إلى سماء لا ولن يستطيع الإنسان أن يصل إلى تحديد أي شيء فيها، ولن يعرف عنها أي شيء سوى ما أخبره به القرآن الكريم.
رحلة الإسراء.. الرحلة الأرضية في عالم الملك
يقول الله سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1]. {سبحان} أي: تنزه الله في قوله عن كل قول، وتنزه الله في فعله عن كل فعل، وتنزه الله في صفاته عن كل صفات. {الذي أسرى} أي: الذي أكرم رسوله بالمسير والانتقال ليلاً. {بعبده} أي: بمخلوقه الإنسان الذي اختاره لهذه المهمة العظمى، وهي مهمة هداية البشر جميعًا.
ولم يقل الله سبحانه: "بخليله" أو "بحبيبه" أو "بنبيه"، وإنما قال: {بعبده}، وفي هذا ملحظ مهم هو أن الرسول حقق مقام العبودية الخالصة لله سبحانه، فكان حقًّا "العبد الكامل" أو "الإنسان الكامل"، ولأن المطلب الأول للإسلام هو تحقيق العبودية الخالصة لله سبحانه. {ليلاً}، وفي هذا دلالة على أن الإسراء كان في جزء من الليل ولم يستغرق الليل كله، وكان الليل هو وقت الرحلتين؛ لأنه أحب أوقات الخلوة، وكان وقت الصلاة المفضل لدى رسول الله ، بل كان هو وقت الصلاة قبل أن تفرض الصلاة بالهيئة والأوقات المعروفة عليها، وكان الإسراء ليلاً ليكون أيضًا أبلغ للمؤمن في الإيمان بالغيب.
وأما قوله تعالى: {من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} فتفسيره: أن انتقال الرسول في رحلته الأرضية كان بين مسجدين، أولهما: المسجد الحرام بمكة في أرض الجزيرة العربية، وهو أحب بيوت الله في الأرض، والصلاة فيه تعدل مائة ألف صلاة في غيره من المساجد. وثانيهما: هو المسجد الأقصى بأرض فلسطين، مهد الأنبياء والرسل، وقد كان القبلة الأولى للمسلمين قبل أن يأتيهم الأمر بالتحول شطر المسجد الحرام الذي هو قبلتهم منذ ذلك الوقت إلى آخر الزمان.. والمسجد الأقصى من أفضل مساجد الأرض جميعًا، والصلاة فيه تعدل خمسمائة صلاة في غيره من المساجد. {الذي باركنا حوله} أي: الذي أفضنا عليه وعلى ما حوله بالبركات، دنيوية ومعنوية. {لنريه من آياتنا} أي: بعض الآيات الدالة على قدرة الله وعظمته، وليس كل الآيات.
هل حدثت المعجزة بالروح أو بالجسد أو بهما معا ؟
قد يقول قائل: إن رحلة الإسراء (ومن باب أولى: رحلة المعراج) حدثت لرسول الله منامًا، أي: رؤيا منامية، يعني بروحه دون جسده. ونحن نقول لهذا القائل: إن الرحلة الأرضية، وكذلك الرحلة العلوية، حدثتا معًا بالروح والجسد معًا، والأدلة الدامغة على ذلك كثيرة، وأقربها إلينا كلمات القرآن التي أوردناها سابقًا، فلم يقل الله: (سبحان الذي أسرى بروح عبده)، وإنما قال: {سبحان الذي أسرى بعبده}، أي: روحًا وجسدًا.. وهكذا يكون الإنسان (العبد) بشقيه الروح والجسد.
وهنا أيضا دليل دامغ آخر يكمن في لفظة {سبحان} التي افتتحت بها الآية، بل السورة كلها، وهي تعني: يتنزه الله عن الشبيه والند والنصير، ويتنزه الله عن العجز والضعف. إذن تأتي هذه اللفظة للأمور العظيمة، وتأتي في مقدمة آية أو سورة لكي تهيئ القارئ، أو السامع، إلى أنه سيقرأ أو سيسمع أمرًا عجيبًا وغريبًا وعظيمًا في نفس الوقت، وذلك إذا قاسه بمقاييسه البشرية، ولكنه هين وعادى وميسور بالنسبة لإله الكون وخالقه ومدبره وخالق نواميسه وقوانينه وقادر على خرق أي ناموس في أي وقت، وتنفيذ ما تشاء إرادته، جلت قدرته وتعالت عظمته.
وبدراسة الجو العام لحال المسلمين، والدعوة الإسلامية عموما في ذلك الوقت، نعرف أن هذه المعجزة حدثت لغرض مهم -إضافةً إلى أغراض أخرى- هو تمحيص قلوب المؤمنين بالرسول ؛ ليثبت قوي الإيمان ويظهر ضعيف الإيمان، وينكشف أمره، وخصوصًا أن الله سبحانه يُعِدّ المسلمين لحدث عظيم بعد عام واحد هو الهجرة الكبرى من مكة إلى المدينة؛ لتأسيس أعظم مجتمع إسلامي عرفته البشرية على الكرة الأرضية.
فالماديون (قديمًا وحديثًا) يقيسون كل شيء بالطول والعرض والعمق، بما لديهم من مقاييس معروفة، ويزنون كل شيء بأثقال متفق عليها فيما بينهم، فإذا صادفوا غير ذلك في حياتهم، حجمًا أو وزنًا، أنكروه ورفضوه. وهكذا أنكر الماديون "معجزة الإسراء والمعراج" جملة وتفصيلاً؛ لأنها لا تخضع لقوانينهم وموازينهم.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الذين أفرطوا في الجانب الروحي وترهبنوا، اختلفوا فيما بينهم حول كون المعجزة تمت بالروح فقط، أو بالجسد فقط، أو بهما معًا؟ وقد رددنا على هؤلاء وأولئك، وأثبتنا أن المعجزة تمت للرسول بالروح والجسد معًا؛ لأنهما إن حدثتا له بالروح فقط ما استحقت أن تكون معجزة، فالرؤيا الصادقة تحدث للصالحين من غير الأنبياء والرسل، والإنسان العادي يرى في منامه كل شيء لا يستطيع أن يبلغه في صحوه، فهو في منامه يطير ويتجول في أماكن بعيدة ومناطق فسيحة، ويحصل على آمال وينال مطالب في أحلامه فقط.
ما هو البراق ؟
بعد أن تمت الرحلتان وعاد رسول الله إلى موطنه وبيته بمكة، حكى للناس ما حدث، وكان ضمن ما قاله: إن "براقًا" جاءه وأمر أن يركبه. وهذا البراق هو الوسيلة التي نقلته في رحلته الأرضية من مكة إلى القدس. فما هو البراق يا ترى؟
أفاد أهل الاختصاص في اللغة العربية بأن البراق دابة أصغر من البغل وأكبر من الحمار، وقال بعض شراح أحاديث الرسول : إن البراق مشتق من البريق، ولونه أبيض، أو هو من "البراق"، وسمي كذلك لشدة لمعانه وصفائه وتلألئه أو توهجه. فلا ضير، إذن، أن نقترح بأن يكون البراق هو البرق الذي حمل الرسول وسار بسرعة الضوء من مكة إلى القدس في الذهاب والإياب. وتبقى المعجزة في استعمال هذه الظاهرة الطبيعية كامنة في حماية الرسول من آثارها المدمرة، والوقاية من أضرارها.
وقبل أن نغادر الرحلة الأرضية (وهي الشق الأول من معجزة الإسراء والمعراج) وننتقل إلى الرحلة العلوية السماوية، نود القول بأن الذين يستبعدون حدوث الإسراء (ناهيك عن المعراج) عليهم أن يبحثوا في الأحداث السابقة لتاريخ هذه المعجزة، ليقرءوا من مصادر موثوقة (وأقواها بالطبع هو كتاب الله المجيد القرآن الكريم) عددًا من الأحداث أو الحوادث كانتقال عرش بلقيس من مملكة سبأ باليمن (جنوب الجزيرة العربية) إلى حيث كان يقيم رسول الله سليمان u في الشام (شرق البحر المتوسط).
وموجز هذه الحادثة هو أن سليمان أرسل إلى بلقيس (مملكة سبأ) رسالة يعرض فيها عليها الإيمان بالله وحده لا شريك له في الخلق والملك والتدبير، وبعد مداولات بينها وبين وزرائها (أو شعبها) استقر رأيها أن تسلم لله رب العالمين. فاتجهت إلى بلاد الشام قاصدة سليمان، وقبل أن تقترب من هذه البلاد أعد سليمان صرحًا عظيمًا لاستقبالها، ثم أراد أن يريها شيئًا من دلائل عظمة قدرة الله، فقرر أن يأتي بعرشها (من اليمن) لتجلس هي على هذا الصرح الذي أعده لها.
فتفقد سليمان قدرات من حضر مجلسه (جنًّا وإنسًا) وإمكاناتهم في إتمام هذه المهمة، فقال له عفريت من الجن: أنا آتيك به -من اليمن إلى الشام- قبل أن تقوم من مقامك. وقال آخر -آتاه الله العلم والقدرة من لدنه-: أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك!! وبالفعل، جاء هذا الذي آتاه الله العلم والقدرة بعرش بلقيس في زمنٍ لم يتعد طرفة عين، ولا يعرف لأحد حتى الآن كيف تم تنفيذ هذه المعجزة الخارقة. ومن نافلة القول: إن سليمان بن داود كان هو وأبوه نبيين أنعم الله عليهما بإنعامات كثيرة، وكان سليمان يأتي الخوارق كثيرًا، ويحمد الله في كل مرة أن سخر له الكون، وأخضع له الظواهر الطبيعية وخرق النواميس الكونية.
المعراج.. الرحلة العلوية السماوية في عالم الملكوت
إن الكون الذي يستطيع الإنسان أن يبصر بعض أطرافه كون فسيح ضخم، بالرغم من أنه بكل ما يحتوي لا يمثل سوى السماء الأولى فقط، فلا نعلم ولا يعلم أحد مهما أوتي من العلم -إلا أن يكون نبيًّا أو رسولاً يتلقى الوحي- عن غير هذه السماء شيئًا، سواء كانت السماء الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو... إلخ.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن فكرة الإله الذي يحتل مكانًا محددًا من الكون فكرة لا تتفق مع العقل الصحيح أو المنطق القويم، بل ربما نعتبر -نحن أهل الكوكب الأرضي- أناسًا في سماء أخرى بالنسبة لمخلوقات غيرنا تعيش في كوكب أو مكان لا نعلمه نحن في مجرتنا أو في مجرة أخرى من مجرات الكون الفسيح...!! إذن فالخالق العظيم، أي: الله الواحد المالك المدبر، له قوة مطلقة ولا يستطيع أحد أن يحدد له سبحانه مكانًا أو زمانًا، بل هو سبحانه موجود قبل أن يكون هنالك زمان أو مكان.
وقديمًا ذهب الناس إلى أن ما يرونه فوق رءوسهم عبارة عن سموات تسكنها الملائكة، ولكن العلم الحديث توصل إلى أن هذا ما هو إلا ظاهرة ضوئية تحدث في جو الأرض نتيجة لتشتت وتناثر ضوء الشمس الأزرق بوفرة فيه... وتوصل العلم الحديث بعد الخروج من الغلاف الجوي والتجول في الفضاء الكوني، أن الأرض ما هي إلا كوكب موجود في مجموعة تابعة للشمس، ولا يزيد سمك غلاف هذا الكوكب 1000 كيلو متر، بما فيه تلك "القبة الزرقاء" التي ظنها الناس قديمًا مسكن الملائكة، ولكنها ظاهرة ضوئية تحدث في طبقة من الغلاف الجوي للأرض لا يزيد سمكها عن 200 كيلو متر.
والأمر الثالث هو أن تحول المادة إلى طاقة، ثم عودة الطاقة إلى المادة، هو أمر معلوم الآن بالكشوف العلمية الحديثة، وهو وإن كان أمرًا نظريًّا، فإنه مستحيل التنفيذ عمليًّا. إذن، فإذا قلنا بتحول جسد الرسول -وهو مادة- إلى ضوء -وهو طاقة- أو ما هو أعلى من الضوء، حتى يخترق آفاق الكون وما بعد الكون في ساعات قليلة بحسابنا البشري، فإننا بذلك نكون قد قدمنا اقتراحًا لتقريب مفهوم الحدث، وإن كنا لا نجزم بما نقترحه.
ولعل مما يدل على قصر مدة الرحلة بجانبيها -الإسراء والمعراج- هو ما رواه الرسول بعد عودته لأم هانئ -ابنة عمه- وما رواه لكل الناس بعد ذلك، ومن هذه الرواية أنه صلى العشاء مع أصحابه، ثم عاد وظهر وقت الفجر فصلى الفجر معهم...!!
هذا مدخل ندخل منه إلى موضوع "المعراج"، وهو الصعود (أو آلة الصعود) من سطح الأرض إلى طبقات الجو العليا، إلى حيث الاختراق والنفاذ من أقطار الأرض وغيرها من الكواكب والنجوم، إلى حيث لا يعلم الإنسان حتى الآن.
ولكننا نرى من الأفضل أن نعجل بقراءة آيات المعراج الواردة في القرآن الكريم، وهي الآيات التي لم تذكر "المعراج" صراحة، بل يفهم منها: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى{ [النجم: 1-18].
صخرة المعراجهكذا بدأت سورة "النجم "بالحديث عن معراج النبي ، أي المعجزة العظيمة التي حدثت لرسول الله تكريمًا له، وقد رأى فيها عجائب صنع الله وغرائب خلقه في ملكوته العظيم الذي لا يحده حد. ولقد اقتضت حكمة الله أن يكون أول ألفاظ السورة جرم سماوي، أي: "النجم"، وهو إحدى الآيات الكونية التي خلقها الله، والله سبحانه يقسم بسقوط النجم أو أفوله أو انفجاره أو احتراقه، وهو قسم بشيء عظيم إذا فكر فيه الناس.
وجاءت الآية الثانية لتؤكد لأهل مكة وقت تنزل القرآن بين ظهرانيهم أن رسول الله (أي: المبعوث فيهم) لم يضل ولم يختل ولم يزل؛ لأنه رسول مختار من قبل الله سبحانه، فلا بد أن ينطق الصدق ويقول الحق ويخبر بما رأى ويحكي ما سمع، ويبلغ ما أمر أن يبلغه..
كيف يضل وكيف يزل وهو الأمين على القرآن -كتاب الله- إلى الناس جميعًا؟! إنه الوحي الذي يوحيه الله إلى رسوله ، حيث كان يأتيه جبريل -عظيم الملائكة– به، ويقرئه إياه. وجبريل هذا هو ذو قوة شديدة، وذو حسن ونضارة، وقد (استوى)، أي: ظهر على صورته الحقيقية لرسول الله محمد بن عبد الله في (الأفق الأعلى)، فاقتربا وكادا أن يتلامسا، ولكن جبريل فارق الرسول عند موضع لا تتعداه الملائكة، وقال له: إذا تقدمتَ -أي: يا محمد- اخترقتَ، وإذا تقدمتُ -أي: أنا- احترقتُ. وبعد عبور هذا الموضع تجلَّى الله لرسوله محمد بالإنعامات والتجليات والفيوضات، وأوحى إليه وحيًا مباشرًا، وكانت الصلاة المعروفة لنا هي ما أوحى الله به.
ولقد أقسم الله على أن ما يحدث به رسوله بعد عودته من هذه الرحلة هو الحق والصدق وليس بالكذب؛ لأنه لم يكذب قط طوال حياته... ولقد رأى رسول الله الآيات الكبرى لعظمة الله وقدرته المطلقة.
وعلى الرغم من أن "الإسراء" و"المعراج" حدثا في نفس الليلة (ليلة السابع والعشرين من شهر رجب قبل الهجرة بعام واحد)، فإن موضعي ورودهما في القرآن الكريم لم يترادفا، بل ذكر الإسراء أولاً (في سورة الإسراء)، وتأخر الحديث عن المعراج إلى سورة النجم التي وضعت بعد سورة الإسراء (في ترتيب سور القرآن). وقد تكون الحكمة في هذا هي جعل الإسراء (وهو الرحلة الأرضية) مقدمة للإخبار بالمعراج، وهي الرحلة العلوية التي ذهل الناس عندما أخبروا بها، فارتد عن الإسلام وقتها ضعاف الإيمان، بينما ظل على الإيمان أقوياؤه.
والمكذبون بهذا الحدث -قديمًا وحديثًا- لا عقل مدركًا واعيًا لهم؛ لأنهم لو قرءوا التاريخ لعرفوا أن أحداثًا قبل هذه الحادثة وقعت، منها مثلاً حادثة نقل عرش بلقيس من اليمن إلى الشام في ملمح البصر، التي أشرنا إليها سابقًا. فكيف بهم يكذبون رحلة الإسراء..؟! ولو أنهم قرءوا التاريخ لعرفوا أن أحداثًا قبل هذه الحادثة وقعت، منها مثلاً: رفع إدريس إلى السماء، ورفع إلياس إلى السماء، ورفع عيسى بن مريم إلى السماء... وكلها أحداث قبل رفع رسول الله محمد بن عبد الله إلى السموات العُلا، ولكنه عاد بعد الرفع ولم يمكث كما حدث لهؤلاء الأنبياء والرسل... عاد ليكمل رسالته وينشر الهدى والحق والعدل في ربوع الكرة الأرضية.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن هؤلاء المكذبين بـ"الإسراء والمعراج "لو أنهم قرءوا التاريخ لعلموا أن الأنبياء والرسل جرت على أيديهم المعجزات وخوارق العادات، وأوقف الله لهم القوانين الطبيعية والسنن الكونية، ليكون هذا وذاك أدلة على صدق دعواهم للناس. والأمثلة في هذا الشأن كثيرة، منها النار التي ألقى فيها إبراهيم u توقفت فيها خاصية الإحراق، وكانت بردًا، بل وكانت أيضًا (سلامًا)، أي: أمانًا... وانفلاق البحر لموسى u حتى ظهرت اليابسة، وعبر موسى وقومه فرارًا من بطش فرعون مصر الجبار الآثم... وانقلاب (تحول) عصا موسى إلى ثعبان ضخم ابتلع حبال وعِصيّ السحرة فأخزاهم الله، وعلى التوّ ثابوا إلى رشدهم وتحولوا إلى الإيمان واتباع موسى u... وتسخير الظواهر الطبيعية لسليمان u وكذلك الجن والدواب والحيوانات والطيور... وإحياء الموتى على يدي عيسى u، وإخراج الطير من الطين على يديه أيضًا... كل هذه وتلك معجزات وخوارق أجراها الله لأنبيائه ورسله؛ ليصدقهم الناس ويتبعوا الهدى الذي جاءوا به.
أغراض وأهداف الإسراء والمعراج
ونحن إذ نتحدث في "المعراج"، فإننا لم نجد فيما توصل إليه الإنسان في زماننا الحالي اكتشافًا أو اختراعًا يستدل به على تقريب فهم هذا الحدث الجلل لغير المسلمين، اللهم إلا تحول المادة إلى طاقة وبالعكس، ولكننا نكرر القول بأنه إذا كان كلٌّ من الإسراء والمعراج معجزة، فهي ليست للتحدي، ولكنها وقعت لأهداف وأغراض، نوجز أبرزها فيما يلي:
1- توالت على رسول الله قبيل حادثة الإسراء والمعراج النكبات، فإلى جانب ما كان يلاقيه من عنت وعذاب الكفار له وتصديهم لدعوته وإنزال الأذى والضرر به وبمن تبعوه من أهل مكة بالجزيرة العربية، فَقَد نصيرًا وظهيرًا له هو عمه أبو طالب، وكذلك فَقَد إنسانة عزيزة جدًّا عليه هي زوجته خديجة التي كانت له السند والعون على تحمل الصعاب والمشقات في سبيل تبليغ دعوته السامية، فكلاهما مات في غضون أيام قبيل حادثة الإسراء والمعراج؛ ولذا سمي هذا العام "عام الحزن". ومن هنا كان إنعام الله على عبده ورسوله محمد بهذه المعجزة العظيمة تطييبًا لخاطره، وتسرية له عن أحزانه وآلامه... ثم ليشهد فيها من عجائب المخلوقات وغرائب المشاهد ما تدق خفاياها عن القلوب والأفهام.
2- ولما كان الإسراء -وكذلك المعراج- خرقًا لأمور طبيعية ألفها الناس، فقد كانوا يذهبون من مكة إلى الشام في شهر ويعودون في شهر، لكنه -أي: رسول الله- ذهب وعاد وعرج به إلى السموات العلا، وكل هذا وذاك في أقل من ثلثي ليلة واحدة... فكان هذا شيئًا مذهلاً، أي أنه كان امتحانًا واختبارًا للناس جميعًا، وخاصة الذين آمنوا بالرسالة الجديدة، فصدق أقوياء الإيمان وكذّب ضعاف الإيمان وارتد بعضهم عن إسلامهم. وهكذا تكون صفوف المسلمين نظيفة، ويكون المسلمون الذين يُعِدهم الله للهجرة أشخاصًا أتقياء أنقياء أقوياء، لهم عزائم متينة وإرادة صلبة؛ لأن الهجرة تحتاج أن تتوفر لديهم هذه الصفات.
3- كان ضمن ما ورد على لسان رسول الله أنه حينما وصل إلى بيت المقدس التف حوله جميع الأنبياء والرسل، واصطفوا وقدموه للإمامة، وصلى بهم... وإن هذا ليعد احتفالاً بميراث النبوة الذي انتقل إلى خاتم الأنبياء والرسل، وهو محمد بن عبد الله، وانتقل بذلك من ذرية إسحاق إلى ذرية إسماعيل أبي العرب. ويعد هذا أيضًا دليلاً واضحًا على عالمية الرسالة الإسلامية، وأن الإسلام هو الدين الشامل المحتوي لكل الشرائع والعقائد السماوية السابقة؛ ولذا فهو خاتم الرسالات التي أنزلها الله إلى البشر لهدايتهم. وإضافة إلى هذا وذاك، فإن اجتماع الرسول بكل الأنبياء والرسل وصلاته بهم دليل على أن كافة الشرائع السماوية جاءت من أجل تحقيق هدف واحد، هو عبادة الله وحده لا شريك له، إلهًا واحدًا أحدًا.
4- لقد كان الصعود من بيت المقدس ولم يكن من مكة، ذا دلالات، إحداها الأمر بنشر الإسلام وتوسعة إطاره؛ وذلك لأنه الدين الخاتم الشامل الجامع الذي ارتضاه الله للناس كافة على اختلاف أجناسهم وألوانهم وشعوبهم ولغاتهم.. وفيه أيضًا أمر ضمني بنبذ الخلاف فيما بين المسلمين، بل الأمر بتوحدهم واجتماع مصالحهم.
5- يعتبر فرض الصلاة -بهيئتها المعروفة وعددها وأوقاتها اليومية المعروفة- على المسلمين في رحلة المعراج دليلاً على أن الصلاة صلة بين العبد وربه، وهي معراجه الذي يعرج عليه إلى الله I بروحه، وأنها الوقت الذي يناجي العبد فيه ربه، ويبث إليه ما يرنو إليه. فالصلاة إذن عماد الدين، ومن تركها وأهملها فكأنه هدم دينه وأضاعه.. وهذه الصلاة بهيئتها الحركية أفضل الحركات لمصالح الجسد الصحية، إضافة إلى معطياتها النفسية والروحية.
وختاما؛ فإننا لا نستطيع إحصاء ما للإسراء والمعراج من فضائل وفوائد، وإنما سقنا ما أفاء الله به علينا وعرضناه بإيجاز، ولا بد من التأكيد مرة أخرى على أن معجزة "الإسراء والمعراج" معجزة لم يتحد الله بها البشر؛ لأن البشر لن يفكروا مطلقًا في الإتيان بمثلها، أو بما يشابهها، مهما بلغت قواهم وارتقت عقولهم وتطورت مخترعاتهم، وإنما هي معجزة لاختبار قوة العقيدة وتمحيص قلوب المؤمنين، فمن كان إيمانه قويمًا صدّق، ومن كان غير ذلك كذّب أو استكثر حدوث ما حدث... هذا، والله ولي التوفيق.
أ.د/ كارم السيد غنيم[1]
المصدر: موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
[1] أستاذ بكلية العلوم جامعة الأزهر، وأمين جمعية الإعجاز العلمي للقرآن والسنة.
رد: معجزة الإسراء
معجزة الإسراء والمعراج
تعد معجزة الإسراء والمعراج آية من آيات الله تعالى التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى، ورحلة لم يسبق لبشر أن قام بها، أكرم الله بها نبيَّه محمد .
إنها رحلة "الإسراء والمعراج" التي أرى اللهُ فيها النبيَّ عجائب آياته الكبرى، ومنحه فيها عطاءً رُوحيًّا عظيمًا؛ وذلك تثبيتًا لفؤاده، ليتمكَّن من إتمام مسيرته في دعوة الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ولتكون تمحيصًا من الله للمؤمنين، وتمييزًا للصادقين منهم، فيكونوا خَلِيقين بصحبة رسوله الأعظم إلى دار الهجرة، وجديرين بما يحتمله من أعباء وتكاليف.
أمَّا الإسراء[1] فهي تلك الرحلة الأرضيَّة وذلك الانتقال العجيب، بالقياس إلى مألوف البشر، الذي تمَّ بقُدْرَة الله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والوصول إليه في سرعة تتجاوز الخيال، يقول تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1].
وأمَّا المعراج فهو الرحلة السماويَّة والارتفاع والارتقاء من عالم الأرض إلى عالم السماء، حيث سدرة المنتهى، ثم الرجوع بعد ذلك إلى المسجد الحرام، يقول تعالى: {وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 13-18].
وقد حدثت هاتان الرحلتان في ليلة واحدة، وكان زمنها قبل الهجرة بسَنَةٍ. على أنه أُثِيرَ حول الإسراء والمعراج جدل طويل وتساؤلات عِدَّة، فيما إذا كانت قد تمَّت هذه الرحلة بالرُّوح والجسد، أم بالروح فقط؟ ومتى وكيف تمَّت؟
هل الإسراء والمعراج معجزة؟
قبل الشروع في الإجابة على هذه الأسئلة نُجِيب أوَّلاً عمَّا إذا كانت رحلة "الإسراء والمعراج" معجزة أم غير ذلك؟
فالمعجزة -كما هو معروف- هي أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدِّي، سالم عن المعارضة، يَظْهَر على يد مدعي النبوَّة موافقًا لدعواه[2]، وكانت تُطلَب من الرسول برهانًا ودليلاً على صدقه، "باعتبار أن الشواهد المادِّيَّة والمعنويَّة الخارقة للمعتاد المألوف في قوانين الكون وأنظمته تضع الباحث عن الحقِّ أمام البرهان الواضح الدالِّ على صدق الرسول في دعواه الرسالة؛ ذلك لأن الذين يتحدَّاهم الرسول بالمعجزة لا يستطيعون الإتيان بمثلها منفردين أو مجتمعين، في حدود قدراتهم الممنوحة لهم بحسب مستواهم"[3].
ومعنى ذلك أنَّ المعجزة يُجْرِيها الله على يد الرسول تأييدًا له، وأنَّ الرسول يتحدَّى قومه بهذه المعجزة؛ ليتأكَّدوا أنها من قِبَلِ الله ، ومن ثَمَّ يتأكَّدون من صدقه، وأنه مؤيَّد من السماء، وذلك بعد أنْ يَظْهَرَ لهم عجزهم عن الإتيان بمثلها، كما هو الحال مع معجزة القرآن الكريم.
وعلى هذا الضوء يمكننا أن نفسِّر حادث الإسراء والمعراج؛ "فالرسول لم يتحدَّ أحدًا بهذه الرحلة، ولم يطلب من المشركين أنْ يُعَارِضُوه فيأتوا بمثلها، ولذلك إذا قلنا: إنها معجزة. فإننا نقول ذلك على سبيل المجاز؛ فهي أمر خارق للعادة، ولكنه لم يكن للتحدِّي، ولم يرَهُ الناس بأعينهم حتى يؤمنوا به كإحدى معجزات النبوَّة، وإنما كان تسلية للنبي ، واختبارًا للمسلمين المقبلين على مراحل أخرى من الجهاد يَعْلَمُها الله؛ كالهجرة وما بعدها من بناء دولة الإسلام الثابت الدعائم، القويِّ الأركان"[4].
[1] الإسراء لغة من السَّرى، وهو السير ليلاً، وقال السخاوي في تفسيره: إنما قال: ليلاً. والإسراء لا يكون إلاَّ بالليل؛ لأن المدَّة التي أُسْرِيَ به فيها لا تُقْطَع في أقل من أربعين يومًا، فقُطعت به في ليلٍ واحد، فكان المعنى: سبحان الذي أسرى بعبده في ليلٍ واحد من كذا وكذا، وهو موضع التعجب، وإنما عدل عن ليلة إلى ليل؛ لأنهم إذا قالوا: سرى ليلة. كان ذلك في الغالب لاستيعاب الليلة بالسرى، فقيل: ليلاً. أي في ليل. انظر: تاج العروس، مادة (السرى) 38/262.
[2] انظر في ذلك مثلاً: السيوطي: الإتقان في علوم القرآن 2/116.
[3] رزق هيبة: الإسراء والمعراج وأثرهما في تثبيت العقيدة ص17.
[4] المصدر السابق ص18.
تعد معجزة الإسراء والمعراج آية من آيات الله تعالى التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى، ورحلة لم يسبق لبشر أن قام بها، أكرم الله بها نبيَّه محمد .
إنها رحلة "الإسراء والمعراج" التي أرى اللهُ فيها النبيَّ عجائب آياته الكبرى، ومنحه فيها عطاءً رُوحيًّا عظيمًا؛ وذلك تثبيتًا لفؤاده، ليتمكَّن من إتمام مسيرته في دعوة الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ولتكون تمحيصًا من الله للمؤمنين، وتمييزًا للصادقين منهم، فيكونوا خَلِيقين بصحبة رسوله الأعظم إلى دار الهجرة، وجديرين بما يحتمله من أعباء وتكاليف.
أمَّا الإسراء[1] فهي تلك الرحلة الأرضيَّة وذلك الانتقال العجيب، بالقياس إلى مألوف البشر، الذي تمَّ بقُدْرَة الله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والوصول إليه في سرعة تتجاوز الخيال، يقول تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1].
وأمَّا المعراج فهو الرحلة السماويَّة والارتفاع والارتقاء من عالم الأرض إلى عالم السماء، حيث سدرة المنتهى، ثم الرجوع بعد ذلك إلى المسجد الحرام، يقول تعالى: {وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 13-18].
وقد حدثت هاتان الرحلتان في ليلة واحدة، وكان زمنها قبل الهجرة بسَنَةٍ. على أنه أُثِيرَ حول الإسراء والمعراج جدل طويل وتساؤلات عِدَّة، فيما إذا كانت قد تمَّت هذه الرحلة بالرُّوح والجسد، أم بالروح فقط؟ ومتى وكيف تمَّت؟
هل الإسراء والمعراج معجزة؟
قبل الشروع في الإجابة على هذه الأسئلة نُجِيب أوَّلاً عمَّا إذا كانت رحلة "الإسراء والمعراج" معجزة أم غير ذلك؟
فالمعجزة -كما هو معروف- هي أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدِّي، سالم عن المعارضة، يَظْهَر على يد مدعي النبوَّة موافقًا لدعواه[2]، وكانت تُطلَب من الرسول برهانًا ودليلاً على صدقه، "باعتبار أن الشواهد المادِّيَّة والمعنويَّة الخارقة للمعتاد المألوف في قوانين الكون وأنظمته تضع الباحث عن الحقِّ أمام البرهان الواضح الدالِّ على صدق الرسول في دعواه الرسالة؛ ذلك لأن الذين يتحدَّاهم الرسول بالمعجزة لا يستطيعون الإتيان بمثلها منفردين أو مجتمعين، في حدود قدراتهم الممنوحة لهم بحسب مستواهم"[3].
ومعنى ذلك أنَّ المعجزة يُجْرِيها الله على يد الرسول تأييدًا له، وأنَّ الرسول يتحدَّى قومه بهذه المعجزة؛ ليتأكَّدوا أنها من قِبَلِ الله ، ومن ثَمَّ يتأكَّدون من صدقه، وأنه مؤيَّد من السماء، وذلك بعد أنْ يَظْهَرَ لهم عجزهم عن الإتيان بمثلها، كما هو الحال مع معجزة القرآن الكريم.
وعلى هذا الضوء يمكننا أن نفسِّر حادث الإسراء والمعراج؛ "فالرسول لم يتحدَّ أحدًا بهذه الرحلة، ولم يطلب من المشركين أنْ يُعَارِضُوه فيأتوا بمثلها، ولذلك إذا قلنا: إنها معجزة. فإننا نقول ذلك على سبيل المجاز؛ فهي أمر خارق للعادة، ولكنه لم يكن للتحدِّي، ولم يرَهُ الناس بأعينهم حتى يؤمنوا به كإحدى معجزات النبوَّة، وإنما كان تسلية للنبي ، واختبارًا للمسلمين المقبلين على مراحل أخرى من الجهاد يَعْلَمُها الله؛ كالهجرة وما بعدها من بناء دولة الإسلام الثابت الدعائم، القويِّ الأركان"[4].
[1] الإسراء لغة من السَّرى، وهو السير ليلاً، وقال السخاوي في تفسيره: إنما قال: ليلاً. والإسراء لا يكون إلاَّ بالليل؛ لأن المدَّة التي أُسْرِيَ به فيها لا تُقْطَع في أقل من أربعين يومًا، فقُطعت به في ليلٍ واحد، فكان المعنى: سبحان الذي أسرى بعبده في ليلٍ واحد من كذا وكذا، وهو موضع التعجب، وإنما عدل عن ليلة إلى ليل؛ لأنهم إذا قالوا: سرى ليلة. كان ذلك في الغالب لاستيعاب الليلة بالسرى، فقيل: ليلاً. أي في ليل. انظر: تاج العروس، مادة (السرى) 38/262.
[2] انظر في ذلك مثلاً: السيوطي: الإتقان في علوم القرآن 2/116.
[3] رزق هيبة: الإسراء والمعراج وأثرهما في تثبيت العقيدة ص17.
[4] المصدر السابق ص18.
رد: معجزة الإسراء
حقيقة الإسراء والمعراج
هناك سؤال مهم يفرض نفسه حول حقيقة الإسراء والمعراج، هل كان الإسراء بالرُّوح والجسد، أم كان بالرُّوح فقط؟
المتَّفَقُ عليه لدى جمهور العلماء أنَّ الإسراء تمَّ بالروح والجسد معًا[1]؛ لأنه لو كان بالروح فقط لما أحدث خلافًا، ولمَا كان هناك داعٍ لكُلِّ الضجَّة التي أحدثها بين القوم يومذاك، وكلُّ ما هنالك حينذاك -أي لو كان بالرُّوح فقط- أن يكون مجرَّدَ رُؤْيَا كما تحدث لأي إنسان في منامه، ومِن ثَمَّ فليس من شأنها أن تحرِّك ساكنًا.
والذين يُدركون شيئًا من طبيعة القدرة الإلهيَّة لا يستغربون واقعة كهذه؛ لأن تلك القدرة إرادة نافذة، تهون أمامها جميع الأعمال الَّتي تبدو في نظر الإنسان صعبة أو مستحيلة، حسبما اعتاده ورآه، وانطلاقًا من قدراته وطاقاته المحدودة، ولو كان الأمر موافقًا لهذه القدرات لما كان فيه معجزة تشهد لصاحبها بصدقه فيما جاء به؛ فالنُّقلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والوصول إليه في سرعة تتجاوز الخيال ليست أغرب من الاتصال بالملأ الأعلى وتلقِّي القرآن والرسالة عنه، وقد صدَّقه أبو بكر t وهو يردُّ المسألة المستغرَبة عند القوم إلى بساطتها وطبيعتها فيقول: "إني لأُصدِّقه بأبعد من ذلك! أُصَدِّقه بخبر السماء"[2].
وقد ذهب قليل من العلماء إلى أنَّ الإسراء والمعراج كانا منامًا، تشبُّثًا بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]، على أنَّ المراد بها ما رأى ليلة الإسراء، والرؤيا بالقصر ما يُرَى في المنام، وتشبُّثًا ببعض الروايات التي يدلُّ ظاهرها على أنه كان في المنام.
أما جمهور علماء المسلمين فقد جزموا بأن الإسراء كان بالرُّوح والجسد يقظةً لا منامًا، معتمدين على أدلَّة كثيرة منها:
1- أنه ثبت أنَّ قريشًا كذَّبوه في الإسراء واستبعدوا وقوعه، ولو كان منامًا لما كذَّبوه ولا استنكروه؛ لجواز وقوع مثل ذلك وأَبْعَد منه لآحاد الناس.
2- أن التسبيح والتعجُّب في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1]، إنما يكون في الأمور العظام، ولو كان ذلك منامًا لذكره الله تعالى كما ذكره عن إبراهيم وولده إسماعيل في قصَّة الذبح المعروفة، ولمَا كان له كبير شأن.
3- أن الله تعالى أثبت رؤيا القلب بقوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11]، ورؤيا العين بقوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 17، 18]. وأمَّا قولهم أن الرؤيا -بالقصر- مختصٌّ برؤيا المنام، فيمكن ردّ هذا الاستدلال عليهم بأنَّ هذا الاستعمال هنا في رؤيا العين دليل على أنَّ هذا اللفظ ليس خاصًّا بالمنام.
4- قوله تعالى: {بِعَبْدِهِ} يدلُّ على مجموع الروح والجسد.
5- أن التعبير القرآني جاء بلفظ السرى الذي يدلُّ على الستر والخفاء، وجعل هذا الستر والخفاء في مضمون سترٍ آخر هو الليل.
6- أنَّ عمليَّة الإسراء بهذه السرعة ممكنة في نفسها، بدليل أنَّ الرياح كانت تسير بسليمان u إلى المواضع البعيدة في الأوقات القليلة، قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 81].
7- أن في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} تصريحًا بالإسراء، وتوضيحًا في أنه وقع بالفعل للنبي ، وليس رؤيا مناميَّة، وإلاَّ لما استحقَّ أن يذكره القرآن الكريم بكلِّ ما يحيطه من تنزيهٍ وتسبيح لله العلي القدير، وأيضًا لما استحقَّ هذا الحادث أن يختص بسورة من القرآن تُسَمَّى باسمه بين دفَّتي المصحف الشريف.
8- أن ما استندوا إليه من ظاهر بعض الروايات، كرواية البخاري: "بينا أنا عند البيت مضطجعًا بين النائم واليقظان..."، و"إذ أتاني...". أو رواية: "بينا أنا نائم...". أن هذه الروايات محمولة على ابتداء الحال، ثم صار إلى اليقظة الكاملة .
يقول ابن حجر: "وقد اختلف السلف بحسب اختلاف الأخبار الواردة؛ فمنهم من ذهب إلى أن الإسراء والمعراج وقعا في ليلة واحدة في اليقظة بجسد النبي وروحه بعد المبعث، وإلى هذا ذهب الجمهور من علماء المحدِّثين والفقهاء والمتكلِّمين، وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، ولا ينبغي العدول عن ذلك؛ إذ ليس في العقل ما يحيله حتى يحتاج إلى تأويل"[3].
[1] انظر تفسير ابن كثير 5/43.
[2] مستدرك الحاكم: كتاب معرفة الصحابة y، أبو بكر الصديق بن أبي قحافة (4407).
[3] فتح الباري 11/213.
هناك سؤال مهم يفرض نفسه حول حقيقة الإسراء والمعراج، هل كان الإسراء بالرُّوح والجسد، أم كان بالرُّوح فقط؟
المتَّفَقُ عليه لدى جمهور العلماء أنَّ الإسراء تمَّ بالروح والجسد معًا[1]؛ لأنه لو كان بالروح فقط لما أحدث خلافًا، ولمَا كان هناك داعٍ لكُلِّ الضجَّة التي أحدثها بين القوم يومذاك، وكلُّ ما هنالك حينذاك -أي لو كان بالرُّوح فقط- أن يكون مجرَّدَ رُؤْيَا كما تحدث لأي إنسان في منامه، ومِن ثَمَّ فليس من شأنها أن تحرِّك ساكنًا.
والذين يُدركون شيئًا من طبيعة القدرة الإلهيَّة لا يستغربون واقعة كهذه؛ لأن تلك القدرة إرادة نافذة، تهون أمامها جميع الأعمال الَّتي تبدو في نظر الإنسان صعبة أو مستحيلة، حسبما اعتاده ورآه، وانطلاقًا من قدراته وطاقاته المحدودة، ولو كان الأمر موافقًا لهذه القدرات لما كان فيه معجزة تشهد لصاحبها بصدقه فيما جاء به؛ فالنُّقلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والوصول إليه في سرعة تتجاوز الخيال ليست أغرب من الاتصال بالملأ الأعلى وتلقِّي القرآن والرسالة عنه، وقد صدَّقه أبو بكر t وهو يردُّ المسألة المستغرَبة عند القوم إلى بساطتها وطبيعتها فيقول: "إني لأُصدِّقه بأبعد من ذلك! أُصَدِّقه بخبر السماء"[2].
وقد ذهب قليل من العلماء إلى أنَّ الإسراء والمعراج كانا منامًا، تشبُّثًا بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]، على أنَّ المراد بها ما رأى ليلة الإسراء، والرؤيا بالقصر ما يُرَى في المنام، وتشبُّثًا ببعض الروايات التي يدلُّ ظاهرها على أنه كان في المنام.
أما جمهور علماء المسلمين فقد جزموا بأن الإسراء كان بالرُّوح والجسد يقظةً لا منامًا، معتمدين على أدلَّة كثيرة منها:
1- أنه ثبت أنَّ قريشًا كذَّبوه في الإسراء واستبعدوا وقوعه، ولو كان منامًا لما كذَّبوه ولا استنكروه؛ لجواز وقوع مثل ذلك وأَبْعَد منه لآحاد الناس.
2- أن التسبيح والتعجُّب في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1]، إنما يكون في الأمور العظام، ولو كان ذلك منامًا لذكره الله تعالى كما ذكره عن إبراهيم وولده إسماعيل في قصَّة الذبح المعروفة، ولمَا كان له كبير شأن.
3- أن الله تعالى أثبت رؤيا القلب بقوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11]، ورؤيا العين بقوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 17، 18]. وأمَّا قولهم أن الرؤيا -بالقصر- مختصٌّ برؤيا المنام، فيمكن ردّ هذا الاستدلال عليهم بأنَّ هذا الاستعمال هنا في رؤيا العين دليل على أنَّ هذا اللفظ ليس خاصًّا بالمنام.
4- قوله تعالى: {بِعَبْدِهِ} يدلُّ على مجموع الروح والجسد.
5- أن التعبير القرآني جاء بلفظ السرى الذي يدلُّ على الستر والخفاء، وجعل هذا الستر والخفاء في مضمون سترٍ آخر هو الليل.
6- أنَّ عمليَّة الإسراء بهذه السرعة ممكنة في نفسها، بدليل أنَّ الرياح كانت تسير بسليمان u إلى المواضع البعيدة في الأوقات القليلة، قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 81].
7- أن في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} تصريحًا بالإسراء، وتوضيحًا في أنه وقع بالفعل للنبي ، وليس رؤيا مناميَّة، وإلاَّ لما استحقَّ أن يذكره القرآن الكريم بكلِّ ما يحيطه من تنزيهٍ وتسبيح لله العلي القدير، وأيضًا لما استحقَّ هذا الحادث أن يختص بسورة من القرآن تُسَمَّى باسمه بين دفَّتي المصحف الشريف.
8- أن ما استندوا إليه من ظاهر بعض الروايات، كرواية البخاري: "بينا أنا عند البيت مضطجعًا بين النائم واليقظان..."، و"إذ أتاني...". أو رواية: "بينا أنا نائم...". أن هذه الروايات محمولة على ابتداء الحال، ثم صار إلى اليقظة الكاملة .
يقول ابن حجر: "وقد اختلف السلف بحسب اختلاف الأخبار الواردة؛ فمنهم من ذهب إلى أن الإسراء والمعراج وقعا في ليلة واحدة في اليقظة بجسد النبي وروحه بعد المبعث، وإلى هذا ذهب الجمهور من علماء المحدِّثين والفقهاء والمتكلِّمين، وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، ولا ينبغي العدول عن ذلك؛ إذ ليس في العقل ما يحيله حتى يحتاج إلى تأويل"[3].
[1] انظر تفسير ابن كثير 5/43.
[2] مستدرك الحاكم: كتاب معرفة الصحابة y، أبو بكر الصديق بن أبي قحافة (4407).
[3] فتح الباري 11/213.
رد: معجزة الإسراء
لماذا كان الإسراء والمعراج ؟
رجح أكثر علماء السيرة النبوية أن حدوث الإسراء والمعراج كان قبل الهجرة إلى المدينة بسنة واحدة[1]، أي بعد مرور اثني عشر عامًا من البَعثة، وهي سنوات ذاق خلالها النبي وصحبه الكرام ألوانًا وأصنافًا من الاضطهاد والعذاب، شمل الجانب النفسي والاجتماعي والاقتصادي.
وكان من ذلك أنَّ قريشًا سعت إلى تفعيل سياسة الحصار الاقتصادي لبني عبد مناف، والتجويع الجماعي لهم، كُفَّارًا ومسلمين، واتفقوا على ألاَّ يُنَاكحوهم، ولا يُزَوِّجوهم ولا يتزوَّجوا منهم، ولا يُبايعوهم، ولا يجالسوهم، ولا يَدخلوا بيوتهم، ولا يكلِّموهم، وأن لا يَقْبَلوا من بني هاشم وبني المطَّلب صلحًا أبدًا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يُسْلِموا رسول الله لهم للقتل!!
وهنا بدأت حِقبة جديدة من المعاناة والألم، حيث حُوصِر المسلمون والمشركون من بني عبد مناف ومعهم أبو طالب في "شِعْبِ أبي طالب"، وقد بلغ الجهد بهم حتى إنه كانت تُسمَع أصوات النساء والصبيان وهم يصرخون من شدَّة الألم والجوع، وحتى اضطرُّوا إلى أكل أوراق الشجر والجلود.
وقد ظلَّت تلك المأساة البشريَّة طيلة ثلاثة أعوام كاملة، حتى جاء شهر المحرم من السنة العاشرة من البعثة، وشاء الله أن يُفَكَّ الحصار البشع عن بني هاشم وبني عبد المطَّلب، وكان ذلك على يد ثُلَّة من مشركي قريش جمعتهم النخوة والحميَّة القبليَّة، ثم بفضل آية قاهرة من آيات الله ، تمثَّلت في الأَرَضَة التي أكلتْ جميع ما في الصحيفة التي اتَّفقوا عليها، من جَوْر وقطيعة وظلم، إلاَّ ذِكْرَ اللَّه !!
وما إن انتهت هذه السنون العجاف حتى تلاها عام الحزن، الذي لم يكن تسميته إشفاقًا من أحد، ولكنها تسمية النبي لمَّا حدثتْ له مصيبتان كبيرتان في هذا العام (العاشرة من البعثة)، أمَّا الأولى فهي موت أبي طالب، عمِّ رسول الله ، والسند الاجتماعي له، وأمَّا الثانية فهي وفاة خديجة رضي الله عنها، زوج رسول الله والسند العاطفي والقلبي له!!
وقعت هاتان الحادثتان المؤلمتان خلال أيَّام معدودة، فازدادت مشاعر الحزن والألم في قلب رسول الله ، وزاد عليه ما كان مِن تجرُّؤ المشركين عليه؛ حيث كاشفوه بالنكال والأذى بعد موت عمِّه أبي طالب.
وقد ازداد رسول الله غمًّا على غمٍّ حتى يئس من قريش، وخرج إلى أكبر القبائل بعد قريش وهي قبيلة ثقيف بالطائف؛ رجاء أن يستجيبوا لدعوته أو يُئووه وينصروه على قومه، فلم يرَ ناصرًا ولم يرَ مَن يُئوي، وقد قال له أحدهم: أما وجد الله أحدًا يرسله غيرك؟ وقال آخر: والله لا أُكلِّمك أبدًا... لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطرًا من أن أردَّ عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك!
وهنا قام رسول الله من عندهم وقد يئس من خيرهم، وقال لهم: "إِذْ قَدْ فَعَلْتُمْ فَاكْتُمُوا عَنِّي". إلاَّ إنهم لم يفعلوا، بل تطاولوا عليه ، وأَغْرَوْا به سفهاءهم الذين رَمَوْهُ بالحجارة هو ومولاه زيد بن حارثة، حتى دَمِيَتْ قدمه الشريفة، وشُجَّ رأس زيد، ولم يزل به السفهاء حتى ألجئُوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، وهناك التجأ إلى شجرة وأخذ يدعو بالدعاء المشهور: "اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي، إِلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي أَمْ إِلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ عَلَيَّ غَضَبٌ فَلاَ أُبَالِي..."[2].
وهذا الدعاء يدلُّ على امتلاء قلبه كآبة وحزنًا ممَّا لقي من الشدَّة، وأسفًا على أنه لم يؤمن به أحد، وقد جاء هذا الحزن وذاك الألم معبَّرًا عنه في حديث عائشة رضي الله عنها؛ إذ سألتْ رسول الله : هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ فَقَالَ : "لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ... إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ. فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ: ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ. فَقَالَ النَّبِيُّ : بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا"[3].
ثم إنه لما عاد إلى مكة حزينًا كسيرَ النفس لم يستطع أن يَدْخُلْهَا إلاَّ في جوار مشرك، وهو مطعم بن عديّ!!
وفي هذه الظروف العصيبة والمحن المتلاحقة؛ في الطائف وفيما سبقها من وثيقة المقاطعة والحصار، ووفاة سَنَدَي الرسول الكريم العاطفي والاجتماعي، زوجه السيدة خديجة -رضي الله عنها- وعمه أبي طالب ؛ في هذه الظروف وبعد أن ضاقت به الأرض من المشركين اتَّسعت له أفق السماء، وجاءت معجزة الإسراء والمعراج تثبيتًا له ومواساة وتكريمًا؛ ولتكون بذلك منحة ربانيَّة تمسح الأحزان ومتاعب الماضي، وتنقله إلى عالم أرحب وأُفق أقدس وأطهر، إلى حيث سِدْرَة المنتهى، والقُرْب من عرش الرحمن .
[1] هناك اختلافٌ بيِّن في زمن الإسراء والمعراج، فقيل: قبل الهجرة بسنة. وهو قول ابن سعد (الطبقات 1/214)، وغيره، وبه جزم النووي (شرح صحيح مسلم 2/209). كما ورد عند ابن سعد أنه كان في رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرًا، وحكى ابن عبد البر أنه كان في رجب، وجزم به النووي. وحكى ابن الأثير أنه كان قبل الهجرة بثلاث سنين (الكامل 2/33)، وقيل غير ذلك. انظر محمد الأمين بن محمد: السيرة النبوية من فتح الباري 1/233، ويعلِّق الشيخ أبو زهرة فيقول: "وننتهي من هذا بأن علماء السيرة النبوية مختلفون في تعيين اليوم الذي كان فيه الإسراء، ولكن الواقعة ثابتة، وقد اتفقوا على أنها كانت بعد ذهاب النبي على الطائف وردّهم له الردّ المنكر، وأن كونها في ليلة السابع والعشرين من رجب ثبتت بخبر لم يصح سنده في نظر الحافظ المحدث ابن كثير...". انظر رزق هيبة: الإسراء والمعراج وأثرهما في تثبيت العقيدة ص91.
[2] راجع في ذلك مثلاً: سيرة ابن هشام 1/419 وما بعدها.
[3] البخاري: كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى (3059)، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي من أذى المشركين والمنافقين (1795).
رجح أكثر علماء السيرة النبوية أن حدوث الإسراء والمعراج كان قبل الهجرة إلى المدينة بسنة واحدة[1]، أي بعد مرور اثني عشر عامًا من البَعثة، وهي سنوات ذاق خلالها النبي وصحبه الكرام ألوانًا وأصنافًا من الاضطهاد والعذاب، شمل الجانب النفسي والاجتماعي والاقتصادي.
وكان من ذلك أنَّ قريشًا سعت إلى تفعيل سياسة الحصار الاقتصادي لبني عبد مناف، والتجويع الجماعي لهم، كُفَّارًا ومسلمين، واتفقوا على ألاَّ يُنَاكحوهم، ولا يُزَوِّجوهم ولا يتزوَّجوا منهم، ولا يُبايعوهم، ولا يجالسوهم، ولا يَدخلوا بيوتهم، ولا يكلِّموهم، وأن لا يَقْبَلوا من بني هاشم وبني المطَّلب صلحًا أبدًا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يُسْلِموا رسول الله لهم للقتل!!
وهنا بدأت حِقبة جديدة من المعاناة والألم، حيث حُوصِر المسلمون والمشركون من بني عبد مناف ومعهم أبو طالب في "شِعْبِ أبي طالب"، وقد بلغ الجهد بهم حتى إنه كانت تُسمَع أصوات النساء والصبيان وهم يصرخون من شدَّة الألم والجوع، وحتى اضطرُّوا إلى أكل أوراق الشجر والجلود.
وقد ظلَّت تلك المأساة البشريَّة طيلة ثلاثة أعوام كاملة، حتى جاء شهر المحرم من السنة العاشرة من البعثة، وشاء الله أن يُفَكَّ الحصار البشع عن بني هاشم وبني عبد المطَّلب، وكان ذلك على يد ثُلَّة من مشركي قريش جمعتهم النخوة والحميَّة القبليَّة، ثم بفضل آية قاهرة من آيات الله ، تمثَّلت في الأَرَضَة التي أكلتْ جميع ما في الصحيفة التي اتَّفقوا عليها، من جَوْر وقطيعة وظلم، إلاَّ ذِكْرَ اللَّه !!
وما إن انتهت هذه السنون العجاف حتى تلاها عام الحزن، الذي لم يكن تسميته إشفاقًا من أحد، ولكنها تسمية النبي لمَّا حدثتْ له مصيبتان كبيرتان في هذا العام (العاشرة من البعثة)، أمَّا الأولى فهي موت أبي طالب، عمِّ رسول الله ، والسند الاجتماعي له، وأمَّا الثانية فهي وفاة خديجة رضي الله عنها، زوج رسول الله والسند العاطفي والقلبي له!!
وقعت هاتان الحادثتان المؤلمتان خلال أيَّام معدودة، فازدادت مشاعر الحزن والألم في قلب رسول الله ، وزاد عليه ما كان مِن تجرُّؤ المشركين عليه؛ حيث كاشفوه بالنكال والأذى بعد موت عمِّه أبي طالب.
وقد ازداد رسول الله غمًّا على غمٍّ حتى يئس من قريش، وخرج إلى أكبر القبائل بعد قريش وهي قبيلة ثقيف بالطائف؛ رجاء أن يستجيبوا لدعوته أو يُئووه وينصروه على قومه، فلم يرَ ناصرًا ولم يرَ مَن يُئوي، وقد قال له أحدهم: أما وجد الله أحدًا يرسله غيرك؟ وقال آخر: والله لا أُكلِّمك أبدًا... لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطرًا من أن أردَّ عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك!
وهنا قام رسول الله من عندهم وقد يئس من خيرهم، وقال لهم: "إِذْ قَدْ فَعَلْتُمْ فَاكْتُمُوا عَنِّي". إلاَّ إنهم لم يفعلوا، بل تطاولوا عليه ، وأَغْرَوْا به سفهاءهم الذين رَمَوْهُ بالحجارة هو ومولاه زيد بن حارثة، حتى دَمِيَتْ قدمه الشريفة، وشُجَّ رأس زيد، ولم يزل به السفهاء حتى ألجئُوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، وهناك التجأ إلى شجرة وأخذ يدعو بالدعاء المشهور: "اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي، إِلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي أَمْ إِلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ عَلَيَّ غَضَبٌ فَلاَ أُبَالِي..."[2].
وهذا الدعاء يدلُّ على امتلاء قلبه كآبة وحزنًا ممَّا لقي من الشدَّة، وأسفًا على أنه لم يؤمن به أحد، وقد جاء هذا الحزن وذاك الألم معبَّرًا عنه في حديث عائشة رضي الله عنها؛ إذ سألتْ رسول الله : هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ فَقَالَ : "لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ... إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ. فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ: ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ. فَقَالَ النَّبِيُّ : بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا"[3].
ثم إنه لما عاد إلى مكة حزينًا كسيرَ النفس لم يستطع أن يَدْخُلْهَا إلاَّ في جوار مشرك، وهو مطعم بن عديّ!!
وفي هذه الظروف العصيبة والمحن المتلاحقة؛ في الطائف وفيما سبقها من وثيقة المقاطعة والحصار، ووفاة سَنَدَي الرسول الكريم العاطفي والاجتماعي، زوجه السيدة خديجة -رضي الله عنها- وعمه أبي طالب ؛ في هذه الظروف وبعد أن ضاقت به الأرض من المشركين اتَّسعت له أفق السماء، وجاءت معجزة الإسراء والمعراج تثبيتًا له ومواساة وتكريمًا؛ ولتكون بذلك منحة ربانيَّة تمسح الأحزان ومتاعب الماضي، وتنقله إلى عالم أرحب وأُفق أقدس وأطهر، إلى حيث سِدْرَة المنتهى، والقُرْب من عرش الرحمن .
[1] هناك اختلافٌ بيِّن في زمن الإسراء والمعراج، فقيل: قبل الهجرة بسنة. وهو قول ابن سعد (الطبقات 1/214)، وغيره، وبه جزم النووي (شرح صحيح مسلم 2/209). كما ورد عند ابن سعد أنه كان في رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرًا، وحكى ابن عبد البر أنه كان في رجب، وجزم به النووي. وحكى ابن الأثير أنه كان قبل الهجرة بثلاث سنين (الكامل 2/33)، وقيل غير ذلك. انظر محمد الأمين بن محمد: السيرة النبوية من فتح الباري 1/233، ويعلِّق الشيخ أبو زهرة فيقول: "وننتهي من هذا بأن علماء السيرة النبوية مختلفون في تعيين اليوم الذي كان فيه الإسراء، ولكن الواقعة ثابتة، وقد اتفقوا على أنها كانت بعد ذهاب النبي على الطائف وردّهم له الردّ المنكر، وأن كونها في ليلة السابع والعشرين من رجب ثبتت بخبر لم يصح سنده في نظر الحافظ المحدث ابن كثير...". انظر رزق هيبة: الإسراء والمعراج وأثرهما في تثبيت العقيدة ص91.
[2] راجع في ذلك مثلاً: سيرة ابن هشام 1/419 وما بعدها.
[3] البخاري: كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى (3059)، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي من أذى المشركين والمنافقين (1795).
رد: معجزة الإسراء
حادث شق الصدر
مهد الله لرحلة الإسراء والمعراج العظيمة بشقِّ صدر النبي ، حيث قال أنس بن مالكٍ عن مالك بن صعصعة -رضي الله عنهما- أنَّ نبيَّ اللَّه قال: "بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ -وَرُبَّمَا قَالَ: فِي الْحِجْرِ- مُضْطَجِعًا، إِذْ أَتَانِي آتٍ فَقَدَّ -قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: فَشَقَّ- مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ -فَقُلْتُ لِلْجَارُودِ وَهْوَ إِلَى جَنْبِي: مَا يَعْنِي بِهِ؟ قَالَ: مِنْ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ إِلَى شِعْرَتِهِ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مِنْ قَصِّهِ إِلَى شِعْرَتِهِ- فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي، ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءَةٍ إِيمَانًا، فَغُسِلَ قَلْبِي ثُمَّ حُشِيَ"[1].
وفي شَقِّ صدره يقول ابن حجر: "وقد استنكر بعضهم وقوعَ شَقِّ الصدر ليلة الإسراء، وقال: إنما كان ذلك وهو صغير في بني سعد، ولا إنكار في ذلك، فقد تواردت الروايات به. وثبت شقُّ الصدر أيضًا عند البعثة كما أخرجه أبو نعيم في "الدلائل"، ولكل منها حكمة؛ فالأوَّل وقع فيه من الزيادة كما عند مسلم من حديث أنس: "فأخرج علقةً، فقال: هذا حظُّ الشيطانِ منك". وكان هذا في زمن الطفولية، فنشأ على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان، ثم وقع شقُّ الصدر عند البعث زيادة في إكرامه ليتلقَّى ما يُوحَى إليه بقلب قويٍّ في أكمل الأحوال من التطهير، ثم وقع شقُّ الصدر عند إرادة العروج إلى السماء ليتأهَّب للمناجاة، ويُحْتَمَل أن تكون الحكمة في هذا الغسل لتقع المبالغة في الإسباغ بحصول المرَّة الثالثة كما تقرَّر في شرعه ، ويُحتمل أن تكون الحكمة في انفراج سقف بيته الإشارة إلى ما سيقع من شقِّ صدره، وأنه سيلتئم بغير معالجة يتضرَّر بها.
وجميع ما ورد من شقِّ الصدر واستخراج القلب، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة ممَّا يجب التسليم له دون التعرُّض لصرفه عن حقيقته لصلاحية القدرة فلا يستحيل شيء من ذلك، قال القرطبي في (المفهم): "لا يُلْتَفَتْ لإنكار الشقِّ ليلة الإسراء؛ لأن رواته ثقات مشاهير. ثم ذكر نحو ما تقدم"[2].
[1] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب المعراج (3674).
[2] فتح الباري 11/216.
مهد الله لرحلة الإسراء والمعراج العظيمة بشقِّ صدر النبي ، حيث قال أنس بن مالكٍ عن مالك بن صعصعة -رضي الله عنهما- أنَّ نبيَّ اللَّه قال: "بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ -وَرُبَّمَا قَالَ: فِي الْحِجْرِ- مُضْطَجِعًا، إِذْ أَتَانِي آتٍ فَقَدَّ -قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: فَشَقَّ- مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ -فَقُلْتُ لِلْجَارُودِ وَهْوَ إِلَى جَنْبِي: مَا يَعْنِي بِهِ؟ قَالَ: مِنْ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ إِلَى شِعْرَتِهِ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مِنْ قَصِّهِ إِلَى شِعْرَتِهِ- فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي، ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءَةٍ إِيمَانًا، فَغُسِلَ قَلْبِي ثُمَّ حُشِيَ"[1].
وفي شَقِّ صدره يقول ابن حجر: "وقد استنكر بعضهم وقوعَ شَقِّ الصدر ليلة الإسراء، وقال: إنما كان ذلك وهو صغير في بني سعد، ولا إنكار في ذلك، فقد تواردت الروايات به. وثبت شقُّ الصدر أيضًا عند البعثة كما أخرجه أبو نعيم في "الدلائل"، ولكل منها حكمة؛ فالأوَّل وقع فيه من الزيادة كما عند مسلم من حديث أنس: "فأخرج علقةً، فقال: هذا حظُّ الشيطانِ منك". وكان هذا في زمن الطفولية، فنشأ على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان، ثم وقع شقُّ الصدر عند البعث زيادة في إكرامه ليتلقَّى ما يُوحَى إليه بقلب قويٍّ في أكمل الأحوال من التطهير، ثم وقع شقُّ الصدر عند إرادة العروج إلى السماء ليتأهَّب للمناجاة، ويُحْتَمَل أن تكون الحكمة في هذا الغسل لتقع المبالغة في الإسباغ بحصول المرَّة الثالثة كما تقرَّر في شرعه ، ويُحتمل أن تكون الحكمة في انفراج سقف بيته الإشارة إلى ما سيقع من شقِّ صدره، وأنه سيلتئم بغير معالجة يتضرَّر بها.
وجميع ما ورد من شقِّ الصدر واستخراج القلب، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة ممَّا يجب التسليم له دون التعرُّض لصرفه عن حقيقته لصلاحية القدرة فلا يستحيل شيء من ذلك، قال القرطبي في (المفهم): "لا يُلْتَفَتْ لإنكار الشقِّ ليلة الإسراء؛ لأن رواته ثقات مشاهير. ثم ذكر نحو ما تقدم"[2].
[1] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب المعراج (3674).
[2] فتح الباري 11/216.
رد: معجزة الإسراء
روايات الإسراء والمعراج
تعددت روايات الإسراء والمعراج في السيرة والأحاديث؛ إذ جاء في كتب السيرة وكتب السُّنَنِ أنه ليس هناك حديث واحد يجمع ما ورد من أحداث خلال هذه الرحلة المباركة، وإنما هناك أحاديث كلٌّ منها يُشِير إلى جزء أو جانب، وقد أورد الحافظ السيوطي أن الإسراء ورد مطوَّلاً ومختصرًا من حديث أنس وأُبَيِّ بن كعب، وبُرَيْدَة، وجابر بن عبد الله، وحذيفة بن اليمان، وسَمُرة بن جُنْدُب، وسهل بن سعد، وشدَّاد بن أوس، وصُهَيب، وابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو، وابن مسعود، وعبد الله بن أسعد بن زرارة، وعبد الرحمن بن قُرْط، وعلي بن أبي طالب، وعمر بن الخطاب، ومالك بن صعصعة، وأبي أُمَامَة، وأبي أيُّوب، وأبي حبَّة، وأبي الحمراء، وأبي ذَرٍّ، وأبي سعيد الخدري، وأبي سفيان بن حرب، وأبي ليلى الأنصاري، وأبي هريرة، وعائشة وأسماء بنتي أبي بكر، وأم هانئ، وأم سلمة. وقد عدَّ الإمام القسطلاني في المواهب اللدنِّيَّة ستَّة وعشرين صحابيًّا وصحابيَّة رَوَوْا حديث الإسراء والمعراج؛ لذا فهو حديث متواتر مع نصِّ القرآن عليه في سورتي الإسراء والنجم[1].
وإنا نكتفي هنا بما جاء في صحيح البخاري من روايات حول هذه الرحلة؛ فإتمامًا للرواية التي سقناها في شقِّ الصدر، يُتابِع أنسُ بن مالكٍ عن مالك بن صعصعة رضي الله عنهما أنَّ نبيَّ الله حدَّثهم عن ليلةَ أُسْرِيَ به: ".. ثُمَّ أُوتِيتُ بِدَابَّةٍ دُونَ الْبَغْلِ وَفَوْقَ الْحِمَارِ أَبْيَضَ" -فَقَالَ لَهُ الْجَارُودُ: هُوَ الْبُرَاقُ يَا أَبَا حَمْزَةَ؟ قَالَ أَنَسٌ: نَعَمْ، يَضَعُ خَطْوَهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ- فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ، فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. ففُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ، فَإِذَا فِيهَا آدَمُ، فَقَالَ: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلاَمَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالاِبْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. ففُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ، إِذَا يَحْيَى وَعِيسَى، وَهُمَا ابْنَا الْخَالَةِ، قَالَ: هَذَا يَحْيَى وَعِيسَى، فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا. فَسَلَّمْتُ فَرَدَّا، ثُمَّ قَالاَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يُوسُفُ، قَالَ: هَذَا يُوسُفُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ إِلَى إِدْرِيسَ قَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ . قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا هَارُونُ، قَالَ: هَذَا هَارُونُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّادِسَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: مَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَلَمَّا خَلَصْتُ، فَإِذَا مُوسَى، قَالَ: هَذَا مُوسَى، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. فَلَمَّا تَجَاوَزْتُ بَكَى، قِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي لأَنَّ غُلاَمًا بُعِثَ بَعْدِي، يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مَنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي. ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَلَمَّا خَلَصْتُ، فَإِذَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ: هَذَا أَبُوكَ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. قَالَ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلاَمَ، قَالَ: مَرْحَبًا بِالاِبْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ رُفِعَتْ لِي سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا نَبِقُهَا مِثْلُ قِلاَلِ هَجَرَ، وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ، قَالَ: هَذِهِ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى. وَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ: نَهْرَانِ بَاطِنَانِ، وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ. فَقُلْتُ: مَا هَذَانِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهَرَانِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ. ثُمَّ رُفِعَ لِي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ، فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ: هِيَ الْفِطْرَةُ أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ. ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلَوَاتُ خَمْسِينَ صَلاَةً كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ، فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ؟ قَالَ: أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلاَةً كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلاَةً كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ؛ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ. فَرَجَعْتُ، فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ، فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ، فَأُمِرْتُ بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ، فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ. قَالَ: سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ، وَلَكِنْ أَرْضَى وَأُسَلِّمُ. قَالَ: فَلَمَّا جَاوَزْتُ نَادَى مُنَادٍ: أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي"[2].
وعن أنس بن مالكٍ، قال: كان أبو ذَرٍّ يحدِّث أنَّ رسول الله قال: "فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَلَمَّا جِئْتُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ: افْتَحْ. قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ. قَالَ: هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، مَعِي مُحَمَّدٌ . فَقَالَ: أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَلَمَّا فَتَحَ عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَإِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ، إِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَسَارِهِ بَكَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالاِبْنِ الصَّالِحِ. قُلْتُ لِجِبْرِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا آدَمُ. وَهَذِهِ الأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَالأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى، حَتَّى عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَقَالَ لِخَازِنِهَا: افْتَحْ. فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُ فَفَتَحَ".
قَالَ أَنَسٌ: فَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ فِي السَّمَوَاتِ آدَمَ، وَإِدْرِيسَ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَإِبْرَاهِيمَ -صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- وَلَمْ يُثْبِتْ كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ آدَمَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ.
قَالَ أَنَسٌ: "فَلَمَّا مَرَّ جِبْرِيلُ بِالنَّبِيِّ بِإِدْرِيسَ قَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالأَخِ الصَّالِحِ. فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ. ثُمَّ مَرَرْتُ بِمُوسَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالأَخِ الصَّالِحِ. قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا مُوسَى. ثُمَّ مَرَرْتُ بِعِيسَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا عِيسَى. ثُمَّ مَرَرْتُ بِإِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالاِبْنِ الصَّالِحِ. قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا إِبْرَاهِيمُ".
وكان ابن عباس وأبو حَبَّة الأنصاري، يقولان: قال النَّبيُّ : "ثُمَّ عُرِجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوًى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلاَمِ".
قال أنس بن مالك: قال النَّبيُّ : "فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلاَةً، فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ حَتَّى مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: مَا فَرَضَ اللَّهُ لَكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: فَرَضَ خَمْسِينَ صَلاَةً. قَالَ: فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ. فَرَاجَعْتُ فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، قُلْتُ: وَضَعَ شَطْرَهَا. فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ. فَرَاجَعْتُ فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ. فَرَاجَعْتُهُ، فَقَالَ: هِيَ خَمْسٌ، وَهْيَ خَمْسُونَ، لاَ يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ. فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ. فَقُلْتُ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي. ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى انْتَهَى بِي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لاَ أَدْرِي مَا هِيَ، ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ، فَإِذَا فِيهَا حَبَايِلُ اللُّؤْلُؤِ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ"[3].
هذا، وقد أورد الإمام مسلم عشرين رواية عن الإسراء برسول الله ، أغلبها تدور حول ما ذكرناه من روايتي البخاري، ولا نُطيل الحديث بتكرارها مرَّة أخرى، وعنها جميعًا يقول ابن كثير: "وإذا حصل الوقوف على مجموع هذه الأحاديث صحيحها وحسنها وضعيفها، يحصل مضمون ما اتَّفقتْ عليه من مسرى رسول الله من مكة إلى بيت المقدس، وأنه مرَّة واحدة، وإن اختلفت عبارات الرواة في أدائه، أو زاد بعضهم فيه أو نقص منه، فإن الخطأ جائز على مَنْ عدا الأنبياء عليهم السلام. ومن جعل من الناس كلَّ رواية خالفت الأخرى مرَّة على حِدَة، فأثبتَ إسراءات متعدِّدة فقد أبعد وأغرب، وهرب إلى غير مهرب ولم يحصل على مطلب، وقد صرَّح بعضهم من المتأخِّرين بأنه u أُسْرِيَ به مرَّة من مكة إلى بيت المقدس فقط، ومرَّة من مكة إلى السماء فقط، ومرَّة إلى بيت المقدس ومنه إلى السماء. وفرح بهذا المسلك، وأنه قد ظفر بشيء يخلص به من الإشكالات، وهذا بعيد جدًّا، ولم يُنْقَل هذا عن أحدٍ من السلف، ولو تعدَّد هذا التعدُّد لأَخْبَر النبي به أُمَّتَه، ولنقلته الناس على التعدُّد والتكرر"[4].
قال: "والحقُّ أنه u أُسْرِيَ به يقظة لا منامًا من مكة إلى بيت المقدس راكبًا البراق، فلمَّا انتهى إلى باب المسجد ربط الدابَّة عند الباب، ودخله فصلى في قبلته تحيَّة المسجد ركعتين، ثم أتى المعراج وهو كالسُّلَّم ذو درج يرقى فيها، فصَعِدَ فيه إلى السماء الدنيا، ثم إلى بقيَّة السموات السبع، فتلقَّاه مِن كلِّ سماء مقرَّبُوها، وسلَّم عليه الأنبياء عليهم السلام الذين في السموات بحسب منازلهم ودرجاتهم، حتى مرَّ بموسى الكليم في السادسة، وإبراهيم الخليل في السابعة، ثم جاوز منزلتهما وعليهما وعلى سائر الأنبياء، حتى انتهى إلى مستوًى يسمع فيه صريف الأقلام -أي: أقلام القدر- بما هو كائن، ورأى سدرة المنتهى، ورأى هنالك جبريل على صورته، ورأى البيت المعمور، وإبراهيم الخليل باني الكعبة الأرضيَّة مسندًا ظهره إليه، ورأى الجنَّة والنار، وفرض الله عليه هنالك الصلوات خمسين، ثم خفَّفها إلى خمس؛ رحمة منه ولطفًا بعباده، ثم هبط إلى بيت المقدس وصلى بالأنبياء هناك، ثم خرج من بيت المقدس فركب البراق وعاد إلى مكة بغلس"[5].
هذا، وإن المشاهدَ الغريبة التي رآها النبي دليلٌ من معجزات الله تعالى لنبيِّه ومصطفاه؛ فالعقل البشري القاصر عن الوعي الشمولي للأشياء لَيستغرب مِنْ هذه المواقف المعراجيَّة الصادقة، لكن الله تعالى يَعْلَمُ حقيقة خلقه، يَعْلَمُ أنَّ الإنسان جاحد إلاَّ بدليل وبرهان، والإسراء والمعراج من أعظم المعجزات التي حدثت للنبي ؛ لِيَعْلَم الناسُ كافَّة أنَّ محمدًا نبيٌّ مُرْسَل للناس جميعًا من قِبَلِ الله تعالى، وما رآه رسول الله ما هو إلاَّ عِلْمٌ واجب على الأمة استيعابه وفهمه، وعليهم أن يبتعدوا عن كل شرٍّ أُرِيدَ بهم، أو أرادوه لأنفسهم، من خلال ما أوضحه الله لنبيه من مشاهد قويَّة تجعل الإنسان حذرًا من نفسه السيِّئة، وحذرًا من إبليس، ومن شهوات الدنيا المهلكة، وهي محذورات أرادنا الله تعالى أن نبتعد عنها من خلال عواقبها التي ذُكِرَتْ في الحديث السابق وغيره.
[1] سعيد حوَّى: الرسول ص330.
[2] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب المعراج (3674).
[3] البخاري: كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء (342)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله إلى السموات وفرض الصلوات (163).
[4] تفسير ابن كثير 5/42.
[5] المصدر السابق 5/42، 43.
تعددت روايات الإسراء والمعراج في السيرة والأحاديث؛ إذ جاء في كتب السيرة وكتب السُّنَنِ أنه ليس هناك حديث واحد يجمع ما ورد من أحداث خلال هذه الرحلة المباركة، وإنما هناك أحاديث كلٌّ منها يُشِير إلى جزء أو جانب، وقد أورد الحافظ السيوطي أن الإسراء ورد مطوَّلاً ومختصرًا من حديث أنس وأُبَيِّ بن كعب، وبُرَيْدَة، وجابر بن عبد الله، وحذيفة بن اليمان، وسَمُرة بن جُنْدُب، وسهل بن سعد، وشدَّاد بن أوس، وصُهَيب، وابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو، وابن مسعود، وعبد الله بن أسعد بن زرارة، وعبد الرحمن بن قُرْط، وعلي بن أبي طالب، وعمر بن الخطاب، ومالك بن صعصعة، وأبي أُمَامَة، وأبي أيُّوب، وأبي حبَّة، وأبي الحمراء، وأبي ذَرٍّ، وأبي سعيد الخدري، وأبي سفيان بن حرب، وأبي ليلى الأنصاري، وأبي هريرة، وعائشة وأسماء بنتي أبي بكر، وأم هانئ، وأم سلمة. وقد عدَّ الإمام القسطلاني في المواهب اللدنِّيَّة ستَّة وعشرين صحابيًّا وصحابيَّة رَوَوْا حديث الإسراء والمعراج؛ لذا فهو حديث متواتر مع نصِّ القرآن عليه في سورتي الإسراء والنجم[1].
وإنا نكتفي هنا بما جاء في صحيح البخاري من روايات حول هذه الرحلة؛ فإتمامًا للرواية التي سقناها في شقِّ الصدر، يُتابِع أنسُ بن مالكٍ عن مالك بن صعصعة رضي الله عنهما أنَّ نبيَّ الله حدَّثهم عن ليلةَ أُسْرِيَ به: ".. ثُمَّ أُوتِيتُ بِدَابَّةٍ دُونَ الْبَغْلِ وَفَوْقَ الْحِمَارِ أَبْيَضَ" -فَقَالَ لَهُ الْجَارُودُ: هُوَ الْبُرَاقُ يَا أَبَا حَمْزَةَ؟ قَالَ أَنَسٌ: نَعَمْ، يَضَعُ خَطْوَهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ- فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ، فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. ففُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ، فَإِذَا فِيهَا آدَمُ، فَقَالَ: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلاَمَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالاِبْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. ففُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ، إِذَا يَحْيَى وَعِيسَى، وَهُمَا ابْنَا الْخَالَةِ، قَالَ: هَذَا يَحْيَى وَعِيسَى، فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا. فَسَلَّمْتُ فَرَدَّا، ثُمَّ قَالاَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يُوسُفُ، قَالَ: هَذَا يُوسُفُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ إِلَى إِدْرِيسَ قَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ . قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا هَارُونُ، قَالَ: هَذَا هَارُونُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّادِسَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: مَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَلَمَّا خَلَصْتُ، فَإِذَا مُوسَى، قَالَ: هَذَا مُوسَى، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. فَلَمَّا تَجَاوَزْتُ بَكَى، قِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي لأَنَّ غُلاَمًا بُعِثَ بَعْدِي، يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مَنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي. ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَلَمَّا خَلَصْتُ، فَإِذَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ: هَذَا أَبُوكَ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. قَالَ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلاَمَ، قَالَ: مَرْحَبًا بِالاِبْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ رُفِعَتْ لِي سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا نَبِقُهَا مِثْلُ قِلاَلِ هَجَرَ، وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ، قَالَ: هَذِهِ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى. وَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ: نَهْرَانِ بَاطِنَانِ، وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ. فَقُلْتُ: مَا هَذَانِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهَرَانِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ. ثُمَّ رُفِعَ لِي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ، فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ: هِيَ الْفِطْرَةُ أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ. ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلَوَاتُ خَمْسِينَ صَلاَةً كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ، فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ؟ قَالَ: أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلاَةً كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلاَةً كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ؛ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ. فَرَجَعْتُ، فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ، فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ، فَأُمِرْتُ بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ، فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ. قَالَ: سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ، وَلَكِنْ أَرْضَى وَأُسَلِّمُ. قَالَ: فَلَمَّا جَاوَزْتُ نَادَى مُنَادٍ: أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي"[2].
وعن أنس بن مالكٍ، قال: كان أبو ذَرٍّ يحدِّث أنَّ رسول الله قال: "فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَلَمَّا جِئْتُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ: افْتَحْ. قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ. قَالَ: هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، مَعِي مُحَمَّدٌ . فَقَالَ: أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَلَمَّا فَتَحَ عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَإِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ، إِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَسَارِهِ بَكَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالاِبْنِ الصَّالِحِ. قُلْتُ لِجِبْرِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا آدَمُ. وَهَذِهِ الأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَالأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى، حَتَّى عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَقَالَ لِخَازِنِهَا: افْتَحْ. فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُ فَفَتَحَ".
قَالَ أَنَسٌ: فَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ فِي السَّمَوَاتِ آدَمَ، وَإِدْرِيسَ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَإِبْرَاهِيمَ -صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- وَلَمْ يُثْبِتْ كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ آدَمَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ.
قَالَ أَنَسٌ: "فَلَمَّا مَرَّ جِبْرِيلُ بِالنَّبِيِّ بِإِدْرِيسَ قَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالأَخِ الصَّالِحِ. فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ. ثُمَّ مَرَرْتُ بِمُوسَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالأَخِ الصَّالِحِ. قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا مُوسَى. ثُمَّ مَرَرْتُ بِعِيسَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا عِيسَى. ثُمَّ مَرَرْتُ بِإِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالاِبْنِ الصَّالِحِ. قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا إِبْرَاهِيمُ".
وكان ابن عباس وأبو حَبَّة الأنصاري، يقولان: قال النَّبيُّ : "ثُمَّ عُرِجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوًى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلاَمِ".
قال أنس بن مالك: قال النَّبيُّ : "فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلاَةً، فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ حَتَّى مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: مَا فَرَضَ اللَّهُ لَكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: فَرَضَ خَمْسِينَ صَلاَةً. قَالَ: فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ. فَرَاجَعْتُ فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، قُلْتُ: وَضَعَ شَطْرَهَا. فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ. فَرَاجَعْتُ فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ. فَرَاجَعْتُهُ، فَقَالَ: هِيَ خَمْسٌ، وَهْيَ خَمْسُونَ، لاَ يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ. فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ. فَقُلْتُ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي. ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى انْتَهَى بِي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لاَ أَدْرِي مَا هِيَ، ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ، فَإِذَا فِيهَا حَبَايِلُ اللُّؤْلُؤِ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ"[3].
هذا، وقد أورد الإمام مسلم عشرين رواية عن الإسراء برسول الله ، أغلبها تدور حول ما ذكرناه من روايتي البخاري، ولا نُطيل الحديث بتكرارها مرَّة أخرى، وعنها جميعًا يقول ابن كثير: "وإذا حصل الوقوف على مجموع هذه الأحاديث صحيحها وحسنها وضعيفها، يحصل مضمون ما اتَّفقتْ عليه من مسرى رسول الله من مكة إلى بيت المقدس، وأنه مرَّة واحدة، وإن اختلفت عبارات الرواة في أدائه، أو زاد بعضهم فيه أو نقص منه، فإن الخطأ جائز على مَنْ عدا الأنبياء عليهم السلام. ومن جعل من الناس كلَّ رواية خالفت الأخرى مرَّة على حِدَة، فأثبتَ إسراءات متعدِّدة فقد أبعد وأغرب، وهرب إلى غير مهرب ولم يحصل على مطلب، وقد صرَّح بعضهم من المتأخِّرين بأنه u أُسْرِيَ به مرَّة من مكة إلى بيت المقدس فقط، ومرَّة من مكة إلى السماء فقط، ومرَّة إلى بيت المقدس ومنه إلى السماء. وفرح بهذا المسلك، وأنه قد ظفر بشيء يخلص به من الإشكالات، وهذا بعيد جدًّا، ولم يُنْقَل هذا عن أحدٍ من السلف، ولو تعدَّد هذا التعدُّد لأَخْبَر النبي به أُمَّتَه، ولنقلته الناس على التعدُّد والتكرر"[4].
قال: "والحقُّ أنه u أُسْرِيَ به يقظة لا منامًا من مكة إلى بيت المقدس راكبًا البراق، فلمَّا انتهى إلى باب المسجد ربط الدابَّة عند الباب، ودخله فصلى في قبلته تحيَّة المسجد ركعتين، ثم أتى المعراج وهو كالسُّلَّم ذو درج يرقى فيها، فصَعِدَ فيه إلى السماء الدنيا، ثم إلى بقيَّة السموات السبع، فتلقَّاه مِن كلِّ سماء مقرَّبُوها، وسلَّم عليه الأنبياء عليهم السلام الذين في السموات بحسب منازلهم ودرجاتهم، حتى مرَّ بموسى الكليم في السادسة، وإبراهيم الخليل في السابعة، ثم جاوز منزلتهما وعليهما وعلى سائر الأنبياء، حتى انتهى إلى مستوًى يسمع فيه صريف الأقلام -أي: أقلام القدر- بما هو كائن، ورأى سدرة المنتهى، ورأى هنالك جبريل على صورته، ورأى البيت المعمور، وإبراهيم الخليل باني الكعبة الأرضيَّة مسندًا ظهره إليه، ورأى الجنَّة والنار، وفرض الله عليه هنالك الصلوات خمسين، ثم خفَّفها إلى خمس؛ رحمة منه ولطفًا بعباده، ثم هبط إلى بيت المقدس وصلى بالأنبياء هناك، ثم خرج من بيت المقدس فركب البراق وعاد إلى مكة بغلس"[5].
هذا، وإن المشاهدَ الغريبة التي رآها النبي دليلٌ من معجزات الله تعالى لنبيِّه ومصطفاه؛ فالعقل البشري القاصر عن الوعي الشمولي للأشياء لَيستغرب مِنْ هذه المواقف المعراجيَّة الصادقة، لكن الله تعالى يَعْلَمُ حقيقة خلقه، يَعْلَمُ أنَّ الإنسان جاحد إلاَّ بدليل وبرهان، والإسراء والمعراج من أعظم المعجزات التي حدثت للنبي ؛ لِيَعْلَم الناسُ كافَّة أنَّ محمدًا نبيٌّ مُرْسَل للناس جميعًا من قِبَلِ الله تعالى، وما رآه رسول الله ما هو إلاَّ عِلْمٌ واجب على الأمة استيعابه وفهمه، وعليهم أن يبتعدوا عن كل شرٍّ أُرِيدَ بهم، أو أرادوه لأنفسهم، من خلال ما أوضحه الله لنبيه من مشاهد قويَّة تجعل الإنسان حذرًا من نفسه السيِّئة، وحذرًا من إبليس، ومن شهوات الدنيا المهلكة، وهي محذورات أرادنا الله تعالى أن نبتعد عنها من خلال عواقبها التي ذُكِرَتْ في الحديث السابق وغيره.
[1] سعيد حوَّى: الرسول ص330.
[2] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب المعراج (3674).
[3] البخاري: كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء (342)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله إلى السموات وفرض الصلوات (163).
[4] تفسير ابن كثير 5/42.
[5] المصدر السابق 5/42، 43.
رد: معجزة الإسراء
موقف أهل مكة من الإسراء والمعراج
بعد رحلة الإسراء والمعراج العطرة، أراد النبي أن يكشف لأهل مكة جميعًا ما كان له؛ فقد روى ابن عبَّاسٍ قال: قال رسول الله : "لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ أُسْرِيَ بِي وَأَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ فَظِعْتُ بِأَمْرِي، وَعَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِيَّ". فَقَعَدَ مُعْتَزِلاً حَزِينًا، قَالَ: فَمَرَّ عَدُوُّ اللَّهِ أَبُو جَهْلٍ، فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ كَالْمُسْتَهْزِئِ: هَلْ كَانَ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "نَعَمْ". قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: "إِنَّهُ أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ". قَالَ: إِلَى أَيْنَ؟ قَال: "إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ". قَالَ: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: فَلَمْ يَرَ أَنَّهُ يُكَذِّبُهُ مَخَافَةَ أَنْ يَجْحَدَهُ الْحَدِيثَ إِذَا دَعَا قَوْمَهُ إِلَيْهِ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَوْتُ قَوْمَكَ تُحَدِّثهُمْ مَا حَدَّثْتَنِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "نَعَمْ". فَقَالَ: هَيَا يَا مَعْشَرَ بني كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ. حَتَّى قَالَ: فَانْتَفَضَتْ إِلَيْهِ الْمَجَالِسُ وَجَاءُوا حَتَّى جَلَسُوا إِلَيْهِمَا. قَالَ: حَدِّثْ قَوْمَكَ بِمَا حَدَّثْتَنِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "إِنِّي أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ". قَالُوا: إِلَى أَيْنَ؟ قُلْتُ: "إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ". قَالُوا: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: فَمِنْ بَيْنِ مُصَفِّقٍ وَمِنْ بَيْنِ وَاضِعٍ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مُتَعَجِّبًا لِلْكَذِبِ زَعَمَ قَالُوا: وَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْعَتَ لَنَا الْمَسْجِدَ؟ وَفِي الْقَوْمِ مَنْ قَدْ سَافَرَ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ وَرَأَى الْمَسْجِدَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "فَذَهَبْتُ أَنْعَتُ، فَمَا زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ بَعْضُ النَّعْتِ - قَالَ - فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ وَأَنَا أَنْظُرُ، حَتَّى وُضِعَ دُونَ دَارِ عِقَالٍ أَوْ عَقِيلٍ، فَنَعَتُّهُ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ". قَالَ: وَكَانَ مَعَ هَذَا نَعْتٌ لَمْ أَحْفَظْهُ. قَالَ: فَقَالَ الْقَوْمُ: أَمَّا النَّعْتُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَصَابَ[1].
وهذه الحادثة معجزة أخرى؛ فقد أراه الله تعالى المسجد الأقصى أمامه، ينعته لأهل مكة، يصف أبوابه ومخارجه، وصفًا يحيِّر السامعين له، ويُؤَكِّد لمن أتى مشكِّكًا في نبوَّته أنه نبي مُرْسَل من قِبَلِ الله، وكان موقفُ صحابة النبي ثابتًا راسخًا في قرارة أنفسهم.
ومن أعظم المواقف التي دلَّت على رسوخ اليقين عند أبي بكر t ما ذكره ابن المسيب، قال: إن رسول الله حين انتهى إلى بيت المقدس لقي فيه إبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم السلام، وأنه أُتِيَ بقدحين: قدح لبن، وقدح خمر، فنظر إليهما، ثم أخذ قدح اللبن، فقال له جبريل: "هُدِيتَ الفطرة، لو أخذتَ الخمر لَغَوَتْ أُمَّتُكَ". ثم رجع رسول الله إلى مكة فأَخْبَر أنه أُسْرِيَ به، فافتُتِنَ ناس كثير كانوا قد صلَّوْا معه. قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: فتجهَّز ناس من قريش إلى أبي بكر، فقالوا له: هل لك في صاحبك، يزعم أنه قد جاء بيت المقدس ثم رجع إلى مكة في ليلة واحدة؟!
فقال أبو بكر: أَوَ قَالَ ذلك؟
قالوا: نعم.
قال: فأَشْهَدُ لئن كان قال ذلك لقد صدق.
قالوا: فتُصَدِّقه بأن يأتي الشام في ليلة واحدة، ثم يرجع إلى مكة قبل أن يصبح؟!
قال: نعم، إني أُصَدِّقه بأبعد من ذلك! أصدِّقه بخبر السماء. قال أبو سلمة: فبها سُمِّيَ أبو بكر الصِّدِّيقَ t[2].
[1] أحمد بن حنبل: المسند (2820)، وقال الألباني: صحيح. انظر السلسلة الصحيحة (3021).
[2] البيهقي: دلائل النبوة 2/360.
بعد رحلة الإسراء والمعراج العطرة، أراد النبي أن يكشف لأهل مكة جميعًا ما كان له؛ فقد روى ابن عبَّاسٍ قال: قال رسول الله : "لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ أُسْرِيَ بِي وَأَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ فَظِعْتُ بِأَمْرِي، وَعَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِيَّ". فَقَعَدَ مُعْتَزِلاً حَزِينًا، قَالَ: فَمَرَّ عَدُوُّ اللَّهِ أَبُو جَهْلٍ، فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ كَالْمُسْتَهْزِئِ: هَلْ كَانَ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "نَعَمْ". قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: "إِنَّهُ أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ". قَالَ: إِلَى أَيْنَ؟ قَال: "إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ". قَالَ: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: فَلَمْ يَرَ أَنَّهُ يُكَذِّبُهُ مَخَافَةَ أَنْ يَجْحَدَهُ الْحَدِيثَ إِذَا دَعَا قَوْمَهُ إِلَيْهِ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَوْتُ قَوْمَكَ تُحَدِّثهُمْ مَا حَدَّثْتَنِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "نَعَمْ". فَقَالَ: هَيَا يَا مَعْشَرَ بني كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ. حَتَّى قَالَ: فَانْتَفَضَتْ إِلَيْهِ الْمَجَالِسُ وَجَاءُوا حَتَّى جَلَسُوا إِلَيْهِمَا. قَالَ: حَدِّثْ قَوْمَكَ بِمَا حَدَّثْتَنِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "إِنِّي أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ". قَالُوا: إِلَى أَيْنَ؟ قُلْتُ: "إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ". قَالُوا: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: فَمِنْ بَيْنِ مُصَفِّقٍ وَمِنْ بَيْنِ وَاضِعٍ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مُتَعَجِّبًا لِلْكَذِبِ زَعَمَ قَالُوا: وَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْعَتَ لَنَا الْمَسْجِدَ؟ وَفِي الْقَوْمِ مَنْ قَدْ سَافَرَ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ وَرَأَى الْمَسْجِدَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "فَذَهَبْتُ أَنْعَتُ، فَمَا زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ بَعْضُ النَّعْتِ - قَالَ - فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ وَأَنَا أَنْظُرُ، حَتَّى وُضِعَ دُونَ دَارِ عِقَالٍ أَوْ عَقِيلٍ، فَنَعَتُّهُ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ". قَالَ: وَكَانَ مَعَ هَذَا نَعْتٌ لَمْ أَحْفَظْهُ. قَالَ: فَقَالَ الْقَوْمُ: أَمَّا النَّعْتُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَصَابَ[1].
وهذه الحادثة معجزة أخرى؛ فقد أراه الله تعالى المسجد الأقصى أمامه، ينعته لأهل مكة، يصف أبوابه ومخارجه، وصفًا يحيِّر السامعين له، ويُؤَكِّد لمن أتى مشكِّكًا في نبوَّته أنه نبي مُرْسَل من قِبَلِ الله، وكان موقفُ صحابة النبي ثابتًا راسخًا في قرارة أنفسهم.
ومن أعظم المواقف التي دلَّت على رسوخ اليقين عند أبي بكر t ما ذكره ابن المسيب، قال: إن رسول الله حين انتهى إلى بيت المقدس لقي فيه إبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم السلام، وأنه أُتِيَ بقدحين: قدح لبن، وقدح خمر، فنظر إليهما، ثم أخذ قدح اللبن، فقال له جبريل: "هُدِيتَ الفطرة، لو أخذتَ الخمر لَغَوَتْ أُمَّتُكَ". ثم رجع رسول الله إلى مكة فأَخْبَر أنه أُسْرِيَ به، فافتُتِنَ ناس كثير كانوا قد صلَّوْا معه. قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: فتجهَّز ناس من قريش إلى أبي بكر، فقالوا له: هل لك في صاحبك، يزعم أنه قد جاء بيت المقدس ثم رجع إلى مكة في ليلة واحدة؟!
فقال أبو بكر: أَوَ قَالَ ذلك؟
قالوا: نعم.
قال: فأَشْهَدُ لئن كان قال ذلك لقد صدق.
قالوا: فتُصَدِّقه بأن يأتي الشام في ليلة واحدة، ثم يرجع إلى مكة قبل أن يصبح؟!
قال: نعم، إني أُصَدِّقه بأبعد من ذلك! أصدِّقه بخبر السماء. قال أبو سلمة: فبها سُمِّيَ أبو بكر الصِّدِّيقَ t[2].
[1] أحمد بن حنبل: المسند (2820)، وقال الألباني: صحيح. انظر السلسلة الصحيحة (3021).
[2] البيهقي: دلائل النبوة 2/360.
رد: معجزة الإسراء
الحكمة من الإسراء والمعراج
إذا أردنا أن نتلمس الحكمة من رحلة الإسراء والمعراج المباركة، فقد عدَّد السيوطي مجموعة طيِّبة منها، فقال عن الحكمة من الإسراء: إنما كان الإسراء ليلاً لأنه وقت الخلوة والاختصاص عُرْفًا، ولأن وقت الصلاة التي كانت مفروضة عليه في قوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ} [المزمل: 2][1].
ويقول الشيخ أبو محمد بن أبي حمزة: "الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس قبل العروج إلى السماء إرادة إظهار الحقّ لمعاندة مَن يُريد إخماده؛ لأنه لو عُرج به من مكة إلى السماء لم يجد لمعاندة الأعداء سبيلاً إلى البيان والإيضاح، فلمَّا ذَكَر أنه أُسْرِيَ به إلى بيت المقدس سألوه عن تعريفات جزئيات بيت المقدس كانوا قد رأوها وعلموا أنه لم يكن رآها قبل ذلك، فلمَّا أخبرهم بها حصل التحقيق بصدقه فيما ذكر من الإسراء إلى بيت المقدس في ليلة، وإذا صحَّ خبره في ذلك لزم تصديقه في بقيَّة ما ذَكَرَه، فكان ذلك زيادةً في إيمان المؤمن، وزيادة في شقاء الجاحد والمعاند"[2].
ومع ما ذُكِرَ من حكمة إسراء النبي إلى بيت المقدس أوَّلاً فإن هناك دلالة أخرى على مدى ما ينبغي أن يُوجَد لدى المسلمين في كل عصر ووقت، مِنَ الحِفَاظِ على هذه الأرض المقدَّسة، وحمايتها من مطامع الدُّخلاء، وأعداء الدين، وكأنَّ الحكمة الإلهيَّة تُهِيب بمسلمي هذا العصر أن لا يهينوا، ولا يجبنوا، ولا يتخاذلوا أمام عدوان اليهود على هذه الأرض المقدسة[3].
وأمَّا الحكمة من المعراج فإنَّ في دلالة اختيار النبي للَّبن دون الخمر، دلالة رمزيَّة على فطرة الإسلام ونقاوته الأصيلة، الموافقة للطباع البشريَّة كلها، كما أن في بقاء أبواب السماء مغلقة حتى استفتح جبريل u ولم تتهيَّأ له بالفتح قبل مجيئه أنها لو فُتِحَت قبلُ لظُنَّ أنها لا تزال كذلك، فأُبْقِيَتْ لِيُعْلَم أن ذلك لأجله ؛ ولأن الله تعالى أراد أن يُطلعه على كونه معروفًا عند أهل السموات؛ لأنه قيل لجبريل لما قال للنبي : أبُعث إليه؟ ولم يقل: مَنْ محمد؟ مثلاً[4].
وقال السيوطي أيضًا: "الحكمة في كون آدم في الأُولى أنه أوَّل الأنبياء وأوَّل الآباء، وهو أصلٌ فكان أوَّلاً في الآباء، ولأجل تأنيس النبوَّة بالأُبُوَّة، وعيسى في الثانية لأنه أقرب الأنبياء عهدًا من محمد ، ويليه يوسف؛ لأنَّ أُمَّة محمد يدخلون الجنَّة على صورته، وإدريس قيل: لأنه أوَّل مَنْ قاتل للدِّينِ فلعلَّ المناسبة فيها الإذن للنبي بالمقاتلة ورفعه بالمعراج؛ لقوله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57]، والرابعة من السبع وَسَط معتدل، وهارون لقربه من أخيه موسى، وموسى أرفع منه لفضل كلام الله، وإبراهيم لأنه الأب الأخير، فناسب أن يتجدَّد للنبي بلُقْيَاه أُنْس لتوجُّهه بعده إلى عالم آخر، وأيضًا فمنزلة الخليل تقتضي أن تكون أرفع المنازل، ومنزلة الحبيب أرفع؛ فلذلك ارتفع عنه إلى قاب قوسين أو أدنى".
وقال أيضًا: اقتصر الأنبياء على وصفه بالصالح، وتواردوا عليها؛ لأن الصلاح تشمل خلال الخير؛ ولذا كرَّرها كلٌّ منهم عند كل صفة[5].
وقد ذكر القرطبي كذلك أن الحكمة في تخصيص موسى بمراجعة النبي في أمر الصلاة، قيل: لأنه أوَّل من تلقَّاه عند الهبوط؛ ولأنَّ أُمَّته أكثر من أُمَّةِ غيره؛ ولأنَّ كِتَابَه أكبر الكتب المنزَّلة قبل القرآن تشريفًا وأحكامًا، أو لكون أُمَّة موسى قد كُلِّفت من الصلوات بما لم تُكَلَّف به غيرُها من الأمم، فثقلت عليهم، فأشفق موسى u على أُمَّة محمد ، ويُؤَيِّد ذلك ما ذُكِر في الرواية السابقة بقوله u: "أنا أعلم بالناس منك". ولعلَّ الحكمة في تخصيص فرض الصلاة بليلة الإسراء والمعراج أنه لمَّا عُرج به في تلك الليلة تعبَّد الملائكة، وأن منهم القائم فلا يقعد، والراكع فلا يسجد، والساجد فلا يقعد، فجمع الله له ولأُمَّته تلك العبادات كلها؛ يصليها العبد في ركعة واحدة، بشرائطها من الطمأنينة والإخلاص، وفي اختصاص فرضيتها بليلة الإسراء إلى عظيم بيانها؛ ولذلك اختصَّ فرضها بكونه بغير واسطة بل بمراجعات تعدَّدت[6].
ونضيف إلى ذلك أن الله تعالى أراد أن يُعِدَّ رسوله لمرحلة جديدة من مراحل الدعوة الإسلاميَّة، هذه المرحلة تُشبه المرحلة التي رأى فيها موسى آيات الله تعالى، وهي مرحلة مجابهة فرعون؛ فقد قال الله تعالى عن موسى: {لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 22-23]. فموسى الذي سيقابل فرعون الطاغية قد هُيِّئَ بهذه الرؤية لاحتقار كلِّ القوى الأرضيَّة ما دامت معه قوَّة الله تعالى، والرسول كان مأمورًا بالصبر طيلة الفترة المكية، ثم إنه بعد الهجرة أمر بالمجابهة، وكان الإسراء والمعراج قبل الهجرة بقليل -بعام واحد على أصحِّ الأقوال- فكانت رؤية آيات الله الكبرى تمهيدًا لهذه المرحلة التي سيقف فيها رسول الله بالقلة من أصحابه في وجه الدنيا كلها، فقال تعالى في أوائل سورة النجم عن المعراج: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18][7].
فبهذه الحادثة الجليلة أوضح الله تعالى بها أنه قادر على كل شيء، وأن محمدًا الفقير المعذَّب هو وأصحابه في مكة استطاع ربُّه جلَّ وعلا أن يوضِّح له مدى الضآلة التي يعيش فيها هؤلاء الكفرة، بل جعله الله خير خلق الله تعالى، فبإمامته للأنبياء في المسجد الأقصى وعروجه على الأنبياء الصالحين في السموات السبع، ثم وصوله لسدرة المنتهى يكن النبي قد أُلبس من العظمة الربانيَّة رداءً لم يلبسه أحدٌ من قبله، ولن يلبسه أحد من بعده.
وعلى كُلٍّ، فحادث الإسراء والمعراج لم يكن إلاَّ درجة من درجات التكريم، ووسيلة من وسائل التثبيت، ولونًا من ألوان الاختبار، تجلَّى به I على عبده ونبيِّه، وأسبغ عليه مِن بحار الفيض والإمداد ما تمكَّن به في مدَّة وجيزة أو ساعات معدودة أن يكشف عن طريق المعاينة كثيرًا من آيات ربِّه وعجائبه، في أرضه وسمائه، أَسْرَى به من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالشام، ثم عرج به إلى سدرة المنتهى، إلى حيث شاء ربُّ العزَّة والملكوت[8].
وبعد؛ فهذا هو -كما يقول الشيخ محمود شلتوت- حادث الإسراء والمعراج، وإذا كان لنا أن ننتفع بذكرياتنا فلنذكر به فضل الله على نبيِّه الذي جاهد في تثبيت هذا الدين، وإسعاد الإنسانيَّة به، ولننتهج في ذلك خُطَّته حتى نحوز رضا الله وإسعاده، ولنذكر به أيضًا أن الله فرض في تلك الليلة على نبيِّه وأُمَّته -وقد طُوِيَت المسافاتُ وزَالَت الحُجُب- خمسَ صلوات في اليوم والليلة، أَمَرَهم بالمحافظة عليها، وجعلها عليهم كتابًا موقوتًا، بها يناجون ربهم، وبها يقومون بواجب العبوديَّة التي خُلِعَتْ حلَّتها على نبيِّهم في تلك الليلة، وبها يتغلَّبون على الشهوات والأهواء، وبها تُغْرَس في قلوبهم مكارم الأخلاق، ويُطَهِّرون نفوسهم من صفات الجبن والبخل والهلع والجزع، وبها يستعينون على مشاقِّ الحياة كما استعان محمد بها على مشاقِّ الحياة ومصائب القوم، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [ البقرة: 153]، {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلاَّ الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 19-23].
الصلاة.. لم يفرضها الله I كما فرض غيرها من الواجبات والأركان، وإنما فرضها في كوكبة من الملأ الأعلى، وفي جذوة من الإشراق والأنوار؛ تنويهًا بشأنها، ورمزًا لمكانتها.
فلنذكر كلَّ ذلك، ولنذكر أن الرسول الذي نال فخر الإسراء، كان يحنُّ دائمًا إلى مناجاة ربِّه والوقوف بين يديه، حتى كان لا يجد لذَّة إلاَّ في تلك المناجاة، فهو القائل: "وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ". فهي طهرة للقلب، ومعراج للربِّ، وإسراء إلى ساحة الفضل، فمن شاء أن يسري به ربُّه، وأن تعرج به ملائكة الرحمة، فليحافظ عليها، وليُدِمْ مناجاة ربِّه بها، وليُحسن وقوفه بين يديه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133][9].
ونختم بأنه إذا كان لنا أن نذكر حادث الإسراء، فإنما نذكره أوَّلاً في حدود اليقين والاطمئنان لا في متَّسع الظنون والاضطراب، وأن نذكره ثانيًا بقلوبنا، وفي أوقاتنا كلها بما يُرشِد إليه من إيحاء ننتفع به في حياتنا على توالي السنين والأجيال... وإنَّ حادث الإسراء بعد كونه تثبيتًا وتكريمًا للنبي ، وإعدادًا لقواه النفسيَّة والعقليَّة والجسميَّة لتحمُّل أعباء الرسالة العامَّة، وخذلان أعدائه، وعلوِّ كلمته، هو بعد ذلك كلِّه يوحي للمسلمين بمكان بدئه وهو المسجد الحرام، ومكان نهايته وهو المسجد الأقصى، يوحي بمهابط الوحي الأوَّل الذي تلقَّاه إبراهيم وإسماعيل، ومهبط الوحي الثاني الذي تلقَّاه موسى وعيسى، وأنها كلها مهابط الرسالة الإلهية التي جاء محمد لتكميلها والهيمنة عليها، وأن تلك الرسالات -وإن اختلفت أزمنتها، وتعدَّدت رسلها- واحدة في دعوتها وغايتها، وأن الرسل جميعًا الذين اصطفاهم الله لتبليغها بُنَاة بيت واحد، يضع آخر لبنة فيه خاتمهم محمد بن عبد الله، صاحب الإسراء والمعراج. إذن فلا بُدَّ أن يخفق على هذه الأماكن جميعها علم التوحيد والإيمان، على النحو الذي جاء في رسالته، ولا بُدَّ أن تطهر رقعتها من بذور الشرك والوثنيَّة والظلم والفساد، وأن يعلو فيها سلطان الحقِّ وعدالة السماء[10].
[1] انظر: الخصائص النبوية الكبرى للسيوطي ص391-392، وانظر: الآية الكبرى في شرح قصة الإسراء للسيوطي.
[2] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 7/200، 201.
[3] البوطي: فقه السيرة النبوية ص113.
[4] جلال الدين السيوطي: الخصائص النبوية الكبرى 1/391، 392.
[5] انظر: الخصائص النبوية الكبرى للسيوطي ص391-392، وانظر: الآية الكبرى في شرح قصة الإسراء للسيوطي.
[6] محمد الأمين بن أحمد الجكني: السيرة النبوية من فتح الباري 1/239-240، وانظر بهجة النفوس 3/200، وفتح الباري 7/216.
[7] سعيد حوّى: الرسول ص329.
[8] الشيخ محمود شلتوت: توجيهات إسلامية، نقلاً عن رزق هيبة: الإسراء والمعراج وأثرهما في تثبيت العقيدة ص104، 105.
[9] المصدر السابق ص108، 109.
[10] السابق نفسه ص100.
إذا أردنا أن نتلمس الحكمة من رحلة الإسراء والمعراج المباركة، فقد عدَّد السيوطي مجموعة طيِّبة منها، فقال عن الحكمة من الإسراء: إنما كان الإسراء ليلاً لأنه وقت الخلوة والاختصاص عُرْفًا، ولأن وقت الصلاة التي كانت مفروضة عليه في قوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ} [المزمل: 2][1].
ويقول الشيخ أبو محمد بن أبي حمزة: "الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس قبل العروج إلى السماء إرادة إظهار الحقّ لمعاندة مَن يُريد إخماده؛ لأنه لو عُرج به من مكة إلى السماء لم يجد لمعاندة الأعداء سبيلاً إلى البيان والإيضاح، فلمَّا ذَكَر أنه أُسْرِيَ به إلى بيت المقدس سألوه عن تعريفات جزئيات بيت المقدس كانوا قد رأوها وعلموا أنه لم يكن رآها قبل ذلك، فلمَّا أخبرهم بها حصل التحقيق بصدقه فيما ذكر من الإسراء إلى بيت المقدس في ليلة، وإذا صحَّ خبره في ذلك لزم تصديقه في بقيَّة ما ذَكَرَه، فكان ذلك زيادةً في إيمان المؤمن، وزيادة في شقاء الجاحد والمعاند"[2].
ومع ما ذُكِرَ من حكمة إسراء النبي إلى بيت المقدس أوَّلاً فإن هناك دلالة أخرى على مدى ما ينبغي أن يُوجَد لدى المسلمين في كل عصر ووقت، مِنَ الحِفَاظِ على هذه الأرض المقدَّسة، وحمايتها من مطامع الدُّخلاء، وأعداء الدين، وكأنَّ الحكمة الإلهيَّة تُهِيب بمسلمي هذا العصر أن لا يهينوا، ولا يجبنوا، ولا يتخاذلوا أمام عدوان اليهود على هذه الأرض المقدسة[3].
وأمَّا الحكمة من المعراج فإنَّ في دلالة اختيار النبي للَّبن دون الخمر، دلالة رمزيَّة على فطرة الإسلام ونقاوته الأصيلة، الموافقة للطباع البشريَّة كلها، كما أن في بقاء أبواب السماء مغلقة حتى استفتح جبريل u ولم تتهيَّأ له بالفتح قبل مجيئه أنها لو فُتِحَت قبلُ لظُنَّ أنها لا تزال كذلك، فأُبْقِيَتْ لِيُعْلَم أن ذلك لأجله ؛ ولأن الله تعالى أراد أن يُطلعه على كونه معروفًا عند أهل السموات؛ لأنه قيل لجبريل لما قال للنبي : أبُعث إليه؟ ولم يقل: مَنْ محمد؟ مثلاً[4].
وقال السيوطي أيضًا: "الحكمة في كون آدم في الأُولى أنه أوَّل الأنبياء وأوَّل الآباء، وهو أصلٌ فكان أوَّلاً في الآباء، ولأجل تأنيس النبوَّة بالأُبُوَّة، وعيسى في الثانية لأنه أقرب الأنبياء عهدًا من محمد ، ويليه يوسف؛ لأنَّ أُمَّة محمد يدخلون الجنَّة على صورته، وإدريس قيل: لأنه أوَّل مَنْ قاتل للدِّينِ فلعلَّ المناسبة فيها الإذن للنبي بالمقاتلة ورفعه بالمعراج؛ لقوله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57]، والرابعة من السبع وَسَط معتدل، وهارون لقربه من أخيه موسى، وموسى أرفع منه لفضل كلام الله، وإبراهيم لأنه الأب الأخير، فناسب أن يتجدَّد للنبي بلُقْيَاه أُنْس لتوجُّهه بعده إلى عالم آخر، وأيضًا فمنزلة الخليل تقتضي أن تكون أرفع المنازل، ومنزلة الحبيب أرفع؛ فلذلك ارتفع عنه إلى قاب قوسين أو أدنى".
وقال أيضًا: اقتصر الأنبياء على وصفه بالصالح، وتواردوا عليها؛ لأن الصلاح تشمل خلال الخير؛ ولذا كرَّرها كلٌّ منهم عند كل صفة[5].
وقد ذكر القرطبي كذلك أن الحكمة في تخصيص موسى بمراجعة النبي في أمر الصلاة، قيل: لأنه أوَّل من تلقَّاه عند الهبوط؛ ولأنَّ أُمَّته أكثر من أُمَّةِ غيره؛ ولأنَّ كِتَابَه أكبر الكتب المنزَّلة قبل القرآن تشريفًا وأحكامًا، أو لكون أُمَّة موسى قد كُلِّفت من الصلوات بما لم تُكَلَّف به غيرُها من الأمم، فثقلت عليهم، فأشفق موسى u على أُمَّة محمد ، ويُؤَيِّد ذلك ما ذُكِر في الرواية السابقة بقوله u: "أنا أعلم بالناس منك". ولعلَّ الحكمة في تخصيص فرض الصلاة بليلة الإسراء والمعراج أنه لمَّا عُرج به في تلك الليلة تعبَّد الملائكة، وأن منهم القائم فلا يقعد، والراكع فلا يسجد، والساجد فلا يقعد، فجمع الله له ولأُمَّته تلك العبادات كلها؛ يصليها العبد في ركعة واحدة، بشرائطها من الطمأنينة والإخلاص، وفي اختصاص فرضيتها بليلة الإسراء إلى عظيم بيانها؛ ولذلك اختصَّ فرضها بكونه بغير واسطة بل بمراجعات تعدَّدت[6].
ونضيف إلى ذلك أن الله تعالى أراد أن يُعِدَّ رسوله لمرحلة جديدة من مراحل الدعوة الإسلاميَّة، هذه المرحلة تُشبه المرحلة التي رأى فيها موسى آيات الله تعالى، وهي مرحلة مجابهة فرعون؛ فقد قال الله تعالى عن موسى: {لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 22-23]. فموسى الذي سيقابل فرعون الطاغية قد هُيِّئَ بهذه الرؤية لاحتقار كلِّ القوى الأرضيَّة ما دامت معه قوَّة الله تعالى، والرسول كان مأمورًا بالصبر طيلة الفترة المكية، ثم إنه بعد الهجرة أمر بالمجابهة، وكان الإسراء والمعراج قبل الهجرة بقليل -بعام واحد على أصحِّ الأقوال- فكانت رؤية آيات الله الكبرى تمهيدًا لهذه المرحلة التي سيقف فيها رسول الله بالقلة من أصحابه في وجه الدنيا كلها، فقال تعالى في أوائل سورة النجم عن المعراج: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18][7].
فبهذه الحادثة الجليلة أوضح الله تعالى بها أنه قادر على كل شيء، وأن محمدًا الفقير المعذَّب هو وأصحابه في مكة استطاع ربُّه جلَّ وعلا أن يوضِّح له مدى الضآلة التي يعيش فيها هؤلاء الكفرة، بل جعله الله خير خلق الله تعالى، فبإمامته للأنبياء في المسجد الأقصى وعروجه على الأنبياء الصالحين في السموات السبع، ثم وصوله لسدرة المنتهى يكن النبي قد أُلبس من العظمة الربانيَّة رداءً لم يلبسه أحدٌ من قبله، ولن يلبسه أحد من بعده.
وعلى كُلٍّ، فحادث الإسراء والمعراج لم يكن إلاَّ درجة من درجات التكريم، ووسيلة من وسائل التثبيت، ولونًا من ألوان الاختبار، تجلَّى به I على عبده ونبيِّه، وأسبغ عليه مِن بحار الفيض والإمداد ما تمكَّن به في مدَّة وجيزة أو ساعات معدودة أن يكشف عن طريق المعاينة كثيرًا من آيات ربِّه وعجائبه، في أرضه وسمائه، أَسْرَى به من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالشام، ثم عرج به إلى سدرة المنتهى، إلى حيث شاء ربُّ العزَّة والملكوت[8].
وبعد؛ فهذا هو -كما يقول الشيخ محمود شلتوت- حادث الإسراء والمعراج، وإذا كان لنا أن ننتفع بذكرياتنا فلنذكر به فضل الله على نبيِّه الذي جاهد في تثبيت هذا الدين، وإسعاد الإنسانيَّة به، ولننتهج في ذلك خُطَّته حتى نحوز رضا الله وإسعاده، ولنذكر به أيضًا أن الله فرض في تلك الليلة على نبيِّه وأُمَّته -وقد طُوِيَت المسافاتُ وزَالَت الحُجُب- خمسَ صلوات في اليوم والليلة، أَمَرَهم بالمحافظة عليها، وجعلها عليهم كتابًا موقوتًا، بها يناجون ربهم، وبها يقومون بواجب العبوديَّة التي خُلِعَتْ حلَّتها على نبيِّهم في تلك الليلة، وبها يتغلَّبون على الشهوات والأهواء، وبها تُغْرَس في قلوبهم مكارم الأخلاق، ويُطَهِّرون نفوسهم من صفات الجبن والبخل والهلع والجزع، وبها يستعينون على مشاقِّ الحياة كما استعان محمد بها على مشاقِّ الحياة ومصائب القوم، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [ البقرة: 153]، {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلاَّ الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 19-23].
الصلاة.. لم يفرضها الله I كما فرض غيرها من الواجبات والأركان، وإنما فرضها في كوكبة من الملأ الأعلى، وفي جذوة من الإشراق والأنوار؛ تنويهًا بشأنها، ورمزًا لمكانتها.
فلنذكر كلَّ ذلك، ولنذكر أن الرسول الذي نال فخر الإسراء، كان يحنُّ دائمًا إلى مناجاة ربِّه والوقوف بين يديه، حتى كان لا يجد لذَّة إلاَّ في تلك المناجاة، فهو القائل: "وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ". فهي طهرة للقلب، ومعراج للربِّ، وإسراء إلى ساحة الفضل، فمن شاء أن يسري به ربُّه، وأن تعرج به ملائكة الرحمة، فليحافظ عليها، وليُدِمْ مناجاة ربِّه بها، وليُحسن وقوفه بين يديه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133][9].
ونختم بأنه إذا كان لنا أن نذكر حادث الإسراء، فإنما نذكره أوَّلاً في حدود اليقين والاطمئنان لا في متَّسع الظنون والاضطراب، وأن نذكره ثانيًا بقلوبنا، وفي أوقاتنا كلها بما يُرشِد إليه من إيحاء ننتفع به في حياتنا على توالي السنين والأجيال... وإنَّ حادث الإسراء بعد كونه تثبيتًا وتكريمًا للنبي ، وإعدادًا لقواه النفسيَّة والعقليَّة والجسميَّة لتحمُّل أعباء الرسالة العامَّة، وخذلان أعدائه، وعلوِّ كلمته، هو بعد ذلك كلِّه يوحي للمسلمين بمكان بدئه وهو المسجد الحرام، ومكان نهايته وهو المسجد الأقصى، يوحي بمهابط الوحي الأوَّل الذي تلقَّاه إبراهيم وإسماعيل، ومهبط الوحي الثاني الذي تلقَّاه موسى وعيسى، وأنها كلها مهابط الرسالة الإلهية التي جاء محمد لتكميلها والهيمنة عليها، وأن تلك الرسالات -وإن اختلفت أزمنتها، وتعدَّدت رسلها- واحدة في دعوتها وغايتها، وأن الرسل جميعًا الذين اصطفاهم الله لتبليغها بُنَاة بيت واحد، يضع آخر لبنة فيه خاتمهم محمد بن عبد الله، صاحب الإسراء والمعراج. إذن فلا بُدَّ أن يخفق على هذه الأماكن جميعها علم التوحيد والإيمان، على النحو الذي جاء في رسالته، ولا بُدَّ أن تطهر رقعتها من بذور الشرك والوثنيَّة والظلم والفساد، وأن يعلو فيها سلطان الحقِّ وعدالة السماء[10].
[1] انظر: الخصائص النبوية الكبرى للسيوطي ص391-392، وانظر: الآية الكبرى في شرح قصة الإسراء للسيوطي.
[2] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 7/200، 201.
[3] البوطي: فقه السيرة النبوية ص113.
[4] جلال الدين السيوطي: الخصائص النبوية الكبرى 1/391، 392.
[5] انظر: الخصائص النبوية الكبرى للسيوطي ص391-392، وانظر: الآية الكبرى في شرح قصة الإسراء للسيوطي.
[6] محمد الأمين بن أحمد الجكني: السيرة النبوية من فتح الباري 1/239-240، وانظر بهجة النفوس 3/200، وفتح الباري 7/216.
[7] سعيد حوّى: الرسول ص329.
[8] الشيخ محمود شلتوت: توجيهات إسلامية، نقلاً عن رزق هيبة: الإسراء والمعراج وأثرهما في تثبيت العقيدة ص104، 105.
[9] المصدر السابق ص108، 109.
[10] السابق نفسه ص100.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى