شمسولوجي - منتدي طلبة طب عين شمس
السلام عليكم

نورتنا يا ....

لو هتتصفح المنتدي كزائر .. توجة للقسم اللي انت عايزة من المنتدي ...

للتسجيل .. اتفضل افعص علي زرار التسجيل ..

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

شمسولوجي - منتدي طلبة طب عين شمس
السلام عليكم

نورتنا يا ....

لو هتتصفح المنتدي كزائر .. توجة للقسم اللي انت عايزة من المنتدي ...

للتسجيل .. اتفضل افعص علي زرار التسجيل ..
شمسولوجي - منتدي طلبة طب عين شمس
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

قصة مكة

صفحة 3 من اصل 3 الصفحة السابقة  1, 2, 3

اذهب الى الأسفل

قصة مكة - صفحة 3 Empty عام الحزن - وفاة السيدة خديجة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:28 am

السيدة خديجة وأبي طالب">تزامنت مع مصيبة وفاة أبي طالب عم رسول الله مصيبة أخرى هي أشد وأعظم (أَشَدُّ النَّاسِ بَلاَءً الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ).



لقد تعرض رسول الله لكل صنوف الابتلاءات من فقد الأم والأب والجد والعم، تعرض للتكذيب والإيذاء، تعرض للإخراج من بلده ومحاولات قتله، تعرض للحروب والجهاد، تعرض للإساءة إليه من المنافقين، وحتى من بعض المسلمين، والآن يأتي ابتلاء آخر جديد، لقد ماتت السيدة العظيمة الكريمة الجليلة الشريفة خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها- زوجة رسول الله ، وخديجة -رضي الله عنها- كانت نعمة من نعم الله على رسول الله ، كانت خير متاع الدنيا له، كانت السكن والراحة، كانت المودة والرحمة، كانت الصدر الحنون، كانت الرأي الحكيم، كانت صورة رائعة للمرأة الصالحة، كانت السيدة خديجة -رضي الله عنها- بحقٍّ فخرًا لكل امرأة.



حياة امتدت مع رسول الله خمسة وعشرين عامًا متصلة، ربع قرن كامل، لم تنقل كتب السيرة خلافًا واحدًا حدث بينها وبين رسول الله ، لم تنقل كتب السيرة غضبًا ولا هجرًا، لم تنقل طلبًا من السيدة خديجة لنفسها، لقد عاشت لرسول الله ، عاشت تؤازره في أحرج أوقاته، تعينه على إبلاغ رسالته، تهُوِّن عليه الصراع الذي دار بينه وبين كفار مكة، تواسيه بمالها ونفسها، تجاهد معه بحق كما لم يجاهد كثير من الرجال.


مكانة السيدة خديجة عند رسول الله

يتحدث عنها رسول الله في حب عميق، فيقول كما جاء في مسند الإمام أحمد برواية السيدة عائشة رضي الله عنها، قَالَ: "مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلاَدَ النِّسَاءِ".



ثم بعد كل هذا الارتباط الوثيق، أَذِنَ الله بالرحيل، ماتت خديجة رضي الله عنها.



موت الزوجة بصفة عامة مصيبة، الرجل مسكين، مسكين فعلاً بغير زوجته، فإن كانت العشرة بينهما طويلة كان الفراق أصعب، فإن كانت الزوجة صالحة كان الفراق أصعب وأصعب، فما بالكم لو كانت الزوجة واحدة من أعظم نساء الأرض! مصيبة كبيرة، كبيرة.



روى الترمذي عَنْ أَنَسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: "حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ: مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ". قَالَ أبو عيسى الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.



وروى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ خُطُوطٍ. قَالَ: تَدْرُونَ مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ". رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ أَجْمَعِينَ.



السيدة خديجة -رضي الله عنها- قيمة كبيرة جدًّا في الميزان الإسلامي، من الصعب علينا أن نتخيل قدرها.



خديجة رضي الله عنهاروى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ: "أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ -أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ- فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلاَمَ مِنْ رَبِّهَا (الله!! تخيَّل أن الله أرسل جبريل ليبلغ رسول الله أن الله في عليائه يُقْرِئ السيدة خديجة السلام) وَمِنِّي، (ليس هذا فقط بل يكمل جبريل ويقول) وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ (أي من لؤلؤ مجوف أو ذهب منظوم بالجوهر) لاَ صَخَبَ (أي لا صوت مرتفع) فِيهِ، وَلاَ نَصَبَ (أي لا تعب)".



درجة عالية جدًّا من درجات السمو!!



هذه السيدة، بهذا القدر، وبهذه القيمة، وبهذه المكانة، فارقت رسول الله ، وفي وقت هو من أحرج أوقات الدعوة على الإطلاق.



ولهفِي عليك يا رسول الله ، كيف تحمّل قلبك الرقيق الحنون العطوف كل هذه المصائب، وقد بلغت الخمسين من العمر، ووهن العظم، وكثرت الهموم، وصَعُبَ الطريق، وأظلمت مكة.



- السيدة خديجة (رضي الله عنها) ماتت.



- أبو طالب عم رسول الله الذي كان يحوطه ويمنعه مات، وليس هذا فقط بل مات مشركًا، وهذه مصيبة في حد ذاتها.



- كاشف كفار مكة ومجرموها رسول الله بالأذى والتجريح.



- الأصحاب في مكة مستضعفون.



- بقية الأصحاب، فوق الثمانين منهم، على بُعد مئات الأميال في الحبشة.



- هموم وأحزان بعضها فوق بعض، وأصبح العام بحق عام الحزن.



في هذا الجو المظلم الكئيب، ماذا يفعل رسول الله ؟



لقد أغلقت تقريبًا أبواب الدعوة في مكة وتجمد الموقف، ولم يعد هناك كبير أمل في إسلام رجل من أهل مكة في هذه الظروف، أيأتي زمان وتقف الدعوة؟!



أبدًا، إن دعوة الله لا يمكن أن تقف، قد تختلف الوسيلة، قد يختلف المكان، ولكنها أبدًا لا تقف. ورسول الله لا يتحمل توقف الدعوة؛ فهي بالنسبة إليه كالماء والهواء حتى إن الله عاتبه في شدة حزنه على عدم استجابة الناس {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3].



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة مكة - صفحة 3 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة مكة - صفحة 3 Empty رسول الله في رحلة الطائف

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:28 am

رسول الله يتجه إلى الطائف

رسول الله يتجه إلى الطائففكَّر رسول الله -وللمرة الأولى منذ البعثة- أن يخرج بدعوته خارج مكة، يذهب إلى بلد آخر يدعوهم إلى الإسلام يطلب نصرتهم ومساندتهم. قبل ذلك لم يكن يخرج من مكة؛ لأن أبواب الدعوة كانت مفتوحة فيها ولو بمشقة ولو بصعوبة، وهذا أمر في غاية الأهمية؛ فالداعية لا يترك مكانه إلا إذا استحالت عليه الدعوة فيه، أما غير ذلك فمكانه الأساسي مع من يعيش معهم من الناس.



من جديد نعيد الكلمة المهمة التي ذكرناها من قبل في أكثر من موضع (فقه المرحلة).



هذه مرحلة جديدة من مراحل الدعوة، يعلمنا فيها رسول الله منهجًا يناسبها، إذا أغلقت أبواب الدعوة تمامًا في بلد فلتذهب إلى بلد آخر، المسلم لا يجلس مستكينًا ضعيفًا يقول: قدر الله وما شاء فعل، لقد منعوا الدعوة.



أبدًا، المسلم له رسالة واضحة أن يُعَبِّدَ الناس -كل الناس- لله رب العالمين، فإن لم يكن هنا فهو هناك، وإن لم يكن هناك فهو في غيرها وهكذا، أما قبل غلق أبواب الدعوة في البلد فالدعوة فيه أولى، فهو ثغر تقف عليه، والأقربون أولى بالمعروف، والمسئولية نحو أهل البلد أعلى من المسئولية نحو غيرهم.



فكر رسول الله في أن يخرج ليدعو بلدًا آخر إلى الإسلام ويطلب نصرة أهله وتأييدهم، فماذا اختار ؟



لقد اختار مدينة الطائف.


لماذا اختار رسول الله الطائف؟

لم يكن اختيار الطائف اختيارًا عشوائيًّا، بل كان اختيارًا مدروسًا؛ فرسول الله كان سياسيًّا بارعًا وقائدًا محنكًا، يدرس كل خطوة بدقة شديدة، فالطائف تتميز عن غيرها من مدن الجزيرة بعدة صفات:



أولاً: تعتبر الطائف هي المدينة الثانية في الجزيرة العربية بعد مكة، ومركزًا حيويًّا مهمًّا من مراكز الكثافة السكانية والتجارة، ولها مكانة في قلوب العرب، حتى إن المشركين كانوا يقولون: {وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزُّخرف: 31]. والقريتان هما مكة والطائف.



ثانيًا: يسكن في الطائف قبيلة ثقيف، وهي من أقوى القبائل العربية ولو آمنت لكانت سندًا عظيمًا للدعوة بقوة جيشها وكثرة عددها، خاصة وأن الظاهر لرسول الله في ذلك الوقت أن قريشًا ستظل تحارب الإسلام في المستقبل، وقد بلغ من قوة ثقيف أنها القبيلة الوحيدة التي استعصى على المسلمين دخول بلدها عنوة حتى جاء أهلها -بعد ذلك- مسلمين طوعًا.



ثالثًا: المنافسة الدينية بين مكة والطائف كبيرة، فمكة وإن كان بها البيت الحرام وبها أيضًا الصنم الذي كان يقدسه كثير من العرب وهو هُبُل، فإن الطائف كان بها صنم آخر من أهم أصنام العرب وهو اللات، وكثيرًا ما كان يقسم به العرب على اختلاف قبائلهم. أما صنم العزى فكان في وادي نخلة على مقربة أيضًا من الطائف، فلو ذهب إليهم رسول الله بدعوته، فلعلهم يدخلون فيها طمعًا في سحب البساط من تحت أقدام أهل مكة.



رابعًا: الطائف قريبة نسبيًّا من مكة، المسافة حوالي مائة كيلو متر، والرسول لا يريد أن يبعد كثيرًا عن مركزه الأول والذي تعيش فيه طائفة كبيرة نسبيًّا من المؤمنين، التعاون والتنسيق بين المركزين سيكون أسهل لو كانت المسافة قريبة، وبالذات في هذا الزمن الذي كانت فيه المواصلات شاقة.



خامسًا: كان لأغنياء قريش أملاك في الطائف، وخاصة بني هاشم وبني عبد شمس وكذلك بني مخزوم، فلو دخلت الطائف في الإسلام لكان ذلك ضربة اقتصادية موجعة لقريش.



إذن في الحسابات البشرية كانت الطائف مكانًا مناسبًا للدعوة، ومن ثَمَّ عقد رسول الله العزم على الذهاب إلى هناك، وكان ذلك في شوال من السنة العاشرة من البعثة، في نفس الشهر الذي مات فيه أبو طالب، أو في الشهر التالي حسب اختلاف الروايات، لا سكون، لا راحة.


الحذر الأمني في رحلة الطائف

المسافة بين مكة والطائف كما ذكرنا مائة كيلو متر تقريبًا، والسفر في شوال سنة 10 من النبوة، وهو يوافق أواخر شهر مايو وأوائل شهر يونيو سنة 619 ميلادية، يعني كانت درجة الحرارة آخذة في الارتفاع، وخاصة في هذه المنطقة الصحراوية المشهورة بشدة الحر، ومع ذلك فإن رسول الله قد قرر أن يقطع هذه المسافة ماشيًا على قدميه. ولماذا يمشي على قدميه هذه المسافة الطويلة جدًّا؟ إنه لم يكن يعجزه أن يوفر دابة ينطلق بها إلى هناك، ولكنه لم يرد لفت الأنظار إليه، فمن حنكته الأمنية أنه فعل ذلك، ولو رآه أحد المشركين يركب دابة لشك في سفره إلى مكان ما، ورسول الله ممنوع من السفر، لئلا يقوم بنَشْرَ الدعوة خارج مكة، ومن ثَمَّ آثر رسول الله أن يقطع المائة كيلو متر سيرًا على الأقدام.



ولذات السبب؛ فإن رسول الله لم يأخذ معه كوكبة من الصحابة لحمايته ولم يأخذ فارسًا من الصحابة ليكون له سندًا، لم يأخذ حمزة بن عبد المطلب أو عمر بن الخطاب أو الزبير بن العوام أو سعد بن أبي وقاص، وكذلك لم يأخذ صديقه الأول أبا بكر الصديق ، كل هذا لكي لا يلفت الأنظار إليه إذا رآه أحد المشركين، ولكنه أخذ معه غلامه زيد بن حارثة، وكان قد أعتقه وتبنّاه وأطلق عليه زيد بن محمد، فرؤية زيد مع رسول الله غير مستغربة، وفي الوقت نفسه فزيد يحب رسول الله حبًّا شديدًا، ويستطيع خدمته وحمايته والتضحية من أجله، وقد ظهر ذلك بوضوح بعد زيارة الطائف وما حدث فيها. وزيد بن حارثة لم يكن صغيرًا في هذه الرحلة، كان يبلغ من العمر أربعين عامًا تقريبًا، وقد ظن بعض القارئين للسيرة أنه كان صغيرًا لأنه يطلق عليه غلام، ولكن غلام بمعنى خادم وليس بمعنى غلام صغير.



إذن أخذ رسول الله بهذه الاحتياطات الأمنية، وتسلل إلى خارج مكة على حين غفلة من أهلها، وانطلق إلى الطائف، مائة كيلو متر سيرًا على الأقدام في الصحراء، وفي شهر مايو أو يونيو. هذا هو الطريق، طريق الدعوة ليس سهلاً ولا ممهدًا، ولكنه في الوقت نفسه فإن أجر الدعوة يساوي هذا المجهود بل يزيد {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إلى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ} [فصِّلت: 33].



كان من الممكن أن يطير رسول الله إلى الطائف بمعجزة، ولكنها التربية، رسول الله يعلمنا طبيعة الطريق، يضع أقدامنا على سبيل الرشد، يبصرنا بسنن الله في التغيير، ليست هناك مصادفات ولا مفاجآت، الذي يفقه سنن الله في أرضه وفي خلقه يرى المستقبل بعين اليقين، كيف لا؟ وقد وضع أقدامه على طريق رسول الله .


الرسول في الطائف

ذهب رسول الله إلى الطائف ووقف على أعتابها يفكر، إلى من يذهب هناك؟ ومن يدعو؟



الأمر الآن ليس دعوة فقط، بل دعوة وطلب للنصرة، فالموقف مع قريش أصبح حرجًا للغاية، ولأنه سيطلب النصرة فلا بد أن يذهب إلى سادة ذلك المكان، فإن الضعفاء لن يجيروه من قريش، وهي موازنات مهمة يعقدها الداعية الناجح، ليس هذا تقليلاً من دور الضعفاء، ولكن هذه مهمة سياسية واضحة جدًّا وخطيرة للغاية، ولا بد أن يدرك رسول الله مع من يتحدث. ثم إن الرسول ليس من الطائف وليست له إجارة هناك، وبدون دخول المدينة من بابها الرئيسي فلن يتمكن رسولُ الله من دعوة كبير ولا صغير ولا عزيز ولا ذليل، وهو ما أسمِّيه بـ (فقه الواقع).



ولذلك فكر رسول الله في أن يذهب إلى قيادة الطائف مباشرة، ولكن قيادة الطائف قيادة مزدوجة ليست لقبيلة واحدة بل لقبيلتين، قبيلة بني مالك وهي القبيلة الأصلية في الطائف والمتمركزة فيها منذ زمن، ولكنها منذ قديم شعرت بالضعف في مواجهة القبائل الضخمة المحيطة بالطائف مثل قريش وهوازن وبني عامر وغيرها، وعلمت أن أطماع الناس في الطائف كبيرة لخصوبة أرضها، فقررت أن تحالف قبيلة أخرى وتسكن معها في الطائف ويتقاسما قيادة الطائف، فتحالفت مع قبيلة أخرى هي قبيلة بني عمرو بن عمير؛ ولذا فقيادة الطائف بين قبيلتي بني مالك وبني عمرو. ثم إن الأيام مرت وثبت أن القبيلتين ضعيفتان نسبيًّا، فقررتا أن يتحالفا تحالفًا سياسيًّا مع بعض القبائل المحيطة بالطائف، فتحالفت قبيلة بني مالك مع قبيلة هوازن، وتحالفت قبيلة بني عمرو مع قريش، هذا التحالف لم يكن قائمًا على الحب والتعاون ولكنه كان يقوم على اتقاء الشر والخوف من إغارة إحدى هذه القبائل على الطائف، وكان رسول الله يدرك كل هذه الأبعاد جيدًا.



والآن نقف وقفة مع رسول الله نحلل معه الوضع الحرج، لو ذهب رسول الله إلى بني مالك فإنهم لن يقطعوا رأيًا إلا بعد الرجوع إلى هوازن، وهوازن تعتبر كتابًا مغلقًا بالنسبة لرسول الله فالدعوة لم تصل إليها بعدُ، وليس بين أبنائها مسلم وفي الغالب سيرفضون الدعوة، لأنه أيضًا من مبادئ الدعوة أن علية القوم -غالبًا- ما يرفضونها في بادئ الأمر؛ خوفًا على مصالحهم وسيادتهم.



أما إذا ذهب إلى بني عمرو التي تحالف قريشًا فإن الوضع مختلف، التحالف الذي يقوم بين بني عمرو وبني قريش يقوم على الخوف من قريش، فإذا وجدت قبيلة بني عمرو فرصة لإحداث انقسام في قريش فقد تأمن جانبها إلى الأبد، هذا رجل من ورائه بنو هاشم وبنو المطلب، ولا شك أن له أتباعًا في بقية بطون قريش، فلو آزرت بنو عمرو رسول الله انقسمت قريش بين مؤيد ومعارض، وهذا سيضعف شوكتها وتكون فرصة بني عمرو للتخلص من تهديد قريش. هكذا فكر رسول الله ، ومن ثَمَّ عمد إلى سادة قبيلة بني عمرو، ولم يذهب إلى سادة قبيلة بني مالك المتحالفة مع هوازن.



وإنني أعجب من هؤلاء الذين ينادون بفصل الدين عن السياسة، من أين جاءوا بهذا الكلام؟! فهذا رسول الله يمارس السياسة في أعظم صورها، إلا إذا كانوا يقصدون أن السياسة -عندهم- لا تصح إلا بالغدر والكذب والنفاق والتجمل الكاذب.


رسول الله يدعو بني عمرو إلى الإسلام

اتجه رسول الله إلى ثلاثة من أبناء عمرو بن عمير وعرفهم بنفسه، وبدأ يدعوهم بدعاية الإسلام ويعرفهم بدين الله ، ثم يطلب منهم النصرة له وللإسلام وللمؤمنين بمكة. كان الثلاثة هم: عبد ياليل ومسعود وحبيب أولاد عمرو بن عمير، وكانوا -كما ذكرنا- سادة من سادات الطائف وأوضاعهم مستقرة إلى حد كبير، فجاء هذا العرض من رسول الله ليطلب منهم أن يغيروا دينهم ويتركوا عبادة اللات إلى عبادة الله ، ليس هذا فقط بل إن دخولهم في هذا الدين هو بمنزلة إعلان الحرب على قريش. ومن الواضح أن هذا القرار الذي يطلبه رسول الله يحتاج إلى رجل حكيم، جريء، ثاقب النظر، عميق الفكر، ولكن يبدو أن هذه الصفات كانت بعيدة كل البعد عن أولاد عمرو بن عمير، فإنهم لما سمعوا هذا العرض من رسول الله ما لبثوا أن جزعوا وفزعوا وبدءوا يتكلمون بكلام هو أشبه ما يكون بالهذيان، لا يمتّ للحكمة بصلة من قريب ولا بعيد.


موقف سادة الطائف من دعوة الرسول

قال عبد ياليل بن عمرو: إنه سيمرط (أي سيمزق) ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك.



قلة شديدة أو انعدام في الأدب، واعتراض على اختيار الله لرسول الله .



أما مسعود فقال: أما وجد الله أحدًا غيرك.



وأما الثالث حبيب فقد قال -وهو يحاول أن يصطنع الذكاء مع شدة غبائه- قال: والله لا أكلمك أبدًا، إن كنت رسولاً لأنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي أن أكلمك.



وهكذا عميت أبصار رجال الطائف عن الدعوة الواضحة النقية، وفشلت المفاوضات سريعًا، وتلقى رسول الله ضربة محزنة جديدة، لكن رسول الله لم تفقده الضربة دقة التفكير ولا رجاحة العقل، فقد أسرع وقال لهم: "إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني" (يعني يظل هذا الموضوع بيني وبينكم).



وهذا حِسٌّ أمني راقٍ جدًّا من رسول الله ، يأخذ بكل الأسباب، ولو شاء الله لأخذ بأسماعهم وأبصارهم وألسنتهم، ولكن رسول الله يرسم لنا الطريق بدقة، لقد طلب من قادة ثقيف أن يكتموا هذه المفاوضات التي تمت، ما دام ذلك لن يضرهم في شيء. ومن الواضح أن رسول الله يحذر من أن يصل الخبر إلى قريش؛ لأنه لو وصل الخبر لقريش فسيُتَّهم صراحة بتهمة التخابر مع قبيلة أجنبية، ومحاولة زعزعة نظام الحكم في مكة، وإثارة الفتنة.



وفوق ذلك فإن الكفار سيستغلون الفرصة في إعلامهم المضاد لإبراز فشل رسول الله في دعوة ثقيف، وهو دليل في رأيهم على ضعف الرسالة، ورسول الله لأجل كل ذلك تمنى أن يكتم أولاد عمرو بن عمير أمره، لكن هؤلاء السادة كانوا فوق خفة عقولهم فاقدين للمروءة، فما لبثوا أن أغروا به سفهاءهم وغلمانهم يسبونه ويصيحون به. لكن رسول الله لم ييئس، بل مكث في الطائف عشرة أيام كاملة بعد هذا اللقاء، لا يدع أحدًا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه، ولكن رفضوا جميعًا.


إيذاء رسول الله في الطائف وخروجه منها

حتى إذا جاء اليوم العاشر قالوا له اخرج من بلادنا، وأرسلوا خلفه عبيدهم وسفهاءهم، فصفوا أنفسهم صفين خارج الطائف وجعلوه يمر من بين الصفين وهم يقذفونه بالحجارة ويقذفونه بأسوأ الكلام والسباب، حتى سالت دماؤه الشريفة على كعبيه وتلون النعل بالدم، وكان زيد بن حارثة يبذل كل طاقته لتلقي الحجارة في جسده، بل في رأسه حتى لا تصيب رسول الله ، حتى شج رأسه ، ورسول الله يسرع الخطا بين الصفين حتى انتهى منه، ويمم عائدًا إلى مكة، لكنهم لم يتركوه بل ظلوا يتعقبونه بالحجارة والسباب مسافة خمسة كيلو مترات تقريبًا من الطائف، وهو لا يدري ما يفعل، ولسان حاله يقول: يا ليت قومي يعلمون، حتى وجد حائطًا (حديقة) فأسرع إليها يحتمي بها، ثم دخل فيها وهنا وقف السفهاء والعبيد وعادوا أدراجهم إلى الطائف.



ولهفي عليك يا حبيبي يا رسول الله!! أبعد كل هذا العناد والكد والتعب والمشقة يرغب أناس من أمتك عن سنتك؟! أبعد كل هذه المكابدة يفرط فريق من أمتك في شرعك؟!



أبدًا ما كان وصول الشرع هينًا، إن الكثير من الناس لا يقدّر الكم الهائل من التضحيات التي دفعها رسول الله وزيد بن حارثة وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وحمزة وخديجة وغيرهم، ترى ماذا سيكون رد فعل رسول الله لو علم أن فردًا من أمته تهاون في حق هذا الدين الذي حُمل إليه بعرق ودم وروح؟



روى الإمام مسلم... قَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "إِنِّي عَلَى الْحَوْضِ حَتَّى أَنْظُرَ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ مِنْكُمْ، وَسَيُؤْخَذُ أُنَاسٌ دُونِي، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، مِنِّي وَمِنْ أُمَّتِي. فَيُقَالُ: أَمَا شَعَرْتَ مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ، وَاللَّهِ مَا بَرِحُوا بَعْدَكَ يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ".



عندما ندرس هذه التضحيات الضخمة نفهم حقًّا هذا العقاب الأليم البشع لأولئك الذين فرطوا في منهج نبيهم، وأولئك الذين أحدثوا في الإسلام ما ليس فيه.



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة مكة - صفحة 3 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة مكة - صفحة 3 Empty رسول الله يشكو إلى ربه بعد الطائف

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:29 am

رسول الله يشكو إلى الله

دعاء رسول الله في الطائفبعد ما لاقى رسول الله ما لاقى من أهل الطائف من الحجارة والسباب، وجد حائطًا (حديقة) فأسرع إليها يحتمي بها، دخل رسول الله إلى الحائط، وهو مثقل بالهموم والأحزان والجراح، فأسرع إلى ظل شجرة وجلس تحتها وأسند ظهره إلى الشجرة ومد يده إلى السماء، وانهمرت عبراته وهو يدعو بدعاء ما دعا به قبل ذلك، وما دعا به بعد ذلك، دعاء يعبر عن مدى الألم والحزن والهم والغم الذي شمل كل كيان رسول الله ، وقد أغلقت أمامه كل الأبواب إلا هذا الباب الذي لا يغلق أبدًا، باب الرحمن، قال رسول الله :



"اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي، إلى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي؟ أَمْ إلى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي؟ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلاَ أُبَالِي، وَلَكِنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَكَ أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ سَخَطُكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِكَ".



قد يؤخر الله استجابة الناس للداعية لحكمة لا يعلمها إلا هو I، ولكن أحيانًا يكون الداعية مخطئًا في أمر من الأمور فيغضب الله عليه، فيمنع الناس من الاستجابة له، ورسول الله في هذا الدعاء يذكر أنه طالما أن الله ليس بغاضب عليه فهو سيتحمل كل هذه الآلام والمصائب والأحزان (إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلاَ أُبَالِي)، هذه الجملة -يا إخواني- هي منهج الحياة (إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلاَ أُبَالِي). والله لو طبَّق المسلمون هذه الجملة فقط في حياتهم، لفازوا بخير الدنيا والآخرة.



وبينما رسول الله جالس في الحائط إذ ظهر فجأة أصحاب الحائط، من هم؟



إنهما عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، كافرا مكة المشهوران، وكانت لهما أملاك بالطائف، فعتبة هو أبو الوليد الذي أجرى المفاوضات يومًا ما مع رسول الله في أواخر السنة السادسة من النبوة، وشيبة أخوه، وهما من الذين دعا رسول الله -يوم أن وضع عقبة بن أبي معيط سلا الجزور على ظهره- فقال: اللهم عليك بعتبة بن ربيعة وعليك بشيبة بن ربيعة. ومع هذا العداء المستحكم والصراع القديم إلا أن الحالة التي وصل إليها رسول الله من الألم والتعب والحزن، جعلت القلوب الكافرة ترق وتحن، أشفق الكافران على رسول الله فأخذا عنقودًا من العنب ووضعاه في طبق، وأرسلا به غلامهما إلى رسول الله ، كان هذا الغلام نصرانيًّا وكان اسمه عَدَّاس.


إسلام عدَّاس وَمْضَةٌ في الظلمة

اسلام عداسكان رسول الله وزيد بن حارثة قد بلغ بهما الجوع والعطش مبلغًا عظيمًا، فكان طبق العنب بمنزلة الإنقاذ لهما، فوضع عداس الطبق أمامهما فمد رسول الله يده إلى الطبق وقال: "بِاسْمِ اللَّهِ"، ثم أكل. لم ينس التسمية حتى في هذه الظروف، وقد كانت هذه التسمية البسيطة سببًا في خير كثير، تعجب عداس من هذه الكلمة، فهو لم يسمعها في الطائف مطلقًا، فقال: إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد. فرد رسول الله عليه بسؤالين، يتعرف بهما على الغلام، قال له رسول الله :



"مِنْ أَيِّ بَلَدٍ أَنْتَ؟ وَمَا دِينُكَ؟"



ما هذا؟ رسول الله لا يضيع فرصة أبدًا للدعوة إلى الله ، الدعوة تسري في أوصاله وفي دمائه وفي دقات قلبه وفي نفسه، حتى في هذه الظروف الحالكة وقد رفض دعوته الأسياد والأشراف، لا يستقل هذا العبد الصغير فيجرب معه الدعوة.



قال الغلام: أنا نصراني، من أهل نِينَوَى.



فقال رسول الله : "مٍنْ قَرْيَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ يُونُسَ بْنِ مَتَّى؟".



دهش الغلام كيف عرف هذا الرجل يونس بن متى؟!



قال عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟



قال رسول الله : "ذَاكَ أَخِي، كَانَ نَبِيًّا وَأَنَا نَبِيٌّ".



هنا أدرك الغلام الصغير ما لم يدركه حكماء ثقيف، أو قل: سفهاؤها، أدرك أن هذا الرجل فعلاً رسول، فآمن لساعته، وأكبَّ على رأس رسول الله وعلى يديه وعلى رجليه يقبلها، وكأن الله أبى إلا أن يثلج صدر رسول الله بمؤمن، وعلى بعد خمسة كيلو مترات من البلد المقصود، نعم هو عبد في نظر الناس ولكنه بإيمانه أثقل من أهل ثقيف جميعًا ومثلهم معهم.



عتبة وشيبة ابنا ربيعة يرقبان الموقف، ولم يكن يحتاج إلى ذكاء كثير لاستنباط ما حدث، فقال أحدهما للآخر: أما غلامك فقد أفسده عليك. فلما عاد عداس قالا له: ويحك ما هذا؟ قال: يا سيدي، ما في الأرض شيء خير من هذا الرجل، لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي. لكن القلوب القاسية لم تفقه، فقالا له: ويحك يا عداس، لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه. وكذبوا.



أصبح الموقف الآن في غاية الحرج، الطائف رفضت الدعوة هذا الرفض القبيح، ولا شك أن الخبر قد طار إلى مكة، ولا شك أيضًا أن مكة كانت قد اكتشفت تسلل رسول الله منها دون علمها، إذن مكة ستصبح موصدة الأبواب أمام رسول الله ، وستكون محاولة الدخول إليها في غاية الخطورة، فماذا يفعل ؟



انشغل رسول الله بالتفكير في هذا الأمر، الأقدام تسير في اتجاه مكة، لكن العقل مشغول غاية الانشغال، يقول يصف هذا الموقف، كما جاء في البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:



"فَانْطَلَقْتُ -أي من الطائف- وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ". وهي المسماة بقرن المنازل، مهمومًا حزينًا، وكأنه في إغماءة أو في نوم ثم أفاق في قرن الثعالب، أتدرون كم تبعد قرن الثعالب عن الطائف؟ تبعد خمسة وثلاثين كيلو مترًا، سار رسول الله كل هذه المسافة وهو في شبه إغماء من شدة الهم والتفكير.


حرص رسول الله على هداية قومه

ثم حدث أمر عجيب هناك في قرن الثعالب، كما جاء في رواية البخاري يقول رسول الله : "فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ (مقامات عالية جدًّا، وتخيل مدى انشراح الصدر لرسول الله في هذه اللحظة، وتخيل مدى الشعور بتفاهة المشركين والمكذبين، فهؤلاء الذين يظنون أنفسهم سادة، كيف يقارنون بالجبال وكيف يقارنون بأعظم الملائكة جبريل ) فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الأَخْشَبَيْنِ (والأخشبان هما جبلا مكة: أبو قبيس وقيقعان). فَقَالَ النَّبِيُّ : "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا".


وقفة مع هذا الحدث الكبير

أولاً: وضح في هذا الموقف الدرجة الرفيعة المرموقة التي عليها رسول الله فلعلها المرة الأولى في تاريخ الأنبياء التي يحدث فيها مثل هذا الموقف، فيخير نبي في أن يهلك الله قومه أو يستبقيهم، فقد كان يأتي القرار بالهلكة ويؤمر النبي بمغادرة البلد فقط، لكن هنا الوضع مختلف جدًّا. وفي إرسال ملك الجبال إشارة واضحة أن الله لن يعتب على نبيه أن يختار إهلاك الناس، بل إنه يشجعه على ذلك بإرسال ملك الجبال نفسه، وكان من الممكن أن يرسل جبريل فقط يعرض عليه الأمر، فلو وافق الرسول جاء ملك الجبال ليهلك البلدة.



ثانيًا: يتبدى في هذا الموقف بوضوح الفارق الضخم المهول بين السياسي الداعية وبين السياسي من أهل الدنيا، سياسيو الدنيا لا ينظرون إلا للمصلحة المادية، سواء لهم أو لبلادهم، لكن السياسي الداعية له هدف أصيل هو أن يُسلم الناس لرب العالمين، لو حدث تمكين لرسول الله وقد أهلكت طائفة كبيرة من البشر فإن ذلك لا يسره، لأنهم أهلكوا على شركهم، إنما هو يريد لهم الخير، والخير في الإيمان، فلا مانع من أن يعطوا فرصة أخرى، ولو على حساب إيذاء الرسول نفسه، وهذا مثل الأب الذي يفشل ابنه في امتحان فيغضب لفشله، فيأتي أحدهم يريد أن يهدئ الأب فيقترح عليه أن يقتل ولده، فماذا سيكون رد فعل الأب؟ أيرضى؟ محال، وكذلك كان رسول الله أو أشد، عاطفة رسول الله نحو الذين يدعوهم كانت مثل عاطفة الأب نحو ابنه أو أكثر، وصدق الله العظيم الذي قال في حق نبيه : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].



ما أحوج الدعاة أن يراجعوا نظرتهم إلى الناس! وما أحوجهم أن يعاملوهم معاملة الطبيب الذي يعالج مريضه لا الجلاد الذي يعاقب المذنبين!



ثالثًا: يتبدى أيضًا في هذا الموقف شخصية رسول الله الهادئة التي تزن الأمور جيدًا، فمع كل ما مر به من ألم وهم وحزن بدأ من موت أبي طالب وموت خديجة رضي الله عنها، ثم خروجه إلى الطائف ورفض أهل الطائف للدعوة وقذفه بالحجارة والسباب والشتائم، مع كل هذا إلا أنه لم يكن انفعاليًّا في قراره، لم يتسرع ولم يتعجل، وكانت إجابته في منتهى الهدوء، وكأنه في أفضل أحواله وظروفه. الداعية الانفعالي كثيرًا ما يدفع بدعوته نحو المهالك، كثيرًا ما يأخذ قرارات قد يندم هو شخصيًّا عليها بعد ذلك، تحكيم العقل على العاطفة من سمات الداعية الحكيم الذي يزن الأمور جيدًا، وهذا ما شاهدناه من رسول الله في هذا الموقف.



رابعًا: مرت الأيام والسنون ودخلت مكة ثم الطائف في الإسلام، وذلك في السنة الثامنة من الهجرة بعد أن ضاعت منهم سنوات طويلة في الشرك، وولد لهم أولاد عبدوا الله ولم يشركوا به شيئًا، وحدثت مأساة الردة الضخمة في جزيرة العرب بعد وفاة رسول الله ، وارتدت جزيرة العرب بكاملها، ولم يثبت على الإيمان إلا ثلاث مدن فقط في الجزيرة العربية، وهذه المدن هي مكة والطائف وطبعًا المدينة المنورة، وتحقق أمل رسول الله في أن يخرج الله من أصلاب هؤلاء من لا يكتفي بأن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا، بل يحمل لا إله إلا الله إلى كل بقعة في الأرض؛ فمن صُلب الوليد بن المغيرة خرج خالد بن الوليد، ومن صلب أبي جهل خرج عكرمة بن أبي جهل، ومن صلب العاص بن وائل خرج عمرو بن العاص، ومن صلب عتبة بن ربيعة خرج أبو حذيفة بن عتبة، وهذا نصر كبير للدعوة وإن كان قد حدث بعد وفاة الرسول .


الجن يستمعون القرآن فيسلمون

بعد هذا الموقف العظيم يكمل رسول الله طريقه في اتجاه مكة، وعندما يصل إلى منطقة تسمى وادي نخلة على بعد حوالي 43 كيلو مترًا من مكة يمكث هناك ليستريح، وراحة رسول الله ليست في النوم ولكن في الصلاة (وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاَةِ)، فيقف بين يدي ربه يناجيه في خشوع، يقرأ آيات من كتاب الله يهون بها على نفسه ويشد بها من أزره.



المكان فيما يبدو للناس ليس فيه أحد، فوادي نخلة مكان منعزل بين مكة والطائف ورسول الله يقف وحيدًا ليس معه من أحد إلا زيد بن حارثة ، لكن سبحان الله أبى الله إلا أن يعز الدعوة بنصر جديد، فقد كان الجن يمرون بهذا المكان فسمعوا كلام الله على لسان رسوله الكريم ، فوقع الكلام في قلوبهم فـآمنوا!



إنهم الجن، نَعَم الجن.



فإن كان البشر قد كَذّبوا، فإن الجن قد آمنوا، والجن منهم المؤمن ومنهم الكافر، والجن كانوا يعلمون بنبوة الأنبياء السابقين، وكانوا يتوقعون نبيًّا يأتي في هذا الزمان، ومن الواضح أنها المرة الأولى منذ أول البعثة التي يسمع فيها الجن هذه الآيات فوقعت في قلوبهم فآمنوا من فورهم، بل وذهبوا دعاة إلى قومهم يأخذون بأيديهم إلى طريق الله .



حكى الله في كتابه فقال: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إلى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لاَ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} [الأحقاف: 29- 32].



لم يشعر الرسول بوجود الجن عند سماعهم للقرآن، ولكن عرف بعد ذلك عندما نزلت الآيات تصف الموقف، وهي إشارة لطيفة للدعاة أنه لا تدري لعل طائفة من الجن تستمع إلى كلمة الحق منك، فتؤمن بينما يكذب البشر، وتكون هذه الطائفة من الجن في ميزان حسناتك يوم القيامة. ثم إن هناك إشارة لطيفة أخرى وهي أن الداعية يجب أن يستشعر أنه ليس بمفرده في هذا الطريق، فالخلق جميعًا يعبدون الله {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44]. ولا يشذ عن هذه المنظومة الجميلة إلا طوائف من الكافرين من الإنس والجن، لكن أنت لست وحدك على الطريق، معك أمم من الجن، معك الملائكة جميعًا، معك الشمس والقمر والنجوم، معك الدواب والهوام والحيتان، منظومة كاملة رائعة لا يشعر معها المؤمن بالوحدة أبدًا، وإن كان فريدًا في وسط البشر.



{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18].


اليقين في فرج الله

اليقين في فرج اللهبعد أن انتهى رسول الله من صلاته قرر الرحيل من جديد إلى مكة، وهنا استوقفه زيد بن حارثة وقال: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟! يخشى زيد على رسول الله من أن تقتله قريش، لكن استمع إلى إجابة الحبيب ، قال: "يَا زَيْدُ، إِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لِمَا تَرَى فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُ دِينِهِ وَمُظْهِرُ نَبِيِّهِ".



الله! ثقة، يقين، اطمئنان، سكينة، تمامًا كما قال موسى عندما قالوا له: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 61، 62]. ثقة في نصر الله ، هو لا يدري كيف سيُنصر ولكنه متأكد من النصر، موسى لم يكن يدري ساعتها أن الله سيشق له البحر، وكذلك الرسول لم يكن يدري كيف سينصره ربه ، ولكن كان على يقين من هذا الأمر.



أكمل رسول الله المسير حتى اقترب جدًّا من مكة وجلس يدبر أمره. نعم، الله سينصره، لكن لا بد له من الأخذ بالأسباب، كيف يدخل مكة وهو مطلوب الرأس ولا سيما بعد تكذيب الطائف له، لا شك أن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وغيرهما قد نقلوا إلى قريش عزم رسول الله على الاستنصار بالقبائل الأخرى ضد قريش، فماذا يفعل؟



هذا ما سنعرفه في المقال القادم إن شاء الله.



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة مكة - صفحة 3 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة مكة - صفحة 3 Empty رسول الله يدخل مكة في إجارة المطعم بن عدي

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:30 am

رسول الله يستفيد من قانون الإجارة في مكة

الاسلام والقوانين الوضعيةلم يكن أمام رسول الله بدٌّ من دخول مكة مرة أخرى، خاصة بعد ما لقيه من سفهاء الطائف، ومع أنه كان مطلوب الرأس من قبل الأجهزة الأمنية المكية، إلا أن رسول الله كان واقعيًّا لأبعد درجة، لقد قرر أن يدخل في إجارة رجل من أهل مكة، وقانون الإجارة قانون محترم في مكة، نعم، يقوم على تطبيقه مشركون، لكن رسول الله يستفيد من قوانين المجتمع المشرك طالما لا تتعارض مع شرع الله ، وطالما لا يقدم تنازلاً من دينه أو عقيدته في نظير الاستفادة من هذا القانون، درس في غاية الأهمية.



قانون الإجارةلقد قرر رسول الله أن يدخل مكة في إجارة مشرك، ولم تأخذه الأنفة أن يتعامل مع مشرك ويدخل في حمايته، لقد كان واقعيًّا لأبعد الحدود، لو أن رسول الله دخل في إجارة مؤمن لكان ذلك بمنزلة إعلان الحرب في مكة، وسيتميز أهل مكة إلى فريقين: مؤمن وكافر، وهذا ليس وقت المواجهة، ولا بد من ضبط النفس حتى يأتي أمر الله. وفي الوقت نفسه هو لا يجد في بني هاشم -على عظمها- من يجيره؛ فكبير بني هاشم بعد موت أبي طالب هو أبو لهب، وأبو لهب من أشد الأعداء لهذه الرسالة، ولن يقبل أن يقوم بحماية رسول الله ليبلغ رسالة هو كاره لها، ولن يستطيع أحد من رجال بني هاشم أن يتعدى على أبي لهب في هذا الأمر.



لذلك لم يتردد رسول الله في أن يراسل رجالاً من المشركين يطلب إجارتهم له، فراسل في البداية الأخنس بن شريق فلم يكن عنده نخوة، وتعلل بأنه حليف (أي ليس أصيلاً في مكة) والحليف لا يجير، فراسل سهيل بن عمرو وهو من عظماء مكة، وكان من المتوقع منه أن يقبل الإجارة وكان رجلاً عاقلاً، ولكن سبحان الله! تخلى سهيل عن عقله ومروءته وقال: إن بني عامر لا تجير على بني كعب. وطبعًا رسول الله يعلم أن هذه القوانين ليست حتمية، وإنه من الممكن أن يجير الحليف، ومن الممكن أن تجير بنو عامر على بني كعب، وإلاَّ لما أرسل إليهما، ولكن على كل حال كانت تلك اعتذارات مؤدبة من قادة مكة.



ثم فكر رسول الله في رجل آخر، وهذا التفكير والطريقة التي استخدمها رسول الله في مراسلته تدل على عمق الفكر السياسي عند رسول الله ، وعلى وعيه الكامل بالجذور التاريخية للمنطقة، وعلى حكمته الدبلوماسية في التعامل مع كافة الظروف والأطراف.


المطعم بن عدي يجير رسول الله

لقد راسل رسول الله المطعم بن عدي وهو من زعماء مكة الكبار، وهو سيد قبيلة بني نوفل بن عبد مناف، وراسله عن طريق رجل من خزاعة لم تذكر الروايات اسمه، ولا يعنينا اسمه في شيء، بل تعنينا قبيلته (خزاعة)، لماذا راسل رسول الله المطعم بن عدي؟ ولماذا اختار رجلاً من خزاعة وهي قبيلة غريبة على مكة؟



إن لهذا الأمر جذورًا في غاية الأهمية، وحتى نفقه البعد العميق في فكر رسول الله تعالَوْا نقلّب قليلاً في صفحات التاريخ.


تاريخ العرب العدنانية والقحطانية

أصل العرب يعود إلى فرعين رئيسيين: عدنان وقحطان وهما من ذرية إسماعيل ، أما عدنان فقد سكن نسله في الحجاز ومكة وما حولها، وأما قحطان فقد سكن نسله في اليمن، ثم مع مرور الوقت تفرقت الذرية في كل أطراف الجزيرة العربية لكن ظل العرب يدركون الأصول العدنانية والقحطانية لكل قبيلة، فمثلاً من أشهر القبائل العدنانية قبيلة قريش وهي قبيلة رسول الله ، ومن أشهر القبائل القحطانية قبائل الأوس والخزرج في المدينة (كانوا في اليمن وهاجروا إلى المدينة) وقبائل خزاعة، إذن قبيلة خزاعة وقبائل الأوس والخزرج من فرع مختلف عن فرع قريش.



وفي تاريخ مكة أنه كانت هناك فترة سيطرت فيها قبيلة خزاعة على البيت الحرام، وكانت لها إدارته والهيمنة على مكة، ثم جاء قصي بن كلاب وهو من أجداد رسول الله (أي من العدنانيين) وحارب خزاعة وطردها من مكة وسيطر هو على البيت الحرام مع إنه كان متزوجًا بنت زعيم خزاعة، المهم أنه قد حدث صراع قديم بين خزاعة وبين قريش، وطردت خزاعة من مكة، ضع هذه النقطة في الذاكرة.



ومر الوقت والقرشيون يسيطرون على البيت الحرام ويعيشون في مكة.



ثم مرت الأيام وحدث في وقت من الأوقات صراع بين رجلين من رجال قريش، بين عبد المطلب جد رسول الله وبين نوفل جد المطعم بن عدي، ووقفت قريش إلى جانب نوفل، فماذا فعل عبد المطلب؟ لقد كان هناك علاقة مصاهرة بين أجداد عبد المطلب وبين قبيلة الخزرج القحطانية والتي تسكن الآن المدينة، فأرسل إليها عبد المطلب يطلب نجدتها فجاءوا بعددهم وأسلحتهم فهابتهم قريش ورضخ نوفل لما أراد عبد المطلب. قبيلة خزاعة كانت تراقب الموقف من بعيد، فلما وجدت عبد المطلب يعادي قريشًا وقد نصر بالخزرج جاءت وعرضت على عبد المطلب أن تحالفه وذكرته بأن جد عبد المطلب كان متزوجًا من بنت زعيم خزاعة، أي ذكرته بعلاقة المصاهرة، وطبعًا خزاعة فعلت ذلك نكاية في قريش لجذور العداء القديم بين الطرفين فقبل عبد المطلب بحلف خزاعة، ومن ثَمَّ أصبح عبد المطلب زعيمًا في قريش مؤيدًا بحلف الخزرج وحلف خزاعة وهذا أعطاه قوة كبيرة في مكة، وفي الوقت نفسه فإن نوفل شعر بالضعف أمام هذا الحزب الكبير.



إذن هناك في مكة جذور تاريخية لعلاقة مضطربة بين عبد المطلب وحلفائه من خزاعة والخزرج وبين نوفل، ورسول الله من نسل عبد المطلب، والمطعم بن عدي من نسل نوفل.



إذن إرسال رسول الله للمطعم بن عدي يطلب منه الإجارة وإرساله بذلك مع رجل من خزاعة هو تذكير من رسول الله للمطعم بن عديّ بالأصول التاريخية للمنطقة، فكأنه يقول له: يا مطعم، إنني أطلب جوارك الآن، وأستثير فيك المروءة، وهي موجودة فيه على كل حال؛ لأنه من الذين شاركوا في نقض الصحيفة قبل ذلك، ولكن في الوقت نفسه فأنا لا أقف وحيدًا خارج مكة، ولا أطلب منك هذا الأمر استعطافًا، فإنك إن أبيت أن تجيرني كان البديل خزاعة وقبائل الخزرج، سأفعل مثلما فعل عبد المطلب قبل ذلك. وهكذا يستخدم رسول الله موازين القوى في الجزيرة العربية استخدامًا جيدًا حكيمًا.



هذه الجذور التاريخية تفسر انحياز خزاعة لرسول الله بعد صلح الحديبية ضد قريش مع أنها لم تكن آمنت ولكن نكاية في قريش.



وهكذا لما وصلت الرسالة إلى المطعم بن عدي عن طريق الرجل الخزاعي دارت كل هذه الأمور في ذهن الرجل الحكيم المطعم بن عدي، وفوق حكمته فإنه كان صاحب مروءة، لأنه في بعض الأحيان تغطي الخسة والنذالة على عقل الرجل فلا يرى الأمور على حقيقتها، ويأخذه الكبر والعناد في أمور قد تؤدي إلى إهلاكه وضياعه.



وافق المطعم بن عدي على إجارة رسول الله وقال لبنيه وقومه: البسوا السلاح وكونوا عند أركان البيت؛ فإني قد أجرت محمدًا. وخرجت كتيبة مسلحة من بني نوفل تستقبل رسول الله وزيد بن حارثة وأحاطت به لحمايته، ودخل في وسطها رسول الله ، وسارت به حتى وصل إلى البيت الحرام فصلى هناك ركعتين، وقام المطعم بن عدي، فخطب في الناس فقال: يا معشر قريش، إني أجرت محمدًا، فلا يهجه أحد منكم. ثم سارت الكتيبة المسلحة تحمي رسول الله حتى أدخلته بيته.



موقف عجيب حقًّا، فرسول الله تعامل في منتهى الحكمة مع الأوضاع المقلوبة في مكة، كان من المنطقي أن يدخل مكة في حماية سيوف بني هاشم، ولكن نذالة أبي لهب وقفت أمام هذا الأمر، ولكن هذا الموقف من بني هاشم ومن أبي لهب لم يغلق كل الأبواب، ما زالت هناك أبواب مفتوحة، نعم هي أبواب كافرة، ولكن ما الضرر في استخدامها إن لم تكن مشروطة بتنازل أو بتفريط؟



لقد دخل رسول الله مكة مرفوع الرأس وحوله الأسلحة من كل مكان بدلاً من أن يدخلها متسللاً منهزمًا، وفي الوقت نفسه فهو يدخل، وهو يعلن أنه ما زال على نفس الطريق، وما هي إلا أيام وسيخرج من بيته لاستقبال وفود الحجيج يدعوهم إلى دين الله، كما كان يدعوهم في حياة أبي طالب.



ومع أن قبول المطعم بن عدي لإجارة الرسول كانت لها هذه الجذور التي ضغطت على المطعم بن عدي إلا أن رسول الله ظل حافظًا للجميل، فبعد غزوة بدر وأسر سبعين من المشركين وكان المطعم قد مات قبل بدر، قال رسول الله كما روى البخاري: "لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلاَءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ".



وبالطبع قبلت قريش بإجارة المطعم بن عدي لألد أعدائها الآن، ليس احترامًا للمطعم بن عدي فقط ولكن خوفًا من سيوف خزاعة وأسلحة الخزرج، ويبقى الدرس المهم الأصيل (لا بد للحق من قوة تحميه).



لكن رسول الله وهو الرجل البعيد النظر الواسع الحكمة الذي حنكته التجارب وخبر أمور البلاد والعباد، يعلم أن هذا الموقف من المطعم موقف مؤقت، فلن تصبر قريش طويلاً على هذا الأمر، وستمارس ضغطًا قد لا يقوى المطعم على دفعه. كما أن المطعم رجل كافر له طاقة محدودة، وقد لا يضحي بروحه وماله ومركزه ووضعه نظير حماية رجل لا يؤمن بمبادئه. أضف إلى ذلك أن الموقف في مكة قد أصبح حرجًا، فقد وصلت الدعوة للناس أجمعين واضحة نقية، فمنهم مؤمن ومنهم كافر، وانتقال الكافرين إلى معسكر الإيمان أصبح نادرًا إن لم يكن معدومًا.



كل هذا دفع الرسول أن يغير من حواره وطريقته مع القبائل الزائرة لمكة تغييرًا محوريًّا خطيرًا، كان رسول الله يدعو من قبل للإسلام فقط، يدعو الناس أن يتركوا ما يعبدون وأن يعبدوا الله وحده لا شريك له، وأن يؤمنوا به كرسول من عند الله، أما الآن، فهو سوف يضيف شيئًا خطيرًا كان قد طلبه للمرة الأولى من أهل الطائف، ولكنهم رفضوه وطردوه، أما هذا الشيء فهو النصرة والاستضافة في مكان قبيلتهم أيًّا كان هذا المكان.



فماذا يعني هذا الأمر؟ وكيف تعامل رسول الله مع القبائل المضيفة في مكة؟ هذا ما سنعرفه في المقال القادم بإذن الله.



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة مكة - صفحة 3 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة مكة - صفحة 3 Empty رسول الله يدعو القبائل للإسلام والنصرة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:30 am

طريقة جديدة في الدعوة إلى الإسلام

كان رسول الله على علم أن هذا الموقف من المطعم بن عدي موقف مؤقت، فلن تصبر قريش طويلاً على هذا الأمر، وستمارس ضغطًا قد لا يقوى المطعم على دفعه. كما أن المطعم رجل كافر له طاقة محدودة، وقد لا يضحي بروحه وماله ومركزه ووضعه نظير حماية رجل لا يؤمن بمبادئه. أضف إلى ذلك أن الموقف في مكة قد أصبح حرجًا، فقد وصلت الدعوة للناس أجمعين واضحة نقية، فمنهم مؤمن ومنهم كافر، وانتقال الكافرين إلى معسكر الإيمان أصبح نادرًا إن لم يكن معدومًا.



كل هذا دفع رسول الله أن يغير من حواره وطريقته مع القبائل الزائرة لمكة تغييرًا محوريًّا خطيرًا، كان رسول الله يدعو من قبل للإسلام فقط، يدعو الناس أن يتركوا ما يعبدون وأن يعبدوا الله وحده لا شريك له، وأن يؤمنوا به كرسول من عند الله، أما الآن، فهو سوف يضيف شيئًا خطيرًا كان قد طلبه للمرة الأولى من أهل الطائف، ولكنهم رفضوه وطردوه، أما هذا الشيء فهو النصرة والاستضافة في مكان قبيلتهم أيًّا كان هذا المكان، وهو بمنزلة إعلان الحرب على أهل مكة، ومكة لا تدري أي القبائل ستوافق على نصرة رسول الله ، وقد تكون القبيلة كبيرة وقوية؛ ولذلك فإن مكة ستحاول أن تتجنب قدر الاستطاعة الدخول في هذه المخاطرة، نعم المطعم بن عدي يحمي الرسول لكن هذا إلى حد معين كما ذكرنا.


رسول الله يعرض النصرة على القبائل

كان السبيل الأول أمام أهل مكة هو تكذيب رسول الله قدر المستطاع، وشن حرب إعلامية مضادة على مستوى واسع، وكان أبو لهب وراء رسول الله إذا تحدث مع القبائل يقول لهم: لا تسمعوا منه؛ فإنه كذاب.رسول الله يدعو القبائل للإسلام والنصرة



كل هذا دفع الرسول إلى تغيير منهجه في زيارة القبائل القادمة على مكة، فماذا فعل؟



أولاً: كان رسول الله يأتيهم ليلاً حتى لا يلفت أنظار القرشيين.



ثانيًا: كان يأتيهم في منازلهم بعيدًا عن الكعبة، فإنه لكثرة القبائل كانت كل قبيلة تقيم مخيمًا خارج مكة لتتسع لكل هؤلاء، فكان لا ينتظر أن يدخلوا إلى البيت الحرام ثم يدعوهم، بل كان يذهب إليهم خارج مكة بعيدًا عن أعين المراقبين.



ثالثًا: وهذه نقطة في غاية الأهمية، فإنه كان يصطحب معه أبا بكر الصديق ، وأحيانًا علي بن أبي طالب وذلك لإشعار القوم أنه ليس وحيدًا في مكة من ناحية، ومن ناحية أخرى أهم أن أبا بكر الصديق كان يعرف أنساب القبائل، فكان يستطيع أن يدرك القبيلة القوية الشريفة من القبيلة الضعيفة القليلة، وهذا أمر في غاية الأهمية، فإن رسول الله سوف يطلب منهم النصرة، فإن ادّعوا القوة وهم ليسوا بأقوياء بنى رسول الله حساباته على معلومات غير موثقة، فكان رسول الله يسألهم سؤالاً مباشرًا عن عددهم وقوتهم، وأبو بكر يؤكد على ذلك أو ينفيه، فإن وجد منهم رسول الله قوة عرض عليهم الإسلام وطلب منهم النصرة، فرسول الله يصل بدعوته إلى كل إنسان لكنه يقدر الموقف السياسي العصيب الذي يمر به، ويحسب لكل موقف حسابه المناسب.



وهكذا بدأ رسول الله جولاته من جديد، في نشاط وخفة، وفي حمية وكأن الأمور على خير ما يرام، وما زالت الأحزان تتلو الأحزان، ففي الشهور الثلاثة الماضية مات أبو طالب وماتت خديجة -رضي الله عنها- وآذاه أهل مكة وذهب إلى الطائف فأوذي هناك إيذاءً شديدًا وعاد إلى مكة وحيدًا، ودخلها في إجارة رجل ليس من قبيلته بعد أن حاول محاولتين في رجلين آخرين ولكن المحاولتين فشلتا، ثم أخيرًا في هذا الجو المشحون يستأنف دعوته. والله -يا إخواني- لا عذر لأحد، كلمة الظروف هذه لم تكن موجودة في حياة رسول الله ، كثيرًا ما يعتذر كثير من الناس عن العمل لله أو تفريغ الوقت للدعوة بحجة أن ظروفه لا تسمح، ظروفه مختلفة، ظروفه ليست مناسبة، فانظر وتأمل، كيف كانت ظروف رسول الله وكيف كان يعمل.



وسبحان الله! في هذا الموسم العصيب لم يستجب أحد من القبائل لدعوة رسول الله ليضيفوا بذلك حزنًا جديدًا إلى أحزان رسول الله ، وكذلك لم يستجب أحد من أهل مكة في العام التالي لهذا العام وهو العام الحادي عشر من البعثة.



ولم يكن الرسول يسمع عن زائر لمكة إلا دعاه للإسلام، فأسلم على يديه أربعة: سويد بن الصامت من قبيلة الأوس بيثرب وكان شاعرًا، وإياس بن معاذ وكان صغيرًا في السن بين الثانية عشرة والثالثة عشرة، وقد مات الاثنان رضي الله عنهما بعد ذلك بشهور قليلة؛ لذا لا نسمع عنهما.



أما الاثنان الآخران فكان إسلامهما فتحًا، فقد جاء كل واحد منهما بقبيلته بعد ذلك مسلمة، وهما أبو ذر الغفاري والطفيل بن عمرو الدوسي، فماذا عن إسلامهما؟


إسلام أبو ذر الغفاري والطفيل بن عمرو الدوسي

الأول: أبو ذر الغفاري ، وكانت قبيلته غفار تعمل بقطع الطريق على القوافل والمسافرين، فهم لصوص إذن، ومع ذلك لم ييئس أبو ذر وظل يدعوهم حتى جاء بهم مسلمين إلى النبي في المدينة؛ فقال النبي : "غِفَارٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا". أي ما كان منهم قبل إسلامهم.



الثاني: الطفيل بن عمرو الدوسيّ ، وكان سيد قبيلته دوس من قبائل اليمن، وبعد دعوة طويلة آمنت دوس، وجاء الطفيل إلى الرسول في المدينة بسبعين أو ثمانين بيتًا من دوس، وكل بيت كان يضم عددًا كبيرًا، وليست أسرة صغيرة تساوي حياة أفضل، بل أسرة كبيرة كل أفرادها يعملون وينتجون ويدعون تساوي حياة أعز وأكرم.



جاء هذان الصحابيان للدولة الإسلامية بأعداد غفيرة، صحيح أنهم جاءوا في المدينة بعد إقامة الدولة، ولكن هذا تدبير الله I.


كل القبائل ترفض الإسلام

مرت الأيام وجاء موسم الحج في العام الحادي عشر من البعثة وخرج رسول الله كعادته، في نشاط، يدعو القبائل، وسبحان الله في هذا الموسم لم تقبل قبيلة واحدة الإسلام، حتى يزيدوا حزن رسول الله أكثر، لكن ماذا عليه أن يفعل؟ ما على الرسول إلا البلاغ.



وسبحان الله! في هذا الموسم ذهب رسول الله إلى قبائل بني عامر، وغسان، وبني فزارة، وبني مرة، وبني حنيفة، وبني سليم، وبني عبس، وبني نصر، وبني ثعلبة، وبني شيبان، وبني كلب، وبني الحارث بن كعب، وبني عذرة، وبني قيس، وبني محارب، وغيرهم، كل هذه القبائل عرض عليها رسول الله الإسلام والنصرة، وعقد معها مباحثات مطولة، وخلاصة هذه المباحثات أن كل هذه القبائل رفضت الدعوة؛ منهم من رفضها بأدب كبني شيبان، ومنها من رد عليه ردًّا قبيحًا كبني حنيفة، المهم أن الكل رفضوا، سبحان الله، طريق الدعوة طريق طويل، هذا أحكم الخلق وأبلغ البشر وأعظم الرسل ينطلق بدعوته بيضاء نقية إلى عقول تفقه اللغة وتقدر الحكمة، ومع ذلك فهم لا يقبلون {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56].



لكن هل فتر الحبيب ؟ أبدًا والله، ما فتر وما قصر وما يئس، في كل يوم دعوة وفي كل لحظة عمل، إنه يعمل لله ، والله حي لا يموت، حماسته للعمل لا ترتبط بكثرة أتباعه، بل حماسته مرتبطة بيقينه في الله، ويقينه في الله لا حدَّ له، فدعوته وحماسته وعمله لا حد لها.



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة مكة - صفحة 3 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة مكة - صفحة 3 Empty مصعب بن عمير.. أول سفير في الإسلام

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:31 am

أول سفير في الإسلام

مصعب بن عمير أول سفير في الإسلاملقد أصبح واضحًا أن هذا المكان الجديد سيكون له شأن خاص، ومن المحتمل أن يكون دار الهجرة، وما أخذه رسول الله على الأنصار في بيعة العقبة الأولى لم يأخذه على غيرهم؛ ولذلك فإن رسول الله قرر أن يقوم بعمل ما قام به من قبل ذلك في تاريخ الدعوة بمكة، وهو إرسال سفير من الصحابة المكيين إلى أرض يثرب مع هؤلاء الاثني عشر أنصاريًّا، حتى يمهد الأمر لقيام دولة إسلامية في هذا المكان، هذا السفير سيكون له مهام عظيمة، سيكون من مهامه أن يمثل رسول الله في هذا المكان.



فما يريده الرسول من أهل يثرب سيأتي لهم عن طريق هذا السفير، لكنه ليس سفيرًا سلبيًّا ينقل الرسائل فقط بل له مهام أخرى جليلة، عليه أن يكون صورة متحركة للإسلام قدوة للمسلمين وغير المسلمين، عليه أن يعلم المسلمين الإسلام، عليه أن يدعو إلى الإسلام أفرادًا جددًا، عليه أن يزيد من القاعدة الإسلامية في هذه البلد النائي حتى تصبح حمايتها معتمدة على أفرادها.



رسول الله لا يريد للمسلمين من أهل مكة إذا جاءوا إلى يثرب أن يعيشوا فيها كجالية أجنبية تعيش في بلد مضيف، لا يريد لهم وضعًا كوضع المهاجرين في الحبشة، المهاجرون في الحبشة، وإن كانوا قد أتيحت لهم حرية العبادة ونعمة الأمن، إلا أنهم شبه معزولين عن المجتمع النصراني الذي يسكن أرض الحبشة، يعيشون كأقلية محدودة تمكث في هذا المكان لفترة ما ثُمَّ سيكون الانصراف، أما الوضع الآن في يثرب فهو مختلف، رسول الله يخطط لإقامة دولته، ولا بد للدولة أن تعتمد على أبنائها لحمايتها، ولا بد أن تكون الحمية في أهل يثرب كالحمية في قلوب المسلمين في مكة، عليه أن يُمهد البلد نفسيًّا لاستقبال المهاجرين من المدينة والحبشة ومن أي مكان، عليه دراسة أحوال يثرب العسكرية والأمنية والاقتصادية؛ لأنه من المحتمل أن تصير دار الهجرة.



ومن هنا كان الدور الجليل الخطير للسفير الذي سيرسله رسول الله إلى هذا المكان، فعليه مهمة التخطيط لإقامة دولة، وهي مهمة صعبة ولا شك، فممارسة الدعوة بين أناس تعرفهم وتعيش معهم وبينك وبينهم علاقات هو أمر مفهوم وميسور، لكن أن تدعو في مكان لا يعرفك فيه أحد، ولم تزره قبل ذلك في حياتك، ولا تعرف طباعه وتقاليده فهذا أمر عسير، بل إن هناك تباعدًا كبيرًا جدًّا بين أصول الأوس والخزرج وأصول قريش، فقريش من أولاد عدنان، والأوس والخزرج من أولاد قحطان، وكل هذا يصعب من مهمة الداعية.



وهذا السفير الذي سيرسله رسول الله عليه أيضًا أن يرتفع بالمؤمنين إلى أعلى درجات الإيمان، فلا يكفي فقط أن يقنع الناس بالارتباط بهذا الدين، فما أكثر المرتبطين بهذا الدين ولا يعملون له! بل ما أكثر المرتبطين بهذا الدين ويعملون ضده ويحاربونه ويكيدون له!! فمهمة السفير هذه ليست في تكثير الأتباع فقط، ولكن رفع مستواهم الإيماني والجهادي إلى أعلى درجة، فإن أعباء المستقبل ضخمة للغاية، ولن يحملها إلا أفذاذ الرجال.



وهذا السفير الذي سيرسله رسول الله لن يكون له سند من إخوانه المسلمين القدامى ولا من رسول الله إلا على فترات متباعدة، فالمسافة بين مكة والمدينة تقترب من خمسمائة كيلو متر، ولن تكون هناك فرصة للاستشارة في كل صغيرة وكبيرة؛ ولذلك فإن هذا السفير لا بد أن تكون عنده حصيلة علمية ضخمة تكفيه في المكان النائي، ولا بد أن يكون من الرجال المستقرين نفسيًّا الذين لا يُحبَطون بالمعاداة والتكذيب، ولا بد أن يكون من الرجال المخلصين جدًّا الذين لا يستقطبون إلى غيرهم بإغراء من إغراءات الدنيا مهما عظم.



ولا بد -أيضًا- أن يكون هادئًا سهلاً لبقًا في كلامه دبلوماسيًّا في حواره حتى يستوعب أهل يثرب ولا ينفرهم من الدعوة، ولا بد أن يكون متحمسًا لدعوته لا يكلّ ولا يملّ؛ لأن الوقت الذي يمر عليه هناك في يثرب وقت ثمين، ففي كل لحظة تمر يعاني المسلمون في مكة من آلام جديدة، وكذلك المسلمون في الحبشة يعانون ألم الغربة، وكلما أسرع هذا السفير في مهمته اقترب ميعاد النجاة من هذه الآلام.


مهمة عظيمة تحتاج لعظيم

مهمة مصعب بن عميرنظر رسول الله في أصحابه فوجد أن معظم صحابته تنطبق عليهم صفات السفير المطلوب، فقد كان هذا الجيل الأول حقًّا جيلاً فريدًا، لكنه مع ذلك اختار من بينهم رجلاً واحدًا وجد أنه أنسب الناس لهذه المهمة الجليلة الخطرة، فمن اختار؟



لقد اختار الصحابي الجليل المؤمن التقي الورع مصعب بن عمير ، ولماذا مصعب بن عمير بالذات؟



سبحان الله! لقد كان رسول الله حكيمًا لأبعد درجات الحكمة، عليمًا بالرجال إلى أبعد درجات العلم، فقيهًا في أمور الدعوة وأمور الدين وأمور الدنيا وأمور السياسة وأمور المعاملات إلى أبعد درجات الفقه.



بحثت في أسباب اختياره لمصعب بن عمير بالذات، فوجدتها أسبابًا كثيرة ومهمة جدًّا، ولا شك أن هناك أسبابًا غيرها، فأنَّى لنا أن نحيط بحكمة رسول الله ؟! اقرأ وتأمل:



أولاً: كان مصعب بن عمير من أعلم الصحابة، وكان يحفظ كل ما نزل من القرآن، ولم يشتهر عنه ذلك العلم لأنه مات مبكرًا، فقد مات في غزوة أحد سنة 3 هجرية، وكان رسول الله يقدم حفظة القرآن الكريم في كثير من الأمور، في الصلاة وفي السفارة وفي الإمارة وفي الزواج، بل كان إذا مات رجلان في غزوة وأراد أن يدفنهما في قبر واحد قدم أكثرهما حفظًا للقرآن.



والدعوة بالقرآن ليست كالدعوة بغيره من الكلام، شتان بين كلام الخالق وكلام المخلوق، شتان بين أن يذكر الداعية آية من القرآن بنصها كما نزلت، وبين أن يذكر معناها دون نصها، وخاصة في هذه البيئة الخبيرة بفنون اللغة وأصولها، والمدركة لإعجاز هذه الكلمات، مصعب بن عمير كان يحفظ كل ما نزل من القرآن، وقد أهّله ذلك لهذا المنصب الرفيع.



ثانيًا: كان مصعب بن عمير يتصف باللباقة والكياسة والهدوء والصبر وسعة الصدر والحلم، وكل هذه صفات محورية في الداعية الناجح. كثير من الدعاة يحملون علمًا غزيرًا وقرآنًا كثيرًا، لكنهم يفتقدون إلى الحكمة في توصيل هذا العلم، فظاظة الكلمات وغلظة النظرات تضع حاجزًا لا يكسر بين الداعية والمدعو، أما مصعب بن عمير فكان رقيقًا هادئًا متواضعًا ذكيًّا، ظهر كل ذلك من دعوته في يثرب كما سنرى، ولكن رسول الله بخبرته بالرجال رأى كل ذلك قبل أن نراه.



ثالثًا: كان مصعب بن عمير من أشراف أهل مكة، كان من بني عبد الدار الذي يحملون مفتاح الكعبة ويتوارثونه كابرًا عن كابر، وليس معنى هذا أن الإسلام يفرق بين صاحب الأصل الشريف وبين غيره من الناس، ولكن الرسول يراعي حالة أهل يثرب، ولا يريد أن يفتنهم، كيف يكون حالهم إذا ذهب إليهم رجل ضعيف بسيط، عبد أو حليف، قد يرفضون الاستماع إلى الدعوة أصلاً، ولكن مصعب بن عمير رجل يتشرف الشرفاء بمعرفته، وكان من أغنياء القوم قبل إسلامه، بل من أغنى أغنياء مكة، نَعَمْ هو ترك كل ذلك وأصبح الآن فقيرًا معدمًا، لكن الناس وخاصة في هذه البيئة لا ينسون الأصول، كما أنهم يعلمون أن مصعبًا لو أراد أن يعود إلى غناه وأمواله لكان هذا يسيرًا جدًّا، فيكفي أن يترك الإسلام ويعود إلى الأصنام وستفتح له أبواب الدنيا، فليس فقره عن اضطرار، ولكن عن رغبة واختيار.



رابعًا: سيكون مصعب بن عمير خير قدوة للشرفاء الذين يريدون الدخول في هذا الدين، يترددون بسبب ملكهم وأموالهم، فها هو رجل من الشرفاء الأغنياء اقتنع بهذا الدين ودخل فيه، وضحى بما يملك ورضي بالله ربًّا وبمحمد رسولاً وبالإسلام دينًا، وعندما يرى الناس قدوة حقيقية فإنها تكون أبلغ ألف مرة من الكلام النظري، كما أن الفقراء إذا رأوا ذلك علموا أن هذا الدين هو خلاصهم، فهو -حقيقة- يضم الغني والفقير ويضم الشريف والحليف ويضم العبد والحر، وهذا واقع مشاهد وليس أساطير تحكى.



خامسًا: سيكون إرسال مصعب بن عمير إلى يثرب إعلانًا واضحًا لأهل يثرب ومكة وغيرها أن هذا الدين ليس ثورة من الفقراء على الأغنياء، وسيسمع أهل الجزيرة كلهم بسفير رسول الله ، وستتضح الرؤية عند من غابت عنه لسبب أو لآخر، فما زال إلى يومنا هذا من على بصره غشاوة، فيعتقد أن دعوة الإسلام كانت لعوامل اقتصادية خاصة بالفقراء، فها هو السفير المسلم رجل كان غنيًّا واسع الغنى، ترك أمواله ليصبح مسلمًا وإن كان فقيرًا.



سادسًا: مصعب بن عمير رجل أثبت قدرته على الوقوف أمام فتنة الدنيا، ونجح في الاختبار الصعب التي قامت به أمُّه معه، فإن كان على رفض الدنيا من يد أمِّه قادرًا، فهو على رفضها من أيدي الآخرين أقدر، وبذلك يضمن رسول الله أنه لن يحيد عن الطريق وهو بمفرده على بُعد خمسمائة كيلو متر منه . روى الترمذي عن عمر بن الخطاب قال: نظر النبي إلى مصعب بن عمير مقبلاً وعليه إهاب كبش (جلد) قد تنطَّق به، فقال النبي : "انْظُرُوا إلى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ، لَقَدْ رَأَيْتُهُ بَيْنَ أَبَوَيْنِ يُغْدُوَانِهِ بِأَطْيَبِ الطَّعَامِ والشَّرَابِ، فَدَعَاَهُ حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى مَا تَرَوْنَ".



مصعب بن عميرسابعًا: أثبت أيضًا مصعب بن عمير قدرته على الوقوف أمام فتنة الرئاسة، فهو من بني عبد الدار ومكانته في قريش معروفة وزعامته فيه كانت وشيكة لولا ارتباطه بهذا الدين، ولو كان يريد الزعامة لظل على إشراكه ولم يدخل في الإسلام، وبذلك يطمئن رسول الله على الوضع في يثرب، وهذه مشكلة تواجه كثيرًا من الدعوات، فأحيانًا يتأثر الناس بالداعية الذي يدعوهم ويتبعونه بصورة تصيبه بالفتنة، فيفتن في قدراته وإمكانياته ويبدأ في الاستقلال عن الدعوة الرئيسية، وتكون بذلك فتنة كبيرة وانقسام في الصفوف، وذلك كله مردّه إلى حب الرئاسة والزعامة. أما إذا اطمأن رسول الله أن هذا الرجل لا تتحرك نفسه للزعامة والقيادة، فإن هذا الرجل -ولا شك- يصبح رجلاً مناسبًا في هذا المكان، وقد رأينا النجاح العظيم الذي حققه مصعب بن عمير في يثرب، ومع ذلك لم تتغير نفسيته، ولم يطلب ولاية في يثرب أو في غيرها، ولم ينظر أبدًا إلى أتباعه على أنهم نتاج عمله، بل ظل عالمًا أن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وهو على كل شيء قدير.



ثامنًا: كان مصعب بن عمير من المهاجرين إلى الحبشة الأولى والثانية، ولا ندري حقيقة متى عاد من الهجرة الثانية وكيف عاد، ولماذا هو بالذات الذي عاد، وقد بقي هناك بقية المهاجرين إلى العام السابع من الهجرة، ولعل رسول الله هو الذي طلبه للعودة، ولعله كان يريده لهذه المهمة النبيلة. وهجرة الحبشة -لا شك- قد أكسبت مصعبًا خبرة في التعامل مع الأغراب، والتعامل مع عادات وتقاليد مختلفة، فإن كان يستطيع أن يتعامل مع أهل الحبشة -وهم ليسوا عربًا أصلاً، ويدينون بدين لا ينتشر في مكة- فهو ولا شك يستطيع أن يتعامل مع أهل يثرب وهم من العرب ويدينون بدين مألوف له، بل كان هو ذاته من أهل هذا الدين قبل الإسلام، فمصعب يمتلك خبرة ربما لم تتوفر في غيره.



تاسعًا: هجرة الحبشة أيضًا أكسبت مصعبًا القدرة على ترك الديار ومفارقة الأهل والأحباب، لقد ألف مصعب أن يعيش بعيدًا عن بلده، ولا يدري أحدٌ كم ستأخذ مهمة دعوة أهل يثرب؟ وكم سيحتاج من الوقت هناك؟ فإذا كان هناك رجل قد علمنا أنه قد تعود على الغربة، فهذا هو الرجل المناسب.



عاشرًا: مصعب بن عمير كان يبلغ من العمر عند إرساله إلى يثرب حوالي خمسة وثلاثين عامًا، وهو سن قد بلغ فيه درجة من النضج والكفاية تؤهله لهذا العمل الكبير، فهو ليس شابًّا صغيرًا حتى يتهور ويندفع، وليس شيخًا مسنًّا حتى تصعب عليه الحركة والدعوة ويشق عليه ذلك.



لهذه الأسباب أو لبعضها أو لغيرها اختار رسول الله الصحابي الجليل مصعب بن عمير لأول سفارة في الإسلام، وعادت القافلة المباركة إلى يثرب، اثنا عشر أنصاريًّا ومهاجر واحد.



تحسبونهم قلة، لا والله بل كثيرًا، وسترى الأيام أن ما فعله هذا الرهط من الرجال قد فاق ما تفعله أجيال وأجيال.



كيف كان هؤلاء قبل الإسلام؟ كانوا لا شيء. كيف أصبحوا بعد الإسلام؟ أصبحوا ملء سمع الدنيا وبصرها، وتلك هي معجزة الإسلام الحقيقية، صناعة الرجال.. {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك: 22].



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة مكة - صفحة 3 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة مكة - صفحة 3 Empty مصعب بن عمير في يثرب

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:31 am

مصعب بن عمير في يثرب

مصعب بن عمير في يثربعاد الأنصار الاثنا عشر إلى يثرب ومعهم السفير القدوة مصعب بن عمير، وكانت يثرب منذ عام واحد غارقة في دم الأوس والخزرج؛ فقام الأنصار وضيفهم بجهد منظم ورائع يفوق الوصف، فماذا فعلوا؟



نزل مصعب بن عمير t في ضيافة أسعد بن زرارة الخزرجي t، وهو من أهل بيعة العقبة الأولى، بل من الستة الذين أسلموا أول الأمر على يد رسول الله r، ولم يكن يتجاوز الثلاثين عند إسلامه ولكن حكمته فاقت حكمة الشيوخ، ولم يبق في الإسلام إلا أربع سنوات فقط ولكنه قدم فيها ما لم يقدمه غيره في عشرات السنين.



كان أسعد بن زرارة t يأخذ مصعب بن عمير إلى كل بقعة في يثرب، يدخل به في كل بيت، في كل ملتقى، في كل شارع، في كل حديقة، لا يترك أحدًا إلا وقدم له مصعب بن عمير t، ثم يبدأ مصعب في التعريف بالإسلام وقراءة القرآن حتى عُرف مصعب في المدينة بالمقرئ. أدوار متكاملة، مصعب بغير أسعد بن زرارة لن يستطيع أن يحضر مجالس أهل يثرب، وأسعد بغير مصعب لا يستطيع أن يقنع الناس بحلاوة الإسلام، رجل يمهد الطريق وآخر يسير فيه، رجل يجمع المستمعين وآخر يخطب ويتكلم ويشرح ويفسر.



قد يعتقد بعض الناس أن الداعية هو الخطيب المفوه والمتحدث البليغ، لكن سبحان الله! لم يكن أسعد بن زرارة داعية بهذا التعريف، ولكنه داعية، وداعية عظيم، ولكن له وظيفة أخرى لا تقل أهمية عن وظيفة المقرئ مصعب بن عمير، وهذه فضيلة العمل الجماعي المنظم، دين الإسلام دين عظيم يستخدم كل المواهب لنفع الأرض ولخدمة الدين ولبناء الأمة. ويُحسب أيضًا لأسعد بن زرارة t أنه لم يكن يأخذ مصعب بن عمير لديار الخزرج فقط، بل كان يأخذه أيضًا إلى ديار الأوس، القبيلة التي ما جفت سيوفها بعدُ من دماء الخزرجيين، وكذلك ما جفت سيوف الخزرج من دماء الأوس، ولكنه تناسى تمامًا كل الشحناء والبغضاء القديمة، وأدرك حقيقة الدنيا وقيمتها بالنسبة للآخرة، فعلم أن التنافس على هذه الدنيا نوع من الحماقة وأن العمل للآخرة هو الذي يبقى، وعمله مع الأوس سيبقى كما سيبقى عمله مع الخزرج، بل لعله أثقل في ميزان الله U؛ لأنه أصعب، والأجر على قدر المشقة.


إسلام سعد بن معاذ وأسيد بن الحضير

ومن أجمل وأروع وأعظم ما حدث مع أسعد ومصعب هو دعوتهما لأسيد بن حضير ولسعد بن معاذ رضي الله عنهما، وهما سيدا بني عبد الأشهل من قبيلة الأوس، لقد ذهب أسعد بن زرارة بمصعب بن عمير إلى عقر دار الأوس، ذهبا إلى حديقة للأوس وجلس به هناك وجمع له ما استطاع من الخزرج، وأخذ مصعب بن عمير يقرأ لهم القرآن ويعلمهم الإسلام.



كل هذا وسادة الأوس في الحديقة: أسيد بن حضير وسعد بن معاذ، وكانا آنذاك على الشرك، سمع سعد بن معاذ بأمر مصعب وأسعد بن زرارة فغضب وهمَّ أن يذهب إليهما فيطردهما من الحديقة، ولكنه توقف لكون أسعد بن زرارة ابن خالته، فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير: اذهب إلى هذين اللذين قد أتيا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما، وانْهَهُما عن أن يأتيا دارينا، فإن أسعد بن زرارة ابن خالتي، ولولا ذلك لكفيتك هذا.



فأخذ أسيد حربته وأقبل إليهما، فلما رآه أسعد قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك، فاصدق الله فيه. وهذا أمر عظيم من أسعد t، فمصعب هو المقرئ وهو المعلم وهو السابق ولكن {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]. ويدل أيضًا على وضوح الرؤية عند أسعد t، وعلمه أن الهداية من عند الله. قال مصعب لأسعد: إن يجلس أكلمه. وجاء أسيد ووقف عليهما متشتمًا وقال: ما جاء بكما إلينا؟ تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة. كلام شديد وغليظ، ولكن هذا الكلام لم يستثر مصعب بن عمير ولم يستفزه، داعية حكيم، كما أن الكلام لم يستفز أسعد، ولو قيل هذا الكلام أيام جاهليته لسالت فيه دماء، ولكن هذا هو حِلْم الإسلام.



ثم تكلم مصعب فقال في هدوء عجيب: أوَ تجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته كُفَّ عنك ما تكره. فقال أُسَيْد بن حضير: أنصفت. ثم ركز حربته وجلس يستمع، وهذه نقطة لا بد أن تلفت الأنظار، لقد كان من الممكن أن يرفض أسيد السماع من الأصل، ولكن الواضح أنه ليس بمتكبر، ومن كانت هذه هيئته فيرُجى له الإيمان، ثم بدأ مصعب يتكلم بالإسلام ويقرأ القرآن، ووقعت كلمات الرحمن في قلب أسيد بن حضير، ما هذا الكلام؟ ما أروعه! كيف غاب عنه قبل ذلك؟ وظهرت انفعالات أسيد الداخلية على وجهه، حتى قال أسعد: فوالله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتهلله. لقد استضاء وجه أسيد لما نوَّر الله قلبه بالإيمان، الرجل هو الرجل ولكنه فقط آمن.



قال أسيد بن حضير: ما أحسن هذا وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟



أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول اللهيا الله! موقف عجيب، وإن الإنسان ليَحَارُ من موقف هذا الصحابي العظيم أسيد بن حضير، والحق أنني لا أستطيع أن أصف العظمة التي وصل إليها هذا الصحابي الجليل، هل أصف تواضعه الجمَّ؟ هل أصف رضوخه للحق عند أول ظهوره؟ هل أصف سرعة اتخاذه القرار في المواقف الحاسمة؟ الرجل كان يقف متشتمًا، مستعدًّا لقتال، متجهزًا لحرب، ثم سمع كلمات قلائل ماذا سمع؟ مهما سمع فكم عدد الكلمات التي سمعها؟ إنها قليلة، قليلة، ولكنها من كلمات الرحمن فغيرت كلية في كيان الرجل، وفي لحظة ترك دينه الذي عاش عليه سنوات وسنوات، ترك دين آبائه وأجداده، وقف معاديًا لكل مشركي الأرض بما فيهم قومه وعشيرته، موقف عظيم! عظيم، عظيم.



كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟



قالا له: تغتسل، وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين.



فقام واغتسل، وطهر ثوبه، وتشهد، وصلى ركعتين.



الآن أصبح أسيد بن حضير مسلمًا، سبحان الله، بهذه السهولة، شعر أسيد بن حضير بحلاوة الإيمان، وأراد أن ينقل هذه الحلاوة إلى أحبابه، لم يصبح مسلمًا فقط بل أصبح داعية.



قال أسيد: إن ورائي رجلاً، إن تبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرشده إليكما الآن. يقصد من؟ يقصد سعد بن معاذ سيد الأوس، وقام أسيد بن حضير t وأخذ حربته وانصرف إلى سعد بن معاذ وجاءه وهو يجلس بين قومه، وسعد بن معاذ رجل ذكي لماح، فقال بعد نظرة واحدة إلى أسيد: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم. وصدق سعد، لقد ذهب بوجه كافر وعاد بوجه مؤمن، وشتان.



فلما وقف أسيد على القوم قال له سعد: ما فعلت؟



هنا أخذ أسيد بن حضير t يفكر، لو ذكرت له أنني آمنت بالله وبالإسلام، فقد يغضب ويثور، وليست المشكلة في غضبه وثورته أنه قد يؤذيني، ولكن المشكلة أنه لن يسمع ما سمعت، فماذا أفعل؟ فقرر أسيد بن حضير أن يقوم بحيلة يدفع بها سعد بن معاذ دفعًا إلى مجلس مصعب بن عمير، وهو على يقين أنه إن سمع ما سمع فسوف يؤمن، فهذا كلام لا يقاومه عاقل.



قال أسيد: كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأسًا، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت. ثم بدا لأسيد أن يكذب كذبة تدفع سعدًا إلى مجلس مصعب وأسعد بن زرارة، فقال: وقد حُدِّثْتُ أن بني حارثة (فرع من الأوس) خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتك ؛ ليخفروك.(أي يريدون إهانتك وتقليل شأنك)، فقام سعد مغضبًا وأخذ حربته وخرج إليهما.



فلما ذهب إلى هناك وجدهما يجلسان في أمان، وليس هناك أثر لبني حارثة أو غيرهم فأدرك أن أسيدًا فعل حيلة حتى يدفعه إليهما، فرآه أسعد من بعيد فلم يجزع، ولكن قال لمصعب: جاءك والله سيدٌ، من ورائه قومه، إن يتبعك لم يتخلف عنك منهم أحد.



فلما ذهب إليهما سعد بن معاذ وقف عليهما متشتمًا ورفع صوته عليهما وهو يخاطب أسعد بن زرارة t ويقول: والله يا أبا أمامة، لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رُمْتَ هذا مني، تغشانا في دارنا بما نكره؟



سعد بن معاذهنا تدخل مصعب للحديث ولم يعطِ فرصة لأسعد للرد حتى لا يتأزم الموقف، فقال في حكمة: أوَ تقعد فتسمع؟ فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره. قال سعد بن معاذ: أنصفت.



الله أكبر! يبدو أنه من نفس طبيعة أسيد بن حضير t.



فركز سعد بن معاذ حربته ثم جلس فتكلم مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن، ووقعت الكلمات في قلب سعد بن معاذ كما وقعت في قلب أسيد بن حضير t، حتى قال أسعد بن زرارة t: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتهلله. ثم قال سعد بن معاذ: كيف تصنعون إذا أسلمتم؟



سبحان الله! هذا القرآن عجيب، والله عجيب.. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].



فعلاً القرآن شفاء، وهل هناك مرض أشد من الكفر؟ وها هو سعد بن معاذ t يتحول من كافر لا يساوي عند الله شيئًا إلى مؤمن يهتز عرش الرحمن لموته، كيف؟ بالقرآن، بالإسلام، باتباع الرسول r، بتغيير الهدف والوجهة، بدلاً من كل أعراض الدنيا، أصبح الهدف هو الله والجنة.



كيف تصنعون إذا أسلمتم؟



قالا: تغتسل وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين.



ففعل ذلك سعد وأصبح مسلمًا.



وكما تحول أسيد بن حضير t من كافر إلى مؤمن إلى داعية، فكذلك تحول سعد بن معاذ من كافر إلى مؤمن إلى داعية، وإذا كان أسيد بن حضير t قد دعا رجلاً واحدًا هو سعد بن معاذ t، فإن سعد بن معاذ فعل ما هو أعجب من ذلك، لقد أخذ حربته وأقبل على قومه الذين كان يجلس معهم منذ ساعة أو أقل، فلما رأوه لاحظوا الفرق الهائل في شكله وهيئته فقالوا: نحلف بالله، لقد رجع بغير الوجه الذي ذهب به. وقف عليهم سعد بن معاذ وقال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟



قالوا: سيدنا، وأفضلنا رأيًا، وأيمننا نقيبةً.



قال سعد في صرامة ووضوح: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله.



مفاصلة كاملة عجيبة، الرجل زعيم وسيد وأمير، له وضع اجتماعي مرموق جدًّا، ماذا يحدث لو رفض قومه كلامه؟ إنه سيصبح وحيدًا وسيختارون سيدًا غيره، ولكن سبحان الله، لقد أصبحت الدنيا بأسرها في عين سعد تافهة حقيرة قليلة، ثم إنه منذ قليل رأى قدوة حسنة مرت بنفس التجربة ونجحت.



رأى مصعب بن عمير t الفتى الذي كان مدللاً مترفًا منعمًا ولكنه كان مشركًا، رآه الآن قد تخشّف جلده وتخشنت ثيابه ولكنه أصبح مؤمنًا عالمًا تقيًّا ورعًا، اشتاقت نفسه أن يكون على هذه الصورة البهية، اشتاقت نفسه أن يترك حياة اللهو والمال والسيادة والدنيا إلى حياة الجد والجهاد والدين والجنة، عظمت في عينه الأهداف، وشعر أن ما مضى من حياته كان عمرًا ضائعًا، وأصبح كل همه ألاّ يضيع عمره الباقي.



إن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله.



مفاصلة كاملة، فماذا كانت النتيجة؟ انظر وتأمل:



يقول الراوي: فما أمسى فيهم رجل ولا امرأة إلا مسلمًا ومسلمة إلا رجلاً واحدًا تأخر إسلامه إلى يوم أُحُد وهو الأصيرم.



وانظر وتعجب.. لقد أدخل سعد بن معاذ قبيلة بأكملها في الإسلام، قبيلة بأكملها، برجالها ونسائها وأطفالها وخيولها وسلاحها وأرضها، سبحان الله! أي نصر وأي تمكين هذا الذي فعله الله U للمؤمنين بين لحظة وأخرى، كنا في لحظة ما عشرات، فأصبحنا في اللحظة التالية مئات ومئات، لحظة التمكين بيد الله U، مهما ضعف المسلمون فالله قادر أن ينزل نصره في لحظة وبالطريقة التي يريد، ولكن المهم أن يعمل المسلمون كما عمل مصعب وأسعد، وسينزل نصر الله U برجل مثل سعد وبقبيلة أو جماعة أو دولة مثل الأوس.



ثم انظر.. أي أجر هائل حصله سعد بن معاذ t في لحظة واحدة، إنها الدعوة يا إخواني، الإيمان الذي آمنه بنو عبد الأشهل، والصلاة التي يصلونها والزكاة التي يدفعونها والجهاد الذي يجاهدونه والخير الذي يقومون به، هم وذرياتهم ومن كانوا سببًا في إسلامهم، كل هذا في ميزان سعد بن معاذ t، فتخيل. ثم إن كل ذلك في ميزان أسيد بن حضير t الذي أتى بسعد بن معاذ t، ثم إن كل ذلك في ميزان مصعب وأسعد -رضي الله عنهما- اللذين دعوا أسيد بن حضير إلى الإسلام.



روى الإمام مسلم عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: "مَنْ دَعَا إلى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إلى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا".



لذلك يقول الله U: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إلى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصِّلت: 33].


حصاد العام المبارك

استمر مصعب وأسعد وأسيد وسعد وغيرهم في دعوة أهل يثرب، وتحولت تلك البقاع إلى خلية نحل نشيطة، الكل يعمل في الدعوة إلى الله، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، بل أصبح المسلمون هم غالبية أهل البلد، وأصبح وضع الإسلام مستقرًّا إلى حدٍّ كبير في هذا البلد الجديد.



كل هذا الخير في أقل من عام، عام واحد فقط، منذ عام واحد فقط كان المبايعون من الأنصار اثني عشر رجلاً، ومن عام قبله كان المسلمون من الأنصار ستة فقط، ومن عام قبله كان عام الحزن بكل ما فيه من جراح والآم وأحزان، فانظر كيف يدبر الله لعباده المؤمنين.



وعاد مصعب بن عمير t قبل موسم الحج في العام الثالث عشر من البعثة إلى مكة ليشرح الموقف لرسول الله r، ونقل له الأخبار السعيدة بإيمان الأنصار ووضح له منعة المدينة (يثرب) ومنعة رجالها وقوة بأسها وسلاحها، وعرفه مواطن القوة فيها، ومفاتيح التغيير في رجالها، وأصبح رسول الله r وهو بمكة وكأنه يرى يثرب شارعًا شارعًا، ويعرف رجالها رجلاً رجلاً؛ وبذلك يستطيع أن يأخذ القرار المناسب في الوقت المناسب استنادًا إلى قاعدة معلومات موثَّقة.



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة مكة - صفحة 3 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة مكة - صفحة 3 Empty مباحثات رسول الله مع بني عامر بن صعصعة وبني شيبان

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:33 am

مباحثات رسول الله مع بني عامر بن صعصعة

مع أن كل القبائل التي عرض رسول الله عليها الإسلام رفضت الدعوة، إلا أنني أود أن أقف عند حواره مع قبيلتين فقط من هذه القبائل لما في هذا الحوار من دروس لا تقدر بثمن، أول هذين القبيلتين، قبيلة بني عامر، وهي قبيلة كبيرة قوية عزيزة، وهي من القبائل القليلة في جزيرة العرب التي لم تعرف في تاريخها سبيًا لنسائها، ولا إتاوة تدفع لغيرها، والمباحثات معها في غاية الحساسية، وقد ذهب إليهم رسول الله ومعه صاحبه الصديق وعرض عليها الإسلام، وحسنه في قلوبهم، استمعوا إليه وأنصتوا، ثم تكلم زعيم من زعمائهم يخاطب بقية الزعماء، ويخاطب في نفس الوقت رسول الله ، هذا الزعيم هو بيحرة بن فراس، قال: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب.



إذن هو يعلم أن هذه الرسالة سيكون لها شأن كبير، ويرى أنه لو كان حاميًا لها مدافعًا عنها فإنه سيأتي وقت سيسيطر فيه على العرب أجمعين، وهذا وإن كان يدل على بعد نظر هذا الرجل إلا أنه يشير بوضوح أيضًا إلى أنه رجل انتهازي نفعي لن يستجيب إلى هذه الدعوة اقتناعًا بقيمتها، ولكن فقط حبًّا في الرئاسة والزعامة والسيطرة، وهذا خطر عظيم. ثم إنه صرح بهذا الأمر علانية فقال لرسول الله : أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟



ها هو يصرح بوضوح أنه يريد الأمر لنفسه وقبيلته بعد ظهور رسول الله ، لكنه يجعل ذلك بعد موت رسول الله ، وهذا قد يعدُّ في نظر السياسيين من أهل الدنيا نصرًا وتمكينًا، فالرجل سوف يدافع عن رسول الله حتى يظهر رسول الله ، وسيترك له الأمر طيلة حياته، ولكنه يساوم على زعامة الأمر بعد وفاة الرسول ، ولو كان رسول الله يبحث عن التمكين لنفسه لكان هذا عرضًا مغريًا جدًّا، لكن رسول الله كان شديد الحساسية لأولئك الذين يطلبون زعامة أو رئاسة، فقال له رسول الله في هدوء عجيب وفي ثقة متناهية: "الأَمْرُ إلى اللَّهِ، يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ". الولاية تكون لمن يستحقها، لا يوسد الأمر في الإسلام لغير أهله، ولا يمكن قبول إسلام بني عامر نظير أن تكون زعيمة ولو بعد عشرات السنين. لقد كان رسول الله يعطي كل شيء نظير إسلام الناس إلا الرئاسة والزعامة؛ لأن القائد للقوم يسير بهم، ويدبر شئونهم، فإن كان في نفسه هوى سار بهم بهواه، وهكذا يَضِلّ ويُضَلّ؛ لذلك كان رسول الله يعطي المال الكثير للناس حتى يتألف قلوبهم، ولو طلبوا مالاً أكثر أعطاهم وأعطاهم وأعطاهم، لكن لو طلبوا ولاية ما أعطاهم ولو كانوا من أعز أصحابه أو أقرب أقربائه.



مسئولية الإمارة في الإسلامروى الإمام مسلم عن أبي ذر الغفاري قال: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلاَ تَسْتَعْمِلْنِي؟ فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مِنْكَبِي ثُمَّ قَالَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا".



وروى البخاري ومسلم عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ : "يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، لاَ تَسْأَلِ الإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا".



بل صرح رسول الله بما هو أوضح من ذلك، فلم يجعل الأمر على سبيل النصيحة فقط بل جعله تشريعًا؛ روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ أَنَا وَرَجُلاَنِ مِنْ بَنِي عَمِّي، فَقَالَ أَحَدُهُمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمِّرْنَا عَلَى بَعْضِ مَا وَلاَّكَ اللَّهُ . وَقَالَ الآخَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ :"إِنَّا وَاللَّهِ لاَ نُوَلِّي هَذَا الْعَمْلَ أَحَدًا سَأَلَهُ، أَوْ أَحْدًا حَرَصَ عَلَيْهِ".



ففتنة الزعيم لا تعود عليه وحده بل تعود على الأمة جميعها، فالزعيم الحريص على زعامته سيرتكب كل الموبقات من أجلها، سيكذب ويزور ويقتل ويمالئ العدو، الزعيم الذي يحيا لدنياه يهمل دنيا الناس، وإذا اتخذ قرارًا ظالمًا فسيظلم به شعبًا كاملاً، وإذا مشى في طريق خاطئة فسَيُسَيِّر الناس كلهم وراءه؛ لأجل هذا رفض رسول الله شرط بيحرة بن فراس، رفضه وهو في أمسِّ الحاجة إليه، رفضه مع حالة الضعف والقلة والوحدة، ولكنها قواعد واضحة وأسس ثابتة يرسمها لنا أحكم خلق الله .



وبالطبع رفض بيحرة وبنو عامر الانضمام لرسول الله ، وقال في تعجب: أَفَتُهْدِفُ نُحُورَنَا لِلْعَرَبِ دُونَكَ، فَإِذَا أَظْهَرَكَ اللَّهُ كَانَ الأَمْرُ لِغَيْرِنَا؟ لاَ حَاجَةَ لَنَا بِأَمْرِكَ.



وهكذا فشلت مباحثات الرسول مع بني عامر.


مباحثات رسول الله مع بني شيبان

أما المباحثات الثانية المهمة التي أريد أن أقف عليها، فهي مباحثات رسول الله مع بني شيبان، وهي قبيلة كبيرة عزيزة تسكن في الشمال الشرقي لجزيرة العرب يعني قريبة من العراق، وقد ذهب إليهم الرسول ومعه صاحبه الأمين أبو بكر الصديق .



بدايةً، بدأ أبو بكر بفحص القبيلة على المقاييس المطلوبة فسأل: من القوم؟ قالوا: شيبان بن ثعلبة. اهتم أبو بكر جدًّا بالأمر فهو الرجل الخبير بالأنساب ويعلم من هؤلاء، فالتفت أبو بكر إلى رسول الله وقال في اهتمام: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، هؤلاء غُرَر الناس. ليس هذا فقط بل لما سأل عن أسماء الحضور وجدهم أحسن الناس في بني شيبان، كان فيهم مفروق بن عامر وهانئ بن قبيصة والنعمان بن شريك والمثنى بن حارثة، وهؤلاء هم أعظم رجال بني شيبان، فالمباحثات ستتم على مستوى الرؤساء والوزراء، فبدأ أبو بكر يسأل عن القوة والمنعة في القبيلة. والحق أنه لا يسأل ليعرف، فبنو شيبان معروفة جيدًا له، ولكنه يستثير فيهم الحمية والعزة ويلمس وترًا حساسًا جدًّا في قلوب العرب.



قال أبو بكر الصديق : كيف العدد فيكم؟



فقال مفروق المتحدث الرسمي في الوفد: إنا لنزيد على الألف، ولن تُغْلَبَ ألف من قلة (ويبدو أن رقم ألف هذا كان رقمًا كبيرًا جدًّا في أعرافهم؛ لأنهم كانوا قبائل متفرقة، ولا ننسى أن المسلمين في بدر كانوا أكثر من ثلاثمائة بقليل، وكان الكافرون ألفًا فقط).



فاستثاره أبو بكر قائلاً: وكيف المنعة فيكم؟ يعني هؤلاء رجال أشداء، أم مجرد عدد.



شعر مفروق أن هذه إهانة، فبدأ صوته يعلو، قال: إنا لأشد ما نكون غضبًا حين نلقى (أي في الحرب)، وأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله يديلنا مرة ويديل علينا أخرى.



محمد رسول اللهكلام في منتهى الحكمة، فهو وإن كان اندفع متحدثًا عن مآثر قومه وعزتهم إلا أنه اندفاع موزون فهو قد نسب النصر لله -وكانوا يؤمنون به ولكن يشركون معه الأصنام- وذكر أن الحرب دول، فيوم لهم ويوم عليهم، وهذا عين الحكمة.



ثم إن مفروقًا انتبه إلى كثرة أسئلة الصِّدِّيق، فقال في ذكاء ودراية: لعلك أخو قريش؟ أي لعلك هو أنت الرجل الذي ظهر في قريش يدعو إلى أمر جديد يقصد رسول الله ؛ فمفروق كان قد سمع بأمر رسول الله ، وشعر أن الذي يسأل هو ذاك الرجل، لكن الذي كان يتكلم في كل هذا الذي سبق كان الصديق .



الصديق أراد أن يكسب نقطة في الحوار، قال: أوَقد بلغكم أنه رسول الله؟ قالها وكأنه يريد أن يذكر لهم حقيقة مؤكدة، ولكن مفروقًا انتبه إلى كلمة الصديق فردَّ في سرعة: قد بلغنا أنه يذكر ذلك. وهذا ذكاء منه؛ لأنه لم يسمع بعدُ من رسول الله ، فلم يرد أن يعترف بأنه رسول قبل أن يسمع منه، لكن الحقيقة أن مفروقًا كان رجلاً مؤدبًا مهذبًا -وكل وفد بني شيبان كذلك- التفت مفروق للرسول وقال: وإلامَ تدعو يا أخا قريش؟



قال رسول الله وبدأ يعرض دعوته، قال: "أَدْعُو إلى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَإِلَى أَنْ تُئْوُونِي وَتَنْصُرُونِي".



ثم إن رسول الله أدرك بذكاء أنه سيدور بخلدهم سؤال مهم: وهو لماذا لا تقوم بهذا الدور قريش وهي القبيلة القوية المنيعة؟ فأسرع رسول الله يبرر ذلك ويقول: "فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ تَظَاهَرَتْ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، وَكَذَّبَتْ رَسُولَهُ، وَاسْتَغْنَتْ بِالْبَاطِلِ عَنِ الْحَقِّ، وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ". أي أنه قال لهم بوضوح: المطلوب منكم أن تواجهوا قريشًا، ويبدو أن مفروقًا قد أعجبه كلام رسول الله ولم يكن خائفًا من قريش، لكنه أحب أن يعرف أكثر عن هذا الدين الجديد، فقال: وإلامَ تدعو يا أخا قريش؟



فكر الرسول أن يقرأ عليه قرآنًا، ولكن ماذا يختار من كل القرآن الذي نزل عليه؟ لقد وجد الرسول مفروقًا ومن معه ذوي أخلاق سامية، فاختار لهم آيات قرآنية تحضُّ على الأخلاق الحميدة، حتى يقف معهم على أرضية مشتركة، وهذا فكر راقٍ جدًّا.



قرأ لهم من سورة الأنعام قال: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 151- 153].



سواء من حلاوة المعاني أو من حلاوة اللغة، شعر أن هذا إعجاز، فأراد أن يعرف أكثر، قال: وإلام تدعو أيضًا يا أخا قريش؟



فقال رسول الله ضاربًا على نفس الوتر: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].



تأثر مفروق جدًّا بالقرآن، وقال في منتهى الصراحة: دعوت يا أخا قريش والله إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال (ثم أخذ يذم قريشًا)، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك.



من الواضح أن مفروقًا أعجبه الإسلام، لكن مفروقًا زعيم من مجموعة من الزعماء، والقرار ليس في يده وحده فأحب أن يسمع رأي أصحابه، فقال: وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا (وطبعًا الواضح أن هانئ بن قبيصة كان عنده خلفية دينية أوسع، فأحب أن يأخذ رأيه).



وهانئ بن قبيصة -أيضًا- أعجبه الإسلام، وليس عنده أي اعتراض عليه، لكنه كان خائفًا من اتخاذ قرار جريء مثل هذا القرار، فهذا سيترتب عليه دخول بني شيبان في حرب ليس مع قريش فقط، بل مع كل العرب؛ فقال: لقد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وإني أرى أن تركنا ديننا، واتباعنا إياك على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر، لَوَهنٌ في الرأي وقلة نظر في العاقبة، وإنما تكون الزَّلَّة مع العجلة، ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقدًا، ولكن ترجع ونرجع، وتنظر وننظر.



أبو بكر الصديقهو انسحاب مهذب من هانئ، فهو لم يطعن في كلام رسول الله ولكنه طلب الرَّوِيَّة في الأمر، وسبحان الله! مع جمال كلامه ودقة ألفاظه إلا أنني أجد موقف الصِّدِّيق في إيمانه أعظم بكثير من موقف هانئ. نعم، الرويَّة في الأمر شيء طيب، لكن عندما يكون الحق واضحًا بهذه الصورة ثم لا تُقْدِم عليه بِعِلَّة التَّروِّي فهذا لا يُسمى ترويًا، ولكن يسمى ترددًا وغيابًا للحكمة وقلة في الثقة بالنفس، أما الصديق فإنه لم يتردد ولو للحظة واحدة عند رؤية الحق، ولذلك أصبح الصديق صديقًا.



المهم أن هانئ بن قبيصة عبر عن رأيه كفرد، وأنا أعتقد أن هذا كان انسحابًا مهذبًا من هانئ. إذن كان مفروق موافقًا وهانئ مترددًا ويميل إلى عدم الموافقة. والآن إذا كان الأمور سيكون فيها حروب سيصبح رأي وزير الحربية في بني شيبان مُهِمًّا وضروريًّا، فمَن وزير الحربية لديهم؟



إنه المثنى بن الحارثة، قال هانئ: وهذا المثنى بن الحارثة شيخنا وصاحب حربنا.



والمثنى بن الحارثة فارس مغوار وعقلية عسكرية فذة، وأصبح بعد عدة سنوات عندما أسلم من كبار الفاتحين الإسلاميين، لكن الآن وهو ما زال كافرًا فإن له حساباتٍ تختلف عن حسابات المؤمنين، قال المثنى بن حارثة: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة. يعني هو مع عدم التسرع في دخول الإسلام، لكنه بدأ يضيف معلوماتٍ جديدة في المباحثات، بدأ يتحدث عن الوضع العسكري لبني شيبان، وكلامه عن الوضع العسكري كلام مهم للغاية، وسيجعله في نهاية الأمر يتجه لاتخاذ قرار خطير، وسنرى ماذا قال المثنى: وإنا إنما نزلنا بين صَرَيَيْنِ: اليمامة والسماوة (الصَّرَى: هو تجمع المياه، يعني: نحن بين تجمُّعين للمياه وبالتالي تجمُّعين للبشر). قال رسول الله : "ما هذان الصريان؟".



قال المثنى بن حارثة: أنهار كسرى ومياه العرب. أي تجمع دولة فارس وتجمع القبائل العربية؛ لأن قبيلة بني شيبان كما قلنا كانت على حدود العراق، والعراق كانت مملكة فارسية في ذلك الوقت، أما الجزيرة العربية ففيها عشرات القبائل. ماذا يريد أن يقول؟ يريد أن يقول: إن إمكانياته محدودة، وسيعرض عرضًا خطيرًا.



قال: فأما ما كان من أنهار كسرى (أي دولة فارس) فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول، وأما ما كان من مياه العرب فذنبه مغفور وعذره مقبول.



يعني بعبارة أوضح: نحن لا نستطيع إغضاب كسرى فارس، فالخطأ في حقه غير مقبول، أما العرب فنحن نقدر عليهم.



هذا الكلام -لا شك- واقعي جدًّا، كان مفروق يقول منذ قليل: نحن أكثر من ألف؛ لذا فنحن نقدر على العرب كلهم، أما جيش فارس فأكثر من مليونين من الجنود، الفجوة هائلة بالفعل، ومن كانت حساباته مادية فقط فمن المستحيل أن يقف أمام فارس. وفوق هذا فإن توقعات المثنى أن كسرى فارس لن تعجبه دعوة الإسلام هذه، فاعرفْ يا محمد أنه لو اعترض كسرى فارس فنحن لن ننصرك ضده، انظر ماذا يقول:



وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى، أن لا نحدث حدثًا ولا نُؤْوي محدثًا -لا نخترع شيئًا جديدًا، ولا ندافع عن أحد جاء بشيء جديد- وإني أرى أن هذا الأمر مما تكرهه الملوك. أي أن هذا الإسلام الذي يعبِّد الناس جميعًا لإله واحد، وينزع الحاكمية من أيدي الملوك ويعطيها لله الواحد الأحد، هذا أمر تكرهه الملوك، إلا من رحم اللهُ. وصدق المثنى، فماذا يريد المثنى أن يقول في النهاية؟ في آخر الحديث لخص المثنى كلامه في قرار في منتهى الجرأة، فقال: فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا.



يا الله! هذا انتصار كبير، لقد وافق المثنى بن حارثة على قبول الإسلام، بل قبول الدفاع عن رسول الله ضد كل العرب، ولكن فقط اشترط شرطًا واحدًا أنه إن اعترض كسرى فارس فهو لن يتدخل.



وفي عرف السياسيين من أهل الدنيا، هذا انتصار هائل. وانظر، رسول الله ، وهو الذي يطارد حتى في مدينته الصغيرة مكة ومن أهله وأقاربه، وليس معه إلا حفنة قليلة من الأصحاب المضطهدين، وبقية أصحابه مهاجرون إلى الحبشة، وهو في إجارة رجل كافر، ثم يعرض عليه أن يدافع عنه ضد كل القبائل العربية، والعرض مقدم من قبيلة قوية "بني شيبان"، ثم الاشتراط الوحيد: عدم حرب فارس إذا اعترضت على دعوة رسول الله .



والإنسان قد يفكر ويقول: وأين أنا الآن من فارس؟ عندما يأتي وقت فارس نفكر فيها، أما الآن فأمامنا فرصة الدعوة في كل الجزيرة العربية في حماية بني شيبان.



فماذا قال الرسول ؟



لقد رفض الرسول عرض المثنى بن حارثة.



سبحان الله! لماذا؟ اسمعْ وتأملْ.



لقد قال رسول الله في أدب جمٍّ: "مَا أَسَأْتُمُ الرَّدَّ إِذْ أَفْصَحْتُمْ بِالصِّدْقِ". أي أنكم أحسنتم عندما عرضتم إمكانياتكم بوضوح، ثم قال جملة في منتهى الروعة وهي قانون رئيسي في بناء أمة الإسلام، قال: "فَإِنَّ دِينَ اللَّهِ لَنْ يَنْصُرَهُ إِلاَّ مَنْ حَاطَهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ".



هي قاعدة عظيمة يعلمنا إياها رسول الله (إِنَّ دِينَ اللَّهِ لَنْ يَنْصُرَهُ إِلاَّ مَنْ حَاطَهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ).



لن ينصر الإسلام من ينتقي من الإسلام شيئًا ويترك أشياء، فهذا لا يعرف معنى الإسلام، لا يعرف معنى العبودية لله ، العبد لا ينتقي من كلام سيده. من ينتقِ وفق مزاجه إنما يعبد هواه لا الله، فرسول الله رفض؛ لأنه ليس هؤلاء الذين يستطيعون حمل الدعوة، رسول الله يريد رجالاً يقول لهم: الله أمركم بكذا، فينفذوه حتى لو كانت عقولهم غير مستوعبة، الله قال حاربوا فارس، لا يقول أحد منهم: أين نحن من فارس؟ جاهدْ في سبيل الله، يقول: لا أستطيع. ادفعْ في سبيل الله، يقول: لا أستطيع. صلِّ الفجر في سبيل الله، يقول: لا أستطيع. صِلْ رحمك في سبيل الله، يقول: لا أستطيع. إذن أين الدين؟



وما معنى العبودية إذن؟ (إِنَّ دِينَ اللَّهِ لَنْ يَنْصُرَهُ إِلاَّ مَنْ حَاطَهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ). يا الله! قاعدة هائلة. ثم قال لهم الرسول في يقين رائع: "أَرَأَيْتُمْ إِنْ لَمْ تَلْبَثُوا إِلاَّ قَلِيلاً حَتَّى يُوَرِّثَكُمُ اللَّهُ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ، وَيُفْرِشَكُمْ نِسَاءَهُمْ، أَتُسَبِّحُونَ اللَّهَ وَتُقَدِّسُونَهُ؟"



أي أن أمة فارس ستنهار تحت أقدام المسلمين قريبًا، ماذا ستفعلون ساعتها؟ هل ستدخلون الإسلام؟



فقال النعمان بن شريك زعيمهم الرابع: اللهم لك ذا.



لكن لا شك أن السابق المقاتل قبل الفتح ليس كاللاحق المقاتل في زمن التمكين. وسبحان الله لم يمر على كلام الرسول أكثر من 15 سنة حتى كانت جيوش المؤمنين تدكُّ حصون فارس وتزلزل عرش كسرى. والغريب جدًّا أن المثنى بن حارثة الذي كان خائفًا من كسرى فارس، صار بعد إسلامه من قوّاد الجيوش التي أزاحت كسرى فارس عن مُلكه، ولكنَّ المثنى بن حارثة بعد إسلامه كان إنسانًا مختلفًا تمامًا عن المثنى قبل الإسلام، وهذه هي عظمة الإسلام، وصدق الرسول الكريم {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النَّجم: 3، 4].



ثم قرأ رسول الله قول الله : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إلى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45، 46]. فقد قام الرسول برسالته حيث بشر وأنذر، ثم نهض من مجلسه وقال لأبي بكر الصديق وهو معجب بأخلاق بني شيبان -حتى مع رفضهم للدخول في الإسلام- قال: "يَا أَبَا بَكْرٍ، أَيَّةُ أَخْلاَقٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، مَا أَشْرَفَهَا! بِهَا يَدْفَعُ اللَّهُ بَأْسَ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ، وَبِهَا يَتَحَاجَزُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ".



ومع فشل تلك المفاوضات إلا أن الرسول لم يجزع ولم يحزن، فالقواعد في ذهنه واضحة جدًّا، يرى الأمور والأوضاع على حقيقتها، لا يفرط، ولا يتنازل، لا يخدعه أحد أو يخوفه، يعلمنا كيف نبني أمتنا، ومن غير هذه القواعد من المستحيل بناء الأمة، ولهذا ندرس السيرة.



انتقل الرسول مباشرة إلى مجلس مجموعة صغيرة قليلة من الرجال سمعهم يتكلمون، وكان رسول الله لا يترك كبيرًا ولا صغيرًا ولا كثيرًا ولا قليلاً إلا دعاه للإسلام، فمن يا تُرى هؤلاء القوم؟ وماذا دار بينهم وبين رسول الله ؟



هذا ما سنعرفه في المقال التالي إن شاء الله.



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة مكة - صفحة 3 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة مكة - صفحة 3 Empty بنود بيعة العقبة الثانية

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:35 am

بنود بيعة العقبة الثانية

قال رسول الله فيما رواه الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: "تُبَايِعُونَنِي عَلَى:



1- السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ.

والسمع في النشاط مقبول، ولكن السمع في الكسل صعب، وكان من الممكن أن يقول رسول الله تبايعونني على السمع والطاعة وليسكت، ولكن الغرض هو توضيح الرؤية تمامًا؛ ليؤخذ قرار حمل الأمانة على بصيرة.



2- وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ.



3- وَعَلَى الأَمْرِ بِالْمَعْرِوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.



4- وَعَلَى أَنْ تَقُومُوا فِي اللَّهِ لاَ تَأْخُذُكُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ.



5- وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إِذَا قَدِمْتُ إِلَيْكُمْ، وَتَمْنَعُونْي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ".


وقفات مع بنود البيعة

وانتهى البيان القوي العجيب، ولنا مع هذا البيان وقفات:



أولاً: البيان في منتهى الوضوح، ليس هناك مجال للتراضي أو للتمييع أو لسوء الفهم أو للغموض، هذه طبيعة الدعوة بكل صراحة وبكل وضوح، من أراد أن يحملها على هذه الصورة فقد فاز ورشد، ومن ظن أنها سهلة هينة فقد خاب ظنه، إنه الاختبار الصعب الشاق الذي وصفه ربنا بقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142].



ثانيًا: شتان بين ما طلبه رسول الله من الأنصار في بيعة العقبة الأولى وما طلبه منهم في بيعة العقبة الثانية، في الأولى كان الرسول يبني فردًا مسلمًا مؤمنًا يتصف بعقيدة سليمة وبأخلاق حميدة وخصال فاضلة، لا يسرق، لا يزني، لا يقتل، وهذا كله حسن وجميل، بل رائع، ولكن أن تبني أمة، فأنت تحتاج لما هو أعلى وأرقى، تحتاج لبذل وعطاء وكفاح وعرق ودماء، تحتاج لمكابدة، لصبر، لقوة تحمل، لتجرد، تحتاج لمن باع نفسه وماله ووقته وجهده وحياته كلها لله .



طاعة في النشاط والكسل، نفقة في العسر واليسر، أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، القيام في الله دون أن تأخذك فيه لومة لائم، الدفاع عن دين الله وعن سنة الرسول كما تدافع عن نفسك وزوجتك وأولادك، هذا هو الذي يحمل فوق أكتافه أمة.



أما أن يكتفي المؤمن بالاعتقاد الصحيح وبالصلاة والصوم واجتناب الكبائر من سرقة وزنا وقتل ويصبح صالحًا في ذاته فقط، وليس له علاقة بإصلاح المجتمع من حوله، فهذا جزء من الإسلام، وجزء محدود؛ لأنه ترك معظم الإسلام، والناس تحتاج لمن يقودها إلى الخير، والإسلام يريد من يدافع عنه، وما أكثر من يعتدي على حرمات المسلمين، فلا بد أن يوجد جيل يدافع عن حرمات المسلمين، وهذا الذي كان الرسول يريده في بيعة العقبة الثانية، يريد الأمة الصالحة القوية وليس فقط الفرد الصالح القوي، ولهذه الأسباب فإن رسول الله جعل الجهاد هو ذروة سنام الإسلام، هو أعلى ما فيه، ويكفي أن البيعة الأولى والتي اهتمت ببناء الفرد المسلم -ولكن دون جهاد- قد عرفت في التاريخ ببيعة النساء، بينما عرفت بيعة العقبة الثانية بشروطها الصعبة بأنها بيعة الحرب وبيعة الجهاد.



ثالثًا: يتضح أيضًا من بنود هذه البيعة مبدأ التدرج في التربية عند رسول الله ، فمنذ عام مضى طلب رسول الله من الأنصار أمورًا معينة كانت في مقدور الرجل حديث الإسلام، والآن بعد عام من الدعوة والإيمان والقرب من الله يطلب أمورًا أعلى، وستمر الأيام ويأتي وقت يطلب فيه ما هو أعلى وأعلى مثل القتال في بدر، ومثل بيعة الرضوان التي عرفت في التاريخ ببيعة الموت.


رد الأنصار

ألقى رسول الله بيانه وكان في انتظار رد الأنصار، والوفد كان برئاسة البراء بن معرور ، نعم البراء لم يسلم إلا منذ أيام قلائل، لكنه كان سيد القوم بل قيل إنه رئيس الوفد اليثربي بكامله مسلمين ومشركين، وإن كان الأصح أن رئيس الوفد بكامله كان عبد الله بن أبي بن سلول. قام البراء بن معرور الذي لم يؤمن إلا منذ أيام قلائل، ولكن سبحان الله لقد تمكّن الإيمان من قلبه تمكنًا عظيمًا، وجدناه يتحدث -وهو يلقي كلمة وفد الأنصار- وكأنه قد قضى في محاضن التربية الإسلامية سنوات وسنوات، ولكنا -سبحان الله- ما عدنا نستغرب ذلك من الأنصار، هذا الإيمان العميق من طبيعة الأنصار، هذا العطاء بلا حدود من طبيعة الأنصار، رأيناه من قبل في أسعد بن زرارة ، ورأيناه في سعد بن معاذ ، ورأيناه في أسيد بن حضير، ورأيناه في عبد الله بن حرام ، ورأيناه في غيرهم، وسنراه في مواقف أخرى كثيرة، رضي الله عن الأنصار.



قام البراء بن معرور يتكلم عن وفد الأنصار، فقال وهو آخذ بيد رسول الله كما جاء في مسند الإمام أحمد رحمه الله: والذي بعثك بالحق نبيًّا، لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا (أي نساءنا)، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحرب، وأبناء الحلقة، ورثناها كابرًا عن كابر.



نلاحظ اشتياق الأنصار إلى البيعة، فهم لا ينظرون إليها على أنها تكليف خطير، ولكن على أنها تشريف وتمجيد ورفعة.



ولكن -سبحان الله- والبراء يتكلم ولم ينتهِ من كلامه بعد، اعترض كلامه رجل عظيم من الأنصار هو أبو الهيثم بن التيهان ، وهو من الصحابة الأجلاء، اعترض كلامه بخطاب موجه إلى رسول الله ، قال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال (يعني اليهود في المدينة) حبالاً وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟



هذا كلام في منتهى الخطورة، ولنا معه أكثر من تعليق:



أولاً: أن هذه مباحثات وليست أوامر من اتجاه واحد، والجندي قد يعرض رأيه من زاوية ومن زاوية أخرى يناقش ويحاور، ولكن إذا اتخذ قرارًا ما فالكل يعمل على تنفيذه، لكن الآن في هذا الموقف نحن في المرحلة التي تسبق القرار، ولا بد من التثبت من كل نقطة.



ثانيًا: موقف الأنصار خطير فعلاً، فهم على معاهدات مع اليهود، وسيقومون بقطع هذه المعاهدات ووقف العلاقات الدبلوماسية مع اليهود، واليهود يحيطون بالمدينة المنورة إحاطة السوار بالمعصم، وهم من أهل الحروب وصناع السلاح وأصحاب قوة اقتصادية هائلة، ويمتلكون التجارة والصناعة والزراعة بل والماء، والأنصار الآن سيتحدون مع رسول الله في جبهة واحدة، ولكن ماذا يحدث لو تركهم رسول الله بعد انتصاره على مكة في يوم من الأيام؟ ماذا سيفعلون مع اليهود آنذاك؟ سيكون الموقف في غاية التأزم.



وقد يقول قائل: إن هذا الاعتراض فيه تعدٍّ على رسول الله ؛ لأنه يفترض حدوث أمر هو ليس من الأمور الطيبة، والرسول لا يأتي منه إلا طيب، ولكن سبحان الله، إن هذا الاعتراض يزيد من قوة الميثاق، ويزيد من قيمة البيعة، وهو بمنزلة التوثيق لكل بند من بنودها. وإذا كان أبو الهيثم بن التيهان متأكدًا من أن الرسول سيبقى معهم، فمن أدراه أن هناك رجالاً من الأنصار المشاركين في البيعة في نفوسهم هذا القلق من موقف اليهود ومن مستقبل المدينة، فهو إن أثار هذه النقطة الآن فسيغلق كل أبواب الشيطان على نفوس الأنصار، والرسول بصدره الرحب وفقهه الواسع يقرأ كل هذه الأفكار ويقدر كل هذه المشاعر، فماذا فعل إزاء هذا الاعتراض، أتراه قيَّد هذه الحرية؟ أتراه قال: إن في هذا تطاولاً على القيادة؟ أتراه قال: كيف لا تحسن الظن يا أبا الهيثم في قولي وفعلي وأنا من أنا؟ أبدًا، إن رسول الله تبسَّم! نعم تبسَّم، ثم قال: "بَلِ الدَّمَ الدَّمَ، وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ، أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي، أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ".



هل نقص من قدر القيادة شيء عندما اعترض أحد الجنود على نقطة ما يريد توضيحها؟ أبدًا، القيادة الواثقة من نفسها لا يجب أن تغضب لهذا، بل تشجعه، حتى يخرج كل الجنود ما في صدورهم، فيقفوا إلى جانب القادة وهم يشعرون بأنهم معها وهي معهم، أو كما قال رسول الله : "أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي".



يذكرني هذا الموقف بموقف آخر على النقيض تمامًا منه، مسئول كبير في أحد البلاد العربية وقف يرد على تعليق ذكره أحد المعترضين عليه، يذكر المعترض أن البلد ليست في الرخاء الذي يذكره المسئول الكبير، بل فيها كذا وكذا من المشاكل الاقتصادية، فقال المسئول الكبير بلهجة حادة: الأمر ليس كذلك، يكفي أنك تعترض ثم تعود إلى بيتك آمنًا. وكأن الأصل أن الذي يعترض ويناقش يحبس ويجرم ويعزر، فإذا تُرك يعترض -فقط يعترض- دون أن تقيد حريته فهذا فضل ومِنّة!



أين هذا من موقف رسول الله ؟! وهو أحكم البشر وسيد الخلق وهو النبي المرسل، وهو الرسول الذي يوحى إليه، وهو المعصوم، ومع كل هذه المقومات يقبل الاعتراض ويبتسم وينفي عن نفسه الاتهام بالتخلي عن الأنصار عند النصر والتمكين، هكذا في بساطة.



وتفكر معي، كيف كان أبو الهيثم بن التيهان قبل اعتراضه في نفسية حائرة، وأفكار مضطربة، ثم كيف أصبح بعد كلام رسول الله في وضع مستقر ونفسية هادئة.


قاعدتان لبناء الأمم

والرسول يقرر في كلامه هذا قاعدتين أصيلتين في بناء الأمم:


القاعدة الأولى

هي أن كل إنسان -أي إنسان- قابل للمناقشة وللحساب وللاستجواب ولعرض الرأي وللمعارضة؛ لأنه في النهاية بشر، والبشر قد يخطئون، بل لا بد أن يخطئوا، إلا الذين عصمهم الله وهم الأنبياء.


القاعدة الثانية

هي أنه إذا شعر الجندي أن القائد معه في الخندق، يعاني مما يعاني منه ويشكو مما يشكو منه ويتألم منه، فإن الجندي يبذل أقصى وسعه لخدمة القضية التي من أجلها جلس هو والقائد في خندق واحد، أما إذا شعر الجندي باستعلاء القائد وتكبره، وسعادته وقت حزن الجنود، وترفه وقت بؤس الجنود، وأمنه وقت خوف الجنود، وشبعه وقت جوع الجنود، وراحته وقت تعب الجنود، إذا شعر الجندي بكل هذا فإنه يفقد كل حماسة لخدمة القضية التي من أجلها وقف وحيدًا في خندقه، يصبح جسدًا بلا روح، لو واتته الفرصة لينكص على عقبيه لفعل، بل قد يغدق الأموال ويدفع الرشاوي حتى يهرب من الجندية لماذا؟ لأنه فقد مصداقية القائد، وفقد قدوة القائد.



لا، لا، رسول الله ليس كذلك، رسول الله القائد العطوف الحنون الرءوف الرحيم: "بَلِ الدَّمَ الدَّمَ وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ، أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي، أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ".



وعندما قال رسول الله هذه الكلمات نزلت بردًا وسلامًا على الأنصار، فقاموا يبايعون وهم مطمئنون، ولكن حدث أمر عجيب، لقد قام العباس بن عبادة بن نضلة الخزرجي -وهو من رجال بيعة العقبة الأولى ومن السابقين- قام ليخاطب قومه، وكأنه يريد أن ينبه الناس لخطورة ما هم يقدمون عليه، قال العباس بن عبادة : هل تدرون علامَ تبايعون هذا الرجل؟



قالوا: نعم.



فقال العباس بن عبادة موضحًا لهم: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس (أي كل الناس)، فإن كنتم ترون أنكم إذا نُهِكَت أموالكم مصيبةً، وأشرافُكم قتلاً أسلمتموه، فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نَهْكَة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة.



يريد العباس بن عبادة أن يوضح الرؤية للأنصار، يشرح لهم بالتفصيل طبيعة المعركة، وطبيعة المرحلة، النصر ليس أمرًا سهلاً قريبًا، طريق النصر مليء بالأشواك والجراح والآلام، طبيعة المعركة بين الحق والباطل أن يفقد أهل الحق أموالهم، وأن يفقد أهل الحق أشرافهم، وأن يفقد أهل الحق كل شيء، كل شيء.



ولا بد أن يصبروا، فإذا بلغ الألم إلى أقصاه وثبت المؤمنون وصبر الصابرون جاء النصر لا محالة {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].



سمع الأنصار هذه الكلمات من العباس بن عبادة فزادتهم قوة إلى قوتهم، وإيمانًا إلى إيمانهم، وقالوا في إصرار: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف.


الأنصار يرضون بالثمن

ثم نظر الأنصار إلى رسول الله يسألونه عن الثمن، الثمن لمصيبة الأموال، وقتل الأشراف، الثمن للطاعة المطلقة لله ولرسوله في النشاط والكسل، الثمن للنفقة في العسر واليسر، الثمن للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الثمن للقيام لله دون أن تأخذهم فيه لومة لائم، الثمن لنصرته وحمايته مما يحمون منه أنفسهم ونساءهم وأبناءهم، الثمن لحرب الأحمر والأسود من الناس، الثمن لكل هذه التضحيات.



قالوا: فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفّينا بذلك؟



قال: الجنة.



يا الله! الجنة، الجنة وفقط، الثمن لكل هذه التضحيات الجنة، لم يعد بأي شيء آخر، لم يعد بدولة، ولا بتمكين، ولا بنصر، مع أن هذا كله سيحدث لا محالة، ولكن قد لا تراه، لكن قد تموت شهيدًا قبل التمكين بسنوات، قد تموت طريدًا شريدًا معذبًا، ولكن في النهاية، أنت إلى الجنة ذاهب {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} [التوبة: 111].



سمع الأنصار الثمن، فازدادوا حماسة، واشتاقت قلوبهم للجنة، فقالوا في صوت واحد: ابسط يدك يا رسول الله.



فبسط يده ، فقاموا يريدون المبايعة، لكن قام الصحابي الجليل السابق المجاهد الواعي أسعد بن زرارة ، وأمسك يد رسول الله يبعدها عن أيدي الأنصار، ثم قال: رويدًا يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله.



قال أسعد يوضح: وإن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تَعَضَّكم السيوف، فإما أنتم تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فهو أعذر لكم عند الله.



الصحابي الجليل أسعد بن زرارة يؤكد على نفس المعنى من جديد، الأمر ليس نزهة، من أراد أن يحيا حياة آمنة يعبد الله في بيته ومسجده، لا يسرق ولا يزني ولا يقتل ولكن ليس له علاقة بتمكين دين الله في الأرض ولا بالجهاد في سبيل الله ولا بالدعوة إلى الله ولا بالعمل الدءوب لله، ولا بالتضحية من أجله، فعليه أن يبايع بيعة النساء، هذه تكفيه، أما من أراد أن يبايع بيعة الرجال، وبيعة الحرب، فعليه أن يفقه هذه البيعة فقهًا جيدًا.



يحذرهم أسعد بن زرارة أن يتسرعوا، احسبوا خطواتكم، فالفرار من الزحف أمر خطير، والتخلي عن نصرة الدين أمر شنيع، يقول لهم هذا الكلام وهو أصغرهم سنًّا ، فما أعظم شباب الأنصار!



لكن الأنصار كانوا قد سمعوا الوعد: الجنة فما عادوا يطيقون صبرًا، ما بينهم وبين الجنة إلا أن يبايعوا، قام الأنصار يتسارعون وقالوا: يا أسعد، أمط عنا يدك (أبعد عنا يدك)، فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها.



يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: فقمنا إليه رجلاً رجلاً، فأخذ علينا البيعة يعطينا بذلك الجنة.



حتى النساء -المرأتان اللتان شاركتا في هذه المباحثات- بايعتا بيعة الحرب، السيدة نسيبة بنت كعب أم عمارة، والسيدة أسماء بنت عمرو رضي الله عنهن، ولكن البيعة لهما كانت مشافهة بالكلام، فما صافح رسول الله امرأة أجنبية قط.



وهكذا تمت البيعة الخالدة، البيعة التي غيرت من وجه الأرض، ومن يومها والأنصار يعرفون بالأنصار، أصبح اسمًا ملاصقًا لهم، جاء الأنصار، ذهب الأنصار، قام الأنصار، قعد الأنصار، هكذا أصبحوا أنصار الله، وأنصار رسوله ، وأنصار هذا الدين، والثمن الجنة.



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة مكة - صفحة 3 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة مكة - صفحة 3 Empty عودة الأنصار إلى المدينة بعد البيعة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:35 am

حرية الانتخاب من قواعد الإسلام

حرية الانتخاب في الإسلامتمت بيعة العقبة الثانية وسيعود الأنصار إلى بلادهم لكي يمهدوها لاستقبال خير البشر ومن معه من المهاجرين، ولتكون العاصمة الأولى لدولة الإسلام، لكن كيف سيتابع رسول الله أمر الأنصار بعد ذلك، هل يرسل معهم رجلاً كما أرسل مصعب بن عمير من قبل؟ كلا، لقد نضج الأنصار نضجًا كافيًا يجعلهم أهلاً لإدارة أمورهم بأنفسهم، فهل يختار رسول الله زعيمًا عليهم؟



لا، لقد كان رسول الله حكيمًا إلى أبعد درجة في تعامله مع هذا الأمر، لقد أقر قاعدة عظيمة من قواعد الحكم في الإسلام وهي قاعدة الانتخاب، على الشعب أن ينتخب ممثليه انتخابًا حقيقيًّا ليس فيه تدخل من القائد الأعلى، ولا من أتباع القائد الأعلى، لقد قال رسول الله للأنصار: "أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمْ اثَنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا؛ لِيَكُونُوا عَلَى قَوْمِكُمِ بِمَا فِيهِمْ".



لم يتدخل رسول الله ولم يتدخل المؤمنون السابقون، ولكن الحرية كاملة للأنصار في اختيار ممثليهم، وجلس الأنصار معًا يجرون عملية الانتخاب، وقد جلس الأوس والخزرج لأول مرة في تاريخهم، يختارون حكومة ائتلافية، كانوا من قبل يتصارعون ويتقاتلون ويذبح بعضهم بعضًا، ثم آمنوا، فانظر إلى حالهم، وقد وضعوا أيديهم على أكتاف بعضهم البعض، يختارون حكومة شرعية للمدينة المنورة، قائد الحكومة هو رسول الله ، ودستور الحكومة هو الكتاب والسنة، وجند الحكومة هم الأنصار والمهاجرون، عما قليل سيصبح للإسلام دولة.



الأوس والخزرجإن الذي جمع الأوس والخزرج هو توحيد الغاية والهدف، عندما كان الكرسي هدفًا والقيادة مطلبًا كان الخلاف والنزاع الذي لا نهاية له، وعندما أصبحت الجنة هي الهدف وهي الغاية وهي الثمن، علم الجميع أن جنة الأوس هي جنة الخزرج هي جنة المهاجرين هي جنة كل المسلمين، وانقلب التنافس على الكرسيّ إلى التنافس على الجنة {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26].



وقد علم الجميع أن الوحدة والألفة طريق للجنة، وأن الفرقة والتشرذم طريق للنار، فجلس الجميع معًا منذ علموا هذه الحقيقة {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103].



وفي دقائق معدودة انتخب الأنصار نوابهم، وتم الانتخاب بنسبة التمثيل في البيعة، فكان الخزرج يمثلون خمسة وسبعين في المائة من المبايعين، وكذلك كان نوابهم يمثلون خمسة وسبعين بالمائة من النواب.


نقباء الخزرج

1- أسعد بن زرارة ، وهو من أوائل المسلمين من الأنصار، وهو الذي جعله الله سببًا في إسلام معظم الأنصار.



2- البراء بن معرور .



3- عبد الله بن عمرو بن حرام ، وهو من شهداء أحد.



ولنا وقفة مهمة مع هذين الاسمين، فهما وإن كانا حديثي الإسلام، إلا أنهما من سادة الخزرج سابقًا، والإسلام يحفظ للناس مكانتهم ووضعهم، ولم يقل لهما أحد إنكما لا تعرفان ما نعرف، بل وجد الأنصار في البراء بن معرور وعبد الله بن حرام -إلى جانب مهارتهما القيادية- فِقْهَ الأنصار السابقين إلى جانب الوضع الاجتماعي والمكانة المرموقة لقواد يثرب القدماء. وهكذا لا ينتقص الإسلام من قدر أحد بل يحافظ عليه ويستفيد منه.



4- سعد بن عبادة وهو أيضًا من سادات الخزرج المشهورين.



5- عبادة بن الصامت الصحابي الجليل المشهور.



6- سعد بن الربيع من أكابر الصحابة وأفضلهم، وهو من شهداء أحد.



7- عبد الله بن رواحة الصحابي المشهور الشاعر الشهيد، وهو من شهداء مؤتة.



8- رافع بن مالك ، وهو الذي كان يقول: ما أحب أني شهدت بدرًا ولم أشهد العقبة. وحجته في ذلك أنه لولا العقبة ما كانت بدر ولا غيرها.



9- المنذر بن عمرو ، وهو من شهداء يوم بئر معونة.



هؤلاء هم نقباء الخزرج.


نقباء الأوس

1- أسيد بن حضير ، الصحابي الجليل ومن أوائل الذين أسلموا من الأوس.



2- سعد بن خيثمة ، وقد استشهد في بدر.



3- أبو الهيثم بن التيهان ، وقيل بدلاً منه: رفاعة بن عبد المنذر.



ويختفي من هذه الأسماء البطل الإسلامي العظيم سعد بن معاذ ، الذي لم يستطع أن يحضر هذه المباحثات وهذه البيعة في مكة.



وبعد هذا الانتخاب الحر عقد رسول الله اجتماعًا مهمًّا على مستوى القمة مع هؤلاء النواب وقال لهم في هذا الاجتماع: "أَنْتُمْ عَلَى قَوْمِكُمْ بِمَا فِيهِمْ كُفَلاءُ كَكَفَالَةِ الْحَوَارِيِّينَ لِعِيسَى بِنْ مَرْيَمَ، وَأَنَا كَفِيلٌ عَلَى قَوْمِي". يعني المسلمين من أهل مكة.



فقالوا: نعم.



وبهذا يستطيع رسول الله أن يدير الأمور بكفاءة، ولم يكتف بذلك بل طلب من نقباء المدينة أن يختاروا واحدًا منهم يكون بمنزلة نقيب النقباء، فاختاروا أصغرهم، وهو أسعد بن زرارة . وواضح أنه شاب موهوب صاحب ملكات فذة أهلته لهذا المنصب الرفيع، كما لم يعفِ رسول الله نفسه من المسئولية، فجعل نفسه كفيلاً على المسلمين من أهل مكة، بمعنى أنه يتحمل أعمال هؤلاء، ويتكفل بأمورهم أمام الأنصار.



وهكذا انتهت مراسم البيعة الفريدة المباركة بنجاح، بل نجحت نجاحًا ما كان أحد يتخيله. كل هذا النجاح يتم في عقر دار المشركين، ووسط الأعداد الهائلة من أعداء الله ، وصدق الله إذ يقول: {إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38].


اختيار موفَّق

ونظرة سريعة على سيرة هؤلاء الأنصار بعد ذلك تجد أمورًا عظيمة ذات مغزى:



- قُرابة السبعين من هؤلاء -أي تقريبًا معظمهم- اشترك في غزوة بدر الكبرى.



- حوالي نصف العدد قد اشترك مع الرسول في كل المشاهد والغزوات.



- حوالي الثلث مات شهيدًا في سبيل الله.



أربعون بالمائة من النقباء ماتوا شهداء في سبيل الله (خمسة من اثني عشر)؛ مما يدل على أنهم كانوا ينظرون إلى القيادة على أنها مسئولية، لا مجرد تشريف أو منصب.



- لم يُؤْثَر عن أي واحد من هؤلاء الفرار لا في (أُحُد) ولا في (حُنَين ) ولا في غيرهما.



- لم يؤثر عن أي واحد من هؤلاء طلب للدنيا ولا للإمارة ولا للمال، وعندما وزع رسول الله الأموال الكثيرة على المسلمين في حُنين وخاصة المؤلفة قلوبهم، ولم يأخذ الأنصار شيئًا، قال لهم رسول الله : "أَلاَ تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَنْ يَذَهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَرْجِعُوا بِرَسُولِ اللَّهِ إلى رِحَالِكُمْ؟" فبكى الأنصار حتى أَخْضَلُوا لِحَاهُم، وقالوا: رضينا برسول الله قسمًا وحظًّا.



خلاصة القول أن الصدق الكامل في قلب الرسول ، وفي قلوب الأنصار المبايعين في هذه البيعة هو الذي كفل النجاح لهذه البيعة الفريدة، ولولا ذلك ما تمت وما اكتملت، {لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} [الأحزاب: 24]. إنهم صدقوا الله فصدقهم الله .


الشيطان يكتشف البيعة

لكن هل يأتي زمان لا تكون فيه حرب بين الحق والباطل؟ كلا، لا يمكن، هي سنة ماضية من سنن الله ، ولذلك لم يمرَّ الأمر دون تنغيص ودون خطورة، لقد اكتشف المعاهدة شيطان، سبحان الله! شيطان حقيقي، وكان الشيطان بالطبع أتعس مخلوق عرف بهذه البيعة.



روى ذلك الإمام أحمد عن كعب بن مالك وهو ممن شهد العقبة، قال: لَمَّا بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَرَخَ الشَّيْطَانُ مِنْ رَأْسِ الْعَقَبَةِ بِأَبْعَدِ صَوْتٍ سَمِعْتُهُ قَطُّ: يَا أَهْلَ الْجَبَاجِبِ (أي المنازل)، هَلْ لَكُمْ فِي مُذَمَّمٍ (يقصد محمدًا ، وكان الكفار لعنهم الله يطلقون على محمد اسم مذمم استهزاء به) وَالصُّبَاةُ مَعَهُ، قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى حَرْبِكُمْ؟



لقد أخذ رسول الله ومن معه من المؤمنين كل حذر ممكن لتأمين مكان المباحثات، ونجحوا بالفعل في الاختفاء عن أعين آلاف المشركين، ولكن كيف لهم أن يمنعوا الشيطان من مراقبة الحدث الكبير؟ لقد شاء الله أن يوجد هذا الشيطان، وكان الله يستطيع أن يصرفه عن هذا المكان وعن هذا الزمان، ولكنه لم يفعل، لماذا؟ الحكمة الكاملة لا يعلمها إلا الله ، ولكن ظهر لنا من وراء ذلك حكم وفوائد وعبر وأحكام، وسبحان الله الذي جعل من كل خطوة، وكل لحظة، وكل كلمة من رسول الله قدوة ودرسًا وتعليمًا للمسلمين.



لما صرخ الشيطان بهذا الصوت لينبه أهل مكة النيام لهذه البيعة الجليلة، قال رسول الله : "هَذَا أَزَبُّ الْعَقَبَةِ -أي شيطان العقبة- هَذَا ابْنُ أَزْيَبَ، اسْمَعْ أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ، أَمَا وَاللَّهِ لأَفْرُغَنَّ لَكَ".



ثم إن رسول الله علم أن قريشًا ستأتي بعد قليل إلى هذا المكان، فقال للأنصار بسرعة: "ارْفَعُوا إلى رِحَالِكُمْ". يريد لهم العودة إلى خيامهم حتى لا يُكشفَ أمرهم، لكن قام له صحابي جليل هو العباس بن عبادة ، وقال قولاً رائعًا يدل على مدى صدقه وتضحيته وتجرده.

قال: والذي بعثك بالحق، لئن شئت لنميلَنَّ على أهل مِنًى غدًا بأسيافنا.



يا الله! انظروا إلى صدق العباس بن عبادة وشجاعته، إنه يقول لرسول الله لا يهمك من اكتشاف أمرنا، لو أردت أن نقاتل الآلاف المؤلفة من أهل منًى المشركين لفعلنا. لقد فقه العباس بن عبادة معنى الطاعة لله ولرسوله، وفقه معنى البذل والفداء، وفقه معنى الجهاد في سبيل الله، هو الذي كان منذ لحظات يوضح للأنصار بكلامه البديع حقيقة المعركة حيث قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، وها هو الفعل يصدق القول، مع أن القتال في مِنًى لم يكن من الأمور التي بايع عليها الأنصار، لقد بايعوا على حماية ونصرة رسول الله إذا ذهب إلى المدينة المنورة، أما وهو في مكة فلم يتفق على حرب بها، ولكن العباس بن عبادة يبحث عن الثمن، يبحث عن الجنة، والجنة تأتي بجهاد في المدينة كما تأتي بجهاد في مكة، فبماذا رد عليه رسول الله ؟ لقد قال في وضوح: "لم أؤمر بذلك".



وهذا هو فقه الموازنات وفقه الواقع، فلو تَقَاتَل الأنصار الآن مع المشركين فلا شك أنهم سيبادون عن آخرهم، نعم سقطوا شهداء، ولكن أين الدولة؟ وأين الدعوة؟ وأين التخطيط لنصر وتمكين وسيادة هذا الدين؟ لقد رأى رسول الله أن الزمان ليس مناسبًا وكذلك المكان ليس مناسبًا، وسيأتي وقت يستعد فيه المسلمون استعدادًا أفضل وسيكون ساعتها النصر أرجى، لكن الآن، لو اندفع المسلمون إلى حرب غير مدروسة وغير محسوبة، فلن تكون هناك هجرة، ولن تكون هناك بدر، ولن تكون هناك أمة، ليس جبنًا أو تفريطًا ولكن فقهًا وحكمة.



عاد الأنصار بالفعل مسرعين إلى رحالهم، ودخلوا في فراشهم دون أن يدري بهم أقاربهم وأصحابهم من مشركي يثرب، وناموا معهم بقية الليل، وكأن شيئًا لم يكن.


الخبر يبلغ قريشًا

ثم جاء الصباح، وقد سمع أهل قريش بخبر اجتماع الرسول بأناس من الوفد اليثربي، فاجتمع زعماء قريش وكوَّنُوا وفدًا عالي المستوى، وذهبوا يخاطبون رئاسة الوفد اليثربي والمتمثلة في عبد الله بن أُبيّ بن سلول المشرك.



قالوا: يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حيٍّ من العرب أبغض إلينا من أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم.



والحقُّ أن طريقة اعتراض قريش كانت دبلوماسية إلى أقصى درجة، فقد قدمت بالود والعاطفة والرجاء، فقد أعلنوا أنهم يكرهون معاداتهم ولا يحبون الاختلاف معهم! ولكن في الوقت نفسه فإن هذا العرض الودي يحمل بين طياته تهديدًا خفيًّا خطيرًا، فهم يعلنون لهم أنهم إن ثبت التعاون بينهم وبين رسول الله ، فإن النتيجة هي الحرب، وقريش ليست بالقبيلة الهينة، بل هي أعز قبيلة في العرب وحلفاؤها كثر، إذن هذا إنذار بالحرب مغلف في ثوب من الحرير.



هنا هبَّ مشركو يثرب يدافعون عن أنفسهم، وبالفعل هم لا يدرون شيئًا عن البيعة فقد تمت في سرية تامة، ولذلك قام الوفد اليثربي يقول: نحلف بالله ما كان من شيء، وما علمناه. فذهب المشركون من قريش إلى عبد الله بن أبي بن سلول زعيم الوفد اليثربي، فقام يقول في حميَّة: هذا باطل، وما كان هذا، وما كان قومي ليفتاتوا عليَّ مثل هذا، لو كنت بيثرب ما صنع قومي هذا حتى يؤامروني.


ذكاء الأنصار وفطنتهم

ماذا كان موقف الأنصار مما يحدث؟



لقد نظر بعضهم إلى بعض في صمت وكأنهم لا يعرفون شيئًا، بل حاول كعب بن مالك أن يخرج بالحوار عن هذا الموضوع حتى يشغل قريش ويلطف الموقف، فنظر إلى الحارث بن هشام بن المغيرة أحد ممثلي وفد قريش وهو أخو أبي جهل لعنه الله، وكان يلبس نعلين جديدين، فقام يخاطب عبد الله بن حرام زميله المسلم ويقول: يا أبا جابر، أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من سادتنا نعلين مثل نعلي هذا الفتى من قريش. فسمعها الحارث، فخلع نعليه ورمى بهما إلى كعب بن مالك وقال: والله لتنتعلهما. فقال أبو جابر: أحفظت والله الفتى، فاردد عليه نعليه. فقال كعب بن مالك : والله لا أردهما.



مع العلم أن كعب بن مالك من أغنياء يثرب، ولكن كان له نظرتان في هذا الأمر، فهو من جانب يريد أن يشغل قريش بهذا الحديث عن أمر الأنصار المسلمين، ومن جانب آخر فإن كعب بن مالك قد استبشر بامتلاك شيء من ممتلكات المشركين، وقال: والله لئن صدق الفأل لأسلبنَّه. أي لو صدق الذي تفاءلت به ليأتين يوم نحارب فيه المشركين وننتصر عليهم ونسلب ممتلكاتهم، وسبحان الله! مرت الأيام وجاءت بدر واشترك كعب بن مالك في الغزوة وانتصر وجمع الغنائم، واشترك الحارث بن هشام بن المغيرة في المعركة أيضًا وخسر وفقد أملاكه فاستلبه المسلمون، بل وفقد أخاه أبا جهل في الموقعة، وصدق الفأل الحسن الذي ظنه كعب بن مالك ، وتأخر إسلام الحارث بن هشام إلى فتح مكة حيث أسلم وحسن إسلامه.



المهم في هذا الموقف أن المشركين من قريش اقتنعوا برد الوفد اليثربي وعادوا دون إحداث أية مشاكل معهم، ولكن عندما عاد المشركون دققوا النظر من جديد وقاموا ببعض التحريات علموا منها أنه كان بالوفد اليثربي مسلمون، بل وعرفوا أسماء بعض منهم.


المسلمون يلتزمون بعدم القتال

أسرع كفارُ قريشٍ إليهم ليدركوهم، فوجدوا أن الحجيج قد نفروا، فأسرعوا وراءهم فرأوا عن بعد سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو وهما من النقباء فطاردوهما، فاستطاع المنذر بن عمرو أن يهرب، ولكنهم أمسكوا بسعد بن عبادة سيد الخزرج، فقيدوه بالحبال وربطوا يده على عنقه وجعلوا يضربونه ويجرونه ويجذبونه من شعره حتى أعادوه إلى مكة.



موقف خطير، لقد أوذي الزعيم الخزرجي المؤمن في الله إيذاءً شديدًا، إنه الزعيم الذي لم يُهَن في حياته قط، ها هو يقيد ويضرب ويُجرُّ على الأرض، كم هو صعب طريق الجنة! والمسلمون في مكة ينظرون إلى أخيهم المؤمن وهو يضرب ولا يستطيعون حراكًا وكذلك رسول الله ؛ لأنهم لو تحركوا له لأثبتوا حدوث البيعة واللقاء بين رسول الله ووفد يثرب، وإلا لماذا يدافع المسلمون عن رجل من الخزرج؟ الموقف حرج للغاية، ثم إنه لو عاد الأنصار لنجدة سعد بن عبادة فستكون مهلكة، وهم كانوا بالفعل يستعدون للعودة إنقاذًا لأخيهم ونقيبهم وزعيمهم، ولو حدث قتال فإنه قد تفنى الطائفة التي قد تغير من خريطة العالم.



في هذا الموقف الخطير يخرج جبير بن المطعم بن عدي، والحارث بن حرب بن أمية أخو أبي سفيان وهما من المشركين يخرجان فيريان الموقف، فيسرعان إلى سعد بن عبادة ويجيرانه من كفار قريش؛ لأن سعد بن عبادة كان يجير لهما قوافلهما عند المرور بيثرب. وهكذا أنقذت القوانين المكية سعد بن عبادة ، ولم يجد أحد من المسلمين في ذلك غضاضة؛ لأنه كان إنقاذًا غير مشروط، فسعد بن عبادة استفاد من قوانين المجتمع المشرك دون أن يتنازل عن شيء من دينه وعقيدته، بل إننا ذكرنا فيما قبل أن الرسول نفسه قد دخل في جوار المطعم بن عديّ وهو مشرك، وهكذا كان التقاء المصالح واستغلالها سببًا في نجاة سعد .



وهكذا عاد سعد بن عبادة إلى قافلته، ومرت الأحداث بسلام، ووصل الأنصار إلى المدينة وبدءوا يمهدون الوضع هناك لاستقبال خير البرية وسيد البشر، وخاتم المرسلين محمد؛ وليستعدوا جميعًا لوضع النواة الأولى للعاصمة الأولى في الإسلام (المدينة المنورة).



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة مكة - صفحة 3 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة مكة - صفحة 3 Empty قريش تقرر قتل رسول الله

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:36 am

القلق يغزو قريشًا

قلق قريش من هجرة الصحابةلم تكن هجرة الصحابة غائبة عن أعين قريش، فإنها كانت ترقب الموقف على وجل، وكانت تُفاجَأ كل يوم بهجرة رجل أو رجلين أو عائلة، بل إن بعض الفروع من القبائل قد هاجرت بكاملها، وخلت كثير من ديار مكّة من سكانها، وقد أثر ذلك في قريش وزعمائه، فما منهم من أحد إلا وله قريب أو ابن مهاجر مما مزقهم بين الحب الفطريّ لأبنائهم وأقاربهم، وبين كراهيتهم وتغيظهم على هذا الدين الذي تسبب في هذا الفراق -من وجهة نظرهم، وإلا فإن جهلهم وعنادهم هو السبب في كل ما يحدث- كما أن انتشار الإسلام في الجزيرة سيسلب قريشًا زعامتها التي تكتسبها من رعايتها للكعبة؛ لأن الإسلام أيضًا يدعو لتعظيم البيت الحرام، كما سيقضي على تجارة بيع الأصنام والخمور وعلى الربا والبغاء.



ولم يكن يخفى على قريش أن الهجرة تمت إلى المدينة المنوّرة، بدليل ذهاب أبي جهل لإرجاع أخيه عياش بن أبي ربيعة من هناك، ولم تكن هجرة المؤمنين راحةً لأهل مكّة المشركين، أبدًا، كان المشركون يدركون أن المسلمين يهاجرون لبناء أمة مسلمة في المدينة المنوّرة، ولو تمَّ ذلك فلا شك أنهم سيعودون إلى مكّة، لا لمجرد السكن فيها، ولكن لحكمها، ووقت يحكمونها فلن يقبلوا أن يظل العرب وغيرهم يتحاكمون إلى( هُبَل) وسدنته، بل سيُحكِّمون رب العالمين كما علمهم رسول الله طوال ثلاثة عشر عامًا قضاها في مكّة لهذا الغرض.



ولذلك كان المشركون في أشد حالات اضطرابهم وقلقهم. أضف إلى ذلك علم أهل قريش ببأس الأوس والخزرج، وأنهم من أهل القتال وأن المدينة حصينة جدًّا، وأن المدينة تقع على طريق القوافل التجارية لأهل قريش والمتجهة من وإلى الشام، ومن ثَمَّ فإن المدينة تستطيع أن تخنق مكّة اقتصاديًّا، وكانت مكّة تتاجر بربع مليون دينار من الذهب سنويًّا مع الشام في رحلة الشتاء، وفوق كل ذلك فالطامَّة الكبرى لو آمنَ اليهود، وانضمت قوتهم إلى قوة المسلمين، وقد كان اليهود ذوي قوة كبيرة عسكريًّا وماديًّا، والعقل كان يرجح إسلام اليهود؛ لأنهم أهل كتاب ويؤمنون بالأنبياء، غير أن اليهود لا عقل لهم.



كل هذه الأمور جعلت أهل قريش في حيرة من أمرهم، وقد علموا أنه كلما مرَّ الوقت اقتربت ساعة الصفر التي سيغزو فيها المؤمنون مكّة، لكن زعماء قريش كانوا يدركون أيضًا أن ساعة الصفر هذه لن تكون إلا بعد أن يهاجر رسول الله إلى المدينة المنوّرة، ويوحّد صفوفه، ويجهّز جيوشه، ثم يأتي من جديد إلى مكّة. إذن فحجر الزاوية في الموضوع هو رسول الله ، والوسيلة الوحيدة لوقف خطر المؤمنين الداهم هو السيطرة على رسول الله ، ولكن كيف ورسول الله من بني هاشم القبيلة العزيزة الشريفة؟!


قريش تقرر قتل رسول الله

قريش تقرر قتل رسول اللهحَارَ القرشيون المشركون، فقرروا عقد اجتماع عاجل لكبار الزعماء في مكّة لتدارس هذا الأمر، وذلك في دار الندوة، المقر الرئيسي لاجتماعات قريش.



وفي صباح يوم الخميس 26 صفر من السنة الرابعة عشرة للبعثة، تم عقد أخطر اجتماع في تاريخ دار الندوة، وكان اجتماعًا طارئًا حضره ممثلون عن كل القبائل القرشية عدا بني هاشم، وكانت أبرز الأسماء في هذا الاجتماع الخطير:



- أبو جهل بن هشام عن قبيلة بني مخزوم.



- شيبة وعتبة أبناء ربيعة، وأبو سفيان بن حرب عن بني عبد شمس.



- النضر بن الحارث عن بني عبد الدار.



- أبو البختري بن هشام عن بني أسد.



- أمية بن خلف عن بني جمح.



- جبير بن مطعم عن بني نوفل.



- نبيه ومنبه ابنا الحجاج عن بني سهم.



وغيرهم، والجميع كانوا من قريش؛ لأنه لم يكن مسموحًا لأحد من غير قريش أن يدخل دار الندوة، ولم أجد دليلاً صحيحًا يؤكد القصة التي جاء فيها أن إبليس قد حضر معهم الاجتماع في صورة الشيخ النجديّ، وإن كان -في رأيي- أنه أحيانًا تسبق شياطين الإنس بأفعالها شياطين الجن، ألم تروا أن الله قد قدم ذكر شياطين الإنس في عداوتهم للأنبياء على شياطين الجن، فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112].



تم الاجتماع الآثم، وبدأت الأفكار الإجرامية تخرج من زعماء قريش، وتطرح للمداولة، منهم من اقترح أن يقيدوه في بيته بالحبال، فلا يستطيع هجرة ولا حراكًا، ومنهم من اقترح نفيه خارج مكّة إلى مكان بعيد، وكانت هذه الأفكار الإجرامية تخرج من الطائفة التي يسمونها بالمعتدلين من زعماء قريش، لكن كانت هناك طائفة أشد إجرامًا وهي ما يسمونها بالطائفة المتشددة، قال رجل من هذه الطائفة -لعله أبو جهل-: لا بد من قتل هذا الرجل. يقصدون محمدًا ، ووافقت هذه الفكرة هوى عند المعظم؛ فقلوبهم السوداء كانت تحترق غيظًا وحسدًا على رسول الله ، لكن لم يكن عندهم الشجاعة للنطق بمثل هذا الرأي، وفوق ذلك فهم يخشون من بني هاشم، غير أن أبا جهل خرج عليهم بفكرة شيطانية، وهي أن يختاروا من كل قبيلة في مكّة شابًّا قويًّا، فيحاصرون بيت رسول الله ، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه بين القبائل، ولا تجد بنو هاشم أمامها حلاًّ إلا قبول الدية في قتيلها؛ فليست لهم طاقة بحرب كل القبائل.



صوَّت الحاضرون على القرار، وسألهم أبو جهل: موافقون؟! قالوا: موافقون.



وخرج زعماء قريش ينتقون من قبائلهم العناصر التي ستقوم بتنفيذ العملية الإرهابية لاغتيال رسول الله ، ذكر الله ذلك في كتابه الكريم فقال: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة مكة - صفحة 3 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة مكة - صفحة 3 Empty الخطة النبوية في الهجرة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:37 am

الوحي يكشف المؤامرة

الهجرة النبوية إلي المدينة المنورةما إن انتهى كفار قريش من اجتماعهم على قتل رسول الله حتى نزل جبريل فورًا إلى رسول الله يخبره بأمر الجريمة التي تدبر له، وقال له: لا تبت في فراشك الليلة. وأمره بالهجرة، فسأل رسول الله جبريل: من يهاجر معي؟ قال: أبو بكر الصّدّيق. وذلك كما جاء في مستدرك الحاكم بسند صحيح.


استعداد رسول الله للهجرة

علم رسول الله بخطة قريش، وعلم أن موعد التنفيذ سيكون في فجر اليوم الثاني، ولذلك لا بد من الإسراع في أخذ الخطوات اللازمة للهجرة.



تعالَوْا نَعِشْ مع رسول الله في هذه اللحظات النادرة، وهو يدبر ويخطط ويرتب لعملية من أخطر العمليات في التاريخ الإسلامي، إنه يريد أن يخرج من مكّة هو والصّدّيق دون أن يشعر بهما أحد، بل بدون أن يشعر أحد أن رسول الله قد علم بأمر الجريمة التي تدبر له حتى لا يعجل الكفار بجريمتهم. لم يقل رسول الله إني رسول الله وسوف يرعاني الله ويحفظني، بل أخذ بكل الأسباب الممكنة لإنجاح عملية الهجرة الخطرة، كانت أمام رسول الله عدة مشاكل أراد أن يدبر لها حلاًّ:



أولاً: أنه يريد أن يذهب للصديق ليخبره بأمر الهجرة، ولكن دون أن يراه أحد.



ثانيًا: هل يا تُرى سيكون الصّدّيق جاهزًا لهذه الهجرة المفاجئة، التي ستكون بعد ساعات فقط؟



ثالثًا: لا شك أن الكفار سيأتون لحصار بيت الرسول ، فلو اكتشفوا هجرته فسيتبعونه خارج مكّة، ولو خرجوا خلف الرسول مباشرة فسيكون احتمال اللحاق به كبيرًا، فكيف يؤجل رسول الله حركة المطاردة المشركة له؟



رابعًا: في بيت رسول الله أمانات كان القوم يحفظونها عنده، وسبحان الله كان أهل مكّة المشركون لا يجدون من هو أكثر أمانة من رسول الله حتى يحفظوا عنده أماناتهم، وذلك مع شدة عدائهم لرسول الله ، وقد كان الرسول على درجة هائلة من الأمانة بحيث إنه في هذا الموقف الخطير ما زال مشغولاً بردِّ الأمانات، ولم يقل إنها أموال الأعداء، يجوز الاستيلاء عليها، بل ظلَّ محافظًا على العهد الذي بينه وبينهم.



على الفور بدأ رسول الله يفكر في حل هذه المشاكل فقرر أولاً أن يذهب إلى الصّدّيق ليخبره بأمر الهجرة ولكن في تكتم شديد، فخرج في وقت الظهيرة، وهو وقت لم يعتد فيه أن يذهب إلى الصّدّيق، وفي الوقت ذاته هو وقت تخلو فيه شوارع مكّة من المارة لشدة الحر. والأمر الثاني الذي قرره هو جَعْل علي بن أبي طالب يقوم بمهمة مزدوجة، هذه المهمة هي أن ينام في فراش رسول الله هذه الليلة، وقد تغطَّى ببردة رسول الله ، فإذا جاء المشركون ونظروا من ثقب الباب وجدوا عليًّا نائمًا في غطاء رسول الله فيظنونه الرسول ، أي أنها عملية تمويه وإخفاء، وبهذا يُعطي الرسول الوقت الكافي للابتعاد عن مكّة. وإلى جانب هذه المهمة الخطرة فإنه على عليٍّ أن يعيد الأمانات إلى أصحابها في اليوم التالي، فلا تضيع حقوق أحدٍ من المشركين.



وبدأ رسول الله في تنفيذ خطته بسرعة، فخرج من الظهيرة متجهًا إلى بيت الصّدّيق ، وزيادة في التخفي فإن الرسول غطَّى رأسه ببعض الثياب، فلو رآه أحد من بعيد ما أدرك بسهولة أنه رسول الله ، ثم دخل الرسول على الصّدّيق في هذه الساعة التي ما جاء فيها إلى الصّدّيق من قبل طيلة الأعوام السابقة، حتى إن ذلك لفت نظر الصّدّيق فقال -كما تحكي السيدة عائشة رضي الله عنها، وكما جاء في صحيح البخاري-: "فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي، وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلاَّ أَمْرٌ".



وحتى هذه اللحظات والصّدّيق لا يعلم أنه سيهاجر مع رسول الله .



تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ فَاسْتَأْذَنَ، فَأُذِنَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ لأَبِي بَكْرٍ: "أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ". زيادةً في الحذر.



فقال الصِّدِّيق في اطمئنان: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.



فقال الرسول : "فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ".



فقال أبو بكر، وقلبه يكاد ينخلع من اللهفة: الصُّحْبَةُ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟



يعني هل سأصحبك في هذه الرحلة؟



فقال الرسول : "نَعَمْ".



هنا لم يستطع أبو بكر أن يتمالك نفسه من شدة الفرح، فبكى!!



سبحان الله! تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: فَلَمْ أَكُنْ أَدْرِي أَنَّ أَحَدًا يَبْكِي مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ حَتَّى رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ يَبْكِي.



فبكى من شدة الفرح؛ لأنه سيخرج في هذه الهجرة الخطرة، بل شديدة الخطورة، لا شك أن الصّدّيق كان يقدر خطورة هذه الرحلة، ولا شك أنه كان يعلم أنه سيكون من المطلوبين بعد ذلك، وقد يُقتل، لكن كل ذلك لم يؤثّر فيه مطلقًا، إنه يحب رسول الله حبًّا لا يوصف، يحبه أكثر من حب الأم لولدها، هل لو تعرض الابن لخطر ما، أتتركه أمه دون رعاية خوفًا على نفسها من الخطر؟ مستحيل، الصّدّيق كان أكثر من ذلك، كان هذا حبًّا حقيقيًّا غير مصطنع، لازمه في كل لحظة من لحظات حياته، منذ آمن وإلى أن مات ، حتى بعد موت رسول الله ، ما تغيّر حبه في قلب الصّدّيق قَطُّ، وبهذا الحب وصل الصّدّيق إلى ما وصل إليه. وقبل أن يسأل رسول الله عن وسيلة الانتقال إلى المدينة، إذا بالصّدّيق يقول: فَخُذْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هاَتَيْنِ.



كان الصّدّيق يتوقع أن يكون صاحبًا لرسول الله في الهجرة فاشترى راحلة أخرى غير راحلته، وبدأ يعلف الراحلتين استعدادًا للسفر الطويل، فلما جاء موعد السفر كان الصّدّيق جاهزًا تمامًا، لم يجهّز نفسه فقط، بل جهز راحلتين، له ولرسول الله ، ولكن رسول الله رفض أن يأخذ الراحلة إلا بثمنها، فَقَالَ: "بِالثَّمَنِ".



نعم، الصّدّيق أنفق معظم ماله على الدعوة، ولكن كان ذلك لإعتاق العبيد وللإنفاق على الفقراء، أما الرسول فلا يريد من أحد أن ينفق عليه هو شخصيًّا، فأصرَّ أن تكون الراحلة مملوكة له بماله.


وقفة مع أبي بكر الصديق

وأنا أريد أن أقف هنا مع ردِّ فعل الصِّدِّيق لقرار الهجرة:

- إنه كان مستعدًّا تمامًا، استعدادًا نفسيًّا كاملاً للرحيل وترك الديار والبلاد دون اعتذار بأي ظرف معوِّق، ولا شك أنه إنسان وأنه تاجر وأنه أب وأنه زوج وأنه كذا وكذا، لا شك أن عنده أمورًا كثيرة تعوقه كبقية البشر، ولكنه كان يعطي العمل لله قدره الحقيقي؛ ولذلك كان يهون إلى جواره أي عمل آخر.



- وكان مستعدًّا استعدادًا يناسب المهمة، فقد أعد راحلتين حتى دون أن يطلب منه.



- وكان مستعدًّا استعدادًا عائليًّا، فقد أَهَّلَ بيته لقبول فكرة الهجرة، وأخذ القرار ببساطة مع أنه سيترك خلفه في مكّة بناتٍ صغارًا.



- وكان مستعدًّا استعدادًا ماليًّا، فقد ادَّخر خمسة آلاف درهم للإنفاق على عملية الهجرة، ولتأمين الطريق أخذها بكاملها عند خروجه مع رسول الله ، ولم يترك لأهله شيئًا من المال، ولكنه ترك لهم كما اعتاد أن يقول: تَرَكْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.



هذا رجل يعيش للقضية الإسلاميّة، حياته كلها في خدمة هذا الدين، أوراقه كلها مرتبة لمصلحة الإسلام، أولوياته واضحة، أهدافه جلية، طموحاته عالية.



هذا هو الصِّدِّيق أبو بكر .



جلس الرسول مع أبي بكر يخططان لأمر الهجرة، يحسبان لكل خطوة حسابها، فوضعا معًا خطة بارعة توفر أفضل الفرص للنجاة.


الخطة النبوية في الهجرة

فما عناصر هذه الخطة؟

أولاً: سيخرج رسول الله من بيته في أول الليل، ويأتي إلى الصِّدِّيق في بيته؛ وذلك لتجنب الحصار الذي سيفرض حتمًا على بيت رسول الله .



ثانيًا: سيبقى رسول الله في بيت الصّدّيق جزءًا من الليل، حتى تهدأ الحركة في مكّة تمامًا، وهنا سيأخذ الرسول وصاحبه الصّدّيق الراحلتين وينطلقان في الرحلة.



ثالثًا: سيكون الخروج من بيت الصّدّيق من خلال خوخة (فتحة) في خلف البيت؛ لأنه من المحتمل أن تكون هناك مراقبة لباب البيت، فقد يتوقع المشركون أن يخرج الصِّدِّيق -الصاحب الأول لرسول الله - معه إلى الهجرة.



رابعًا: ستتم الهجرة إلى المدينة عن طريق ساحل البحر الأحمر، وهو طريق وعرٌ غير مألوف لا يعرفه كثير من الناس، وليس هو الطريق المعتاد للذهاب إلى المدينة، وذلك حتى يضمنوا الاختفاء عن أعين المشركين.



خامسًا: سيتم استئجار دليل يصحبهم في هذه الرحلة؛ لأن الطريق غير معروف، والضياع في الصحراء أمر خطير، ولا بد أن يكون هذا الدليل ماهرًا في حرفته، أمينًا على السر، وفي الوقت ذاته لا يشك المشركون في أمره، وقد اتفق الرسول مع الصّدّيق على أن يكون هذا الرجل هو عبد الله بن أريقط، وهو من المشركين وهذا في منتهى الذكاء، فالمشركون لن يشكوا مطلقًا في أمره إذا رأوه سائرًا في خارج مكّة، وهو في الوقت ذاته رجل أمين يكتم السر، وهو رجل في النهاية صاحب مصلحة، فقد اسْتُؤجر بالمال، ولا شك أن أجرته كانت مجزية.



سادسًا: سيتجه الرسول وأبو بكر في أول الهجرة إلى الجنوب في اتجاه اليمن لمسافة خمسة أميال كاملة أي حوالي ثمانية كيلو مترات، وهي مسافة كبيرة، مع أن المدينة في شمال مكّة وليست في جنوبها، ولكن ذلك إمعانًا في التمويه؛ لأن المشركين إذا افتقدوا رسول الله ، فلا شك أنهم سيطلبونه في اتجاه المدينة وليس في اتجاه اليمن.



سابعًا: سيتم الذهاب إلى غار ثور في جنوب مكّة، وهو غار غير مأهول في جبل شامخ وعر الطريق، صعب المرتقى، وسيبقيان في هذا الغار مدة ثلاثة أيام كاملة، ولن يتحركا في اتجاه المدينة إلا بعد انقضاء هذه الأيام الثلاثة، حين يفقد أهل قريش الأمل في العثور عليهم، فيكون ذلك أدعى لأمانهم، وسوف يتركان الراحلتين مع عبد الله بن أريقط الدليل، على أن يقابلهما عند الغار بعد الأيام الثلاثة.



ثامنًا: سيقوم عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما بدور المخابرات الإسلاميّة في هذه العملية الخطيرة، فهو سيذهب إلى الرسول والصّدّيق كل يوم بأخبار مكّة، وتحركات القرشيّين، وردود الأفعال لخروج الرسول ، وسوف يأتي في أول الليل، وسيبقى مع الرسول والصِّدِّيق طوال الليل ثم يعود إلى مكّة قبل الفجر، ويبيت هناك، ثم يظهر نفسه للناس، فلا يشك أحد في أنه كان مع الرسول وصاحبه.



تاسعًا: سيقوم عامر بن فهيرة مولى الصّدّيق بدور التغطية الأمنية لهذه العملية، وذلك برعي الأغنام فوق آثار أقدام الرسول والصّدّيق ، ثم فوق آثار أقدام عبد الله بن أبي بكر -رضي الله عنهما- بعد ذلك، حتى يضيع على المشركين فرصة تتبع آثار الأقدام.



عاشرًا: ستقوم السيدة الفاضلة أسماء بنت أبي بكر الصّدّيق -رضي الله عنها- بدور الإمداد والتموين لهذه العملية الصعبة، فهي ستحمل الطعام والماء، وتتجه به كل يوم إلى غار ثور إلى الرسول وأبيها الصّدّيق ، وستقوم السيدة أسماء بهذا الدور؛ لأنه لن يشك أحد في أمر امرأة تسير في الصحراء، وخاصة أنها كانت في الشهور الأخيرة من حملها، وتخيل معي كيف لامرأة حامل في شهورها الأخيرة أن تحمل الطعام والشراب، وتسير به مسافة ثمانية كيلو مترات في الصحراء، ثم تصعد الجبل الصعب الذي به غار ثور، وتفعل ذلك ثلاثة أيام متواصلة!!



قد تظن هذا الأمر عجيبًا، لكن يزول العجب عندما تعلم أنها قد تربت في بيت الصِّدِّيق .



كان هذا هو العنصر العاشر في الخطة النبويّة - الصّدّيقيّة الرائعة، فتلك عشرة كاملة.



وبذلك استنفد الرسول وصاحبه الصّدّيق وسعهما في إنجاح الخطة، ورفعا أيديهما إلى الله أن يكتب لهما النجاة.



عاد رسول الله إلى بيته بعد وضع الخطة المحكمة، وجهَّز نفسه، واستقدم عليًّا لينام مكانه، وأعطاه برده الأخضر ليتغطى به، وعرفه بالأمانات وأصحابها، ثم جاء وقت الرحيل، والذهاب إلى بيت الصّدّيق ، ولكن اكتشف رسول الله المفاجأة، أحاط المشركون ببيت رسول الله إحاطة كاملة، وجاءوا قبل الموعد الذي ظن رسول الله أنهم يجيئون فيه.



فكيف تصرف رسول الله ؟ وكيف انتهى الأمر؟



هذا ما سنعرفه في المقال القادم بإذن الله.



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة مكة - صفحة 3 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة مكة - صفحة 3 Empty الهجرة النبوية إلى المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:38 am

فأغشيناهم فهم لا يبصرون

الهجرة النبوية إلى المدينةاستنفد رسول الله الوسع في الخطة التي وضعها هو وأبو بكر الصّدّيق لنجاح الهجرة إلى المدينة، ولكن الطابع المميز لخطط البشر أنها لا تصل إلى الكمال، لا بد من ثغرات في الخطط البشرية، لكن إذا كنت مستنفدًا وسعك الحقيقي فإن الله يسدُّ هذه الثغرات بمعرفته، ويكمل العجز البشريّ بقدرته، لكن دون أخذٍ بالأسباب بكل الأسباب الممكنة لا يسدّ الله هذه الثغرات، ولا يكمل هذا العجز، هذا لا يكون توكُّلاً على الله، بل تواكلاً، وشتَّانَ بين التوكُّل والتواكُل.



ماذا يفعل رسول الله في هذا الموقف الحرج، عشرات السيوف تحيط بالبيت، والقرار ليس الحبس والمحاكمة، بل لقد صدر الحكم فعلاً بالقتل، وهم قد جاءوا للتنفيذ، ماذا يفعل رسول الله ؟



لقد نزل الوحي إلى رسول الله يطمئنه، ويأمره بالخروج وسط المشركين دون خوف ولا وجل، فسوف يأخذ الله بأبصارهم، وخرج الرسول في هذه الليلة المباركة، ليلة 27 من صفر سنة 14 من النبوة، وهو يقرأ صدر سورة يس، من أوَّلها إلى قوله : {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [يس: 9].



وإمعانًا في السخرية من المشركين، أخذ رسول الله حفنة من التراب، ووضع جزءًا منها على رأس كل مشرك يحاصر بيته، وهم لا يشعرون، ثم انطلق إلى بيت الصّدِّيق لاستكمال تنفيذ الخطة، فهي -بحمد الله إلى الآن- تسير على ما يرام.



كان من الممكن أن يخرج الرسول من البيت قبل قدوم المشركين، لكن الله أراد ذلك لإثبات أن الأمر كله بيد الله ، وأنه دون توفيق الله لا يتمّ أمر من الأمور، وأيضًا ظهرت المعجزة الظاهرة في نصرة رسول الله .



وعلى الناحية الأخرى كان من الممكن أن يأخذ الله أبصار المشركين فلا يقع على رسول الله أيّ أذى طيلة حياته، ولكن هذا لم يحدث، لقد أُلقي على ظهره سلا الجزور، ورحم الشاة، وسُبّ بأفظع الألفاظ، ورجم بالحجارة في الطائف، وأصيب في أُحُد أكثر من إصابة، لم يأخذ الله بأبصار المشركين في كل هذه المواقف، ليُعلّم المسلمين طبيعة الطريق، فطريق المسلم فيه كثير من الإيذاء، وكذلك فيه كثير من الأخذ بعيون المشركين، وعيون أعداء الله ، يحدث ذلك مع كل المؤمنين، نعم يكون الأمر واضحًا كمعجزة مع الأنبياء، لكن قد يفعله الله مع المؤمنين دون أن يطلع الناس عليه، فيأخذ عنهم أبصار أعدائهم، ويكفينا في ذلك قول الله : {إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38].



خلاصة القول: إن حياة الداعية وحياة الناس أجمعين بيد الله ، والله يكتب أحيانًا ابتلاء للمؤمن وفي ذلك حكمة، وأحيانًا يكتب له نجاةً من الأذى وفي ذلك حكمة أيضًا، ولا تسير الأمور إلا بقدر الله {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49].



ترك رسول الله المشركين يحاصرون البيت، وفيه عليّ بن أبي طالب ، وانطلق إلى الصّدّيق ، ومكث عنده إلى منتصف الليل، ثم خرجا من الخوخة الخلفية في البيت، واتجها جنوبًا إلى غار ثور، ووصلا إليه بالفعل، واستكشف أبو بكر الغار أولاً ليرى إن كان به أي شيء يضرّ، فلما وجده آمنًا دخل رسول الله إلى الغار، وتم الجزء الأول من الخطة بنجاح.



نعود إلى بيت رسول الله ، والمشركون يحاصرونه، وعليّ نائم بداخله، وبينما هم على هذه الحالة، مرّ عليهم رجل من المشركين لم يكن معهم؛ فقال لهم قولاً خطيرًا، لقد قال لهم: ماذا تنتظرون هنا؟ قالوا: محمدًا. قال: خيَّبَكم الله، قد والله خرج عليكم محمد. إذن الرجل شاهد محمدًا في مكان آخر، فمع كل الاحتياط والحذر إلا أن هناك رجلاً لمح محمدًا وهو في طريق الهجرة، ولكن يبدو أنه لم يكن يعلم بتخطيط قريش فلم يأبه لرؤيته، فلما سمع القوم ذلك انزعجوا، وزاد من انزعاجهم التراب الذي وجدوه على رءوسهم، في إشارة واضحة إلى أنه مرّ عليهم فلم يشاهدوه، وفي هذا معجزة ظاهرة، ولكنهم كانوا قد عميت أبصارهم وبصائرهم. قام المشركون بسرعة ينظرون من ثقب الباب فوجدوا عليًّا ينام في الفراش وهو يتغطّى ببردة النبي ، فقالوا: والله إن هذا لمحمدٌ نائمًا.



فتحير القوم، فقام فيهم من يقترح أن يقتحموا البيت على هذا النائم، ولكن اعترض معظمهم على ذلك، أتدرون لماذا؟



لقد قالوا: والله إنها لسُبَّة في العرب أن يُتحدثَ عنا أنْ تسورنا الحيطان على بنات العمِّ، وهتكنا سترَ حرمتنا.



سبحان الله! كفار مكّة لا يهتكون ستر البيوت، ولا يقتحمون حرمات الديار.



وانتظر المشركون إلى الصباح حتى قام علي بن أبي طالب من فراشه، فرآه القوم، وأسقط في أيديهم، وأمسكوه يجرونه إلى البيت الحرام ويضربونه.


علي بن أبي طالب يتحمل الإيذاء

وهنا نشاهد الموقف الحكيم من علي بن أبي طالب ، وكان يبلغ آنذاك ثلاثة وعشرين عامًا، إنه لم يرُدَّ الضرب بالضرب، مع كونه فتًى عزيزًا، وفارسًا مغوارًا، وسنرى أفعاله بعد سنتين في بدر، ولكنه تحلى بالصبر، وتجمل بالحلم، لماذا؟



أولاً: لم يؤذن بعدُ للمسلمين في القتال إلى هذه اللحظة.



ثانيًا: الهَلَكَة محققة لغياب كل المسلمين تقريبًا، واجتماع كل المشركين على بني هاشم.



ثالثًا: عليه مهمة عظيمة لم يقم بها بعدُ، وهي ردُّ الأمانات إلى أهلها، ولا بد أن يحافظ على نفسه حتى يقوم بهذه المهمة.



أخذ المشركون عليًّا وحبسوه ساعة واحدة، لم يحبسوه شهرًا أو عامًا أو أعوامًا، إنما ساعة واحدة فقط، ثم أطلقوه، فمكث في مكّة ثلاثة أيام يرد الأمانات إلى أهلها، ثم انطلق مهاجرًا إلى المدينة المنوّرة فورًا.



فماذا فعل أهل قريش عندما اكتشفوا خروج الرسول من مكّة؟



انظر خريطة متحركة لطريق الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة


قريش تعلن حالة الطوارئ

أعلنت حالة الطوارئ القصوى في مكّة، استنفار عام لكل العناصر المشركة، واتخذت السلطة في مكّة القرارات الآتية:



القرار الأول: مداهمة منزل أبي بكر الصّدّيق المتهم بصحبة زعيم المسلمين رسول الله ، والذي كان يتولى شئون الإنفاق على المسلمين، فمن المحتمل أن يكون رسول الله ما زال مختبئًا في بيته، أو لعل الرسول هاجر بمفرده، وأبو بكر يعرف طريقه، فلا بد من التأكد من ذلك، وقد قام بهذه المهمة أبو جهل بنفسه ومعه فرقة من المشركين، ذهب إلى بيت الصّدّيق وطرق الباب بشدة، وفتحت السيدة أسماء رضي الله عنها، فقال لها في غلظة: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟



قالت: لا أدري. فرفع أبو جهل يده ولطم خدها حتى أطار قرطها، فعلة شنيعة من سيد مكّة، لكنه لم يفكر أن يدخل البيت ليقلب محتوياته رأسًا على عقب، ليفتش عن الصّدّيق أو الرسول ، أو ليجد أي دليل يشير إلى مكانهما، لماذا لم يفعل ذلك؟ تذكروا: كفار مكّة لا يهتكون حرمات البيوت.



كان هذا هو القرار الأول الذي اتخذه زعماء قريش، وهو البحث عن الصّدّيق.



القرار الثاني: هو إحكام المراقبة المسلحة على كل مداخل ومخارج مكّة، فلعل الرسول ما زال مختبئًا في أحد البيوت في مكّة.



القرار الثالث: إعلان جائزة كبرى لمن يأتي برسول الله أو صاحبه الصِّدِّيق ، تُعطَى الجائزة لمن يأتي بأحدهما حيًّا أو ميتًا، والجائزة هي مائة ناقة، وهذا رقم هائل في ذلك الزمن.



القرار الرابع: استخدام قصاصي الأثر لمحاولة تتبع آثار الأقدام في كل الطرق الخارجة من مكّة.


لا تحزن إن الله معنا

وسبحان الله! مع كل طرق التأمين التي اتبعها رسول الله والصّدّيق ، ومع كون الخطة بارعة جدَّا ومحكمة جدًّا، إلا أنه كما ذكرنا من قبل: ليس طابع الخطط البشرية أن تصل إلى حد الكمال، لا بد من ثغرات، اكتشف القصاصون الطريق الذي سار فيه الرسول وصاحبه، ووصلوا إلى الجبل الصعب الذي به غار ثور، وصعدوا الجبل، ووصلوا إلى باب غار ثور.



لم يبقَ إلا أن ينظروا فقط إلى داخل الغار، والغار صغير جدًّا.



الرسول يجلس في داخل الغار في سكينه تامة، وكأنه يجلس في بيته، والصّدّيق في أشد حالات قلقه واضطرابه، يقول الصّدّيق : يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ بَعْضَهُمْ طَأْطَأَ بَصَرَهُ رَآنَا. قال الرسول في يقين: "اسْكُتْ يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيِنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا".



الله، الله! لو استشعر الدعاة إلى الله هذه المعية لهانت عليهم كل الشدائد، وكل المصاعب، وكل الآلام، بل لهانت عليهم الدنيا بأسرها، لكن الصّدّيق لم يكن خائفًا على نفسه، لم يكن قلقًا على حياته، ليس الصّدّيق الذي يفعل ذلك، لا قبل ذلك ولا بعد ذلك، إنما كان يخاف على رسول الله ، بل إنه في رواية يقول: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ قُتِلْتُ أَنَا فَإِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ قُتِلْتَ أَنْتَ هَلَكَتِ الأُمَّةُ.



ماذا فعل المشركون وهم على باب غار ثور، بعد أن قطعوا هذا المشوار الطويل الصعب، وقد انتهت آثار الأقدام أمام فتحة باب الغار؟!



إن الله قد ألقى في روعهم ألاّ ينظروا إلى داخل الغار، مع أن هذه النظرة لن تأخذ أكثر من دقيقة واحدة وربما ثوانٍ أو أقل، ولا شك أنهم قد أخذوا ساعات طويلة حتى يصلوا إلى هذا المكان، لكن هذا فعل الله .



روى الإمام أحمد والطبراني وعبد الرازق والخطيب أن عنكبوتًا قد نسج خيطًا كثيفًا حول الباب، وهذه معجزة ظاهرة، فقال الكفار: لو دخل ها هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه.



وهذا الحديث وإن كان ضعيفًا من كل طرقه، إلا أن كثرة طرقه يقوِّي بعضها بعضًا فترفعه إلى درجة الحديث الحسن، أما قصة الحمامتين وقصة الشجرة التي نبتت على باب الغار فهي قصص ضعيفة جدًّا لا تصحّ، وأنا أرى أنه حتى لو لم تصح قصة نسج العنكبوت فهذا إعجاز أيضًا من رب العالمين، إذ كيف لا ينظر الناس في داخل الغار مع كونه مفتوحًا، فسواء نسجت العنكبوت خيوطها أو لم تنسج فهذا دفاع من رب العالمين، والنتيجة واحدة: نجاة الرسول وصاحبه الصِّدِّيق من هذه المطاردة المكثفة.



مكث الرسول في الغار ثلاثة أيام كما كان مقررًا في الخطة المرسومة، وقام كل من عبد الله بن أبي بكر، وعامر بن فهيرة، وأسماء بنت أبي بكر بدوره، وحان وقت الرحيل إلى المدينة، وجاء عبد الله بن أريقط الدليل بالناقتين في الوقت المتفق عليه، وجاء بناقة ثالثة له، وجاء معه أيضًا عامر بن فهيرة ليرافق الراكب المهاجر إلى المدينة، خرج الرسول من الغار ليلة غرة ربيع الأول من سنة 14 من النبوة، وإمعانًا في الاحتياط اتُّخِذَتْ بعض الإجراءات الأخرى:



أولاً: الخروج ليلاً من الغار.



ثانيًا: الإمعان في اتجاه ناحية اليمن.



ثالثًا: الاتجاه غربًا ناحية ساحل البحر الأحمر، ثم الاتجاه شمالاً في الطريق الوعر المتفق عليه سابقًا.



رابعًا: كانت هذه نقطة تأمينيّة من الصّدّيق لم يضعها رسول الله في الخطة المسبقة، ولكن استحدثها الصّدّيق لزيادة حماية الرسول ، وذلك أنه كان يسير أمام رسول الله تارة ثم يسير خلفه تارة، وهكذا طوال الطريق. ولما تنبه رسول الله إلى ذلك سأله عن ذلك، فقال الصّدّيق في حبٍّ عميق: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَذْكُرُ الطَّلَبَ (المطاردة) فَأَمْشِي خَلْفَكَ، ثُمَّ أَذْكُرُ الرَّصَدَ (الكمائن) فَأَمْشِي بَيْنَ يَدَيْكَ.



يتمنى أن لو جاء سهم أن يدخل في ظهره أو في صدره، ولا يمسّ رسول الله بسوء.


سُراقة بن مالك وسِوَارَا كسرى

وهكذا سارت القافلة المباركة من مكّة إلى المدينة، وعلى الجانب الآخر نشط الكفار في تحفيز أهل مكّة جميعًا للقبض على رسول الله وصاحبه، ونشط الانتهازيون، وأصحاب المصالح، والراغبون في الثراء السريع، وبحثوا في كل مكان، ولم يوفّقوا جميعًا إلا واحدًا، إنه سراقة بن مالك.



بعض الناس رأوا رسول الله أو هكذا ظنوا، فذكروا ذلك أمام سراقة فضللهم عنه ليفوز هو بمائة ناقة، ثم أمر بفرسه وسلاحه وخرج في إثر رسول الله وأصحابه، حتى رآهم من بعيد، واقترب منهم حتى كان يسمع قراءة رسول الله للقرآن، وكان رسول الله لا يلتفت كما يقول سراقة وكما جاء في البخاري، وأبو بكر يكثر الالتفات، ثم حدثت المعجزة بأن بدأت أقدام الفرس تسوخ في الأرض، مرة والثانية والثالثة، حتى أدرك سراقة أن القوم ممنوعون، فاقترب منهم وقد سألهم الأمان، وأخبرهم أن القوم قد جعلوا فيهم الدية، فقال له رسول الله : "أَخْفِ عَنَّا". ثم قال له قولاً عجيبًا، قال: "كَأَنِّي بِكَ يَا سُرَاقَةُ تَلْبَسُ سِوَارَيْ كِسْرَى".



فطلب سراقة من رسول الله أن يكتب له كتابًا بذلك، فأمر رسول الله عامر بن فهيرة أن يكتب له كتابًا ؛ فكتب له على رقعة من جلد، وعاد سراقة يبعد الناس عن طريق رسول الله ، ويقول لهم: قد كفيتكم هذا الطريق. فكان في أول اليوم جاهدًا في مطاردة الرسول ، وفي آخر اليوم مدافعًا عنه، وسبحان الله! {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدَّثر: 31].



وسبحان الله! مرت الأيام، وأسلم سراقة بعد فتح مكّة وحنين، وفتحت بلاد فارس وجاءت الغنائم في عهد عمر بن الخطاب، وفيها سوارا كسرى، فأخرج سراقة كتاب رسول الله ، وأعطاه لعمر ، فأعطاه عمر سواري كسرى تنفيذًا لوعد رسول الله {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النَّجم: 3، 4].



لم يعكر صفو الرحلة بعد ذلك شيء إلى أن اقترب رسول الله من المدينة المنوّرة، ففوجئ برجل اسمه بُرَيْدَة بن الحصيب زعيم قبيلة أسلم، قد خرج له في سبعين من قومه يريد الإمساك برسول الله وأصحابه ليحصل على المكافأة الكبيرة، ولكن الرسول العظيم وقف يعرض عليه الإسلام في هدوء وسكينة، فوقعت كلمات الرحمن في قلب بريدة وأصحابه فآمنوا جميعًا في لحظة واحدة، وكانوا في أول اليوم من المشركين فأصبحوا في آخره من الصحابة، فانظر إلى عظيم فضل الله عليهم وعلى الدعوة، فقد كانت السنوات تمضي في مكّة حتى يؤمن عدد مثل هذا هناك، وها هو الآن هذا العدد يؤمن في لحظة.



المهم أنه في النهاية وصل رسول الله إلى المدينة المنوّرة سالمًا، وذلك في يوم 12 من ربيع الأول سنة 14 من النبوة، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة مهمة جدًّا في الدعوة الإسلاميّة في المدينة المنوّرة.



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة مكة - صفحة 3 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

صفحة 3 من اصل 3 الصفحة السابقة  1, 2, 3

الرجوع الى أعلى الصفحة


 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى