إيجابية عمر
صفحة 1 من اصل 1
إيجابية عمر
إيجابية عمر
مقدمة
الإيجابية بمعناها الدقيق تعني التفاعل مع الأحداث، والتأثير في سيرها، وعدم السكوت عن الفعل الشاذ لأن السكوت عنه إقرار له.
ومن هنا كانت إيجابية سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
من شمائل الفاروق رضي الله عنه التي تدل على إيجابيته أمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، وسعيه للتغيير بكل الوسائل المتاحة، ما لم تتعارض مع دينه وعقيدته، ومن مظاهر إيجابيته عدم السكوت عن المشورة، وإن لم يكن مطلوبا منه، وأيضا دعوته لغيره من الدلائل القوية علي إيجابيتة رضي الله عنه.
إيجابية عمر تدفعه إلى تعليم غيره من الناس
ومن مواقف الفاروق التي يتجلى فيها اتباعه للسنة النبوية: موقفه من الحجر الأسود.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قَبَّل الحجر الأسود، والعمل على هذا استحباب تقبيل الحجر الأسود لمن تيسر له، فإن لم يمكنه استلمه بيده.، فإن لم يمكنه استقبله إذا حاذاه وكَبَّر.
يقول عابس بن ربيعة رحمه الله: رأيت عمر بن الخطاب استقبل الحجر، ثم قال: إني لأعلم أنك حجر، لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلك ما قَبَّلتك، ثم تقدم فقَبّله.
وفي رواية أخرى: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، رأيت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم بك حَفيًّا. يعنى الحجر الأسود.
قال العلامة الطبري رحمه الله:
إنما قال ذلك عمر رضي الله عنه لأن الناس كانوا حديثى عهد بعبادة الأصنام، فخشي عمر أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم بعض الأحجار كما كانت العرب تفعل في الجاهلية.
فأراد عمر أن يعلم الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا لأن الحجر ينفع ويضر كما كانت الجاهلية تعتقد في الأوثان.
وفي قول عمر رضي الله عنه هذا الكلام التسليم للشارع في أمور الدين، وحسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيها، وهي قاعدة عظيمة في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما يفعله، ولو لم يعلم الحكمة فيه.
قال أبو سليمان الخطاب رحمه الله:
فيه من العلم أن متابعة السنن واجبة، وإن لم يوقف لها على علل معلومة وأسباب معقولة، وأن أعيانها حجة على من بلغته وإن لم يفقه معانيها، إلا أنه من المعلوم في الجملة أن تقبيل الحجر إنما هو إكرام له، وقد فضل الله بعض الأحجار على بعض، كما فضل بعض البقاع والبلدان، وكما فضل بعض الليالي والأيام والشهور، وباب هذا كله التسليم.
فليس لهذا الأمور علّة يرجع إليها وإنما هو حكم الله عز وجل ومشيئته:
[لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] {الأنبياء: 23}.
[أَلَا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ] {الأعراف: 54}.
فعمر رضي الله عنه شديد المتابعة للسنة النبوية لا يُقَدّم عليها شيئًا من الرأي، بل كان لا يقدم الرأي وأهله معتبرًا بأن أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم أن يعوها، وتفلتت منهم أن يرووها فاستبقوها بالرأي.
قال عمرو بن الحريث: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي فضَلُّوا وأضلوا.
قال سحنون: يعني البدع.
وقال أبو بكر بن أبي داود: أهل الرأي هم أهل البدع.
والمقصود بالرأي هنا هو الرأي المخالف للكتاب والسنة، وليس الأمر على إطلاقه فمن المدارس الإسلامية مدرسة أهل الرأي.
وما أروع الفاروق وهو يحدد معالم الاتباع للناس قائلًا:
أيها الناس: قد سُنت لكم السنن، وفُرضت لكم الفرائض، وتُركتم على الواضحة إلا أن تضلوا بالناس يمينًا وشمالًا، وضرب بإحدى يديه على الأخرى.
فرضي الله عن الفاروق الداعي إلى الاتباع، والناهي عن الابتداع.
ويساعد الفاروق غيره من الصحابة الذين يريدون الهجرة، ويتعرضون للفتنة، والابتلاء في أنفسهم.
إيجابيته رضي الله عنه في أحداث الهجرة
يقف عمر رضي الله عنه عند هجرته ينصح عياش بن أبي ربيعة بعدم العودة، ويعرفه بما أعد له من مكيدة وخدعة ولكنه يستجيب، ويسقط في الفتنة.
وآخر يعزم على الخروج مهاجرًا مع عمر ولكنه يحبس ويفتن، فماذا كان موقف الفاروق منه.
بمجرد نزول آيات قرآنية داعية للتوبة، وعدم القنوط من رحمة الله تعالى إلا ويكتبها الفاروق، ويرسل بها إلى هشام بن العاص السهمي فتكون سببًا في توبته، وهجرته بعد حبسه.
ويقص علينا عمر رضي الله عنه شيئًا من معاناة الهجرة إلى المدينة، فيقول: اتَّعَدْتُ لما أردنا الهجرة إلى المدينة أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص السهمي التناضب من أضاة بني غفار فوق سرف، وقلنا: أينا لم يصبح عندها فقد حبس فليمضي صاحباه. قال: فأصبحت أنا وعياش بن أبي ربيعة عند التناضب، وحبس عنا هشام وفتن فافتتن.
فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف بقباء، وخرج أبو جهل بن هشام، والحارث بن هشام إلى عياش بن أبي ربيعة وكان ابن عمهما، وأخاهما لأمهما حتى قدما علينا المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فكلماه، وقالا: إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك. فرَقّ لها.
فقلت له يا عياش: إنه والله إن القوم ما يريدوك إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فوالله لو قد أذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت.
قال: فقال: أبر قسم أمي، ولي هناك مال فآخذه.
قال: فقلت: والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريشًا مالًا، فلك نصف مالي، ولا تذهب معهما.
قال: فأَبَى عليّ إلا أن يخرج معهما، فلما أَبَى إلا ذلك قلت: أما إذ قد فعلت ما فعلت، فخذ ناقتي فإنها ناقة نجيبة ذلول فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها، فخرج عليها معهما.
حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال أبو جهل: إن ناقتي كلت فاحملني معك. قال عياش: نعم ونزل ليوطئ لنفسه ولأبي جهل. فأخذاه وشداه وثاقا وذهبا به إلى أمه، فقالت له: لا تزال بعذاب حتى ترجع عن دين محمد، وأوثقته عندها. قال: فكنا نقول: ما الله بقابل ممن افتتن صرفًا، ولا عدلًا، ولا توبة، قوم عرفوا الله، ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم.
قال: وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله تعالى: [قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ] {الزُّمر: 53}.
قال عمر بن الخطاب: فكتبتها بيدي في صحيفة وبعثت بها إلى هشام بن العاص.
قال: فقال هشام: فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى، أصعد بها فيه، وأصوب، ولا أفهمها، حتى قلت: اللهم فهمنيها.
قال: فألقى الله تعالى في قلبي أنها أنزلت فينا، وفيما كنا نقول لأنفسنا ويقال فينا.
قال: فرجعت إلى بعيري، فجلست عليه فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة.
وهذه الحادثة تظهر لنا كيف أعد عمر رضي الله عنه خطة الهجرة له، ولصاحبيه عياش بن أبى ربيعة وهشام بن العاص بن وائل السهمى، وكان ثلاثتهم كل واحد من قبيلة، وكان مكان اللقاء الذي اتعدوا فيه بعيدا عن مكة وخارج الحرم على طريق المدينة، ولقد تحدد الزمان والمكان بالضبط بحيث إنه إذا تخلف أحدهم فليمض صاحباه، ولا ينتظرانه، لأنه قد حبس، وكما توقعوا فقد حبس هشام بن العاص رضي الله عنه، بينما مضى عمر وعياش بهجرتهما، ونجحت الخطة كاملة ووصلا المدينة سالميْن، إلا أن قريشا صممت على متابعة المهاجرين، ولذلك أعدت خطة محكمة قام بتنفيذها أبو جهل والحارث وهما أخوا عياش من أمه، الأمر الذي جعل عياشًا يطمئن إليهما، وبخاصة إذا كان الأمر يتعلق بأمه، فاختلق أبو جهل هذه الحيلة لعلمه بمدى شفقة ورحمة عياش بأمه، والذي ظهر جليا عندما أظهرموافقته على العودة معهما، كما تظهرالحادثة الحس الأمنى الرفيع الذي كان يتمتع به عمر رضي الله عنه، حيث صدقت فراسته فى أمر الاختطاف كما يظهرالمستوى العظيم من الأخوة التى بناها الاسلام، فعمر يضحى بنصف ماله حرصا على سلامة أخيه، وخوفا عليه من أن يفتنه المشركون بعد عودته، ولكن غلبت عياش عاطفته نحو أمه، وبره بها، ولذلك قرر أن يمضى لمكة فيبر قسم أمه ويأتي بماله الذي هناك، وتأبى عليه عفته أن يأخذ مال أخيه عمر رضي الله عنه وماله قائم في مكة لم يمس، غير أن أفق عمر رضي الله عنه كان أبعد، فكأنه يرى رأى العين المصير المشئوم الذي سينزل بعياش لو عاد إلى مكة، وحين عجز من إقناعه أعطاه ناقته الذلول النجيبة، وحدث لعياش ما توقعه عمر من غدر المشركين.
وساد في الصف المسلم أن الله تعالى لا يقبل صرفا ولا عدلا من هؤلاء الذين فتنوا فافتتنوا، وتعايشوا مع المجتمع الجاهلى، فنَزَل قول الله تعالى: [قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ] {الزُّمر: 53: 54}.
فلما نزلت هذه الآيات، سارع الفاروق رضي الله عنه بها إلى أخويه الحميمين عياش وهشام، ليجددا محاولاتهما في مغادرة معسكر الكفر، أي إيجابية من عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
وهكذا ظل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خدمة دينه وعقيدته بالأقوال والأفعال، لا يخشى في الله لومة لائم، وكان رضي الله عنه سندا ومعينا لمن أراد الهجرة من مسلمي مكة حتى خرج، ومعه هذا الوفد الكبير من أقاربه وحلفائه، وساعد عمر رضي الله عنه غيره من أصحابه الذين يريدون الهجرة وخشي عليهم من الفتنة والابتلاء في أنفسهم.
وكان من إيجابيته رضي الله عنه يوم أن هاجر أنه أخذ معه عشرين من ضعفاء المسلمين مهاجرين معه، ولم يخرج وحده.
الجهاد في حياة الفاروق رضي الله عنه
ومن شمائل الفاروق رضي الله عنه: حب الجهاد في سبيل الله، وهو من إيجابيات الفاروق رضي الله عنه.
لقد شاهد الناس إمامهم يقدم روحه في سبيل نصرة الإسلام. وعلو راية الإيمان، فتفانوا جميعًا في الدفاع عن ديار الاسلام، وتسابقوا في دحر طواغيت الأرض في مملكتي الفرس والروم قطبي الأرض في ذلك الزمان.
فصار الإسلام عزيزًا في عهد الفاروق، وصار الكفر بشتى صوره ذليلًا، وما ذاك إلا بحبه وحب رعيته للجهاد في سبيل الله تعالى.
ومنذ بدء الإسلام كانت صفحات الجهاد العمرية تتوالى غزوة تلو غزوة، ومعركة تلو معركة حتى آخر أيامه رضي الله عنه وأرضاه.
فشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم بدرًا، وأحدًا، والخندق، وبيعة الرضوان، وخيبر، وفتح مكة، وحنينًا، وغيرها من المشاهد الجسام في العهد النبوي، وكان له في كل موقعة بصمات واضحة
تعد من أروع مواقف الشجاعة، والفروسية، والاستبسال ما به صار قدوة لكل مجاهد في سبيل الله.
إيجابية الفاروق يوم إسلامه
مما يظهر لنا بقوة ملامح الإيجابية وتأصلها في نفس هذا الصحابي الجليل ما ظهر منه أول يوم أسلم فيه فمع حداثة إسلامه، وضعف قبيلته- بني عدي- إلا أنه تقدم الصفوف، واقترح الظهور وعدم الاختفاء.
موقفه من صلح الحديبية
لا يقبل الفاروق المجاهد إعطاء الدنية في دينه، لذلك نراه يجادل النبي صلى الله عليه وسلم في شأن صلح الحديبية، فيقول عمر: فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِي. قُلْتُ: أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ. قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَيْسَ هَذَا نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ، إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ، وَهُوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ.
فلم يكن هذا الموقف من عمر شكًّا أو ريبة فيما آلت إليه الأمور، بل طلبًا لكشف ما خفي عليه، وحثًّا على إذلال الكفار لما عرف من قوته في نصرة الإسلام.
إيجابيته في خروج المسلمين عند الكعبة.
لما أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ إِنْ مِتْنَا وَإِنْ حَيِينَا؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلَى يَا عُمَرُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّكُمْ عَلَى الْحَقِّ، إِنْ مِتُّمْ وَإِنْ حَيِيتُمْ. قَالَ: فَفِيمَ الِاخْتِفَاءُ؟ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَتَخْرُجَنَّ. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى على ما يبدو أنه قد آن الآوان للإعلان، وأن الدعوة التي كانت كالوليد الضعيف الذي لا بد له من الرعاية والحفظ، قد غدت قوية تمشي، وتستطيع أن تدافع عن نفسها فأذن بالإعلان.
وخرج الرسول صلى الله عليه وسسلمون في صفين، عمر فيم كديد ككديد الطحن، حتى دخلوا المسجد فنظرت قريش إلى عمر وإلى حمزة، فأصابتهم كآبة لم تصبهم مثلها قط، وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ الفاروق.
مراجعته للنبي صلى الله عليه وسلم
قال عمر رضي الله عنه: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ. فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ المَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ] {الأنفال: 9}. فَأَمَدَّهُ اللَّهُ بِالْمَلَائِكَةِ... فَقَتَلُوا يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ وَأَسَرُوا سَبْعِينَ... فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ هُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ، أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً، فَتَكُونُ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ قُلْتُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ، وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ تُمَكِّنَّا فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ، فَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنِّي مِنْ فُلَانٍ- نَسِيبًا لِعُمَرَ- فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهَا. فَهَوِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ جِئْتُ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَيْنِ يَبْكِيَانِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ، لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ- شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: [مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآَخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] {الأنفال: 67} إِلَى قَوْلِهِ: [ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ] (الأنفال: 69). فَأَحَلَّ اللَّهُ الْغَنِيمَةَ لَهُمْ.
مراجعة عمر لأبي بكر الصديق رضي الله عنهما
من إيجابيات الفاروق رضي الله عنه مراجعته لأبي بكر الصديق في إقطاع الصديق للأقرع بن حابس وعينية بن حصن.
و جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالا: يا خليفة رسول الله، إن عندنا أرضا سبحة ليس فيها كلأ ولا منفعة، فإن رأيت أن تقطعنا لعلنا نحرثها أو نزرعها، لعل الله أن ينفع بها بعد اليوم، فقال أبو بكر لمن حوله: ما تقولون فيما قالا، إن كانت أرضا سبحة لا يُنتفع بها؟ قالوا: نرى أن تقطعهما إياها، لعل الله ينفع بها بعد اليوم. فأقطعهما إياها، وكتب لهما بذلك كتابا، وأشهد عمر، وليس في القوم، فانطلقا إلى عمر يشهدانه، فوجداه قائما يهنأ بعيرا له، فقالا: إن أبا بكر أشهدك على ما في الكتاب فنقرأ عليك أو تقرأ؟ فقال: أنا على الحال الذي تريان، فإن شئتما فاقرءا وإن شئتما فانتظرا حتى أفرغ، فأقرأ عليكما قالا: بل نقرأ فقرءا فلما سمع ما في الكتاب تناوله من أيديهما ثم تفل عليه فمحاه، فتذمرا، وقالا مقالة سيئة، فقال: إن رسول الله كان يتألفكما، والإسلام يومئذ ذليل وإن الله قد أعز الإسلام فاذهبا فأجهدا جهدكما، لا رعى الله عليكما إن رعيتما. فأقبلا إلى أبي بكر وهما يتذمران فقالا: والله ما ندري أنت الخليفة أم عمر؟ فقال: لا، بل هو لو كان شاء؛ فجاء عمر وهو مغضب، فوقف على أبي بكر فقال: أخبرنى عن هذه الأ رض التى أقطعتها هذين أرض، هى لك خاصة أم للمسلمين عامة؟ قال: بل للمسلمين عامة. قال: فما حملك أن تخص بها هذين دون جماعة المسلمين؟ قال: استشرت هؤلاء الذين حولي فأشاروا علي بذلك.
قال: فإذا استشرت هؤلاء الذين حولك، فكل المسلمين أوسعتهم مشورة ورضًا. فقال أبو بكر رضي الله عنه: قد كنتُ قلتُ لك إِنَّك على هذا أقوى مني، ولكن غلبتني.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إن اهتمام الفاروق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ظل معه حتى وهو يواجه الموت بكل آلامه وشدائده، ذلك أن شابا دخل عليه لما طعن، ليواسيه، وقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك، من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقِدَم في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة، قال- أى عمر-: وددت أن ذلك كفاف، لا عليّ ولا لى، فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض، قال: ردوا علَيّ الغلام، قال: يا ابن أخى، ارفع ثوبك فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك.
وهكذا لم يمنعه رضي الله عنه ما هو فيه من سكرات الموت عن الأمر بالمعروف، ولذا قال ابن مسعود رضي الله عنه فيما رواه عمر بن شبة: يرحم الله عمر لم يمنعه ما كان فيه من قول الحق.
ومن عنايته الفائقة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الحالة أيضا لما دخلت عليه حفصة رضي الله عنها فقالت: يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويا صهر رسول الله، ويا أمير المؤمنين، فقال عمر لابن عمر رضي الله عنهما: يا عبد الله، أجلسنى فلا صبر لى على ما أسمع. فأسنده إلى صدره، فقال لها: إني أُحَرِّج عليك بما لي عليك من الحق أن تندبيني بعد مجلسك هذا، فأما عينك فلن أملكها.
وعَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا طُعِنَ، عَوَّلَتْ عَلَيْهِ حَفْصَةُ، فَقَالَ: يَا حَفْصَةُ، أَمَا سَمِعْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ. وَعَوَّلَ عَلَيْهِ صُهَيْبٌ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا صُهَيْبُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ.
موقفه رضي الله عنه عام الرمادة
من إيجابيات الفاروق عمر رضي الله عنه، أنه ضرب المثل والقدوة للمسلمين في عام الرمادة.
جيء لعمر بن الخطاب في عام الرمادة بخبز مفتوت بسمن فدعا رجلا بدويا ليأكل معه، فجعل البدوى يتبع باللقمة الودك في جانب الصفحة، فقال له عمر: كأنك مقفر من الودك، فقال البدوى: أجل، ما أكلت سمنا ولا زيتا، ولا رأيت أكلًا له منذ كذا وكذا إلى اليوم، فحلف عمر لا يذوق لحما ولا سمنا حتى يحيا الناس، ولقد أجمع الرواة جميعا أن عمر كان صارمًا في الوفاء بهذا القسم، ومن ذلك، أنه لما قدمت إلى السوق عكة سمن ووطب من لبن، فاشتراهما غلام لعمر بأربعين درهما ثم أتى عمر فقال: يا أمير المؤمنين قد أبر الله يمينك وعظم أجرك، وقدم السوق وطب من لبن وعكة من سمن ابتعتهما بأربعين درهما، فقال عمر: أغليت فتصدق بهما، فإنى أكره أن آكل إسرافا. ثم أردف قائلا: كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسني ما مسهم. فهذه جملة واحدة في كلمات مضيئة، يوضح فيها الفاروق مبدأ من أروع المبادئ الكبرى التى يمكن أن تعرفها الإنسانية في فن الحكم: كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسني ما مسهم. وقد تأثر عمر في عام الرمادة حتى تغير لونه رضي الله عنه فعن عياض بن خليفة قال: رأيت عمر عام الرمادة وهو أسود اللون، ولقد كان رجلا عربيا يأكل السمن واللبن فلما أمحل الناس حرمهما، فأكل الزيت حتى غير لونه وجاع فأكثر، وعن أسلم قال: كنا نقول: لو لم يرفع الله تعالى المحل عام الرمادة لظننا أن عمر يموت همًّا بأمر المسلمين، وكان رضي الله عنه يصوم الدهر، فكان عام الرمادة، إذا أمسى أتى بخبز قد ثرد بالزيت إلى أن نحر يوما من الأيام جزورا، فأطعمها الناس، وعرفوا له طيبها، فأتي به، فإذا قدر من سنام ومن كبد، فقال: أنى هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين من الجزور التى نحرنا اليوم. قال: بخ بخ بئس الوالى أنا إن أكلت طيبها وأطعمت الناس كراديسها، ارفع هذه الصحفة هات لنا غير هذا الطعام. فأتي بخبز وزيت، فجعل يكسر بيده ويثرد ذلك بالزيت، ثم قال: ويحك يا يرفأ، احمل هذه الجفنة حتى تأتي بها أهل بيت بثمغ- اسم مكان- فإنى لم آتهم منذ ثلاثة أيام وأحسبهم مقفرين، فضعها بين أيديهم.
هذا هو الفاروق وهذا هو فن الحكم في الإسلام يؤثر الرعية على نفسه، فيأكلون خيرا مما يأكل، وهو الذي يحمل من أعباء الحكم والحياة أضعاف ما يحملون، ويعاني من ذلك أضعاف ما يعانون، وهو في ذلك لا يضع القيود على نفسه وحدها، بل يسير بها ليقيد أفراد أسرته، فهم أيضا يجب أن يعانوا أكثر مما يعاني الناس، وقد نظر ذات يوم في عام الرمادة فرأى بطيخة في يد ولد من أولاده فقال له على الفور: بخ بخ يا ابن أمير المؤمنين، تأكل الفاكهة وأمة محمد هَزْلى؟ فخرج الصبي هاربا يبكي، ولم يسكت عمر إلا بعد أن سأل عن ذلك وعلم أن ابنه اشتراها بكف من نوى.
لقد كان إحساسه بمسئولية الحكم أمام الله عز وجل يملك عليه شعاب نفسه، فلم يترك وسيلة في الدين، والدنيا يواجه بها الجدب وانقطاع المطر إلا لجأ إليها، فكان دائم الصلاة، دائم الاستغفار، دائم الحرص على توفير الأقوات للمسلمين، يفكر في رعيته، من زحف منهم إلى المدينة، ومن بقي منهم في البادية، ويواجه العبء كله في كفاءة واقتدار. ثم بعد ذلك قسوة على النفس ما أروعها من قسوة، حتى قال من أحاط به في تلك الأزمة: لو لم يرفع الله المحل عام الرمادة لظننا أن عمر يموت همّا بأمر المسلمين.
معسكرات اللاجئين عام الرمادة
عن أسلم قال: لما كان عام الرمادة جاءت العرب من كل ناحية فقدموا المدينة، فكان عمر قد أمر رجالا يقومون بمعالجتهم، فسمعته يقول ليلة: أحصوا من يتعشى عندنا. فأحصوهم من القابلة فوجدوهم سبعة آلاف رجل، وأجمعوا الرجال المرضى والعيالات فكانوا أربعين ألفا. ثم بعد أيام بلغ الرجال والعيال ستين ألفا فما برحوا حتى أرسل الله السماء، فلما مطرت رأيت عمر قد وكل بهم من يخرجونهم إلى البادية ويعطونهم قوتا وحملانا إلى باديتهم، وكان قد وقع فيهم الموت فأراه مات ثلثاهم، وكانت قدور عمر تقوم إليها العمال من السحر يعملون الكركور ويعملون العصائد، وهنا نرى الفاروق رضي الله عنه يقسم وظائف العمل على العاملين، وينشئ مؤسسة اللاجئين بحيث يكون كل موظف عالما بالعمل الذي كلفه به دون تقصير فيه، ولا يتجاوز إلى عمل آخر مسند إلى غيره، فقد عيّن أمراء على نواحي المدينة لتفقد أحوال الناس الذين اجتمعوا حولها طلبا للرزق لشدة ما أصابهم من القحط والجوع، فكانوا يشرفون على تقسيم الطعام والإدام على الناس وإذا أمسوا اجتمعوا عنده فيخبرونه بكل ما كانوا فيه، وهو يوجههم، وكان عمر يُطْعم الأعراب من دار الدقيق وهى من المؤسسات الاقتصادية التى كانت أيام عمر توزع على الوافدين على المدينة الدقيق والسويق، والتمر، والزبيب من مخزون الدار قبل أن يأتى المدد من مصر والشام والعراق، وقد توسعت دار الدقيق لتصبح قادرة على إطعام عشرات الألوف الذين وفدوا على المدينة مدة تسعة أشهر، قبل أن يحيا الناس بالمطر، وهذا يدل على عقلية عمر في تطوير مؤسسات الدولة سواء كانت مالية، أو غيرها، وكان رضي الله عنه يعمل بنفسه في تلك المعسكرات.
قال أبو هريرة: يرحم الله ابن حنتمة، لقد رأيته عام الرمادة وإنه ليحمل على ظهره جرابين، وعكة زيت، في يده وإنه ليعتقب- أي يتناوب- هو وأسلم فلما رآني قال: من أين يا أبا هريرة؟ قلت: قريبا. قال: فأخذت أعقبه- أعاونه- فحملناه حتى انتهينا إلى ضرار فإذا صرم- جماعة- نحو من عشرين بيتا من محارب فقال عمر: ما أقدمكم؟ قالوا: الجهد. قال: وأخرجوا لنا جلد ميتة مشوية كانوا يأكلونها، ورمة العظام مسحوقة كانوا يسفونها قال: فرأيت عمر طرح رداءه ثم نزل يطبخ لهم ويطعمهم حتى شبعوا، ثم أرسل أسلم إلى المدينة، فجاء بأبعرة فحملهم عليها حتى أنزلهم الجبانة، ثم كساهم، ثم لم يزل يختلف إليهم وإلى غيرهم حتى رفع الله ذلك.
وكان رضي الله عنه يصلي بالناس العشاء ثم يخرج إلى بيته فلا يزال يصلي حتى يكون آخر الليل، ثم يخرج فيأتي الأنقاب، فيطوف عليها وقد ذكر عبد الله بن عمر بأنه قال: وإني لأسمعه ليلة في السحر وهو يقول: اللهم لا تجعل هلاك أمة محمد على يدي. ويقول: اللهم لا تهلكنا بالسنين وارفع عنا البلاء. يردد هذه الكلمات.
وقال مالك ابن أوس- من بني نصر-: لما كان عام الرمادة قدم على عمر قومي وهم مائة بيت فنزلوا الجبانة، فكان عمر يطعم الناس من جاءه، ومن لم يأت أرسل إليه الدقيق والتمر والأدم إلى منزله، فكان يرسل إلى قومي بما يصلحهم شهرا بشهر؟ وكان يتعهد مرضاهم وأكفان من مات منهم، ولقد رأيت الموت وقع فيهم حتى أكلوا الثفل وكان عمر رضي الله عنه يأتي بنفسه فيصلي عليهم، لقد رأيته صلى على عشرة جميعًا.
مقدمة
الإيجابية بمعناها الدقيق تعني التفاعل مع الأحداث، والتأثير في سيرها، وعدم السكوت عن الفعل الشاذ لأن السكوت عنه إقرار له.
ومن هنا كانت إيجابية سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
من شمائل الفاروق رضي الله عنه التي تدل على إيجابيته أمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، وسعيه للتغيير بكل الوسائل المتاحة، ما لم تتعارض مع دينه وعقيدته، ومن مظاهر إيجابيته عدم السكوت عن المشورة، وإن لم يكن مطلوبا منه، وأيضا دعوته لغيره من الدلائل القوية علي إيجابيتة رضي الله عنه.
إيجابية عمر تدفعه إلى تعليم غيره من الناس
ومن مواقف الفاروق التي يتجلى فيها اتباعه للسنة النبوية: موقفه من الحجر الأسود.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قَبَّل الحجر الأسود، والعمل على هذا استحباب تقبيل الحجر الأسود لمن تيسر له، فإن لم يمكنه استلمه بيده.، فإن لم يمكنه استقبله إذا حاذاه وكَبَّر.
يقول عابس بن ربيعة رحمه الله: رأيت عمر بن الخطاب استقبل الحجر، ثم قال: إني لأعلم أنك حجر، لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلك ما قَبَّلتك، ثم تقدم فقَبّله.
وفي رواية أخرى: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، رأيت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم بك حَفيًّا. يعنى الحجر الأسود.
قال العلامة الطبري رحمه الله:
إنما قال ذلك عمر رضي الله عنه لأن الناس كانوا حديثى عهد بعبادة الأصنام، فخشي عمر أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم بعض الأحجار كما كانت العرب تفعل في الجاهلية.
فأراد عمر أن يعلم الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا لأن الحجر ينفع ويضر كما كانت الجاهلية تعتقد في الأوثان.
وفي قول عمر رضي الله عنه هذا الكلام التسليم للشارع في أمور الدين، وحسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيها، وهي قاعدة عظيمة في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما يفعله، ولو لم يعلم الحكمة فيه.
قال أبو سليمان الخطاب رحمه الله:
فيه من العلم أن متابعة السنن واجبة، وإن لم يوقف لها على علل معلومة وأسباب معقولة، وأن أعيانها حجة على من بلغته وإن لم يفقه معانيها، إلا أنه من المعلوم في الجملة أن تقبيل الحجر إنما هو إكرام له، وقد فضل الله بعض الأحجار على بعض، كما فضل بعض البقاع والبلدان، وكما فضل بعض الليالي والأيام والشهور، وباب هذا كله التسليم.
فليس لهذا الأمور علّة يرجع إليها وإنما هو حكم الله عز وجل ومشيئته:
[لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] {الأنبياء: 23}.
[أَلَا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ] {الأعراف: 54}.
فعمر رضي الله عنه شديد المتابعة للسنة النبوية لا يُقَدّم عليها شيئًا من الرأي، بل كان لا يقدم الرأي وأهله معتبرًا بأن أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم أن يعوها، وتفلتت منهم أن يرووها فاستبقوها بالرأي.
قال عمرو بن الحريث: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي فضَلُّوا وأضلوا.
قال سحنون: يعني البدع.
وقال أبو بكر بن أبي داود: أهل الرأي هم أهل البدع.
والمقصود بالرأي هنا هو الرأي المخالف للكتاب والسنة، وليس الأمر على إطلاقه فمن المدارس الإسلامية مدرسة أهل الرأي.
وما أروع الفاروق وهو يحدد معالم الاتباع للناس قائلًا:
أيها الناس: قد سُنت لكم السنن، وفُرضت لكم الفرائض، وتُركتم على الواضحة إلا أن تضلوا بالناس يمينًا وشمالًا، وضرب بإحدى يديه على الأخرى.
فرضي الله عن الفاروق الداعي إلى الاتباع، والناهي عن الابتداع.
ويساعد الفاروق غيره من الصحابة الذين يريدون الهجرة، ويتعرضون للفتنة، والابتلاء في أنفسهم.
إيجابيته رضي الله عنه في أحداث الهجرة
يقف عمر رضي الله عنه عند هجرته ينصح عياش بن أبي ربيعة بعدم العودة، ويعرفه بما أعد له من مكيدة وخدعة ولكنه يستجيب، ويسقط في الفتنة.
وآخر يعزم على الخروج مهاجرًا مع عمر ولكنه يحبس ويفتن، فماذا كان موقف الفاروق منه.
بمجرد نزول آيات قرآنية داعية للتوبة، وعدم القنوط من رحمة الله تعالى إلا ويكتبها الفاروق، ويرسل بها إلى هشام بن العاص السهمي فتكون سببًا في توبته، وهجرته بعد حبسه.
ويقص علينا عمر رضي الله عنه شيئًا من معاناة الهجرة إلى المدينة، فيقول: اتَّعَدْتُ لما أردنا الهجرة إلى المدينة أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص السهمي التناضب من أضاة بني غفار فوق سرف، وقلنا: أينا لم يصبح عندها فقد حبس فليمضي صاحباه. قال: فأصبحت أنا وعياش بن أبي ربيعة عند التناضب، وحبس عنا هشام وفتن فافتتن.
فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف بقباء، وخرج أبو جهل بن هشام، والحارث بن هشام إلى عياش بن أبي ربيعة وكان ابن عمهما، وأخاهما لأمهما حتى قدما علينا المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فكلماه، وقالا: إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك. فرَقّ لها.
فقلت له يا عياش: إنه والله إن القوم ما يريدوك إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فوالله لو قد أذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت.
قال: فقال: أبر قسم أمي، ولي هناك مال فآخذه.
قال: فقلت: والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريشًا مالًا، فلك نصف مالي، ولا تذهب معهما.
قال: فأَبَى عليّ إلا أن يخرج معهما، فلما أَبَى إلا ذلك قلت: أما إذ قد فعلت ما فعلت، فخذ ناقتي فإنها ناقة نجيبة ذلول فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها، فخرج عليها معهما.
حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال أبو جهل: إن ناقتي كلت فاحملني معك. قال عياش: نعم ونزل ليوطئ لنفسه ولأبي جهل. فأخذاه وشداه وثاقا وذهبا به إلى أمه، فقالت له: لا تزال بعذاب حتى ترجع عن دين محمد، وأوثقته عندها. قال: فكنا نقول: ما الله بقابل ممن افتتن صرفًا، ولا عدلًا، ولا توبة، قوم عرفوا الله، ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم.
قال: وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله تعالى: [قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ] {الزُّمر: 53}.
قال عمر بن الخطاب: فكتبتها بيدي في صحيفة وبعثت بها إلى هشام بن العاص.
قال: فقال هشام: فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى، أصعد بها فيه، وأصوب، ولا أفهمها، حتى قلت: اللهم فهمنيها.
قال: فألقى الله تعالى في قلبي أنها أنزلت فينا، وفيما كنا نقول لأنفسنا ويقال فينا.
قال: فرجعت إلى بعيري، فجلست عليه فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة.
وهذه الحادثة تظهر لنا كيف أعد عمر رضي الله عنه خطة الهجرة له، ولصاحبيه عياش بن أبى ربيعة وهشام بن العاص بن وائل السهمى، وكان ثلاثتهم كل واحد من قبيلة، وكان مكان اللقاء الذي اتعدوا فيه بعيدا عن مكة وخارج الحرم على طريق المدينة، ولقد تحدد الزمان والمكان بالضبط بحيث إنه إذا تخلف أحدهم فليمض صاحباه، ولا ينتظرانه، لأنه قد حبس، وكما توقعوا فقد حبس هشام بن العاص رضي الله عنه، بينما مضى عمر وعياش بهجرتهما، ونجحت الخطة كاملة ووصلا المدينة سالميْن، إلا أن قريشا صممت على متابعة المهاجرين، ولذلك أعدت خطة محكمة قام بتنفيذها أبو جهل والحارث وهما أخوا عياش من أمه، الأمر الذي جعل عياشًا يطمئن إليهما، وبخاصة إذا كان الأمر يتعلق بأمه، فاختلق أبو جهل هذه الحيلة لعلمه بمدى شفقة ورحمة عياش بأمه، والذي ظهر جليا عندما أظهرموافقته على العودة معهما، كما تظهرالحادثة الحس الأمنى الرفيع الذي كان يتمتع به عمر رضي الله عنه، حيث صدقت فراسته فى أمر الاختطاف كما يظهرالمستوى العظيم من الأخوة التى بناها الاسلام، فعمر يضحى بنصف ماله حرصا على سلامة أخيه، وخوفا عليه من أن يفتنه المشركون بعد عودته، ولكن غلبت عياش عاطفته نحو أمه، وبره بها، ولذلك قرر أن يمضى لمكة فيبر قسم أمه ويأتي بماله الذي هناك، وتأبى عليه عفته أن يأخذ مال أخيه عمر رضي الله عنه وماله قائم في مكة لم يمس، غير أن أفق عمر رضي الله عنه كان أبعد، فكأنه يرى رأى العين المصير المشئوم الذي سينزل بعياش لو عاد إلى مكة، وحين عجز من إقناعه أعطاه ناقته الذلول النجيبة، وحدث لعياش ما توقعه عمر من غدر المشركين.
وساد في الصف المسلم أن الله تعالى لا يقبل صرفا ولا عدلا من هؤلاء الذين فتنوا فافتتنوا، وتعايشوا مع المجتمع الجاهلى، فنَزَل قول الله تعالى: [قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ] {الزُّمر: 53: 54}.
فلما نزلت هذه الآيات، سارع الفاروق رضي الله عنه بها إلى أخويه الحميمين عياش وهشام، ليجددا محاولاتهما في مغادرة معسكر الكفر، أي إيجابية من عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
وهكذا ظل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خدمة دينه وعقيدته بالأقوال والأفعال، لا يخشى في الله لومة لائم، وكان رضي الله عنه سندا ومعينا لمن أراد الهجرة من مسلمي مكة حتى خرج، ومعه هذا الوفد الكبير من أقاربه وحلفائه، وساعد عمر رضي الله عنه غيره من أصحابه الذين يريدون الهجرة وخشي عليهم من الفتنة والابتلاء في أنفسهم.
وكان من إيجابيته رضي الله عنه يوم أن هاجر أنه أخذ معه عشرين من ضعفاء المسلمين مهاجرين معه، ولم يخرج وحده.
الجهاد في حياة الفاروق رضي الله عنه
ومن شمائل الفاروق رضي الله عنه: حب الجهاد في سبيل الله، وهو من إيجابيات الفاروق رضي الله عنه.
لقد شاهد الناس إمامهم يقدم روحه في سبيل نصرة الإسلام. وعلو راية الإيمان، فتفانوا جميعًا في الدفاع عن ديار الاسلام، وتسابقوا في دحر طواغيت الأرض في مملكتي الفرس والروم قطبي الأرض في ذلك الزمان.
فصار الإسلام عزيزًا في عهد الفاروق، وصار الكفر بشتى صوره ذليلًا، وما ذاك إلا بحبه وحب رعيته للجهاد في سبيل الله تعالى.
ومنذ بدء الإسلام كانت صفحات الجهاد العمرية تتوالى غزوة تلو غزوة، ومعركة تلو معركة حتى آخر أيامه رضي الله عنه وأرضاه.
فشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم بدرًا، وأحدًا، والخندق، وبيعة الرضوان، وخيبر، وفتح مكة، وحنينًا، وغيرها من المشاهد الجسام في العهد النبوي، وكان له في كل موقعة بصمات واضحة
تعد من أروع مواقف الشجاعة، والفروسية، والاستبسال ما به صار قدوة لكل مجاهد في سبيل الله.
إيجابية الفاروق يوم إسلامه
مما يظهر لنا بقوة ملامح الإيجابية وتأصلها في نفس هذا الصحابي الجليل ما ظهر منه أول يوم أسلم فيه فمع حداثة إسلامه، وضعف قبيلته- بني عدي- إلا أنه تقدم الصفوف، واقترح الظهور وعدم الاختفاء.
موقفه من صلح الحديبية
لا يقبل الفاروق المجاهد إعطاء الدنية في دينه، لذلك نراه يجادل النبي صلى الله عليه وسلم في شأن صلح الحديبية، فيقول عمر: فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِي. قُلْتُ: أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ. قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَيْسَ هَذَا نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ، إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ، وَهُوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ.
فلم يكن هذا الموقف من عمر شكًّا أو ريبة فيما آلت إليه الأمور، بل طلبًا لكشف ما خفي عليه، وحثًّا على إذلال الكفار لما عرف من قوته في نصرة الإسلام.
إيجابيته في خروج المسلمين عند الكعبة.
لما أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ إِنْ مِتْنَا وَإِنْ حَيِينَا؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلَى يَا عُمَرُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّكُمْ عَلَى الْحَقِّ، إِنْ مِتُّمْ وَإِنْ حَيِيتُمْ. قَالَ: فَفِيمَ الِاخْتِفَاءُ؟ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَتَخْرُجَنَّ. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى على ما يبدو أنه قد آن الآوان للإعلان، وأن الدعوة التي كانت كالوليد الضعيف الذي لا بد له من الرعاية والحفظ، قد غدت قوية تمشي، وتستطيع أن تدافع عن نفسها فأذن بالإعلان.
وخرج الرسول صلى الله عليه وسسلمون في صفين، عمر فيم كديد ككديد الطحن، حتى دخلوا المسجد فنظرت قريش إلى عمر وإلى حمزة، فأصابتهم كآبة لم تصبهم مثلها قط، وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ الفاروق.
مراجعته للنبي صلى الله عليه وسلم
قال عمر رضي الله عنه: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ. فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ المَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ] {الأنفال: 9}. فَأَمَدَّهُ اللَّهُ بِالْمَلَائِكَةِ... فَقَتَلُوا يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ وَأَسَرُوا سَبْعِينَ... فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ هُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ، أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً، فَتَكُونُ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ قُلْتُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ، وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ تُمَكِّنَّا فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ، فَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنِّي مِنْ فُلَانٍ- نَسِيبًا لِعُمَرَ- فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهَا. فَهَوِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ جِئْتُ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَيْنِ يَبْكِيَانِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ، لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ- شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: [مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآَخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] {الأنفال: 67} إِلَى قَوْلِهِ: [ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ] (الأنفال: 69). فَأَحَلَّ اللَّهُ الْغَنِيمَةَ لَهُمْ.
مراجعة عمر لأبي بكر الصديق رضي الله عنهما
من إيجابيات الفاروق رضي الله عنه مراجعته لأبي بكر الصديق في إقطاع الصديق للأقرع بن حابس وعينية بن حصن.
و جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالا: يا خليفة رسول الله، إن عندنا أرضا سبحة ليس فيها كلأ ولا منفعة، فإن رأيت أن تقطعنا لعلنا نحرثها أو نزرعها، لعل الله أن ينفع بها بعد اليوم، فقال أبو بكر لمن حوله: ما تقولون فيما قالا، إن كانت أرضا سبحة لا يُنتفع بها؟ قالوا: نرى أن تقطعهما إياها، لعل الله ينفع بها بعد اليوم. فأقطعهما إياها، وكتب لهما بذلك كتابا، وأشهد عمر، وليس في القوم، فانطلقا إلى عمر يشهدانه، فوجداه قائما يهنأ بعيرا له، فقالا: إن أبا بكر أشهدك على ما في الكتاب فنقرأ عليك أو تقرأ؟ فقال: أنا على الحال الذي تريان، فإن شئتما فاقرءا وإن شئتما فانتظرا حتى أفرغ، فأقرأ عليكما قالا: بل نقرأ فقرءا فلما سمع ما في الكتاب تناوله من أيديهما ثم تفل عليه فمحاه، فتذمرا، وقالا مقالة سيئة، فقال: إن رسول الله كان يتألفكما، والإسلام يومئذ ذليل وإن الله قد أعز الإسلام فاذهبا فأجهدا جهدكما، لا رعى الله عليكما إن رعيتما. فأقبلا إلى أبي بكر وهما يتذمران فقالا: والله ما ندري أنت الخليفة أم عمر؟ فقال: لا، بل هو لو كان شاء؛ فجاء عمر وهو مغضب، فوقف على أبي بكر فقال: أخبرنى عن هذه الأ رض التى أقطعتها هذين أرض، هى لك خاصة أم للمسلمين عامة؟ قال: بل للمسلمين عامة. قال: فما حملك أن تخص بها هذين دون جماعة المسلمين؟ قال: استشرت هؤلاء الذين حولي فأشاروا علي بذلك.
قال: فإذا استشرت هؤلاء الذين حولك، فكل المسلمين أوسعتهم مشورة ورضًا. فقال أبو بكر رضي الله عنه: قد كنتُ قلتُ لك إِنَّك على هذا أقوى مني، ولكن غلبتني.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إن اهتمام الفاروق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ظل معه حتى وهو يواجه الموت بكل آلامه وشدائده، ذلك أن شابا دخل عليه لما طعن، ليواسيه، وقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك، من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقِدَم في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة، قال- أى عمر-: وددت أن ذلك كفاف، لا عليّ ولا لى، فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض، قال: ردوا علَيّ الغلام، قال: يا ابن أخى، ارفع ثوبك فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك.
وهكذا لم يمنعه رضي الله عنه ما هو فيه من سكرات الموت عن الأمر بالمعروف، ولذا قال ابن مسعود رضي الله عنه فيما رواه عمر بن شبة: يرحم الله عمر لم يمنعه ما كان فيه من قول الحق.
ومن عنايته الفائقة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الحالة أيضا لما دخلت عليه حفصة رضي الله عنها فقالت: يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويا صهر رسول الله، ويا أمير المؤمنين، فقال عمر لابن عمر رضي الله عنهما: يا عبد الله، أجلسنى فلا صبر لى على ما أسمع. فأسنده إلى صدره، فقال لها: إني أُحَرِّج عليك بما لي عليك من الحق أن تندبيني بعد مجلسك هذا، فأما عينك فلن أملكها.
وعَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا طُعِنَ، عَوَّلَتْ عَلَيْهِ حَفْصَةُ، فَقَالَ: يَا حَفْصَةُ، أَمَا سَمِعْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ. وَعَوَّلَ عَلَيْهِ صُهَيْبٌ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا صُهَيْبُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ.
موقفه رضي الله عنه عام الرمادة
من إيجابيات الفاروق عمر رضي الله عنه، أنه ضرب المثل والقدوة للمسلمين في عام الرمادة.
جيء لعمر بن الخطاب في عام الرمادة بخبز مفتوت بسمن فدعا رجلا بدويا ليأكل معه، فجعل البدوى يتبع باللقمة الودك في جانب الصفحة، فقال له عمر: كأنك مقفر من الودك، فقال البدوى: أجل، ما أكلت سمنا ولا زيتا، ولا رأيت أكلًا له منذ كذا وكذا إلى اليوم، فحلف عمر لا يذوق لحما ولا سمنا حتى يحيا الناس، ولقد أجمع الرواة جميعا أن عمر كان صارمًا في الوفاء بهذا القسم، ومن ذلك، أنه لما قدمت إلى السوق عكة سمن ووطب من لبن، فاشتراهما غلام لعمر بأربعين درهما ثم أتى عمر فقال: يا أمير المؤمنين قد أبر الله يمينك وعظم أجرك، وقدم السوق وطب من لبن وعكة من سمن ابتعتهما بأربعين درهما، فقال عمر: أغليت فتصدق بهما، فإنى أكره أن آكل إسرافا. ثم أردف قائلا: كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسني ما مسهم. فهذه جملة واحدة في كلمات مضيئة، يوضح فيها الفاروق مبدأ من أروع المبادئ الكبرى التى يمكن أن تعرفها الإنسانية في فن الحكم: كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسني ما مسهم. وقد تأثر عمر في عام الرمادة حتى تغير لونه رضي الله عنه فعن عياض بن خليفة قال: رأيت عمر عام الرمادة وهو أسود اللون، ولقد كان رجلا عربيا يأكل السمن واللبن فلما أمحل الناس حرمهما، فأكل الزيت حتى غير لونه وجاع فأكثر، وعن أسلم قال: كنا نقول: لو لم يرفع الله تعالى المحل عام الرمادة لظننا أن عمر يموت همًّا بأمر المسلمين، وكان رضي الله عنه يصوم الدهر، فكان عام الرمادة، إذا أمسى أتى بخبز قد ثرد بالزيت إلى أن نحر يوما من الأيام جزورا، فأطعمها الناس، وعرفوا له طيبها، فأتي به، فإذا قدر من سنام ومن كبد، فقال: أنى هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين من الجزور التى نحرنا اليوم. قال: بخ بخ بئس الوالى أنا إن أكلت طيبها وأطعمت الناس كراديسها، ارفع هذه الصحفة هات لنا غير هذا الطعام. فأتي بخبز وزيت، فجعل يكسر بيده ويثرد ذلك بالزيت، ثم قال: ويحك يا يرفأ، احمل هذه الجفنة حتى تأتي بها أهل بيت بثمغ- اسم مكان- فإنى لم آتهم منذ ثلاثة أيام وأحسبهم مقفرين، فضعها بين أيديهم.
هذا هو الفاروق وهذا هو فن الحكم في الإسلام يؤثر الرعية على نفسه، فيأكلون خيرا مما يأكل، وهو الذي يحمل من أعباء الحكم والحياة أضعاف ما يحملون، ويعاني من ذلك أضعاف ما يعانون، وهو في ذلك لا يضع القيود على نفسه وحدها، بل يسير بها ليقيد أفراد أسرته، فهم أيضا يجب أن يعانوا أكثر مما يعاني الناس، وقد نظر ذات يوم في عام الرمادة فرأى بطيخة في يد ولد من أولاده فقال له على الفور: بخ بخ يا ابن أمير المؤمنين، تأكل الفاكهة وأمة محمد هَزْلى؟ فخرج الصبي هاربا يبكي، ولم يسكت عمر إلا بعد أن سأل عن ذلك وعلم أن ابنه اشتراها بكف من نوى.
لقد كان إحساسه بمسئولية الحكم أمام الله عز وجل يملك عليه شعاب نفسه، فلم يترك وسيلة في الدين، والدنيا يواجه بها الجدب وانقطاع المطر إلا لجأ إليها، فكان دائم الصلاة، دائم الاستغفار، دائم الحرص على توفير الأقوات للمسلمين، يفكر في رعيته، من زحف منهم إلى المدينة، ومن بقي منهم في البادية، ويواجه العبء كله في كفاءة واقتدار. ثم بعد ذلك قسوة على النفس ما أروعها من قسوة، حتى قال من أحاط به في تلك الأزمة: لو لم يرفع الله المحل عام الرمادة لظننا أن عمر يموت همّا بأمر المسلمين.
معسكرات اللاجئين عام الرمادة
عن أسلم قال: لما كان عام الرمادة جاءت العرب من كل ناحية فقدموا المدينة، فكان عمر قد أمر رجالا يقومون بمعالجتهم، فسمعته يقول ليلة: أحصوا من يتعشى عندنا. فأحصوهم من القابلة فوجدوهم سبعة آلاف رجل، وأجمعوا الرجال المرضى والعيالات فكانوا أربعين ألفا. ثم بعد أيام بلغ الرجال والعيال ستين ألفا فما برحوا حتى أرسل الله السماء، فلما مطرت رأيت عمر قد وكل بهم من يخرجونهم إلى البادية ويعطونهم قوتا وحملانا إلى باديتهم، وكان قد وقع فيهم الموت فأراه مات ثلثاهم، وكانت قدور عمر تقوم إليها العمال من السحر يعملون الكركور ويعملون العصائد، وهنا نرى الفاروق رضي الله عنه يقسم وظائف العمل على العاملين، وينشئ مؤسسة اللاجئين بحيث يكون كل موظف عالما بالعمل الذي كلفه به دون تقصير فيه، ولا يتجاوز إلى عمل آخر مسند إلى غيره، فقد عيّن أمراء على نواحي المدينة لتفقد أحوال الناس الذين اجتمعوا حولها طلبا للرزق لشدة ما أصابهم من القحط والجوع، فكانوا يشرفون على تقسيم الطعام والإدام على الناس وإذا أمسوا اجتمعوا عنده فيخبرونه بكل ما كانوا فيه، وهو يوجههم، وكان عمر يُطْعم الأعراب من دار الدقيق وهى من المؤسسات الاقتصادية التى كانت أيام عمر توزع على الوافدين على المدينة الدقيق والسويق، والتمر، والزبيب من مخزون الدار قبل أن يأتى المدد من مصر والشام والعراق، وقد توسعت دار الدقيق لتصبح قادرة على إطعام عشرات الألوف الذين وفدوا على المدينة مدة تسعة أشهر، قبل أن يحيا الناس بالمطر، وهذا يدل على عقلية عمر في تطوير مؤسسات الدولة سواء كانت مالية، أو غيرها، وكان رضي الله عنه يعمل بنفسه في تلك المعسكرات.
قال أبو هريرة: يرحم الله ابن حنتمة، لقد رأيته عام الرمادة وإنه ليحمل على ظهره جرابين، وعكة زيت، في يده وإنه ليعتقب- أي يتناوب- هو وأسلم فلما رآني قال: من أين يا أبا هريرة؟ قلت: قريبا. قال: فأخذت أعقبه- أعاونه- فحملناه حتى انتهينا إلى ضرار فإذا صرم- جماعة- نحو من عشرين بيتا من محارب فقال عمر: ما أقدمكم؟ قالوا: الجهد. قال: وأخرجوا لنا جلد ميتة مشوية كانوا يأكلونها، ورمة العظام مسحوقة كانوا يسفونها قال: فرأيت عمر طرح رداءه ثم نزل يطبخ لهم ويطعمهم حتى شبعوا، ثم أرسل أسلم إلى المدينة، فجاء بأبعرة فحملهم عليها حتى أنزلهم الجبانة، ثم كساهم، ثم لم يزل يختلف إليهم وإلى غيرهم حتى رفع الله ذلك.
وكان رضي الله عنه يصلي بالناس العشاء ثم يخرج إلى بيته فلا يزال يصلي حتى يكون آخر الليل، ثم يخرج فيأتي الأنقاب، فيطوف عليها وقد ذكر عبد الله بن عمر بأنه قال: وإني لأسمعه ليلة في السحر وهو يقول: اللهم لا تجعل هلاك أمة محمد على يدي. ويقول: اللهم لا تهلكنا بالسنين وارفع عنا البلاء. يردد هذه الكلمات.
وقال مالك ابن أوس- من بني نصر-: لما كان عام الرمادة قدم على عمر قومي وهم مائة بيت فنزلوا الجبانة، فكان عمر يطعم الناس من جاءه، ومن لم يأت أرسل إليه الدقيق والتمر والأدم إلى منزله، فكان يرسل إلى قومي بما يصلحهم شهرا بشهر؟ وكان يتعهد مرضاهم وأكفان من مات منهم، ولقد رأيت الموت وقع فيهم حتى أكلوا الثفل وكان عمر رضي الله عنه يأتي بنفسه فيصلي عليهم، لقد رأيته صلى على عشرة جميعًا.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى