يوم السقيفة
صفحة 1 من اصل 1
يوم السقيفة
يوم السقيفة
د. راغب السرجاني
في الثاني عشر من ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة، اجتمع الأنصار أوسهم وخزرجهم لاختيار خليفة للمسلمين من بينهم، اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، وهي الدار التي اعتادوا أن يعقدوا فيها اجتماعاتهم المهمة، رأى الأنصار أن الخليفة لا بد أن يكون منهم؛ لاعتبارات كثيرة، ولذلك سارعوا إلى هذا الاجتماع الطارئ.
هذا الموقف لا بد وأنه سيثير أسئلة كثيرة في الذهن، وقد تُسأل هذه الأسئلة بحسن نية؛ وذلك للمعرفة والفقه والاستفادة، وقد تسأل بسوء نية؛ للطعن والكيد، والنيل من الصحاب ومن دولة الإسلام، يبرز من هذه الأسئلة سؤالان هامان ركز المستشرقون، وأتباعهم من العلمانيين سواء من أبناء الغرب، أو الشرق، أو من أبناء المسلمين عليهما، سؤالان الغرض منهما الطعن في الأنصار، وسيتبع السؤالان لا محالة أسئلة أخرى للطعن في المهاجرين، وبقية الصحابة:
السؤال الأول:
كيف تحرك الأنصار لاختيار خليفة في نفس يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
أليس في قلوبهم حزن على نبيهم؟
يقول المستشرقون: إن الأنصار أرادوا الدني ورغبوا فيه وحرصوا عليها، فتسارعوا إليها، ولم يردعهم المصاب الفادح الذي ألم بهم، هذا السؤال يتردد أيضًا في أذهان بعض المؤمنين للاستفسار، وللرد على شبهات الطاعنين.
السؤال الثاني:
لماذا أراد الأنصار الاستئثار بالخلافة دون المهاجرين، وأسرعوا إلى سقيفة بني ساعدة لترشيح رجل منهم؟
الحقيقة قبل أن نخوض في الإجابة عن هذين السؤالين الهامين أود أن أقدم بتعريف للأنصار...
من هم الأنصار؟
يبدو أن كثيرًا من المسلمين لا يدركون معنى وقيمة الأنصار، الأنصار طائفة من البشر اتصفت بصفات عجيبة، ومرت بمراحل تربوية معينة، أنتجت في النهاية جيلًا من الرجال والنساء والأطفال من المستحيل أن يتكرروا في التاريخ بهذه الصورة، فعلًا، الأنصار ظاهرة فريدة، اتصفوا بصفات خاصة ظلت ملازمة لهم منذ أن أصبحوا أنصارًا، ومرورا بكل مواقفهم، الأنصار نسمة رقيقة حانية هبت على دولة الإسلام الناشئة، ففاضت من بركتها، وخيرها على الأمة، ثم مرت النسمة، ولم تأخذ شيئًا لنفسها، سبحان الله، الأنصار قَدّموا، وقَدّموا، ولم يأخذوا شيئًا، وكلما جاءت الفرصة ليأخذوا يجعل الله أمرًا آخر، فيخرجون بلا شيء، يخرجون راضين بلا سخط، ولا ضجر، وكأن الله أراد أن يدخر لهم كامل الأجر، ولا يعجل لهم شيئا في دنياهم.
الأنصار، وما أدراك ما الأنصار، روى البخاري عن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
الْأَنْصَارُ لَا يُحِبُّهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يَبْغَضُهُمْ إِلَّا مُنَافِقٌ، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ.
هذا حديث يلخص المسألة، لا بد أن يعرف المسلمون قدر الأنصار قبل أن يخوضوا في أعراضهم، القضية قضية إيمان ونفاق، وقضية حب الله لعبد وبغض الله لعبد آخر، فالحذر الحذر من أي شبهة تغير على المؤمنين قلوبهم.
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اله صلى الله عليه وسلم:
لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَءًا مِنَ الْأَنْصَارِ.
وروى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأنصار:
اللَّهُمَّ أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ. قالها ثلاثا.
وروى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار:
مَوْعِدُكُمُ الْحَوْضُ.
وغير ذلك كثير من الأحاديث في حقهم، هذا الحب الجزيل من رسول الله صلى الله عليه سلم للأنصار، ومن الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الصحابة جميعًا يجلون الأنصار، ويقدرون قيمتهم، روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
خرجت مع جرير بن عبد الله البجلي في سفر فكان يخدمني.
وجرير بن عبد الله هذا من أشراف قبيلة، بجيلة، ومن أعلام العرب، وكان له شأن كبير في الجزيرة العربية قبل الإسلام، وفوق هذا، فهو أسن، وأكبر كثيرًا من أنس بن مالك، هذا كله دفع أنس بن مالك أن يستنكر، أو يستغرب أن يخدمه جرير بنفسه، قال أنس:
لا تفعل.
فقال جرير:
إني قد رأيت الأنصار تصنع برسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، آليت أن لا أصحب أحدًا منهم إلا خدمته.
وأنس من الأنصار، إذن يخدمه جرير الشريف رضي الله عنهم أجمعين، هذا التكريم والتبجيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الصحابة للأنصار لم يأت من فراغ، وإنما أتى لنوايا صادقة، وأعمال متواصلة، وأخلاق حسنة، ولو نظرت إلى حال الأنصار لوجدت صفة أساسية تمثل ركيزة في بناء الأنصاري، تلك هي صفة الإيثار:
[وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {الحشر:9}.
محور حياة الأنصار أنهم يؤثرون على أنفسهم، هذا ليس وصف أصحابهم لهم، ولا حتى وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، بل وصف الله عز وجل الذي خلقهم، ويعلم سرهم ونجواهم، ويعلم ظاهرهم وباطنهم، ويعلم ما تخفي الصدور
[وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {الحشر:9}.
أثبت الله لهم الإيمان، ومحبة المهاجرين، وسلامة الصدر، والإيثار على الذات، والوقاية من شح النفس، وفي النهاية أثبت لهم الفلاح، أيّ فضل! وأيّ قدر! وأيّ درجة! وأيّ مكانة! لا بد أن نعرف هذه الأمور قبل أن نأتي، ونحلل مواقف الأنصار في سقيفة بني ساعدة، لا بد وأن تملك الخلفية الصحيحة لهؤلاء القوم، ولهذه الطائفة الفريدة من البشر.
- اقرءوا تاريخ الأنصار، اقرءوا بيعة العقبة الثانية، وما قدموه من تضحيات ثمينة، وجهاد عظيم، والثمن: الجنة.
- اقرءوا قصة الهجرة، وتسابق الأنصار على فقرهم في استضافة المهاجرين، وإكرام المهاجرين، وحب المهاجرين، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم:
اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل.
يريدون أن يقسموا نخيلهم، وأرضهم بينهم، وبين المهاجرين، قال صلى الله عليه وسلم: لا.
أَبَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم أن يضحوا هذه التضحية الكبيرة، وأشفق عليهم، لكن هل سكت الأنصار، وقد رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم طلبهم، أبدًا، إنهم لم يتقدموا بطلبهم بقسمة النخيل رياء ولا سمعة، ولم يتقدموا بذلك رهبة وخوفًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن فعلوا ذلك؛ لأنهم وجدوا في قلوبهم حبًا حقيقيًا للمهاجرين، ووجدوا في أنفسهم إيثارًا على أنفسهم، شعور جارف من الحب في الله لا يقاوم، ذهب الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضون عليه الأمر من زاوية أخرى، وكأن نفوسهم لا تطيق أن يمتلكوا شيئًا لا يمتلكه إخوانهم،
قالوا: فتكفونا المئونة، ونشرككم في الثمرة.
يقصدون أن يعمل المهاجرون في الأرض بدلًا من الأنصار، ثم يقسموا الناتج من الثمرة بينهم، أي مشاركة برأس المال والمجهود، وهم لا يحتاجون من يساعدهم، ولكنه نوع من المساعدة، دون إراقة ماء وجه المهاجرين، فهذا عمل، وهذا أجره، قال المهاجرون: سمعنا وأطعنا.
فسعد الفريقان بذلك، مشاعر الأنصار مشاعر قريبة من الملائكة، ليس في حدث أو حدثين، أو يوم أو يومين، بل هذا دينهم طيلة حياتهم، جبلوا على الإيثار منذ آمنوا.
الأنصار بعد حنين
حدث ما هو أشد من ذلك، وضربوا مثلًا أروع من هذه الأمثلة، وذلك في أعقاب غزوة حنين في سنة 8 من الهجرة، أي قبل حوالي سنتين ونصف من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصة بني ساعدة، روى ابن إسحاق مفصلًا، والبخاري مختصرًا عن أبي سعيد الخدري قال:
لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا في قريش، وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القالة.
أي أن الغنائم كثرت جدًا، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم منها للعديد من قبائل العرب، لكنه لم يعط الأنصار، فغضبوا لذلك.
حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه.
والأمر خطير، غزوة حنين كانت من الغزوات العنيفة جدًا في تاريخ المسلمين، ومن المعروف أن المسلمين في بادئ المعركة فروا، وذلك عندما اعتمدوا على أعدادهم وقوتهم، ولم يثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أفراد معدودون، هنا صاح رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ.
فلبوا جميعًا، ودارت موقعة شرسة للغاية، ثم كتب الله عز وجل نصره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين، وحاز المسلمون غنائم لا تحصى من السبي، والإبل، والأغنام، والذهب، والفضة، والسلاح، وغير ذلك، وبدأ يوزع رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم على القوم، ماذا فعل صلى الله عليه وسلم في الغنائم؟
لقد وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أعدادًا كبيرة من زعماء قريش، وأهل مكة قد دخلوا الإسلام إما رهبة من السيف، وإما رغبة في المال، وهؤلاء من ورائهم أقوام وأقوام، إن لم يعطهم فقد يرتدوا وينقلبوا على أعقابهم، وليست الخسارة فيهم وحدهم، ولكن فيمن وراءهم من الناس، وشوكة الإسلام ما زالت ضعيفة، ولم تتمكن في الجزيرة بعد، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتألفهم، ويحتويهم في هذا الدين، فأعطاهم عطاءًا كريمًا سخيًا، أعطى وأعطى، ثم بعد ذلك لم يبق شيء في يده للأنصار، والأنصار هم الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الذين قاتلوا ودافعوا، نعم، لم يفعلوا ذلك لأجل المال، ولا الغنائم، لكن لا بد وأن يتساءل الإنسان، لماذا هذا التباين في العطاء؟ خاف الأنصار أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وجد أنه من المناسب الآن أن ينتقل من المدينة إلى مكة، فأخذ يعطي قومه، حتى يتألفهم، ومن ثَم يترك المدينة، وإذا ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فهذا أمر شديد، فبالإضافة إلى كون هذا أمرًا يحزنهم لفراقه صلى الله عليه وسلم، ففيه خطورة شديدة عليهم؛ لأنهم سيتركون للعرب ينتقمون منهم؛ لنصرتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أنهم خشوا أن يكون ذلك استقلالًا بشأنهم، وتهميشًا لدورهم، ولا يستنكر أيضًا أن يكون لهم رغبة في المال الحلال الذي حصد أمام أعينهم، وخـاصة أنهم شاركوا في جمعه، والوصول إليه، فاستثناءهم منه أمر قد يوغر الصدر، هنا تحرك زعيم الأنصار الصحابي الجليل سعد بن عبادة الخزرجي رضي الله عنه في سرعة، وحكمة ليبث شكوى الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك ليحتوي الموقف؛ كي لا تتفاقم الأزمة، وحتى لا تبقى هناك نار تحت الرماد، دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال:
يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار، قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظامًا في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء. صراحة رائعة، ووضوح جميل من سعد بن عبادة رضي الله عنه، وبذلك يمكن للفتن أن تقتل في مهدها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟
قال في صراحة أكثر:
يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي.
يقصد أنه أيضًا يجد في نفسه، قال الرسول الحكيم محمد صلى الله عليه وسلم:
فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ.
فخرج سعد، فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، فجاء رجال من المهاجرين، فتركهم، فدخلوا، وجاء آخرون فردهم.
ويبدو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يريد للفتنة أن تنتشر في أقوام آخرين، ولا يريد أن يترك مجال للقيل، والقال، فأراد أن يحصر الكلام في القوم الذين يحتاجونه.
فلما اجتمع الأنصار جاء له سعد بن عبادة رضي الله عنه فقال له: لقد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار.
فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال:
يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ، وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا عَلَيَّ فِي أَنْفُسِكُمْ؟ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا، فَهَدَاكُمُ اللَّهُ، وَعَالَةٌ فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ، وَأَعْدَاءٌ فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ. رد الأنصار في أدب جم:
الله ورسوله أَمَنّ، وأفضل.
رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرهم بماضيهم منذ عشر سنوات فقط، كيف كانوا في تيه الكفر والضلال، والفرقة، والفقر؟
ثم كيف آمنوا واهتدوا وتوحدوا، واغتنوا بالإسلام؟
فكما رفعهم الله بالإسلام، ووجدوا حلاوته، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يرفع أقوامًا آخرين لحلاوة الإيمان، ثم قال صلى الله عليه وسلم:
أَلَا تُجِيبُونِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؟
قال الأنصار في تواضع عجيب:
بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ورسوله المن والفضل.
لم يذكر الأنصار أفضالهم على الدعوة، لم يذكروا أنهم، وإن كانوا آمنوا، واهتدوا، واغتنوا؛ فذلك لأنهم قدموا الكثير والكثير، قدموا أرواحهم وديارهم وأرضهم، قدموا الرأي والمشورة، وقدموا السمع والطاعة، وقدموا رسول الله صلى الله عليه وسلم على سائر ما يحبون، أما هؤلاء القريشون الذين امتلأت جيوبهم الآن، فلم يقدموا إلا كفرًا وجحودًا وحربًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم طيلة ثماني سنوات في المدينة، وقبلها في مكة، لم يذكر الأنصار كل ذلك؛ لأنهم يعلمون أن نعمة الهداية التي حصلوها بنصرة هذا الدين لا تعدلها دنيا، ولا غنيمة، فاكتفوا بالقول الرائع: لله ورسوله المن والفضل.
لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل يعلم كيف يزن الأمور، ويعرف للرجال قدرهم، وفضلهم ويقوّم الأشياء، فيحسن التقويم صلى الله عليه وسلم، قال:
أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ، فَلَصَدَقْتُمْ وَلَصُدِّقْتُمْ: أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلًا فَآسَيْنَاكَ.
لم يقل الأنصار ذلك مع كونه حقيقة، منعهم أدبهم، وفضلهم، وإيثارهم، وتقديرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب قلوب الأنصار في مقالة رقيقة حانية، قال:
أَوَجَدْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِكُمْ فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا (لعاعة نبات صغير رقيق أي أن كل ما أعطيه لهم لا يساوي شيئًا) تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا، وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلَامِكُمْ؟ أَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ، وَالْبَعِيرِ، وَتَرْجِعُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رِحَالِكُمْ؟
فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَءًا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا، وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ.
فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا:
رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسمًا وحظًا.
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرقوا.
بهذه الكلمات القليلات، وبهذه المخاطبة لقلوب الأنصار النقية، انتهت الفتنة في دقائق معدودة، ها هم الأنصار ينصرفون باكين، بهذه الكلمات نفوسهم راضية، وأفئدتهم مطمئنة، وفي لحظات وجدوا أن مائة بعير، أو مائتين من البعير، أو ثلاثمائة من البعير في يد رجل من رجال قريش أمر لا يساوي شيئًا، هكذا في منتهى البساطة تركوا دنيا واسعة عريضة؛ استجابة لكلمات معدودات طاهرات من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم،
أين حظ نفوسهم؟
أين الدنيا في قلوبهم؟
أين الأثرة أو حب الذات؟
لا شيء
[وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {الحشر:9}.
هؤلاء هم الأنصار الذين اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة؛ لاختيار خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بد أن ندرس قصة سقيفة بن ساعدة في ضوء هذه الخلفية وهذه الحقائق.
نعود إلى السؤالين الذين طرحناهما بخصوص ذهاب الأنصار لاختيار خليفة من بينهم:
السؤال الأول:
كيف أسرعوا إلى ذلك، ولم ينظروا إلى مصيبة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
يقول المستشرقون: إنهم لم يحزنوا حزنًا كافيًا؛ ولذلك ألهتهم الدنيا عن المصاب الفادح.
وللرد على هذه الشبهة نقول:
أولًا: المستشرقون لا يدركون هذه الخلفية التي ذكرناها عن طبيعة الأنصار، أو لعلهم يدركونها، ويتجاهلونها عن قصد وعمد، رسول الله صلى الله عليه وسلم نَزَّههم عن طلب الدنيا، بل نزههم عن ذلك ربهم، بقرآن باق إلى يوم القيامة، فإذا تغير منهم رجل، أو رجلان فمن المستحيل أن يتغيروا جميعًا، ويجتمعوا على حب الدنيا.
ثانيًا: المستشرقون لا يفقهون معنى الصبر الجميل [فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا] {المعارج:5} .
الصبر الذي لا شكوى فيه، الصبر عند الصدمة الأولى...
روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال: اتَّقِ اللَّهَ وَاصْبِرِي.
فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي. ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم.
فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم، فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك.
فقال: إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى.
لقد كان صبر الأنصار رضي الله عنهم صبرًا جميلًا، صبرًا عند الصدمة الأولى، وكما قال ربنا: [إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ] {الزُّمر:10} .
هذا ما يفهم في ضوء سيرتهم رضي الله عنهم وأرضاهم.
ثالثًا: هل يمنع هذا الصبر من كون قلوبهم تنفطر حزنًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
هل هناك تعارض بين الحزن وبين العمل الصالح؟
أبدًا، المسلم الإيجابي مهما حزن، فإن ذلك لا يقعده عن العمل الواجب، الحزن الذي يقعد الناس عن العمل حزن مرضي غير مرغوب فيه، وإذا فكرنا في الموقف قليلًا، ترى لو انتظر الأنصار يومًا أو يومين، أو أسبوعًا أو أسبوعين، حتى تهدأ عواطف الحزن، وتعود الحياة إلى طبيعتها، ماذا ستكون النتيجة؟
ماذا لو هجم الفرس أو الروم على بلاد المسلمين؟
من يأخذ قرار الحرب من عدمه؟
من يجهز الجيوش ويعد العدة ويستنفر الناس؟
ماذا يحدث لو هجم المرتدون على المدينة؟
وقبائل عبس وذبيان على بعد أميال من المدينة، وإسلامهم حديث، وردتهم متوقعة، وماذا يحدث لو هجم مسليمة الكذاب بجحافله المرتدة على المدينة؟ من يأخذ قرار الحرب ضدهم؟
ماذا لو نقض اليهود عهدهم؟
أيحاربون أم يوادعون؟
أتكون لهم شروط جديدة ويكون لهم عهد جديد؟
ثم ماذا يحدث لو أخرج المنافقون في المدينة رجلًا منهم وبايعوه على الخلافة، وبايعته قبيلته وقبائل أخرى؟
ماذا يكون رد فعل الصحابة؟
أينكرون بيعته ويحاربون وتحدث الفتنة العظمى والبلية الكبرى؟
أم يتركون منافقًا يترأسهم؟
ماذا لو اختارت كل قبيلة من القبائل المختلفة، التي تكون دولة الإسلام الآن زعيمًا لها من أبنائها وتفرق المسلمون أحزابًا وشيعًا؟
من يجمع ومن يوحد؟
بالتفكير السليم والمنطقي والموضوعي، نجد أن إسراع الأنصار إلى اختيار الخليفة برغم المصيبة الكبيرة لوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، هو فضيلة تحسب للأنصار، وليس نقصًا أو عيبًا، لقد وصلوا في إيجابيتهم إلى درجة من الصعب أن تتكرر في غيرهم من الأجيال.
الأنصار يختارون الخليفة منهم
لكن السؤال الأصعب، والذي يحتار فيه كثير من المسلمين فضلًا عن غير المسلمين هو: لماذا أسرع الأنصار لاختيار الخليفة من بينهم، وليس من المهاجرين؟
أولًا: حتى نفهم موقف الأنصار، لا بد أن نسمي الأشياء بمصطلحات العصر الحديثة، حتى ندرك أبعاد الموقف بأكمله، الأنصار في مصطلح العصر الحديث هم أهل البلد الأصليون، كانت المدينة، وكأنها دولة مستقلة، يعيش فيها الأوس والخزرج، وذلك قبل قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم، والمهاجرين إليها، ثم اضطهد المهاجرون في بلدهم مكة، دولة مستقلة أخرى بجوار المدينة المنورة، وضُيق على المهاجرين الخناق، فاضطروا إلى ترك البلد، واللجوء إلى المدينة المنورة، أي أن التعريف الحديث للمهاجرين هو مجموعة من اللاجئين السياسين في المدينة المنورة، وكدولة كريمة سخية عادلة استقبلت المدينة اللاجئين، أو المهاجرين خير استقبال، وأكرمتهم، وأعطت لهم، ومنحتهم كل حقوق المواطن الأصلي في البلد، ومرت الأيام ولم تفرض أبدًا عليهم قيودًا تعوق من حياتهم، بل على العكس كثيرًا ما آثرتهم على أهل البلد الأصليين، ثم مرت أيام أخرى، ومات قائد المدينة المنورة وزعيمها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وحان وقت تولية زعيم جديد على المدينة، أمن المنطق البسيط أن يكون زعيم الدولة من أهلها الأصليين، أم من اللاجئين إليها؟
أمن المنطق البسيط أن يكون زعيم الدولة من الذين قَدّموا لأجل من قَدِم إليهم أم يُقَدّم الذي جاء طريدًا من بلده فاستقبل في بلد آخر؟
لو هاجر مجموعة من الفلسطينيين مثلًا إلى أمريكا، أو إنجلترا، أو حتى إلى بلد إسلامي مجاور، أيجوز في عرف هذه البلاد أنه إذا مات رئيسها أن يُختار الرئيس الجديد من بين اللاجئين السياسيين إلى هذه البلد؟
هذا في عرف كل من فكر في القضية تفكيرًا عقلانيًا بحتًا لا يصح، ما لم يغيره قانون معين موضوع قبل ذلك، وليس هناك- فيما أعلم- بلد في العالم وضع مثل هذا القانون الذي يجيز للاجئين الصعود إلى كرسي الحكم في البلد المضيف.
هذا ما جال في ذهن الأنصار عقب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، هم أصحاب البلد، وأكثريتها، وملاكها، أرض آبائهم وأجدادهم، فلماذا يوضع على الكرسي من هو من خارج البلد؟
إذن هذه نقطة.
ثانيًا: أليس أهل المدينة أدرى بشعابها ودروبها وإدارتها، واضح أن المدينة هي دار الإسلام الرئيسية، ومكة، والطائف، وغيرها ما هي إلا مدن تابعة، أليس من المنطقي الذي يخطر على بال الأنصار أنه من المصلحة أن يقود هذه الدولة من هو أعلم بوضعها وبسكانها وبالقبائل المحيطة بها، وبتاريخها، وجذورها، أليس من باب المصلحة أن يكون قائد دولة المدينة من أهل المدينة؟
هذا ولا شك خطر على بال الأنصار؛ فتجمعوا لاختيار الخليفة من بينهم.
ثالثًا: أكان من الممكن للمهاجرين أن يقيموا دوله بغير الأنصار؟ المهاجرون قضوا ثلاث عشرة سنة كاملة في مكة، ولم يفلحوا هناك في تحويلها لبلد إسلامي، فكان لا بد من الهجرة لحين الوصول إلى القوة الكافية للعودة مرة أخرى إلى مكة، سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بلاد شتى لكي يئووه، وينصروه، فإن قريشًا قد ظاهرت على أمر الله، ذهب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، فأبوا عليه وطردوه، ورجموه بالحجارة، خاطب معظم قبائل العرب في مواسم الحج، فردوه جميعًا، خاطب بني حنيفة، وبني كندة، وبني شيبان، وبني عامر بن لؤي، وبني كلب، وغيرهم، وغيرهم، فرده جميعًا إلا طائفة صغيرة من الخزرج، ثم عادوا إلى قومهم وجاءوا بغيرهم، ثم بعدها دخلوا في الدين أفواجًا، وعرضوا استقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمهاجرين في بلادهم، وبايعوا رسول الله صلى اله عليه وسلم على بذل النفس، والمال، والجهد، والوقت، والرأي، وكل شيء، وهاجر فعلًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسلمون من أهل مكة إلى البلد الجديد المدينة، فقامت دولة الإسلام، ولا شك أنه لو لم يكن الأنصار ما قامت الدولة في ذلك الوقت، إلا عندما يظهر فريق آخر يقبل ما قبل به الأنصار رضي الله عنهم، لذلك كان من الطبيعي للأنصار أن يشعروا أنه من المنطقي أن يكون الرئيس الجديد من بينهم.
رابعًا نقطة هامة جدًا) الأنصار يشعرون أن المهاجرين سيعودون إلى بلدهم الأصلي مكة بعد وفاة رسول صلى الله عليه وسلم، مكة البلد الحرام، مكة التي تركوا فيها ديارهم، وأرضهم، وأموالهم التي صادرها المشركون، الآن أسلم المشركون، ومن حقهم العودة إلى بلادهم؛ لأخذ ما صودر منهم هناك، ومن حقهم أن يعيشوا في البلد الحرام حيث الصلاة بمائة ألف صلاة، ومن حقهم أن يعودوا للذكريات الأولى، والعائلات الأصلية في مكة وما حولها، والأنصار شكوا في هذا الأمر من قبل، في غزوة حنين كما ذكرنا منذ قليل فإنهم قالوا :
لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم والله قومه.
فكانوا يعتقدون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سينتقل إلى مكة بعد فتحها، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل، فما الذي يمنع المهاجرون أن يرجعوا إلى بلدهم وقد آمنت؟
فإذا كان رجوع المهاجرين وشيكًا، أليس من المنطقي لاستقرار الدولة الإسلامية أن يكون قائدها من أهل العاصمة بعد أن تخلو من مهاجريها، فإن قيل إنه في هذه الحالة قد تنتقل العاصمة إلى مكة، فإنه يرد على ذلك بأنه ليس من الحكمة أن تنقل العاصمة إلى هذا البلد المتقلب، أهل مكة دخلوا الإسلام منذ أقل من 3 أعوام فقط رغمًا عن أنوفهم، صرح بذلك من صرح وأخفى ذلك من أخفى، وهم حديثو عهد بجاهلية وشرك، وليس لهم فقه وعلم أهل المدينة، وردتهم عن الدين الجديد واردة، بل فعلًا بعد وفاة رسول الله صلى الله عيه وسلم كانوا على شفا حفرة لولا أن ثبتهم على الإسلام بسهيل بن عمرو رضي الله عنه وأرضاه، إذن ليس من الحكمة السياسية أن تنتقل الزعامة إلى مكة، فإذا كانت ستبقى في المدينة، والمدينة سيتركها المهاجرون فمن سيحكم؟
سؤال لا بد أن الأنصار فكروا فيه، والإجابة بسيطة وسهلة: لا بد أن يكون من الأنصار.
خامسًا: الأنصار يشعرون أن العرب ستستهدفهم بالقتال بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالحقد يملأ قلوب العرب على الأنصار؛ لأنهم هم الذين نصروا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم الذين قاتلوا هنا وهناك في بقاع مختلفة من الجزيرة، وليس لهم الشرف الذي كان في قريش، وحتى قريش ذاتها ستحاربهم بعد ذلك، فإن لم يكن لهم قوة الحكم والسلطان فقد يُسْتأصلوا إذا تحزبت ضدهم قبائل العرب، وسيظهر هذا الإحساس في كلامهم كما سنرى في سقيفة بني ساعدة.
لهذه الأسباب مجتمعة، ومن المحتمل لغيرها مما لا نعلمه، اعتقد الأنصار أنه من المنطقي أن يكون الخليفة من بينهم، وليس من المهاجرين، ليس تقليلًا لشأن المهاجرين في نظرهم، ولا إهمالًا لهم، ولكن لاعتقادهم أن هذا حق لا ينازعهم فيه أحد.
ومع كل ما سبق، فلعله كان من الألطف أن يخبروا إخوانهم المهاجرين بما يعتزمون فعله، وإطلاعهم على مسببات اختيار الخليفة من بينهم، وذلك حسمًا لأي شك أو حزن يدخل في قلوب المهاجرين، وإن كان الأنصار أيضًا يعذرون بأمور:
أولًا: لعلهم ظنوا أن المهاجرين لن يفكروا أصلًا في الخلافة؛ لكونها في اعتقادهم من حقهم الكامل.
ثانيًا: لعلهم أرادوا غلق باب الفتنة، ومنع الجدال بالحسم في هذا الأمر.
ثالثًا: لعلهم رأوا أن المهاجرين مشغولون بتغسيل وتكفين ودفن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يريدوا أن يشغلوهم بهذا الأمر الذي لهم كما يعتقدون.
المهم أن الأنصار ذهبوا بالفعل أوسهم وخزرجهم إلى سقيفة بني ساعدة لتجري عملية انتخاب الخليفة، وامتلأت السقيفة بوجوه الأنصار من القبليتين الكبيرتين.
د. راغب السرجاني
في الثاني عشر من ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة، اجتمع الأنصار أوسهم وخزرجهم لاختيار خليفة للمسلمين من بينهم، اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، وهي الدار التي اعتادوا أن يعقدوا فيها اجتماعاتهم المهمة، رأى الأنصار أن الخليفة لا بد أن يكون منهم؛ لاعتبارات كثيرة، ولذلك سارعوا إلى هذا الاجتماع الطارئ.
هذا الموقف لا بد وأنه سيثير أسئلة كثيرة في الذهن، وقد تُسأل هذه الأسئلة بحسن نية؛ وذلك للمعرفة والفقه والاستفادة، وقد تسأل بسوء نية؛ للطعن والكيد، والنيل من الصحاب ومن دولة الإسلام، يبرز من هذه الأسئلة سؤالان هامان ركز المستشرقون، وأتباعهم من العلمانيين سواء من أبناء الغرب، أو الشرق، أو من أبناء المسلمين عليهما، سؤالان الغرض منهما الطعن في الأنصار، وسيتبع السؤالان لا محالة أسئلة أخرى للطعن في المهاجرين، وبقية الصحابة:
السؤال الأول:
كيف تحرك الأنصار لاختيار خليفة في نفس يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
أليس في قلوبهم حزن على نبيهم؟
يقول المستشرقون: إن الأنصار أرادوا الدني ورغبوا فيه وحرصوا عليها، فتسارعوا إليها، ولم يردعهم المصاب الفادح الذي ألم بهم، هذا السؤال يتردد أيضًا في أذهان بعض المؤمنين للاستفسار، وللرد على شبهات الطاعنين.
السؤال الثاني:
لماذا أراد الأنصار الاستئثار بالخلافة دون المهاجرين، وأسرعوا إلى سقيفة بني ساعدة لترشيح رجل منهم؟
الحقيقة قبل أن نخوض في الإجابة عن هذين السؤالين الهامين أود أن أقدم بتعريف للأنصار...
من هم الأنصار؟
يبدو أن كثيرًا من المسلمين لا يدركون معنى وقيمة الأنصار، الأنصار طائفة من البشر اتصفت بصفات عجيبة، ومرت بمراحل تربوية معينة، أنتجت في النهاية جيلًا من الرجال والنساء والأطفال من المستحيل أن يتكرروا في التاريخ بهذه الصورة، فعلًا، الأنصار ظاهرة فريدة، اتصفوا بصفات خاصة ظلت ملازمة لهم منذ أن أصبحوا أنصارًا، ومرورا بكل مواقفهم، الأنصار نسمة رقيقة حانية هبت على دولة الإسلام الناشئة، ففاضت من بركتها، وخيرها على الأمة، ثم مرت النسمة، ولم تأخذ شيئًا لنفسها، سبحان الله، الأنصار قَدّموا، وقَدّموا، ولم يأخذوا شيئًا، وكلما جاءت الفرصة ليأخذوا يجعل الله أمرًا آخر، فيخرجون بلا شيء، يخرجون راضين بلا سخط، ولا ضجر، وكأن الله أراد أن يدخر لهم كامل الأجر، ولا يعجل لهم شيئا في دنياهم.
الأنصار، وما أدراك ما الأنصار، روى البخاري عن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
الْأَنْصَارُ لَا يُحِبُّهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يَبْغَضُهُمْ إِلَّا مُنَافِقٌ، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ.
هذا حديث يلخص المسألة، لا بد أن يعرف المسلمون قدر الأنصار قبل أن يخوضوا في أعراضهم، القضية قضية إيمان ونفاق، وقضية حب الله لعبد وبغض الله لعبد آخر، فالحذر الحذر من أي شبهة تغير على المؤمنين قلوبهم.
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اله صلى الله عليه وسلم:
لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَءًا مِنَ الْأَنْصَارِ.
وروى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأنصار:
اللَّهُمَّ أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ. قالها ثلاثا.
وروى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار:
مَوْعِدُكُمُ الْحَوْضُ.
وغير ذلك كثير من الأحاديث في حقهم، هذا الحب الجزيل من رسول الله صلى الله عليه سلم للأنصار، ومن الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الصحابة جميعًا يجلون الأنصار، ويقدرون قيمتهم، روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
خرجت مع جرير بن عبد الله البجلي في سفر فكان يخدمني.
وجرير بن عبد الله هذا من أشراف قبيلة، بجيلة، ومن أعلام العرب، وكان له شأن كبير في الجزيرة العربية قبل الإسلام، وفوق هذا، فهو أسن، وأكبر كثيرًا من أنس بن مالك، هذا كله دفع أنس بن مالك أن يستنكر، أو يستغرب أن يخدمه جرير بنفسه، قال أنس:
لا تفعل.
فقال جرير:
إني قد رأيت الأنصار تصنع برسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، آليت أن لا أصحب أحدًا منهم إلا خدمته.
وأنس من الأنصار، إذن يخدمه جرير الشريف رضي الله عنهم أجمعين، هذا التكريم والتبجيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الصحابة للأنصار لم يأت من فراغ، وإنما أتى لنوايا صادقة، وأعمال متواصلة، وأخلاق حسنة، ولو نظرت إلى حال الأنصار لوجدت صفة أساسية تمثل ركيزة في بناء الأنصاري، تلك هي صفة الإيثار:
[وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {الحشر:9}.
محور حياة الأنصار أنهم يؤثرون على أنفسهم، هذا ليس وصف أصحابهم لهم، ولا حتى وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، بل وصف الله عز وجل الذي خلقهم، ويعلم سرهم ونجواهم، ويعلم ظاهرهم وباطنهم، ويعلم ما تخفي الصدور
[وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {الحشر:9}.
أثبت الله لهم الإيمان، ومحبة المهاجرين، وسلامة الصدر، والإيثار على الذات، والوقاية من شح النفس، وفي النهاية أثبت لهم الفلاح، أيّ فضل! وأيّ قدر! وأيّ درجة! وأيّ مكانة! لا بد أن نعرف هذه الأمور قبل أن نأتي، ونحلل مواقف الأنصار في سقيفة بني ساعدة، لا بد وأن تملك الخلفية الصحيحة لهؤلاء القوم، ولهذه الطائفة الفريدة من البشر.
- اقرءوا تاريخ الأنصار، اقرءوا بيعة العقبة الثانية، وما قدموه من تضحيات ثمينة، وجهاد عظيم، والثمن: الجنة.
- اقرءوا قصة الهجرة، وتسابق الأنصار على فقرهم في استضافة المهاجرين، وإكرام المهاجرين، وحب المهاجرين، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم:
اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل.
يريدون أن يقسموا نخيلهم، وأرضهم بينهم، وبين المهاجرين، قال صلى الله عليه وسلم: لا.
أَبَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم أن يضحوا هذه التضحية الكبيرة، وأشفق عليهم، لكن هل سكت الأنصار، وقد رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم طلبهم، أبدًا، إنهم لم يتقدموا بطلبهم بقسمة النخيل رياء ولا سمعة، ولم يتقدموا بذلك رهبة وخوفًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن فعلوا ذلك؛ لأنهم وجدوا في قلوبهم حبًا حقيقيًا للمهاجرين، ووجدوا في أنفسهم إيثارًا على أنفسهم، شعور جارف من الحب في الله لا يقاوم، ذهب الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضون عليه الأمر من زاوية أخرى، وكأن نفوسهم لا تطيق أن يمتلكوا شيئًا لا يمتلكه إخوانهم،
قالوا: فتكفونا المئونة، ونشرككم في الثمرة.
يقصدون أن يعمل المهاجرون في الأرض بدلًا من الأنصار، ثم يقسموا الناتج من الثمرة بينهم، أي مشاركة برأس المال والمجهود، وهم لا يحتاجون من يساعدهم، ولكنه نوع من المساعدة، دون إراقة ماء وجه المهاجرين، فهذا عمل، وهذا أجره، قال المهاجرون: سمعنا وأطعنا.
فسعد الفريقان بذلك، مشاعر الأنصار مشاعر قريبة من الملائكة، ليس في حدث أو حدثين، أو يوم أو يومين، بل هذا دينهم طيلة حياتهم، جبلوا على الإيثار منذ آمنوا.
الأنصار بعد حنين
حدث ما هو أشد من ذلك، وضربوا مثلًا أروع من هذه الأمثلة، وذلك في أعقاب غزوة حنين في سنة 8 من الهجرة، أي قبل حوالي سنتين ونصف من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصة بني ساعدة، روى ابن إسحاق مفصلًا، والبخاري مختصرًا عن أبي سعيد الخدري قال:
لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا في قريش، وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القالة.
أي أن الغنائم كثرت جدًا، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم منها للعديد من قبائل العرب، لكنه لم يعط الأنصار، فغضبوا لذلك.
حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه.
والأمر خطير، غزوة حنين كانت من الغزوات العنيفة جدًا في تاريخ المسلمين، ومن المعروف أن المسلمين في بادئ المعركة فروا، وذلك عندما اعتمدوا على أعدادهم وقوتهم، ولم يثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أفراد معدودون، هنا صاح رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ.
فلبوا جميعًا، ودارت موقعة شرسة للغاية، ثم كتب الله عز وجل نصره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين، وحاز المسلمون غنائم لا تحصى من السبي، والإبل، والأغنام، والذهب، والفضة، والسلاح، وغير ذلك، وبدأ يوزع رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم على القوم، ماذا فعل صلى الله عليه وسلم في الغنائم؟
لقد وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أعدادًا كبيرة من زعماء قريش، وأهل مكة قد دخلوا الإسلام إما رهبة من السيف، وإما رغبة في المال، وهؤلاء من ورائهم أقوام وأقوام، إن لم يعطهم فقد يرتدوا وينقلبوا على أعقابهم، وليست الخسارة فيهم وحدهم، ولكن فيمن وراءهم من الناس، وشوكة الإسلام ما زالت ضعيفة، ولم تتمكن في الجزيرة بعد، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتألفهم، ويحتويهم في هذا الدين، فأعطاهم عطاءًا كريمًا سخيًا، أعطى وأعطى، ثم بعد ذلك لم يبق شيء في يده للأنصار، والأنصار هم الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الذين قاتلوا ودافعوا، نعم، لم يفعلوا ذلك لأجل المال، ولا الغنائم، لكن لا بد وأن يتساءل الإنسان، لماذا هذا التباين في العطاء؟ خاف الأنصار أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وجد أنه من المناسب الآن أن ينتقل من المدينة إلى مكة، فأخذ يعطي قومه، حتى يتألفهم، ومن ثَم يترك المدينة، وإذا ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فهذا أمر شديد، فبالإضافة إلى كون هذا أمرًا يحزنهم لفراقه صلى الله عليه وسلم، ففيه خطورة شديدة عليهم؛ لأنهم سيتركون للعرب ينتقمون منهم؛ لنصرتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أنهم خشوا أن يكون ذلك استقلالًا بشأنهم، وتهميشًا لدورهم، ولا يستنكر أيضًا أن يكون لهم رغبة في المال الحلال الذي حصد أمام أعينهم، وخـاصة أنهم شاركوا في جمعه، والوصول إليه، فاستثناءهم منه أمر قد يوغر الصدر، هنا تحرك زعيم الأنصار الصحابي الجليل سعد بن عبادة الخزرجي رضي الله عنه في سرعة، وحكمة ليبث شكوى الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك ليحتوي الموقف؛ كي لا تتفاقم الأزمة، وحتى لا تبقى هناك نار تحت الرماد، دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال:
يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار، قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظامًا في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء. صراحة رائعة، ووضوح جميل من سعد بن عبادة رضي الله عنه، وبذلك يمكن للفتن أن تقتل في مهدها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟
قال في صراحة أكثر:
يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي.
يقصد أنه أيضًا يجد في نفسه، قال الرسول الحكيم محمد صلى الله عليه وسلم:
فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ.
فخرج سعد، فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، فجاء رجال من المهاجرين، فتركهم، فدخلوا، وجاء آخرون فردهم.
ويبدو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يريد للفتنة أن تنتشر في أقوام آخرين، ولا يريد أن يترك مجال للقيل، والقال، فأراد أن يحصر الكلام في القوم الذين يحتاجونه.
فلما اجتمع الأنصار جاء له سعد بن عبادة رضي الله عنه فقال له: لقد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار.
فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال:
يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ، وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا عَلَيَّ فِي أَنْفُسِكُمْ؟ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا، فَهَدَاكُمُ اللَّهُ، وَعَالَةٌ فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ، وَأَعْدَاءٌ فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ. رد الأنصار في أدب جم:
الله ورسوله أَمَنّ، وأفضل.
رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرهم بماضيهم منذ عشر سنوات فقط، كيف كانوا في تيه الكفر والضلال، والفرقة، والفقر؟
ثم كيف آمنوا واهتدوا وتوحدوا، واغتنوا بالإسلام؟
فكما رفعهم الله بالإسلام، ووجدوا حلاوته، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يرفع أقوامًا آخرين لحلاوة الإيمان، ثم قال صلى الله عليه وسلم:
أَلَا تُجِيبُونِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؟
قال الأنصار في تواضع عجيب:
بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ورسوله المن والفضل.
لم يذكر الأنصار أفضالهم على الدعوة، لم يذكروا أنهم، وإن كانوا آمنوا، واهتدوا، واغتنوا؛ فذلك لأنهم قدموا الكثير والكثير، قدموا أرواحهم وديارهم وأرضهم، قدموا الرأي والمشورة، وقدموا السمع والطاعة، وقدموا رسول الله صلى الله عليه وسلم على سائر ما يحبون، أما هؤلاء القريشون الذين امتلأت جيوبهم الآن، فلم يقدموا إلا كفرًا وجحودًا وحربًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم طيلة ثماني سنوات في المدينة، وقبلها في مكة، لم يذكر الأنصار كل ذلك؛ لأنهم يعلمون أن نعمة الهداية التي حصلوها بنصرة هذا الدين لا تعدلها دنيا، ولا غنيمة، فاكتفوا بالقول الرائع: لله ورسوله المن والفضل.
لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل يعلم كيف يزن الأمور، ويعرف للرجال قدرهم، وفضلهم ويقوّم الأشياء، فيحسن التقويم صلى الله عليه وسلم، قال:
أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ، فَلَصَدَقْتُمْ وَلَصُدِّقْتُمْ: أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلًا فَآسَيْنَاكَ.
لم يقل الأنصار ذلك مع كونه حقيقة، منعهم أدبهم، وفضلهم، وإيثارهم، وتقديرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب قلوب الأنصار في مقالة رقيقة حانية، قال:
أَوَجَدْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِكُمْ فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا (لعاعة نبات صغير رقيق أي أن كل ما أعطيه لهم لا يساوي شيئًا) تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا، وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلَامِكُمْ؟ أَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ، وَالْبَعِيرِ، وَتَرْجِعُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رِحَالِكُمْ؟
فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَءًا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا، وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ.
فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا:
رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسمًا وحظًا.
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرقوا.
بهذه الكلمات القليلات، وبهذه المخاطبة لقلوب الأنصار النقية، انتهت الفتنة في دقائق معدودة، ها هم الأنصار ينصرفون باكين، بهذه الكلمات نفوسهم راضية، وأفئدتهم مطمئنة، وفي لحظات وجدوا أن مائة بعير، أو مائتين من البعير، أو ثلاثمائة من البعير في يد رجل من رجال قريش أمر لا يساوي شيئًا، هكذا في منتهى البساطة تركوا دنيا واسعة عريضة؛ استجابة لكلمات معدودات طاهرات من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم،
أين حظ نفوسهم؟
أين الدنيا في قلوبهم؟
أين الأثرة أو حب الذات؟
لا شيء
[وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {الحشر:9}.
هؤلاء هم الأنصار الذين اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة؛ لاختيار خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بد أن ندرس قصة سقيفة بن ساعدة في ضوء هذه الخلفية وهذه الحقائق.
نعود إلى السؤالين الذين طرحناهما بخصوص ذهاب الأنصار لاختيار خليفة من بينهم:
السؤال الأول:
كيف أسرعوا إلى ذلك، ولم ينظروا إلى مصيبة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
يقول المستشرقون: إنهم لم يحزنوا حزنًا كافيًا؛ ولذلك ألهتهم الدنيا عن المصاب الفادح.
وللرد على هذه الشبهة نقول:
أولًا: المستشرقون لا يدركون هذه الخلفية التي ذكرناها عن طبيعة الأنصار، أو لعلهم يدركونها، ويتجاهلونها عن قصد وعمد، رسول الله صلى الله عليه وسلم نَزَّههم عن طلب الدنيا، بل نزههم عن ذلك ربهم، بقرآن باق إلى يوم القيامة، فإذا تغير منهم رجل، أو رجلان فمن المستحيل أن يتغيروا جميعًا، ويجتمعوا على حب الدنيا.
ثانيًا: المستشرقون لا يفقهون معنى الصبر الجميل [فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا] {المعارج:5} .
الصبر الذي لا شكوى فيه، الصبر عند الصدمة الأولى...
روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال: اتَّقِ اللَّهَ وَاصْبِرِي.
فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي. ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم.
فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم، فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك.
فقال: إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى.
لقد كان صبر الأنصار رضي الله عنهم صبرًا جميلًا، صبرًا عند الصدمة الأولى، وكما قال ربنا: [إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ] {الزُّمر:10} .
هذا ما يفهم في ضوء سيرتهم رضي الله عنهم وأرضاهم.
ثالثًا: هل يمنع هذا الصبر من كون قلوبهم تنفطر حزنًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
هل هناك تعارض بين الحزن وبين العمل الصالح؟
أبدًا، المسلم الإيجابي مهما حزن، فإن ذلك لا يقعده عن العمل الواجب، الحزن الذي يقعد الناس عن العمل حزن مرضي غير مرغوب فيه، وإذا فكرنا في الموقف قليلًا، ترى لو انتظر الأنصار يومًا أو يومين، أو أسبوعًا أو أسبوعين، حتى تهدأ عواطف الحزن، وتعود الحياة إلى طبيعتها، ماذا ستكون النتيجة؟
ماذا لو هجم الفرس أو الروم على بلاد المسلمين؟
من يأخذ قرار الحرب من عدمه؟
من يجهز الجيوش ويعد العدة ويستنفر الناس؟
ماذا يحدث لو هجم المرتدون على المدينة؟
وقبائل عبس وذبيان على بعد أميال من المدينة، وإسلامهم حديث، وردتهم متوقعة، وماذا يحدث لو هجم مسليمة الكذاب بجحافله المرتدة على المدينة؟ من يأخذ قرار الحرب ضدهم؟
ماذا لو نقض اليهود عهدهم؟
أيحاربون أم يوادعون؟
أتكون لهم شروط جديدة ويكون لهم عهد جديد؟
ثم ماذا يحدث لو أخرج المنافقون في المدينة رجلًا منهم وبايعوه على الخلافة، وبايعته قبيلته وقبائل أخرى؟
ماذا يكون رد فعل الصحابة؟
أينكرون بيعته ويحاربون وتحدث الفتنة العظمى والبلية الكبرى؟
أم يتركون منافقًا يترأسهم؟
ماذا لو اختارت كل قبيلة من القبائل المختلفة، التي تكون دولة الإسلام الآن زعيمًا لها من أبنائها وتفرق المسلمون أحزابًا وشيعًا؟
من يجمع ومن يوحد؟
بالتفكير السليم والمنطقي والموضوعي، نجد أن إسراع الأنصار إلى اختيار الخليفة برغم المصيبة الكبيرة لوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، هو فضيلة تحسب للأنصار، وليس نقصًا أو عيبًا، لقد وصلوا في إيجابيتهم إلى درجة من الصعب أن تتكرر في غيرهم من الأجيال.
الأنصار يختارون الخليفة منهم
لكن السؤال الأصعب، والذي يحتار فيه كثير من المسلمين فضلًا عن غير المسلمين هو: لماذا أسرع الأنصار لاختيار الخليفة من بينهم، وليس من المهاجرين؟
أولًا: حتى نفهم موقف الأنصار، لا بد أن نسمي الأشياء بمصطلحات العصر الحديثة، حتى ندرك أبعاد الموقف بأكمله، الأنصار في مصطلح العصر الحديث هم أهل البلد الأصليون، كانت المدينة، وكأنها دولة مستقلة، يعيش فيها الأوس والخزرج، وذلك قبل قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم، والمهاجرين إليها، ثم اضطهد المهاجرون في بلدهم مكة، دولة مستقلة أخرى بجوار المدينة المنورة، وضُيق على المهاجرين الخناق، فاضطروا إلى ترك البلد، واللجوء إلى المدينة المنورة، أي أن التعريف الحديث للمهاجرين هو مجموعة من اللاجئين السياسين في المدينة المنورة، وكدولة كريمة سخية عادلة استقبلت المدينة اللاجئين، أو المهاجرين خير استقبال، وأكرمتهم، وأعطت لهم، ومنحتهم كل حقوق المواطن الأصلي في البلد، ومرت الأيام ولم تفرض أبدًا عليهم قيودًا تعوق من حياتهم، بل على العكس كثيرًا ما آثرتهم على أهل البلد الأصليين، ثم مرت أيام أخرى، ومات قائد المدينة المنورة وزعيمها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وحان وقت تولية زعيم جديد على المدينة، أمن المنطق البسيط أن يكون زعيم الدولة من أهلها الأصليين، أم من اللاجئين إليها؟
أمن المنطق البسيط أن يكون زعيم الدولة من الذين قَدّموا لأجل من قَدِم إليهم أم يُقَدّم الذي جاء طريدًا من بلده فاستقبل في بلد آخر؟
لو هاجر مجموعة من الفلسطينيين مثلًا إلى أمريكا، أو إنجلترا، أو حتى إلى بلد إسلامي مجاور، أيجوز في عرف هذه البلاد أنه إذا مات رئيسها أن يُختار الرئيس الجديد من بين اللاجئين السياسيين إلى هذه البلد؟
هذا في عرف كل من فكر في القضية تفكيرًا عقلانيًا بحتًا لا يصح، ما لم يغيره قانون معين موضوع قبل ذلك، وليس هناك- فيما أعلم- بلد في العالم وضع مثل هذا القانون الذي يجيز للاجئين الصعود إلى كرسي الحكم في البلد المضيف.
هذا ما جال في ذهن الأنصار عقب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، هم أصحاب البلد، وأكثريتها، وملاكها، أرض آبائهم وأجدادهم، فلماذا يوضع على الكرسي من هو من خارج البلد؟
إذن هذه نقطة.
ثانيًا: أليس أهل المدينة أدرى بشعابها ودروبها وإدارتها، واضح أن المدينة هي دار الإسلام الرئيسية، ومكة، والطائف، وغيرها ما هي إلا مدن تابعة، أليس من المنطقي الذي يخطر على بال الأنصار أنه من المصلحة أن يقود هذه الدولة من هو أعلم بوضعها وبسكانها وبالقبائل المحيطة بها، وبتاريخها، وجذورها، أليس من باب المصلحة أن يكون قائد دولة المدينة من أهل المدينة؟
هذا ولا شك خطر على بال الأنصار؛ فتجمعوا لاختيار الخليفة من بينهم.
ثالثًا: أكان من الممكن للمهاجرين أن يقيموا دوله بغير الأنصار؟ المهاجرون قضوا ثلاث عشرة سنة كاملة في مكة، ولم يفلحوا هناك في تحويلها لبلد إسلامي، فكان لا بد من الهجرة لحين الوصول إلى القوة الكافية للعودة مرة أخرى إلى مكة، سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بلاد شتى لكي يئووه، وينصروه، فإن قريشًا قد ظاهرت على أمر الله، ذهب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، فأبوا عليه وطردوه، ورجموه بالحجارة، خاطب معظم قبائل العرب في مواسم الحج، فردوه جميعًا، خاطب بني حنيفة، وبني كندة، وبني شيبان، وبني عامر بن لؤي، وبني كلب، وغيرهم، وغيرهم، فرده جميعًا إلا طائفة صغيرة من الخزرج، ثم عادوا إلى قومهم وجاءوا بغيرهم، ثم بعدها دخلوا في الدين أفواجًا، وعرضوا استقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمهاجرين في بلادهم، وبايعوا رسول الله صلى اله عليه وسلم على بذل النفس، والمال، والجهد، والوقت، والرأي، وكل شيء، وهاجر فعلًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسلمون من أهل مكة إلى البلد الجديد المدينة، فقامت دولة الإسلام، ولا شك أنه لو لم يكن الأنصار ما قامت الدولة في ذلك الوقت، إلا عندما يظهر فريق آخر يقبل ما قبل به الأنصار رضي الله عنهم، لذلك كان من الطبيعي للأنصار أن يشعروا أنه من المنطقي أن يكون الرئيس الجديد من بينهم.
رابعًا نقطة هامة جدًا) الأنصار يشعرون أن المهاجرين سيعودون إلى بلدهم الأصلي مكة بعد وفاة رسول صلى الله عليه وسلم، مكة البلد الحرام، مكة التي تركوا فيها ديارهم، وأرضهم، وأموالهم التي صادرها المشركون، الآن أسلم المشركون، ومن حقهم العودة إلى بلادهم؛ لأخذ ما صودر منهم هناك، ومن حقهم أن يعيشوا في البلد الحرام حيث الصلاة بمائة ألف صلاة، ومن حقهم أن يعودوا للذكريات الأولى، والعائلات الأصلية في مكة وما حولها، والأنصار شكوا في هذا الأمر من قبل، في غزوة حنين كما ذكرنا منذ قليل فإنهم قالوا :
لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم والله قومه.
فكانوا يعتقدون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سينتقل إلى مكة بعد فتحها، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل، فما الذي يمنع المهاجرون أن يرجعوا إلى بلدهم وقد آمنت؟
فإذا كان رجوع المهاجرين وشيكًا، أليس من المنطقي لاستقرار الدولة الإسلامية أن يكون قائدها من أهل العاصمة بعد أن تخلو من مهاجريها، فإن قيل إنه في هذه الحالة قد تنتقل العاصمة إلى مكة، فإنه يرد على ذلك بأنه ليس من الحكمة أن تنقل العاصمة إلى هذا البلد المتقلب، أهل مكة دخلوا الإسلام منذ أقل من 3 أعوام فقط رغمًا عن أنوفهم، صرح بذلك من صرح وأخفى ذلك من أخفى، وهم حديثو عهد بجاهلية وشرك، وليس لهم فقه وعلم أهل المدينة، وردتهم عن الدين الجديد واردة، بل فعلًا بعد وفاة رسول الله صلى الله عيه وسلم كانوا على شفا حفرة لولا أن ثبتهم على الإسلام بسهيل بن عمرو رضي الله عنه وأرضاه، إذن ليس من الحكمة السياسية أن تنتقل الزعامة إلى مكة، فإذا كانت ستبقى في المدينة، والمدينة سيتركها المهاجرون فمن سيحكم؟
سؤال لا بد أن الأنصار فكروا فيه، والإجابة بسيطة وسهلة: لا بد أن يكون من الأنصار.
خامسًا: الأنصار يشعرون أن العرب ستستهدفهم بالقتال بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالحقد يملأ قلوب العرب على الأنصار؛ لأنهم هم الذين نصروا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم الذين قاتلوا هنا وهناك في بقاع مختلفة من الجزيرة، وليس لهم الشرف الذي كان في قريش، وحتى قريش ذاتها ستحاربهم بعد ذلك، فإن لم يكن لهم قوة الحكم والسلطان فقد يُسْتأصلوا إذا تحزبت ضدهم قبائل العرب، وسيظهر هذا الإحساس في كلامهم كما سنرى في سقيفة بني ساعدة.
لهذه الأسباب مجتمعة، ومن المحتمل لغيرها مما لا نعلمه، اعتقد الأنصار أنه من المنطقي أن يكون الخليفة من بينهم، وليس من المهاجرين، ليس تقليلًا لشأن المهاجرين في نظرهم، ولا إهمالًا لهم، ولكن لاعتقادهم أن هذا حق لا ينازعهم فيه أحد.
ومع كل ما سبق، فلعله كان من الألطف أن يخبروا إخوانهم المهاجرين بما يعتزمون فعله، وإطلاعهم على مسببات اختيار الخليفة من بينهم، وذلك حسمًا لأي شك أو حزن يدخل في قلوب المهاجرين، وإن كان الأنصار أيضًا يعذرون بأمور:
أولًا: لعلهم ظنوا أن المهاجرين لن يفكروا أصلًا في الخلافة؛ لكونها في اعتقادهم من حقهم الكامل.
ثانيًا: لعلهم أرادوا غلق باب الفتنة، ومنع الجدال بالحسم في هذا الأمر.
ثالثًا: لعلهم رأوا أن المهاجرين مشغولون بتغسيل وتكفين ودفن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يريدوا أن يشغلوهم بهذا الأمر الذي لهم كما يعتقدون.
المهم أن الأنصار ذهبوا بالفعل أوسهم وخزرجهم إلى سقيفة بني ساعدة لتجري عملية انتخاب الخليفة، وامتلأت السقيفة بوجوه الأنصار من القبليتين الكبيرتين.
رد: يوم السقيفة
أين المهاجرون من هذه الأحداث؟
فعلًا كان المهاجرون منشغلين بالمصاب الفادح، في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله، وكانت أمامهم قضايا الغسل، والتكفين، ثم الدفن، وكانوا مختلفين في قضية الدفن،
أين يدفن صلى الله عليه وسلم؟
أفي البقيع؟
أم مع الشهداء أحد؟
أم في مكة بلده؟
أم في مكان خاص به؟
حتى جاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وأخبرهم بأنه يجب أن يدفن حيث مات كما أخبره بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل.
لكن هل كان اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة بهذا العدد الكبير يخفى على المهاجرين؟
لا بالطبع، رأى أحد الرجال وهو من المهاجرين هذا الجمع من الأنصار في السقيفة، فأسرع إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان بداخله آنذاك أبو بكر، وعمر، وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، نادى الرجل على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال:
اخرج إليَّ يا ابن الخطاب.
قال عمر رضي الله عنه:
إليك عني فإنا عنك مشاغيل.
لكن الرجل أصر على عمر، فخرج له، فقال الرجل:
إنه قد حدث أمر لا بد منك فيه، إن الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، فأدركوهم قبل أن يحدثوا أمرا.
هنا أدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطورة الموقف، فأسرع إلى الصديق أبي بكر، وأخبره بالأمر وقال له:
انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار.
فانطلق هو وأبو بكر رضي الله عنهما.
وهنا تتضح حكمة هذين الرجلين فعلًا، فلولا الإسراع الآن لتأزم الموقف جدًا، فلو أحدث الأنصار بيعة لا يرضى عنها المهاجرون، فإما أن يبايعوا على ما لا يرضون، وإما أن يرفضوا البيعة، وفي هذا فساد، فلا بد أن يسرعوا قبل أن يكتمل الأمر، ويتفرق الأنصار من سقيفة بني ساعدة، أسرع الصديق وعمر رضي الله عنهما إلى السقيفة، وفي الطريق لقيا رجلين صالحيْن من الأنصار القدامى، ممن شهدوا بيعة العقبة الثانية، وشهدوا كل معارك رسول الله صلى الله عليه وسلم عوين بن ساعدة رضي الله عنه، ومعن بن عدي رضي الله عنه، فلما رأيا أن الصديق وعمر ذاهبان إلى السقيفة نصحوهما بألا يقربا السقيفة، وليقضوا أمرهم- أي المهاجرين- فيما بينهم، ويبدو أنهما خشيا من حدوث فتنة بين المهاجرين والأنصار فأرادا أن يصرفاهما، لكن الصديق وعمر رضي الله عنهما أصرا على الذهاب إلى السقيفة، ثم في الطريق إلى هناك لقيا أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، وهو رجل من أعاظم المهاجرين رضي الله عنهم أجمعين، فأخذاه معهما إلى سقيفة بني ساعدة، ومن الواضح أن المهاجرين لا يضمرون في أنفسهم شرًا، ولا يعدون تدبيرًا ولا مكيدة، كما اتهمهم كثير من المستشرقين والشيعة، وإلا كيف يذهبون ثلاثة فقط، ولا يجمعون المهاجرين لأجل هذا الحدث الهام؟
وفي هذه الأثناء، وقبل وصول المهاجرين إلى السقيفة، كان الأنصار قد خطوا خطوات هامة في عملية اختيار الخليفة، لقد اجتمع الأنصار أوسهم وخزرجهم على اختيار الصحابي الجليل سعد بن عبادة رضي الله عنه زعيمًا للمسلمين، وخليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، سعد بن عبادة هو زعيم الخزرج، ومع ذلك أيده كل الأوس، وهذه ولا شك فضيلة إيمانية عالية، فلو نذكر منذ سنوات معدودات، وقبل قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كانت الحروب على أشدها بين الأوس والخزرج وآخرها يوم بعاث، والذي حدثت فيه مقتلة عظيمة بين الطرفين، أمم الآن فقد تغيرت نفوس الأنصار، وتركت حظ نفسها، وما عادت تفكر إلا في مصلحة هذا الدين، ولم يجد الأوس حرجًا في أن يقدموا زعيم الخزرج للخلافة، ووقفوا جميعًا وراءه ولم يطرحوا اسمًا أوسيًا بديلًا، بل قبلوا به دونما أدنى جدل، إذن الرجل المرشح الأول للخلافة هو: سعد بن عبادة، في نظر الأنصار، وسعد بن عبادة رضي الله عنه أهل لكل خير، ولو كان الخليفة من الأنصار، فسيكون اختيار سعد بن عبادة اختيارًا موفقًا لا ريب.
من هو سعد بن عبادة المرشح الأول للخلافة من قِبَل الأنصار؟
للأسف أننا لا نعرف سعد بن عبادة، أو نعرفه بصورة مشوهة، هو سيد الخزرج، وأحد النقباء يوم العقبة الثانية، وكان شريفًا في قومه، وكان يجير للمطعم بن عدي قوافله المارة بالمدينة قبل الإسلام، فهو عريق في الشرف رضي الله عنه، وكان ممن شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله مواقف مشهورة في الغزوات، ولا سيما في الخندق، حيث رفض إعطاء غطفان ثمار المدينة، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأيه في ذلك، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُجله، ويقدره، ويكثر من زيارته، وذلك لمكانته بين الأنصار رضي الله عنه، يروي قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زارهم في بيتهم فقال:
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ.
قال قيس: فرد أبي ردًا خفيًا، فقلت لأبي:
ألا تأذن لرسول الله؟.
فقال: اتركه حتى يكثر علينا من السلام.
فقال صلى الله عليه وسلم:
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ.
وهنا ظن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا أحد بالبيت، فرجع، فتبعه سعد فقال:
يا رسول الله، إني كنت أسمع تسليمك، وأرد عليك ردًا خفيًا؛ لتكثر علينا من السلام.
فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم معه إلى بيته، وأمر له سعد بغسل، فاغتسل، ثم ناوله ملحفة مصبوغة بزعفران، فاشتمل بها، ثم رفع يديه صلى الله عليه وسلم، وهو يقول:
اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَوَاتَكَ وَرَحْمَتَكَ عَلَى آلِ سَعْدٍ.
كان سعد رضي الله عنه جوادًا واسع الكرم والسخاء، كان الرجل من الأنصار ينطلق بالرجل من فقراء الصُّفة يطعمه، وينطلق الرجل من الأنصار بالرجلين، وينطلق الرجل من الأنصار بالخمسة رجال، أما سعد بن عبادة، فكان ينطلق بالثمانين منهم رضي الله عنه وأرضاه.
وروى مسلم عن أبي أسيد الأنصاري رضي الله عنه أنه يشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ بَنُو النَّجَّارِ، ثُمَّ بَنُو عَبِدْ الْأَشْهَلِ، ثُمَّ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمَّ بَنُو سَاعِدَةَ، وَفِي كُلِّ دُورِ الْأَنْصَارِ خَيْرٌ.
ويبدو أن أحد الحضور قد شكك في كلام أبي أسيد رضي الله عنه وهو من بني ساعدة فقال:
أَتَّهِمُ أَنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
لَوْ كُنْتُ كَاذِبًا لَبَدَأْتُ بِقَوْمِي بَنِي سَاعِدَةَ.
وبلغ ذلك سعد بن عبادة فوجد في نفسه حزن، وقال:
خُلِّفْنَا فكنا آخر الأربع- سعد بن عبادة من بني ساعدة- أسرجوا لي حماري، آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه ابن أخيه سهل فقال له:
أتذهب لترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم؟ أوليس حسبك أن تكون رابع أربع؟
فرجع وقال:
الله ورسوله أعلم.
وأمر بحماره فحل عنه.
هكذا ببساطة رضي أن يكون رابع القبائل في الخيرية، وممن سبقه بنو عبد الأشهل، وهم من الأوس، هذا مع كون سعد بن عبادة سيد الخزرج، لكنه كان وقافًا على كتاب الله، وعلى كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فاكتفى بقوله الله ورسوله أعلم.
نعود إلى سقيفة بني ساعدة، إذن اختار الأنصار سعد بن عبادة رضي الله عنه، وكان مريضًا رضي الله عنه، ويجلس وهو مزمل بثوبه، ولا يكاد يسمع صوته، فأراد أن يتكلم بعد اختياره، فلم يقدر على إسماع القوم جميعًا، فكان يبلغ ابنه بالكلام، ويتحدث ابنه إلى الناس، فقال سعد بن عبادة رضي الله عنه بعد أن حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله:
يا معشر الأنصار.
ونلاحظ أنه لم يدخل أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بعد، فليس هناك أحد من المهاجرين.
يقول: لكم سابقة في الدين، وفضيلة في الإسلام، ليست لقبيلة من العرب.
ونلاحظ هنا أنه يرفع شأن الأنصار فوق كل قبائل العرب بما فيها قبائل مكة وفيها قريش، لماذا؟ هو يفسر في خطبته فيقول:
إن محمدًا صلى الله عليه وسلم لبث بضع عشر سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأوثان، فما آمن به من قومه إلا رجال قليل، ما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أن يعزوا دينه، ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيمًا عموا به، حتى إذا أراد الله بكم الفضيلة، ساق إليكم الكرامة.
وهنا ما نسي أن ينسب سعد بن عبادة رضي الله عنه الفضل لله عز وجل. يقول:
وخصكم بالنعمة، فرزقكم الله الإيمان به، وبرسوله، والمنع له، ولأصحابه والإعزاز له، ولدينه، والجهاد لأعدائه، فكنتم أشد الناس على عدوه منكم، وأثقلهم على عدوه من غيركم.
وطبعًا كلام سعد بن عبادة رضي الله عنه هنا كلام حقيقي وصحيح، فالمهاجرون في بدر مثلًا كانوا 82 أو83 بينما كان الأنصار231 رجلًا.
ثم يكمل سعد بن عبادة خطبته فيقول:
حتى استقامت العرب لأمر الله طوعًا وكرهًا، وأعطى البعيد المقادة صاغرًا داخرًا.
أي أن العرب جميعًا سلمت القيادة للمسلمين بفضل الأنصار.
يقول:
حتى أغنى الله عز وجل لرسوله بكم الأرض، ودانت له بأسيافكم العرب. وهنا سعد بن عبادة رضي الله عنه، وكأنه يشير إلى اعتقاده الراسخ أن العرب ستستهدف الأنصار بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الأنصار هم الذين أرغموا العرب على الإتباع.
ثم يختم سعد بن عبادة رضي الله عنه خطبته بكلمة جميلة فقال:
ثم توفَّى الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو عنكم راض، وبكم قرير العين.
مع قصر الخطبة في كلماتها إلا أنها كانت تحمل معان عميقة كثيرة، ويمكن القول إجمالًا أن سعد بن عبادة رضي الله عنه ذكر مفاخر الأنصار وأفضالهم، وحب الرسول صلى الله عليه وسلم لهم ووضع الأنصار بالنسبة للعرب.
ذكر كل ذلك لهدفين رئيسيين فيما يبدو لي:
الهدف الأول: هو رفع الحالة المعنوية للأنصار بعد المصاب الفادح بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونفي الإحباط واليأس، والدعوة لاستمرار المسيرة كما بدأها، والثبات على أمر هذا الدين.
الهدف الثاني: هو التدليل على أحقية الأنصار في الخلافة، فيما يبدو لهم من حيث إنهم الذين نصروا، وآووا، وقاتلوا العرب، ومكنوا للدين.
وإجمالًا فالخطبة تعبر عن حكمة الصحابي الجليل سعد بن عبادة رضي الله عنه ورضي الله عن الأنصار والمهاجرين وسائر الصحابة أجمعين.
بعد انتهاء هذه الخطبة الموجزة دخل الصديق أبو بكر رضي الله عنه، ومعه عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما، ورآهم الأنصار، ويبدو أنهم كانوا لا يتوقعون ظهور المهاجرين الآن، فهذا قد يعطل البيعة، نعم، الأنصار استقروا على سعد بن عبادة رضي الله عنه، لكنه لم يبايع بعد، والأمر عرضة للنقاش الجديد والجدل، والذين دخلوا من المهاجرين ليسوا رجالًا عاديين، لقد دخل الصديق أبو بكر رضي الله عنه الوزير الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وثاني اثنين، والصاحب القريب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه عمر بن الخطاب الوزير الثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والملهم المحدث، الفاروق، ومعه أيضًا أمين هذه الأمة أبو عبيدة الجراح، وإن صح القول فهو في مقام الوزير الثالث لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكثرة استشارة الرسول له، والاعتماد عليه في أمور كثيرة، وهذا مما دعا السيدة عائشة أن تقول كما جاء في صحيح مسلم عندما سئلت:
من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفًا لو استخلف؟
قالت: أبو بكر.
قيل لها: ثم مَن بعد أبي بكر؟
قالت: عمر.
قيل لها: من بعد عمر؟
قالت: أبو عبيدة بن الجراح.
ولقد مات أبو عبيدة رضي الله عنه في خلافة عمر رضي الله عنه سنة 18 هجرية، ولا شك أنه كان سيدخله في الستة الذين تركهم عمر لينتخبوا من بينهم خليفة، لو كان حيًا.
إذن الثلاثة الذين دخلوا على الأنصار هم أصحاب الرأي والمشورة من الصحابة، ولا شك أنهم يمثلون الآن رأي المهاجرين، إذن هنا ستحدث مواجهة، الأنصار يريدون سعد بن عبادة رضي الله عنه، والمهاجرون لم يفصحوا بعد عن رأيهم، ولكن لعل لهم رأيًا آخر، هنا حدثت لحظة هدوء وترقب، ترى ماذا سيقول المهاجرون؟
أيقرون بخلافة سعد بن عبادة الأنصاري أم يرشحون خليفة غيره؟
ما حدث في سقيفة بني ساعدة
لنرَ كيف صور عمر بن الخطاب رضي الله عنه الموقف، كما جاء في صحيح البخاري ومسلم:
يقول عمر: فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم، قلت:
من هذا؟
قالوا: سعد بن عبادة.
وواضح أنهم قد وضعوه في مكان ما في صدر المجلس، فلفت نظر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولعله أدرك أنه قد رشح بالفعل للخلافة.
يقول عمر: قلت: ما له؟
قالوا: يوعك- أي مريض- فلما جلسنا قليلًا قام خطيبهم.
حدثت لحظة من الصمت، ثم أدرك الأنصار أن وجود هؤلاء المهاجرين الثلاثة قد يغير من الأمور، ويحدث ما لا يريدونه، فقام خطيب الأنصار يريد أن ينهي المسألة قبل أن يتكلم المهاجرون، وخطيب الأنصار هذا لا نعرف اسمه، لم يُشر إلى اسمه في الروايات الصحيحة، وإن كان ابن حجر العسقلاني يقول في (فتح الباري) أنه من المحتمل أن يكون ثابت بن قيس رضي الله عنه، فهو الذي كان يطلق عليه خطيب الأنصار، والله أعلم بحقيقة الأمر، المهم أنه أراد أن يتكلم كلامًا فصلًا، فقال كما في رواية البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
تشهد وأثنى على الله بما هو أهله ثم قال:
أما بعد، فنحن أنصار الله، وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط.
وفي رواية أخرى:
رهط منا.
هنا بوادر مشكلة، الخطيب الأنصاري يذكر أن الأنصار هم كتيبة الإسلام وأنصار الله، بينما المهاجرون رهط، أي: عدد قليل. وفي رواية أخرى: رهط منا. أي عدد قليل بالنسبة لنا، وكأنه التقط أن المهاجرون سيريدون الخلافة فيهم، فأسرع يبطل حجة المهاجرين بأنهم أعداد قليلة بالنسبة للأنصار، والأنصاري بالطبع يقصد المهاجرين قبل فتح مكة، والذين يعيشون في المدينة الآن، وإلا فلو اعتبروا أعداد القرشيين في مكة، والذين أسلموا بعد الفتح، فسيكونون أضعاف وأضعاف الأنصار، وبذلك فإن الخطيب الأنصاري ذكر هذا الكلام كتلميح أن الخلافة يجب أن تكون في العدد الأكبر، والذي نصر الإسلام في كل المشاهد، والمواقع بنسبة دائمًا ما تكون أكبر من المهاجرين، هذا كان من باب التلميح، ثم إنه بعد ذلك صرح، قال الخطيب الأنصاري:
وقد دفت دافة من قومكم- أي جاءت مجموعة قليلة من المهاجرين- فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا- أي يستثنونا من الخلافة في بلادنا- وأن يحصنونا من الأمر- أي يخرجونا منه- ثم سكت.
لقد صرح الأنصاري الآن بشيء لا بد أن يحدث بعده جدال طويل، فقد قال صراحة إنكم أيها المهاجرون، ويقصد أبا بكر وعمر وأبا عبيدة قد جئتم لتخرجونا من أمر هو يرى أنه حق الأنصار، فكيف يكون هذا؟
ها قد جاء موقف يقول فيه المسلمون:
نحن الأنصار.
و: نحن المهاجرون.
وهذا أمر خطير، ورسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك تمامًا ونهى عن دعوى الجاهلية، والقبلية، ونهى عن فساد ذات البين، ولا بد من الحكمة الشديدة، والحرص البالغ في معالجة الموقف، وهو ما زال في بدايته، ويجب أن نلاحظ أن كل هذا الموقف يحدث نفس اليوم الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يدفن بعد.
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
فلما سكت- أي الخطيب الأنصاري- أردت أن أتكلم، وكنت قد زورت مقالة أعجبتني- أي هيأت وحسنت- أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر، فلما أردت أن أتكلم، قال أبو بكر:
على رسلك.
أي على مهلك، يعني أسكته، يريد أن يتكلم هو رضي الله عنه، ولعله خشي أن يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه كلامًا شديدًا يعقد الموقف.
يقول عمر رضي الله عنه:
فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكر فكان هو أحلم مني وأوقر.
وعمر رضي الله عنه وكذا كل الصحابة، كانوا يجلون أبا بكر إجلالًا كبيرًا، وكان إذا تكلم رضي الله عنه أنصتوا، يقول عمر:
فوالله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري، إلا قال في بديهته مثلها، أو أفضل منها.
كلمة أبي بكر في السقيفة
ماذا قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه أحكم الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم؟
لقد قسّم الصديق مقالته إلى ثلاثة أقسام أو ثلاثة مراحل في غاية الحكمة:
أولًا: يقول عمر:
فلم يدع الصديق شيئًا أنزل في الأنصار، أو ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ذكره.
يعني ذكر كل المديح الذي جاء في الأنصار ثم قال:
لقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَ الْأَنْصَارُ وَادِيًا، لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ.
وما ذكرتم فيكم من خير فأنتم أهله، وإنا والله يا معشر الأنصار ما ننكر فضلكم، ولا بلاءكم في الإسلام، ولا حقكم الواجب علينا.
بهذه المقدمة اللطيفة احتوى الصديق رضي الله عنه الأنصار، وأشاع جوًا من السكينة في السقيفة، ووسع في صدر الأنصار، وأعطى لكل ذي قدر قدره، هذا كله دون كذب ولا نفاق، إنما ذكر الحق الذي ذكره الله عز وجل ورسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا: أما وقد سكنت النفوس، فليذكر الحق الذي لا بد منه، قال الصديق رضي الله عنه:
ولكن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، وهم أوسط العرب دارًا وأنسابًا.
والصديق هنا يحاول أن يوضح بهدوء للأنصار أن الحكمة تقتضي أن تكون الخلافة في قريش، لماذا؟
لأن العرب لن تسمع وتطيع إلا لهم، فمنهم النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أوسط العرب نسبًا وأكثر العرب قربًا لقلوب العرب؛ لمكانة مكة الدينية في قلوب الناس، فإذا كان الخليفة من قريش اجتمع العرب عليه مهما اختلفت قبائلهم، وإن كان من غيرهم لم يقبلوا به مهما كان هذا الخليفة رجلًا صالحًا عادلًا تقيًا، إذن ليست القضية تقليلًا، أو تهميشًا للأنصار، فإنهم فعلًا أهل الفضل، وأنصار الإسلام وليست القضية هي حكم المدينة المنورة فقط، حتى نختار حاكمًا من أهلها عليها، ولكن يجب أن يوسع الأنصار مداركهم؛ ليفقهوا أن هذا الخليفة المنتخب يجب أن يسمع له ويطيع كل العرب، ثم كل الأرض بعد ذلك، وحتى بفرض أن الأنصار اختارت رجلًا هو أتقى وأفضل من رجل المهاجرين، أليس من الحكمة أن يتولى الأصلح الذي يجتمع عليه الناس جميعًا؟
ليس هذا أبدًا من باب القبلية والعنصرية، ولكنه من باب فقه الواقع، والواقع يملي شروطه أن الخليفة يجب أن يكون من قريش، وبالذات في ذلك الزمان، ثم أليس في المهاجرين من يساوي في الفضل أو يفوق سعد بن عبادة رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين؟
لا شك أن طائفة المهاجرين مليئة بأصحاب الفضل، والرأي، والحكمة، والتقوى.
إذن هذا طرح جديد يقوم به الصديق رضي الله عنه، أن يكون الخليفة من قريش، وهو رأي منطقي ومعقول، وله أبعاده العميقة.
ثالثا: يكمل الصديق كلمته بالمحور الثالث، فألقى جملة رائعة، قال الصديق: وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم.
فأخذ بيد عمر بن الخطاب وبيد أبي عبيدة بن الجراح، وهو جالس بينهما. فالصديق رضي الله عنه يقصد أنه ما طرح فكرة أن يكون الخليفة من قريش طمعًا في الخلافة، ومع كونه أفضل المهاجرين، بل أفضل المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أنه يقدم أحد الرجلين عمر وأبا عبيدة بن الجراح، وذلك زهدًا في الخلافة، وبعدًا عن الدنيا، والصديق رضي الله عنه لا يقول هذا الكلام من باب السياسة، أو الحكمة، أبدًا، ففي ضوء سيرة الصديق رضي الله عنه نتبين أنه كان صادقًا تمامًا في عرضه هذا، وأنه ما رغب في إمارة، ولا سعى إليها، فلما بويع الصديق رضي الله عنه قام خطيبًا ذات يوم فقال:
إني وليت هذا الأمر وأنا له كاره، والله لوددت أن بعضكم كفانيه، ألا وإنكم إن كلفتموني أن أعمل فيكم بمثل عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أقم به، كان رسول صلى الله عليه وسلم عبدا أكرمه الله بالوحي وعصمه به، ألا إنما أنا بشر، ولست بخير من أحدكم، فراعوني، فإذا رأيتموني استقمت فاتبعوني، وإذا رأيتموني زغت فقوموني.
هذا الكلام يخرج فعلًا من قلب الصديق، وعندما تولى إمارة المسلمين ما ظهر عليه ما يشير إلى رغبته فيها، كان عابدًا زاهدًا مجاهدًا، كان كثير التفكر، كثير السهر، كثير العمل، ولم يستمتع بدنيا، ولا بسلطة، ولا بقيادة، إذن فالصديق كان صادقًا في عرضه مبايعة أحد الرجلين عمر، أو أبي عبيدة بن الجراح، فالصديق كما نعلم قد أخرج خط نفسه من نفسه، وعلى عظم مكانته كان يقدر عمر، ويقدر أبا عبيدة، ويحفظ لهما مكانتهما، لكن على الجانب الآخر كان الصحابة جميعًا يحفظون للصديق مكانته ووضعه.
لما رشح الصديق عمر وأبا عبيدة للخلافة، ماذا كان رد فعلهما؟
يعلق عمر بن الخطاب على كلام الصديق بترشيحه، فيقول:
فلم أكره مما قال غيرها، والله لأن أقدم فتضرب عنقي، لا يكون في ذلك من إثم، أحب إليّ من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر.
وهكذا كان ابن الخطاب دائمًا يعرف للصديق فضله، ويتمنى صادقًا أن يموت في غير معصية، ولا أن يُقَدّم على الصديق، أيّ مجتمع عظيم هذا الذي يهرب فيه المرشحون للرئاسة بعيدًا عن الرئاسة؟
الآن أصبح هناك رأيان:
- رأي يؤيد مرشحًا من الأنصار، ويقف وراءه معظم رءوس الأنصار في المدينة.
- ورأي يؤيد مرشحًا من قريش ويقف وراءه ثلاثة فقط من المهاجرين. وكل له حجته ومنطقه، وهذا ليس خلافًا بسيطًا عابرًا، بل هو خلاف على ملك ورئاسة وسلطان، فلننظر إلى جيل القدوة كيف يتعامل مع اختلاف وجهات النظر...
رأي الحباب بن المنذر ورد عمر رضي الله عنهما
قام الحباب بن المنذر رضي الله عنه، ولو نتذكر، فالحباب بن المنذر رضي الله عنه هو الذي أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بموقع المعركة في بدر، بعد أن نزل الرسول صلى الله عليه وسلم في منزل آخر، فوافقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أشار عليه ثانية في خيبر بمكان نزل فيه المسلمون كذلك، ولهذا يعرف بين الصحابة بـ (ذي الرأي)، قام الحباب بن المنذر رضي الله عنه يعرض رأيًا رأى أنه رأي متوسط بين الرأيين، أي كما يقولون حلًا يُرضي جميع الأطراف، قال:
أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب.
الجذيل: هو عود ينصب للإبل لتحتك به إذا كان بها جرب.
والمحكك أي: كثيرًا ما يحتك به.
والمعنى أنه كثيرًا ما يحتكون به لرأيه ومشورته.
والعذيق: النخلة، تصغير عذق.
المرجب أي: الذي يدعم النخلة إذا ثقل حملها.
والمعنى أنه يُعتمد عليه، ولا نتعجب من أننا لا نعرف معناها، فقد سأل أحد رواة الحديث الإمام مالك عن معناها فقال له:
كأنه يقول أنا داهيتها.
وإجمالًا فهو يقصد أنه صاحب الرأي الذي سيأتي بما لا يختلف عليه أحد، فماذا قال؟
قال الحباب:
منا أمير، ومنكم أمير.
أي أنه يريد اختيار أميرين، أمير من الأنصار على الأنصار، وأمير من المهاجرين على المهاجرين، أو يختار أميران تكون لهما القيادة على دولة الإسلام سويًا، وهناك أكثر من ملاحظة على رأي الحباب رضي الله عنه:
أولًا: هذا تنازل سريع من الأنصار على موقفهم من اختيار الخليفة، فمنذ قليل كان الخليفة المختار سعد بن عبادة سيكون خليفة على كامل دولة الإسلام، ثم ها هم الأنصار بكلمات قلائل من الصديق يتنازلون عن نصف الخلافة، فهي محاولة صادقة لتقريب وجهات النظر، والالتقاء في منتصف الطريق.
ثانيًا: أنه بعد أن قال: منا أمير، ومنكم أمير.
أضاف قولًا آخر أخرجه ابن سعد بسند صحيح كما قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري، أضاف الحباب:
فإنا والله ما ننفس عليكم هذا الأمر، ولكنا نخاف أن يليها أقوام قتلنا آباءهم وإخوتهم.
يقصد أن الأنصار في الغزوات المتتالية قتلوا عددًا كبيرًا من أهل مكة من القريشيين، وسيترك ذلك ثأرًا في قلوب قريش، فإن تولى القرشيون الخلافة انتقموا من الأنصار، وهذا يضيف عاملًا آخر إلى جوار العوامل التي وضعها الأنصار في حساباتهم عند اجتماعهم لاختيار الخليفة من بينهم، كما ذكرنا من قبل.
يعلق الخطابي رحمه الله على ذلك فيقول:
إن العرب لم تكن تعرف السيادة على قوم إلا لمن يكون منهم، فالأنصار يستغربون كعامة العرب، أن يكون عليهم أمير من غيرهم.
وهذا صحيح لمن يعرف أحوال العرب قبل الإسلام، فمهما صغرت القبيلة، فإن رئيسها يكون منها، وقَبِل الجميع برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان نبيًا، وكانت القبلية معوقًا رئيسيًا لكثير من الناس في دخول الإسلام، نعم جاء الإسلام وألغى القبيلة، لكن هذه كانت قواعد إدارة البلاد منذ سنوات معدودات، ولا ننسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات إلا منذ سويعات قلائل، إذن الملاحظة الثانية:
أن ما جعل الأنصار يقول هذا القول ليس الحقد على المهاجرين، ولكن لخوفهم من نظام جديد قد تكون فيه خطورة على حياتهم جميعًا.
ثالثًا: بصرف النظر عن الخلفيات وراء كلام الحباب رضي الله عنه، أين الحكمة أن يتولى الخلافة رجلان؟ فمن المستحيل أن تدار البلد بخليفتين، بل إن هذا أمرًا منهي عنه في الشرع في منتهى الوضوح وفي منتهى الصرامة، روى الإمام مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ، وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ، فَلْيُعْطِهِ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ، فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ.
هكذا في منتهى الوضوح، ومن ثم فالحباب بن منذر رضي الله عنه إما لم يصله هذا الحكم ولا يعرفه، وإما أنه أراد أن ينسحب الأنصار من الخلافة، ولكن بأسلوب متدرج؛ منعًا لإحراج كبيرهم سعد بن عبادة رضي الله عنه، لكن هذا لم يكن ليمر دون تعليق من الصحابة فإن كان الحكم قد خفي عن أحدهم، فلا بد أن آخرين قد أدركوا الصواب، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
إنه لا يصلح سيفان في غمد واحد.
فقال خطيب الأنصار، ولعله كما ذكرنا من قبل ثابت بن قيس رضي الله عنه:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استعمل رجلًا منكم، قرنه برجل منا، فتبايعوا على ذلك.
أي أن خطيب الأنصار يحاول أن يؤيد رأي الحباب بن المنذر، ولكن بتنازل أكبر، أي أنه يقبل خليفة من المهاجرين مقرونًا معه بمساعد من الأنصار، لكن يبدو أيضًا من كلامه أنه ليست وزارة للخليفة، بل هو أيضًا خليفة، ولكن في درجة لاحقة للخليفة الأول، وهذا أيضًا كما هو واضح ليس بمنطقي.
قام عمر بن الخطاب مرة ثانية وقال:
هيهات، لا يجتمع اثنان في قرن، والله لا ترضي العرب أن يؤمروكم، ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم، ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة، والسلطان المبين.
ثم قال:
من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته، ونحن أولياؤه، وعشيرته، إلا مدل بباطل، أو متجانف لإثم، أو متورط في هلكة.
ونلاحظ هنا أن عمر بن الخطاب بدأ يحتد، ومن المؤكد أن صوته قد ارتفع ولو قليلًا، والكلام الذي قاله يحتمل معان كثيرة، فهو يقول أنه لا أحد من العرب يستطيع أن ينازع عشيرة محمد صلى الله عليه وسلم الإمارة، والأنصار من العرب، وهي داخلة في الكلمة العامة التي قالها الفاروق عمر رضي الله عنه، وإذا أصرت قد تورط نفسها في هلكة كما قال عمر رضي الله عنه، هنا تكلم أحد الأنصار لم تذكر الروايات اسمه كما جاء في مسند الإمام أحمد بسند صحيح، ونلاحظ في كلام الأنصاري الأتي تنازلًا جديدًا، قال:
إذن أولًا نختار رجلًا من المهاجرين، وإذا مات اخترنا رجلًا من الأنصار، فإذا مات اخترنا رجلًا من المهاجرين، كذلك أبدًا.
ونلاحظ أنه يقدم بيعة المهاجرين، ثم هو يريد أن يدلل على كلامه، ويؤكد فيقول:
فيكون أجدر أن يشفق القرشي إذا زاغ، أن ينقض عليه الأنصاري، وكذلك الأنصاري إذا زاغ أن ينقض عليه القرشي.
وهذا وإن كان ظاهره أنه سيحل الموقف الآن باختيار خليفة من المهاجرين، إلا أنه سيؤجل الفتنة عدة سنوات أو شهور، ولكنها ستحدث حتمًا، فقد يدخل الشيطان بين الفريقين لتبادل السلطة، والأكثر من ذلك أن العرب مستقبلًا بعد موت الخليفة الأول لن ترضى بالخليفة الأنصاري الجديد، ومن ثم، فهذا الرأي أيضًا لا يقبل.
وقف أيضًا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان شديدًا في الحق، حريصًا على الوضوح، بعيدًا كل البعد عن تمييع الأمور، أو دفن النار تحت الرماد، قال في قوة وحدة: لا والله، لا يخالفنا أحد إلا قتلناه.
طبعًا هذه الكلمة شديدة، ومن المؤكد أنها أثارت الأنصار في ساعتها، لكن عمر رضي الله عنه يريد أن يوضح الأمور على حقيقتها، إن كانت الخلافة فعلًا من حق قريش، فالذي سينازعهم فيها لا بد أن يقتل شرعًا، فإذا كانت العرب جميعًا ستبايع القرشيين، ولن تبايع الأنصار، فالاجتماع على القرشيين واجب، وهنا تكون مطالبة الأنصار بالإمارة مخالفة شرعية، لأنها ستقود إلى الفرقة والفتنة، والفتنة أشد من القتل، لذلك شرع الرسول صلى الله عليه وسلم قتل الخليفة الآخر، إذا بويع للأول واجتمع الناس عليه، وكان مقيمًا لشرع الله غير مبدل ولا محرف.
ولذلك، سمي الفاروق فاروقًا، لأنه فعلًا في مواقف عدة، بل لعله في كل مواقفه يكره اللون الرمادي الغير واضح، ويحب أن يوضح الأمور على حقيقتها، وهذا وإن كان يغضب بعض الناس، أو يظنون فيه الظنون، إلا أنه على المدى البعيد يقمع الفتنة ويرسخ الطمأنينة.
لكن من المؤكد أن هذه الحدة قد أثارت بعض الأنصار، فالنفس العربية بصفة عامة لا تقبل التهديد، وبالذات لو كانت هذه النفس لفارس، قام فارس الأنصار الحباب بن المنذر رضي الله عنه وأعاد وكرر رأيه :
منا أمير، ومنكم أمير.
وقد أثارته كلمات الفاروق رضي الله عنه، ولم يكتف بذلك، بل قال كلمة أحسبها أفلتت منه قال:
وإن شئتم كررناها خدعة.
أي أعدنا الحرب من جديد، أمر خطير، وارتفعت الأصوات، وكثر اللغط.
ونلاحظ أنه مع كل هذا الحوار، والجدل، فإننا لم نسمع سعد بن عبادة ولا مرة منذ دخل المهاجرون في أول اللقاء، لم يطلب لنفسه، ولم يبرر، ولم يقل قد بايعني قومي، ثم لاحظ أن الأنصار مع كل هذا الحوار الطويل، لم يذكروا ولو مرة واحدة منًّا على المهاجرين، ولا تفضلا عليهم، لم يقولوا مثلًا: جئتمونا مطرودين فآوينكم، فقراء فأغنياكم، محتاجين فأعطيناكم.
وهذا كله واقع صحيح، ولكن أدب وخلق الأنصار أغلق أبواب الشيطان، كما نلاحظ أيضًا أن المهاجرين لما طلبوا الإمارة فيهم، لم يقولوا ولو لمرة واحدة أنهم أفضل من الأنصار، أو أن كفاءتهم القيادية، أو الإدارية، أو الأخلاقية، أو الروحية أكبر من كفاءة الأنصار، أبدًا، كل ما يريدون ترسيخه هو فقه الواقع، الواقع سواء كان حلوًا، أو مرًا يقضي بأن العرب لن تطيع إلا لقريش الآن، وبعد عشر سنين، وبعد مائة سنة، وما دام الواقع لم يحل حرامًا، أو يحرم حلالًا، فلا بد من مراعاته، وكما ذكرنا من قبل:
لأن يجتمع المسلمون على رجل مرجوح، أو أقل صلاحًا، خير من أن يفترقوا على رجل راجح أو أكثر صلاحًا.
هذه هي المعاني التي كان يدافع عنها المهاجرون الثلاثة، ونلاحظ أيضًا في هذا الموقف في سقيفة بني ساعدة أن الصحابة رضوان الله عليهم بشر، يجتهدون في الرأي، فيصيب بعضهم، فله أجران ويخطئ الآخر، فله أجر، فكما لا نرضى أن يطعن المستشرقون، وأتباعهم في صدق وأمانة وعدالة الصحابة، لا نقبل من الناحية الأخرى أن نعتقد أن حياتهم كانت اتفاقًا بلا اختلاف، أو اجتماعًا في الرأي دون تفرق فيه، أبدًا، الخلاف بين المسلمين أمر حتمي، لا بد أن يحدث، بل حدث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلف المسلمون في قضايا كثيرة في وجوده صلى الله عليه وسلم، بل اختلف صلى الله عليه وسلم في بعض القضايا مع الصحابة في القضايا التي ليس فيها وحي، بل أحيانًا كان يرجح رأي الصحابة كما في قصة أسارى بدر عندما رجح رأي عمر بن الخطاب رضي الله عنه الرجل الموفق المحدث الملهم، الذي نزل القرآن الكريم موافقًا لرأيه في أمور عدة.
نعم، وَسِّعوا المدارك، واقبلوا الخلاف في الآراء، لكن لا بد من اجتماع القلوب مهما اختلفت الآراء.
نعود إلى موقف الصحابة، بعد الكلمات الأخيرة لعمر بن الخطاب والحباب بن المنذر رضي الله عنهما، هذا الموقف المتأزم كيف يحل؟
وهذا الصوت المرتفع كيف ينخفض؟
وهذا الصدر الضيق كيف ينشرح؟
رد: يوم السقيفة
أبو عبيدة يغيّر خط الحوار في السقيفة
إذا كان حديث العقل، والحجة، والبرهان يُقَسّي القلوب أحيانًا، فليكن حديث الوجدان والروح، يتكلم الأمين، أمين الأمة، يتكلم أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، الرجل الرصين، الهادئ، أمين الأمة، قال جملة من سطر واحد، نزلت بالسكينة على السقيفة في لحظة، قال:
يا معشر الأنصار، إنكم أول من نصر وآزر، فلا تكونوا أول من بَدّل وَغيّر.
هكذا هذه الكلمات القليلة زلزلت كيان الأنصار، وهزت مشاعرهم هزًا عنيفًا، أطلق الأمين أبو عبيدة سهمًا فاستقر في قلوب الأنصار قلبًا قلبًا،
[وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ] {الأنفال:74}
يا رسول الله، اقسم بين إخواننا النخيل.
رضينا برسول الله قسمًا.
[وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {الحشر:9} .
الأنصار يبدلون ويغيرون؟!
يا رسول الله خذ لنفسك ولربك ما أحببت.
نبايعك يا رسول الله على السمع والطاعة في عسرنا، ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله.
الله إنهاذكريات رائعة خالدة...
فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟
قال: الْجَنَّةُ.
قالوا: أبسط يدك.
فبسط يده فبايعوه.
أفاق الأنصار رضي الله عنهم أجمعين، أفاقوا على حقيقتهم العجيبة، أن الله خلقهم ليعطوا ويعطوا ويعطوا، النسمة الرقيقة الحانية التي تأتي بالخير، ولا تأخذ شيئًا، ارتفع بهم أبو عبيدة بجملته الموفقة من مواقع البشر والأرض، إلى مصاف الملائكة والسماء، تذكروا البيعة الخالدة، وتذكروا الهجرة، وتذكروا النصرة، وتذكروا الجهاد، والشهادة، تذكروا إخوانا قدموا أرواحهم، وسبقوا صادقين، ما بدلوا وما غيروا.
تذكروا سعد بن معاذ.
تذكروا أسعد بن زرارة.
تذكروا سعد بن الربيع.
تذكروا أنصارًا، عاشوا أنصارًا، وماتوا أنصارًا.
تذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الحبيب الذي ما فارق إلا منذ قليل.
الذي ما زال نائمًا على سريره لم يدفن بعد.
الذي ما زال حيًا في قلوبهم.
وسيظل كذلك حتى يموتون.
وانهمرت دموع الأنصار تفيض على الحاضرين جميعًا رحمة وأمنًا، وقام بشير بن سعد رضي الله عنه الأنصاري الخزرجي مسرعًا ملبيًا لنداء أبي عبيدة، وكان ممن شهد العقبة الثانية، وكان شيخًا كبيرًا، قام فقال: يا معشر الأنصار، إنا والله لئن كنا أولي فضيلة في جهاد المشركين، وسابقة في هذا الدين، ما أردنا به إلا رضاء ربنا، وطاعة نبينا، والكدح لأنفسنا، فما ينبغي أن نستطيل بذلك، ولا نبتغي به من الدنيا عرضًا، فإن الله ولي النعمة، وولي المنة علينا بذلك، ألا إن محمدًا صلى الله عليه وسلم من قريش، وقومه أحق به وأولى، ولا يراني الله أنازعهم في هذا الأمر أبدا، فاتقوا الله، ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم.
وتغير بالكلية خط الحوار في السقيفة، وبدأ الجميع يهدأ نفسًا، وظهر أن حجة المهاجرين أصبحت أعلى، لكن هذه الحجة ما كانت لتقنع الأنصار لولا أن قلوبهم مؤمنة، ولولا أن غايتهم الجنة.
قام أسيد بن حضير رضي الله عه زعيم الأوس، ودعا إلى أن يترك الأنصار الأمر ويبايعوا المهاجرين، ولعله أراد أن يقوي حجة المهاجرين فقال إنه يخشى أن يحدث الخلاف مستقبلًا بين الأوس والخزرج إن تولى أحدهما، ولذلك فهو يؤيد المهاجرين، ولما رأى الصديق رضي الله عنه أن نفوس الناس قد بدأت تطيب باختيار الخليفة من المهاجرين، أراد أن يضيف حجة تقوي من شأن هذا الاختيار وتزكيه، والحق أن الحجة تدل على ذكاء الصديق، وسعة إطلاعه على كتاب الله عز وجل،قال الصديق رضي الله عنه:
إن الله سمانا الصادقين، وسماكم المفلحين.
وذلك في إشارة لقول عز وجل:
[لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ(8)وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {الحشر:8،9} .
ثم انظر إلى الاستنباط، قال:
وقد أمركم أن تكونوا معنا حيثما كنا، فقال في سورة التوبة:
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ] {التوبة:119}.
ثم استنبط أمرًا آخر من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بالأنصار خيرًا، وأوصى أن من تولى أمر المسلمين فعليه أن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم.
وذلك في إشارة واضحة أن الخليفة ليس منهم، إذ كيف يوصيه عليهم إن كان منهم.
وهكذا هدأت النفوس أكثر وازداد توحد المسلمين في رأي واحد، هذا كله، منذ دخول المهاجرين، وحتى هذه اللحظة، في أقل من ساعتين في تخيلي، فإن هذا اللقاء لم يقطع بصلاة، وكل هذه الأمور تمت، وما زالت هناك أمور أخرى ستتم في غضون هذه الفترة القصيرة، فأنعم به من جيل.
بين أبي بكر الصديق وسعد بن عبادة
قام زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه فقال:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين، وإن الإمام إنما يكون من المهاجرين، ونحن أنصاره كما كنا أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأضحى الناس جميعًا يتكلمون في هذا الاتجاه، لكن سعد بن عبادة رضي الله عنه لم ينطق بعد، وموقفه حرج جدًا، فمنذ ساعة، أو ساعتين كان مرشحًا للخلافة، وكان ذلك في ظنه وظن الأنصار في حكم المؤكد، والآن الوضع ينقلب مائة وثمانين درجة، ولا بد أنه الآن يفكر، ويفكر، ويعقد الموازنات، ويقارن الحجج والأدلة، ويشاور عقله وقلبه، لا بد أن هناك صراعًا نفسيًا داخليًا في داخله، أتراهم فعلًا على حق يستنبطون أن الخليفة من قريش أم يكون الرأي الصائب هو رأي الأنصار الأول؟
أفكار متزاحمة، والرجل مريض، ومرهق، ولا بد أن في داخله حيرة. الصديق رضي الله عنه يرقب الموقف في ذكاء، ويتابع الأحداث في فطنة لا تخلو من روية، في هذا الوقت، وقد وضح أن الأنصار قد اقتنعوا عقليًا وقلبيًا بأن المصلحة العليا للأمة تقتضي أن يكون الخليفة من المهاجرين، وبالذات من قريش، في هذا الوقت الذي قامت فيه الأدلة، وتظاهرت على إقناع الأنصار، قام الصديق رضي الله عنه، قام فكشف الورقة الأخيرة في جعبته، وألقى بالدليل الدافع، والحجة الظاهرة البينة التي ما تركت شكًا في قلب أحد، ولا أبقت ريبة في نفس أنصاري أو مهاجري، كلمات معدودات ولكن أثقل من الذهب، قال الصديق رضي الله عنه: لقد علمت يا سعد- يخاطب سعد بن عبادة رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد.
هو هنا يُذكّر سعد بن عبادة رضي الله عنه بشيء من الواضح أن سعد نساه، إما لبعد الفترة، وإما لعدم فقه الحديث، وإما للحزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما للمرض، أو لغيره من الأسباب، قال الصديق رضي الله عنه:
لقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد:
قُرَيْشٌ وُلَاةُ هَذَا الْأَمْرِ، فَبَرُّ النَّاسِ تَبَعٌ لِبَرِّهِمْ، وَفَاجِرُ النَّاسِ تَبَعٌ لَفَاجِرِهِمْ. قانون وضعه صلى الله عليه وسلم، صريح جدًا، فقال سعد كلمة عجيبة في بساطة غريبة، قال:
صدقت، أنتم الأمراء، ونحن الوزراء.
هكذا في بساطة، هكذا قطع سعد بن عبادة رأس الأنصار وكبيرهم وزعيمهم والمرشح الأول للخلافة عندهم هكذا قطع بخلافة قريش دون الأنصار، وهدأت السقيفة.
ولنا على هذا الحدث الفريد عدة تعليقات:
أولًا: الحديث الذي ذكره الصديق رضي الله عنه، هو تشريع واضح من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمر الذي فيه تشريع ليس فيه اجتهاد، وهو فارق ضخم هائل بين الشورى وبين الديموقراطية، فالديموقراطية هي حكم الشعب للشعب، بمعنى أنه لو اجتمع الشعب على حكم صار تشريعًا يطبق عليه، خالف أو لم يخالف كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، بينما الشورى في الإسلام لا تكون إلا في الأمور التي لم يرد فيها تحليل معروف أو تحريم معروف، فلا يجوز مثلًا أن يجتمع المسلمون ليتشاوروا أيبيعون الخمر أم لا يبيعونه؟
أيسمحون بالربا أو لا يسمحون به؟
أيشرعون الزنا أم لا يشرعونه؟
لا يجوز هذا، هنا في هذا الموقف في السقيفة، لا يجوز اختيار رجل من غير قريش حتى وإن وافق المهاجرون، ووافق الأنصار، الأمر خرج من أيديهم إلى يد الله عز وجل، ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم
[وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا] {الأحزاب:36} .
أحيانًا يظن الناس أن الخير في مخالفة الشرع في موقف من المواقف؛ لاعتبارات كثيرة، ولكن هذا قصور في الرؤية، وضعف في الإيمان، وشك في كلمة التشريع، وهنا في هذه الآية الكريمة التي ذكرناها يعقب الله عز وجل بقوله:
[وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا] {الأحزاب:36} .
لا شك أن المسلمين لو اختاروا رجلًا من غير قريش في هذا الاجتماع، لكان الضلال المبين بعينه، لكن الله عز وجل عصمهم من هذا الزلل، ومَنّ عليهم باتباع الشرع، واليقين فيه، والله أعلم كيف كان سيكون حال الأمة، لو تولى أمرها رجل من خارج قريش، وها قد مرت الأيام، ورأينا الخير الذي كان في خلافة الصديق رضي الله عنه، وكيف الله ثبّت به الأمة ووطد أركان الدين ونشر كلمة التوحيد وأعلى شأن المؤمنين؟
وهذا كله ولا شك من بركات اتباع الشرع، واقتفاء آثار الرسول العظيم محمد صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل لا يطلب من المؤمنين اتباع الشرع فقط، بل والتسليم القلبي والوجداني له، بمعنى أن ترضى، ترضى رضا حقيقيًا بما اختاره الله لك، وللأمة، وبما شرعه الله لك، وللأمة، حتى وإن لم تكن ترى الحكمة بعينيك
[فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] {النساء:65} .
هذا ما رأيناه في السقيفة، رأينا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الناس، مع أنه قد فارق الأرض بجسده، لكن ما زالت كلماته باقية، وما زالت حكمته باقية، وما زال شرعه باق، ورأينا في السقيفة غياب الحرج من نفوس الصحابة عند سماع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكم الرسول صلى الله عليه وسلم، ورأينا التسليم الكامل المطلق [وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] {النساء:65} .
إذن ولاية قريش للخلافة تشريع عند المسلمين، وثبت ذلك في أحاديث أخرى كثيرة غير هذا الذي رواه أبو بكر الصديق في سقيفة بني ساعدة، والملحوظ أن رواة هذه الأحاديث لم يكونوا حاضرين وقت هذه المشاورة.
- روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وبالطبع فإن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لم يكن حاضرًا في السقيفة.
- روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الشَّأْنِ، مُسْلِمُهُمْ تَبَعُ لِمُسْلِمُهُمْ، وَكَافِرُهُمْ تَبَعٌ لِكَافِرِهِمْ.
وأيضًا لم يكن أبو هريرة حاضرًا في السقيفة.
- روى البخاري عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هَذَا الْأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ لَا يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ إِلَّا أَكَبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ مَا أَقَامُوا الدِّينَ.
وأيضًا لم يكن معاوية بن أبي سفيان حاضرًا في السقيفة.
وهناك روايات أخرى كثيرة تحمل نفس المعنى علمها كثير من الصحابة، وكانوا إما غير حضور في السقيفة، أو نسوا الحديث حتى ذُكّروا به، أو لم يفقهوا معناه كاملًا، أو أذهلتهم مصيبة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاستدلال به، لكن الشاهد الذي لا ينكر أنه عندما ذكر هذا الحديث لم يعترض واحد من الصحابة، ولم يتطوع أحدهم برده أو تفسيره على محمل آخر، هذا كله دعا علماء المسلمين على التأكيد على أهمية أن يكون الخليفة من قريش:
- ذكر الإمام النووي مثلا في شرح الأحاديث وأشباهها دليل ظاهر على أن الخلافة مختصة بقريش، لا يجوز عقدها لأحد من غيرهم، وعلى هذا انعقد الإجماع في زمن الصحابة، وكذلك بعدهم، ومن خالف فيه من أهل البدع، فهو محجوج بإجماع الصحابة والتابعين.
- وقال القاضي عياض رحمه الله في كتاب الأحكام السلطانية:
اشتراط كونه قرشيا، هو مذهب العلماء كافة.
- وذكر أيضًا الإمام ابن حجر العسقلاني في فتح الباري أن القرشية شرط في خليفة المسلمين.
- وذكر القرطبي رحمه الله أنه لا تنعقد الإمامة الكبرى إلا لقريش مهما وجد منهم أحد.
لكن مع كل ما سبق فإن هذه الأحاديث التي جعلت الإمامة في قريش لا تجعل هذا أمرًا مطلقًا بل تقيده بشيء هام، وهو كما جاء في رواية البخاري عن معاوية:
مَا أَقَامُوا الدِّينَ.
وكما جاء في رواية عن أبي بكر:
مَا أَطَاعُوا اللَّهَ وَاسْتَقَامُوا عَلَى أَمْرِهِ.
وكما جاء في رواية الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ، إِنَّ لَهُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، وَلَكُمْ عَلَيْهِمْ حَقًّا مِثْلَ ذَلِكَ، مَا إِنِ اسْتُرْحِمُوا، فَرَحِمُوا، وَإِنْ عَاهَدُوا وَفَوْا، وَإِنْ حَكَمُوا عَدَلُوا، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.
إذن هذه شروط إن لم يحكم بها القرشيون وزاغوا عنها، ولم يتبعوا شرع الله عز وجل فلا طاعة لهم ولا إمرة.
أمر هام في قضية الأئمة من قريش، وهو أن القرشيين كانوا معروفين في صدر الإسلام، ولفترة بعده، ثم حدثت الفتوح الإسلامية، وخرج القرشيون وبقية العرب من الجزيرة العربية واستقر، كثير منهم في كل بقاع الأرض، في الشام، وآسيا، وشمال أفريقيا، والأندلس وغيرها، وهكذا توزعت قريش في أنحاء الأرض، ومع مرور الوقت نسي هؤلاء نسبتهم، وبالذات أولئك الذين يعيشون في المدن، فأصبحت مشكلة واضحة أن تعرف القرشيين الآن، أضف إلى ذلك أن كثيرًا من غير القرشيين هاجر وعاش في الجزيرة ومع مرور الوقت أيضًا اختلطت الأنساب وازدادت المشكلة تعقيدًا، وزاد الموقف صعوبة بعد ذلك أن هناك كثيرين ادعوا النسب إلى قريش، بل إلى آل البيت وليسوا منهم، وذلك رفعًا لقدرهم، وإعلاءً لشأنهم، ووضعوا شجرات نسب تبين هذا الانتساب، وقد كثرت هذه الشجرات حتى أصبح من العسير التمييز بين الأصول الصحيحة من غيرها، في هذه القضية المعقدة هل تركنا الشرع دون طريق، حاشا لله
[اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ] {المائدة:3} .
قاعدة إسلامية أصيلة رواها البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، كَأَنَّ رَأَسَهُ زَبِيبَةٌ، مَا أَقَامَ فِيكُمْ كِتَابَ اللَّهِ.
وهذا ما استند عليه العثمانيون مثلًا في خلافتهم للمسلمين، وهو سند صحيح، صحت به خلافتهم ما داموا يحكمون بكتاب الله عز وجل، وجمعوا فيه الأمة في وقت كانت القوة والغلبة، والسمع والطاعة لهم، وهو المقصود من الخلافة جمع الأمة تحت راية كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
إذن خلاصة هذه النقطة، أن الصحابة جميعًا انصاعوا تمامًا لحديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه لماذا؟
لأنه تشريع، وسكنت السقيفة وذهب الخلاف واستقر الناس على قريش.
تعليق هام على الحوار القصير الذي دار بين أبي بكر الصديق، وسعد بن عبادة رضي الله عنهما، الحق أن هذا الموقف من أعظم المواقف في التاريخ على الإطلاق، ومن الواضح أننا لم نعطِ للموقف حقه، ولم نعط لسعد بن عبادة رضي الله عنه حقه، ولم نعط للأنصار حقهم، كيف يغفل المسلمون عن حدث مثل هذا يعلمونه ولا يتعلمونه؟
كيف لا يظهرونه، وغيره من المواقف الخالدة في تاريخ المسلمين؟!
رجلٌ هو السيد في قومه، وكبير عائلته، يقف، وحوله الفرسان، والجنود، والأنصار، والعشيرة، وأين يقف؟
يقف في سقيفته، سقيفة بني ساعدة فهو سعد بن عبادة الساعدي الخزرجي، وأين السقيفة؟
في بلده المدينة المنورة، وقد رشحه قومه للخلافة، والرئاسة، والزعامة، لا على شركة، أو مسجد، أو ناد، أو حزب، بل على أمة، على دولة، والرجل يتمتع بذكاء، وفطنة، وحسن إدارة، وتأييد شعبي حقيقي في بلده، يقف هذا الرجل المُمَكّن أمام رجل لاجئ سياسيًا، لجأ إليه، إلى بلده، فر من قومه إليه، فآواه، وأكرمه، ونصره، وأعطاه، يقف هذا الرجل اللاجئ بين رجلين فقط من بلده، يقف الثلاثة في بحر من الأنصار، فإذا بالرجل اللاجئ يقول له:
قريش ولاة هذا الأمر.
وينزع الأمر الذي كان قد وُكِل إليه، ويعطيه إلى غيره، ماذا يكون رد فعل السيد والزعيم؟
إنه يقول في بساطة:
صدقت، أنتم الأمراء ونحن الوزراء.
لا جدل، ولا كلمة، ولا أخذ للحديث على محمل آخـر،
أيّ نفس طاهرة!
وأيّ روح زكية!
أيّ رجل وقاف على كتاب الله وعلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم! وأيّ تشويه قذر حدث لشخصه ولقومه الأنصار!
كم من الدماء حقنت! ولو شاء لسالت أنهارًا في شوارع المدينة،
كم من الأرواح حفظت! ولو شاء لقتلت بالآلاف،
أيّ فتنة قمعت!
وأيّ وحدة حدثت!
آثار مجيدة، ونتائج هامة لموقف وقفه الصحابي الجليل سعد بن عبادة لله، وأين الدنيا في عين الأنصار؟
كما اتهمهم المستشرقون وأحباؤهم، أين الدنيا؟
لو كانت الدنيا كما يدعون هي الباعث لهم على الاجتماع في سقيفة بني ساعدة، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكانت تقنعهم هذه الكلمات؟ أكانوا يقفون ويرضخون لحديث رواه في ساعتها رجل واحد سيصبح في نظرهم مستفيدًا من نتائجه؟
المستشرقون الذين طعنوا في الأنصار أحد رجلين:
إما رجل جاهل لا يعرف معنى القلوب المؤمنة، والنفوس المخلصة، ويقيس الأحداث بمقياس العصر الحديث حيث طغت المادية على الناس، وحيث ليس أقذر من السياسة، وليس أكثر من المؤامرات، والدس، والكيد، والغش، والنفاق، والخداع، هذا رجل جاهل من المستشرقين.
والرجل الآخر، هو رجل حاقد موتور، رأى دينا قيمًا، ورجالًا أخيارا، وتاريخًا ناصعًا خالدًا نادرًا، فأكل الحقد قلبه، فرأى الحق وغض بصره عنه، وعلم الصواب وخالفه.
هؤلاء المستشرقون جُهّالًا كانوا أو حاقدين قد فعلوا في التاريخ ما فعلوا، وقد يكون عندهم ما يبرر جرائمهم، لكن أين المسلمون؟!
أتراه عدلًا أن نترك هذا الكنز الثمين من القيم، والأخلاق، والروائع، ونذهب لدراسة تاريخ أوروبا، أو تاريخ الفراعنة، أو تاريخ الحضارة في الصين والهند؟!
أتراه من الحكمة أن نترك أعداءنا يعبثون بتاريخنا، ونسلم لهم الرقاب، ونتبع دون سؤال ولا استفسار؟!
أتراه صحيحًا أن ينشغل عنه علماء المسلمين في هذا الزمن الذي زادت فيه الهجمة الصليبية الشرسة على ديننا وأوطاننا؟!
أليس خيرًا لنا وللبشرية أن نستمتع بدراسة روائعنا التاريخية، وأصولنا الدينية؟
أي أمة أعظم من أمة الإسلام؟
وأي تاريخ أنقى من هذا التاريخ؟
تعليق ثالث سريع: إذا كان الصديق رضي الله عنه يعرف هذا الحديث القاطع( ولاة الأمر من قريش)، فلماذا لم يذكره في أول المناقشة، ويقطع باب الجدل من بدايته، والحق أن هذا من حكمة الصديق رضي الله عنه، وفطنته فلو ذكر هذا الحديث، ولم يقدم له البراهين الساطعة، والأدلة الدافعة، والحجة العقلية، في كون قريش أقدر على إدارة الأمور في دولة الإسلام، وإن العرب سيكونون أكثر طوعًا لقريش، لو ذكر الحديث دون أن يفعل ذلك، فقد يرفض الأنصار الانصياع له وتصبح كارثة، فمن الحكمة ألا تطلب أمرًا عسيرًا من رجل إلا بعد أن تهيئه نفسيًا، لا تكون عونًا للشيطان على أخيك، اقدر للأمر قدره، خاطبوا الناس على قدر عقولهم، وراعوا حالتهم النفسية والمزاجية، الأنصار مهيئون نفسيًا لتولي السلطة، وأدلتهم العقلية قوية، وحجتهم المنطقية مقبولة، ويُخشى عليهم ألا ينصاعوا لأمر الله ورسوله، إذن لا بد من معالجة الأمر بحكمة، والتدرج في إيصال الحكم، حتى إذا ما عرض الحكم، قبلوه دون تردد، واتبعوه دون شك، فقه راق، وحكمة رائعة، إنه الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
تعليق رابع على كلام الصديق رضي الله عنه: شبهة تافهة أثارها بعض المستشرقين، وهي أن الحديث من اختلاق الصديق؛ لكي يرجح كفة المهاجرين في النقاش الدائر في سقيفة بني ساعدة، وواضح أن المستشرقين لم يفتقروا إلى العلم والفقه فقط، بل افتقروا أيضًا إلى الأدب، واضح أنهم لا يعلمون شيئًا عن الصديق، وعن الصحابة، ولا عن عدالة الصحابة أجمعين، ثم ألم يُروَ الحديث من طرق أخرى كثيرة، غير طريق الصديق رضي الله عنه، وعن بعض الأنصار أيضًا، وجاء في كتاب الصحاح السنن في أكثر من موضع، ثم هل كان يسكت الأنصار إذا شكوا في الأمر؟
أكانت تعوزهم الحجة أو القوة؟
أكانوا يتركون ملكًا لحديث مشكوك فيه؟
فإن قال المستشرقون أن الأنصار استحيوا من أبي بكر، فنقول ألم تقولوا عنهم منذ قليل إنهم طلاب دنيا وسلطان؟
أيستحي طالب دنيا من أن يقول لرجل يأخذ ملكه: هات الدليل على صدق ما تقول؟!
أليس انصياع الأنصار التام دليلًا على نبل أخلاقهم، وقيمهم من ناحية، ودليلًا على ارتفاع الصديق رضي الله عنه فوق مستوى الشبهات من ناحية أخرى؟
هذا والله أراه حقا لا ريب فيه، لكن ماذا أقول؟
[فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ] {الحج:46} .
لَا يَزَالُ هَذَا الْأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنَ النَّاسِ اثْنَانِ.
إذا كان حديث العقل، والحجة، والبرهان يُقَسّي القلوب أحيانًا، فليكن حديث الوجدان والروح، يتكلم الأمين، أمين الأمة، يتكلم أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، الرجل الرصين، الهادئ، أمين الأمة، قال جملة من سطر واحد، نزلت بالسكينة على السقيفة في لحظة، قال:
يا معشر الأنصار، إنكم أول من نصر وآزر، فلا تكونوا أول من بَدّل وَغيّر.
هكذا هذه الكلمات القليلة زلزلت كيان الأنصار، وهزت مشاعرهم هزًا عنيفًا، أطلق الأمين أبو عبيدة سهمًا فاستقر في قلوب الأنصار قلبًا قلبًا،
[وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ] {الأنفال:74}
يا رسول الله، اقسم بين إخواننا النخيل.
رضينا برسول الله قسمًا.
[وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {الحشر:9} .
الأنصار يبدلون ويغيرون؟!
يا رسول الله خذ لنفسك ولربك ما أحببت.
نبايعك يا رسول الله على السمع والطاعة في عسرنا، ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله.
الله إنهاذكريات رائعة خالدة...
فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟
قال: الْجَنَّةُ.
قالوا: أبسط يدك.
فبسط يده فبايعوه.
أفاق الأنصار رضي الله عنهم أجمعين، أفاقوا على حقيقتهم العجيبة، أن الله خلقهم ليعطوا ويعطوا ويعطوا، النسمة الرقيقة الحانية التي تأتي بالخير، ولا تأخذ شيئًا، ارتفع بهم أبو عبيدة بجملته الموفقة من مواقع البشر والأرض، إلى مصاف الملائكة والسماء، تذكروا البيعة الخالدة، وتذكروا الهجرة، وتذكروا النصرة، وتذكروا الجهاد، والشهادة، تذكروا إخوانا قدموا أرواحهم، وسبقوا صادقين، ما بدلوا وما غيروا.
تذكروا سعد بن معاذ.
تذكروا أسعد بن زرارة.
تذكروا سعد بن الربيع.
تذكروا أنصارًا، عاشوا أنصارًا، وماتوا أنصارًا.
تذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الحبيب الذي ما فارق إلا منذ قليل.
الذي ما زال نائمًا على سريره لم يدفن بعد.
الذي ما زال حيًا في قلوبهم.
وسيظل كذلك حتى يموتون.
وانهمرت دموع الأنصار تفيض على الحاضرين جميعًا رحمة وأمنًا، وقام بشير بن سعد رضي الله عنه الأنصاري الخزرجي مسرعًا ملبيًا لنداء أبي عبيدة، وكان ممن شهد العقبة الثانية، وكان شيخًا كبيرًا، قام فقال: يا معشر الأنصار، إنا والله لئن كنا أولي فضيلة في جهاد المشركين، وسابقة في هذا الدين، ما أردنا به إلا رضاء ربنا، وطاعة نبينا، والكدح لأنفسنا، فما ينبغي أن نستطيل بذلك، ولا نبتغي به من الدنيا عرضًا، فإن الله ولي النعمة، وولي المنة علينا بذلك، ألا إن محمدًا صلى الله عليه وسلم من قريش، وقومه أحق به وأولى، ولا يراني الله أنازعهم في هذا الأمر أبدا، فاتقوا الله، ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم.
وتغير بالكلية خط الحوار في السقيفة، وبدأ الجميع يهدأ نفسًا، وظهر أن حجة المهاجرين أصبحت أعلى، لكن هذه الحجة ما كانت لتقنع الأنصار لولا أن قلوبهم مؤمنة، ولولا أن غايتهم الجنة.
قام أسيد بن حضير رضي الله عه زعيم الأوس، ودعا إلى أن يترك الأنصار الأمر ويبايعوا المهاجرين، ولعله أراد أن يقوي حجة المهاجرين فقال إنه يخشى أن يحدث الخلاف مستقبلًا بين الأوس والخزرج إن تولى أحدهما، ولذلك فهو يؤيد المهاجرين، ولما رأى الصديق رضي الله عنه أن نفوس الناس قد بدأت تطيب باختيار الخليفة من المهاجرين، أراد أن يضيف حجة تقوي من شأن هذا الاختيار وتزكيه، والحق أن الحجة تدل على ذكاء الصديق، وسعة إطلاعه على كتاب الله عز وجل،قال الصديق رضي الله عنه:
إن الله سمانا الصادقين، وسماكم المفلحين.
وذلك في إشارة لقول عز وجل:
[لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ(8)وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {الحشر:8،9} .
ثم انظر إلى الاستنباط، قال:
وقد أمركم أن تكونوا معنا حيثما كنا، فقال في سورة التوبة:
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ] {التوبة:119}.
ثم استنبط أمرًا آخر من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بالأنصار خيرًا، وأوصى أن من تولى أمر المسلمين فعليه أن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم.
وذلك في إشارة واضحة أن الخليفة ليس منهم، إذ كيف يوصيه عليهم إن كان منهم.
وهكذا هدأت النفوس أكثر وازداد توحد المسلمين في رأي واحد، هذا كله، منذ دخول المهاجرين، وحتى هذه اللحظة، في أقل من ساعتين في تخيلي، فإن هذا اللقاء لم يقطع بصلاة، وكل هذه الأمور تمت، وما زالت هناك أمور أخرى ستتم في غضون هذه الفترة القصيرة، فأنعم به من جيل.
بين أبي بكر الصديق وسعد بن عبادة
قام زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه فقال:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين، وإن الإمام إنما يكون من المهاجرين، ونحن أنصاره كما كنا أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأضحى الناس جميعًا يتكلمون في هذا الاتجاه، لكن سعد بن عبادة رضي الله عنه لم ينطق بعد، وموقفه حرج جدًا، فمنذ ساعة، أو ساعتين كان مرشحًا للخلافة، وكان ذلك في ظنه وظن الأنصار في حكم المؤكد، والآن الوضع ينقلب مائة وثمانين درجة، ولا بد أنه الآن يفكر، ويفكر، ويعقد الموازنات، ويقارن الحجج والأدلة، ويشاور عقله وقلبه، لا بد أن هناك صراعًا نفسيًا داخليًا في داخله، أتراهم فعلًا على حق يستنبطون أن الخليفة من قريش أم يكون الرأي الصائب هو رأي الأنصار الأول؟
أفكار متزاحمة، والرجل مريض، ومرهق، ولا بد أن في داخله حيرة. الصديق رضي الله عنه يرقب الموقف في ذكاء، ويتابع الأحداث في فطنة لا تخلو من روية، في هذا الوقت، وقد وضح أن الأنصار قد اقتنعوا عقليًا وقلبيًا بأن المصلحة العليا للأمة تقتضي أن يكون الخليفة من المهاجرين، وبالذات من قريش، في هذا الوقت الذي قامت فيه الأدلة، وتظاهرت على إقناع الأنصار، قام الصديق رضي الله عنه، قام فكشف الورقة الأخيرة في جعبته، وألقى بالدليل الدافع، والحجة الظاهرة البينة التي ما تركت شكًا في قلب أحد، ولا أبقت ريبة في نفس أنصاري أو مهاجري، كلمات معدودات ولكن أثقل من الذهب، قال الصديق رضي الله عنه: لقد علمت يا سعد- يخاطب سعد بن عبادة رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد.
هو هنا يُذكّر سعد بن عبادة رضي الله عنه بشيء من الواضح أن سعد نساه، إما لبعد الفترة، وإما لعدم فقه الحديث، وإما للحزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما للمرض، أو لغيره من الأسباب، قال الصديق رضي الله عنه:
لقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد:
قُرَيْشٌ وُلَاةُ هَذَا الْأَمْرِ، فَبَرُّ النَّاسِ تَبَعٌ لِبَرِّهِمْ، وَفَاجِرُ النَّاسِ تَبَعٌ لَفَاجِرِهِمْ. قانون وضعه صلى الله عليه وسلم، صريح جدًا، فقال سعد كلمة عجيبة في بساطة غريبة، قال:
صدقت، أنتم الأمراء، ونحن الوزراء.
هكذا في بساطة، هكذا قطع سعد بن عبادة رأس الأنصار وكبيرهم وزعيمهم والمرشح الأول للخلافة عندهم هكذا قطع بخلافة قريش دون الأنصار، وهدأت السقيفة.
ولنا على هذا الحدث الفريد عدة تعليقات:
أولًا: الحديث الذي ذكره الصديق رضي الله عنه، هو تشريع واضح من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمر الذي فيه تشريع ليس فيه اجتهاد، وهو فارق ضخم هائل بين الشورى وبين الديموقراطية، فالديموقراطية هي حكم الشعب للشعب، بمعنى أنه لو اجتمع الشعب على حكم صار تشريعًا يطبق عليه، خالف أو لم يخالف كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، بينما الشورى في الإسلام لا تكون إلا في الأمور التي لم يرد فيها تحليل معروف أو تحريم معروف، فلا يجوز مثلًا أن يجتمع المسلمون ليتشاوروا أيبيعون الخمر أم لا يبيعونه؟
أيسمحون بالربا أو لا يسمحون به؟
أيشرعون الزنا أم لا يشرعونه؟
لا يجوز هذا، هنا في هذا الموقف في السقيفة، لا يجوز اختيار رجل من غير قريش حتى وإن وافق المهاجرون، ووافق الأنصار، الأمر خرج من أيديهم إلى يد الله عز وجل، ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم
[وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا] {الأحزاب:36} .
أحيانًا يظن الناس أن الخير في مخالفة الشرع في موقف من المواقف؛ لاعتبارات كثيرة، ولكن هذا قصور في الرؤية، وضعف في الإيمان، وشك في كلمة التشريع، وهنا في هذه الآية الكريمة التي ذكرناها يعقب الله عز وجل بقوله:
[وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا] {الأحزاب:36} .
لا شك أن المسلمين لو اختاروا رجلًا من غير قريش في هذا الاجتماع، لكان الضلال المبين بعينه، لكن الله عز وجل عصمهم من هذا الزلل، ومَنّ عليهم باتباع الشرع، واليقين فيه، والله أعلم كيف كان سيكون حال الأمة، لو تولى أمرها رجل من خارج قريش، وها قد مرت الأيام، ورأينا الخير الذي كان في خلافة الصديق رضي الله عنه، وكيف الله ثبّت به الأمة ووطد أركان الدين ونشر كلمة التوحيد وأعلى شأن المؤمنين؟
وهذا كله ولا شك من بركات اتباع الشرع، واقتفاء آثار الرسول العظيم محمد صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل لا يطلب من المؤمنين اتباع الشرع فقط، بل والتسليم القلبي والوجداني له، بمعنى أن ترضى، ترضى رضا حقيقيًا بما اختاره الله لك، وللأمة، وبما شرعه الله لك، وللأمة، حتى وإن لم تكن ترى الحكمة بعينيك
[فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] {النساء:65} .
هذا ما رأيناه في السقيفة، رأينا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الناس، مع أنه قد فارق الأرض بجسده، لكن ما زالت كلماته باقية، وما زالت حكمته باقية، وما زال شرعه باق، ورأينا في السقيفة غياب الحرج من نفوس الصحابة عند سماع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكم الرسول صلى الله عليه وسلم، ورأينا التسليم الكامل المطلق [وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] {النساء:65} .
إذن ولاية قريش للخلافة تشريع عند المسلمين، وثبت ذلك في أحاديث أخرى كثيرة غير هذا الذي رواه أبو بكر الصديق في سقيفة بني ساعدة، والملحوظ أن رواة هذه الأحاديث لم يكونوا حاضرين وقت هذه المشاورة.
- روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وبالطبع فإن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لم يكن حاضرًا في السقيفة.
- روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الشَّأْنِ، مُسْلِمُهُمْ تَبَعُ لِمُسْلِمُهُمْ، وَكَافِرُهُمْ تَبَعٌ لِكَافِرِهِمْ.
وأيضًا لم يكن أبو هريرة حاضرًا في السقيفة.
- روى البخاري عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هَذَا الْأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ لَا يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ إِلَّا أَكَبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ مَا أَقَامُوا الدِّينَ.
وأيضًا لم يكن معاوية بن أبي سفيان حاضرًا في السقيفة.
وهناك روايات أخرى كثيرة تحمل نفس المعنى علمها كثير من الصحابة، وكانوا إما غير حضور في السقيفة، أو نسوا الحديث حتى ذُكّروا به، أو لم يفقهوا معناه كاملًا، أو أذهلتهم مصيبة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاستدلال به، لكن الشاهد الذي لا ينكر أنه عندما ذكر هذا الحديث لم يعترض واحد من الصحابة، ولم يتطوع أحدهم برده أو تفسيره على محمل آخر، هذا كله دعا علماء المسلمين على التأكيد على أهمية أن يكون الخليفة من قريش:
- ذكر الإمام النووي مثلا في شرح الأحاديث وأشباهها دليل ظاهر على أن الخلافة مختصة بقريش، لا يجوز عقدها لأحد من غيرهم، وعلى هذا انعقد الإجماع في زمن الصحابة، وكذلك بعدهم، ومن خالف فيه من أهل البدع، فهو محجوج بإجماع الصحابة والتابعين.
- وقال القاضي عياض رحمه الله في كتاب الأحكام السلطانية:
اشتراط كونه قرشيا، هو مذهب العلماء كافة.
- وذكر أيضًا الإمام ابن حجر العسقلاني في فتح الباري أن القرشية شرط في خليفة المسلمين.
- وذكر القرطبي رحمه الله أنه لا تنعقد الإمامة الكبرى إلا لقريش مهما وجد منهم أحد.
لكن مع كل ما سبق فإن هذه الأحاديث التي جعلت الإمامة في قريش لا تجعل هذا أمرًا مطلقًا بل تقيده بشيء هام، وهو كما جاء في رواية البخاري عن معاوية:
مَا أَقَامُوا الدِّينَ.
وكما جاء في رواية عن أبي بكر:
مَا أَطَاعُوا اللَّهَ وَاسْتَقَامُوا عَلَى أَمْرِهِ.
وكما جاء في رواية الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ، إِنَّ لَهُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، وَلَكُمْ عَلَيْهِمْ حَقًّا مِثْلَ ذَلِكَ، مَا إِنِ اسْتُرْحِمُوا، فَرَحِمُوا، وَإِنْ عَاهَدُوا وَفَوْا، وَإِنْ حَكَمُوا عَدَلُوا، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.
إذن هذه شروط إن لم يحكم بها القرشيون وزاغوا عنها، ولم يتبعوا شرع الله عز وجل فلا طاعة لهم ولا إمرة.
أمر هام في قضية الأئمة من قريش، وهو أن القرشيين كانوا معروفين في صدر الإسلام، ولفترة بعده، ثم حدثت الفتوح الإسلامية، وخرج القرشيون وبقية العرب من الجزيرة العربية واستقر، كثير منهم في كل بقاع الأرض، في الشام، وآسيا، وشمال أفريقيا، والأندلس وغيرها، وهكذا توزعت قريش في أنحاء الأرض، ومع مرور الوقت نسي هؤلاء نسبتهم، وبالذات أولئك الذين يعيشون في المدن، فأصبحت مشكلة واضحة أن تعرف القرشيين الآن، أضف إلى ذلك أن كثيرًا من غير القرشيين هاجر وعاش في الجزيرة ومع مرور الوقت أيضًا اختلطت الأنساب وازدادت المشكلة تعقيدًا، وزاد الموقف صعوبة بعد ذلك أن هناك كثيرين ادعوا النسب إلى قريش، بل إلى آل البيت وليسوا منهم، وذلك رفعًا لقدرهم، وإعلاءً لشأنهم، ووضعوا شجرات نسب تبين هذا الانتساب، وقد كثرت هذه الشجرات حتى أصبح من العسير التمييز بين الأصول الصحيحة من غيرها، في هذه القضية المعقدة هل تركنا الشرع دون طريق، حاشا لله
[اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ] {المائدة:3} .
قاعدة إسلامية أصيلة رواها البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، كَأَنَّ رَأَسَهُ زَبِيبَةٌ، مَا أَقَامَ فِيكُمْ كِتَابَ اللَّهِ.
وهذا ما استند عليه العثمانيون مثلًا في خلافتهم للمسلمين، وهو سند صحيح، صحت به خلافتهم ما داموا يحكمون بكتاب الله عز وجل، وجمعوا فيه الأمة في وقت كانت القوة والغلبة، والسمع والطاعة لهم، وهو المقصود من الخلافة جمع الأمة تحت راية كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
إذن خلاصة هذه النقطة، أن الصحابة جميعًا انصاعوا تمامًا لحديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه لماذا؟
لأنه تشريع، وسكنت السقيفة وذهب الخلاف واستقر الناس على قريش.
تعليق هام على الحوار القصير الذي دار بين أبي بكر الصديق، وسعد بن عبادة رضي الله عنهما، الحق أن هذا الموقف من أعظم المواقف في التاريخ على الإطلاق، ومن الواضح أننا لم نعطِ للموقف حقه، ولم نعط لسعد بن عبادة رضي الله عنه حقه، ولم نعط للأنصار حقهم، كيف يغفل المسلمون عن حدث مثل هذا يعلمونه ولا يتعلمونه؟
كيف لا يظهرونه، وغيره من المواقف الخالدة في تاريخ المسلمين؟!
رجلٌ هو السيد في قومه، وكبير عائلته، يقف، وحوله الفرسان، والجنود، والأنصار، والعشيرة، وأين يقف؟
يقف في سقيفته، سقيفة بني ساعدة فهو سعد بن عبادة الساعدي الخزرجي، وأين السقيفة؟
في بلده المدينة المنورة، وقد رشحه قومه للخلافة، والرئاسة، والزعامة، لا على شركة، أو مسجد، أو ناد، أو حزب، بل على أمة، على دولة، والرجل يتمتع بذكاء، وفطنة، وحسن إدارة، وتأييد شعبي حقيقي في بلده، يقف هذا الرجل المُمَكّن أمام رجل لاجئ سياسيًا، لجأ إليه، إلى بلده، فر من قومه إليه، فآواه، وأكرمه، ونصره، وأعطاه، يقف هذا الرجل اللاجئ بين رجلين فقط من بلده، يقف الثلاثة في بحر من الأنصار، فإذا بالرجل اللاجئ يقول له:
قريش ولاة هذا الأمر.
وينزع الأمر الذي كان قد وُكِل إليه، ويعطيه إلى غيره، ماذا يكون رد فعل السيد والزعيم؟
إنه يقول في بساطة:
صدقت، أنتم الأمراء ونحن الوزراء.
لا جدل، ولا كلمة، ولا أخذ للحديث على محمل آخـر،
أيّ نفس طاهرة!
وأيّ روح زكية!
أيّ رجل وقاف على كتاب الله وعلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم! وأيّ تشويه قذر حدث لشخصه ولقومه الأنصار!
كم من الدماء حقنت! ولو شاء لسالت أنهارًا في شوارع المدينة،
كم من الأرواح حفظت! ولو شاء لقتلت بالآلاف،
أيّ فتنة قمعت!
وأيّ وحدة حدثت!
آثار مجيدة، ونتائج هامة لموقف وقفه الصحابي الجليل سعد بن عبادة لله، وأين الدنيا في عين الأنصار؟
كما اتهمهم المستشرقون وأحباؤهم، أين الدنيا؟
لو كانت الدنيا كما يدعون هي الباعث لهم على الاجتماع في سقيفة بني ساعدة، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكانت تقنعهم هذه الكلمات؟ أكانوا يقفون ويرضخون لحديث رواه في ساعتها رجل واحد سيصبح في نظرهم مستفيدًا من نتائجه؟
المستشرقون الذين طعنوا في الأنصار أحد رجلين:
إما رجل جاهل لا يعرف معنى القلوب المؤمنة، والنفوس المخلصة، ويقيس الأحداث بمقياس العصر الحديث حيث طغت المادية على الناس، وحيث ليس أقذر من السياسة، وليس أكثر من المؤامرات، والدس، والكيد، والغش، والنفاق، والخداع، هذا رجل جاهل من المستشرقين.
والرجل الآخر، هو رجل حاقد موتور، رأى دينا قيمًا، ورجالًا أخيارا، وتاريخًا ناصعًا خالدًا نادرًا، فأكل الحقد قلبه، فرأى الحق وغض بصره عنه، وعلم الصواب وخالفه.
هؤلاء المستشرقون جُهّالًا كانوا أو حاقدين قد فعلوا في التاريخ ما فعلوا، وقد يكون عندهم ما يبرر جرائمهم، لكن أين المسلمون؟!
أتراه عدلًا أن نترك هذا الكنز الثمين من القيم، والأخلاق، والروائع، ونذهب لدراسة تاريخ أوروبا، أو تاريخ الفراعنة، أو تاريخ الحضارة في الصين والهند؟!
أتراه من الحكمة أن نترك أعداءنا يعبثون بتاريخنا، ونسلم لهم الرقاب، ونتبع دون سؤال ولا استفسار؟!
أتراه صحيحًا أن ينشغل عنه علماء المسلمين في هذا الزمن الذي زادت فيه الهجمة الصليبية الشرسة على ديننا وأوطاننا؟!
أليس خيرًا لنا وللبشرية أن نستمتع بدراسة روائعنا التاريخية، وأصولنا الدينية؟
أي أمة أعظم من أمة الإسلام؟
وأي تاريخ أنقى من هذا التاريخ؟
تعليق ثالث سريع: إذا كان الصديق رضي الله عنه يعرف هذا الحديث القاطع( ولاة الأمر من قريش)، فلماذا لم يذكره في أول المناقشة، ويقطع باب الجدل من بدايته، والحق أن هذا من حكمة الصديق رضي الله عنه، وفطنته فلو ذكر هذا الحديث، ولم يقدم له البراهين الساطعة، والأدلة الدافعة، والحجة العقلية، في كون قريش أقدر على إدارة الأمور في دولة الإسلام، وإن العرب سيكونون أكثر طوعًا لقريش، لو ذكر الحديث دون أن يفعل ذلك، فقد يرفض الأنصار الانصياع له وتصبح كارثة، فمن الحكمة ألا تطلب أمرًا عسيرًا من رجل إلا بعد أن تهيئه نفسيًا، لا تكون عونًا للشيطان على أخيك، اقدر للأمر قدره، خاطبوا الناس على قدر عقولهم، وراعوا حالتهم النفسية والمزاجية، الأنصار مهيئون نفسيًا لتولي السلطة، وأدلتهم العقلية قوية، وحجتهم المنطقية مقبولة، ويُخشى عليهم ألا ينصاعوا لأمر الله ورسوله، إذن لا بد من معالجة الأمر بحكمة، والتدرج في إيصال الحكم، حتى إذا ما عرض الحكم، قبلوه دون تردد، واتبعوه دون شك، فقه راق، وحكمة رائعة، إنه الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
تعليق رابع على كلام الصديق رضي الله عنه: شبهة تافهة أثارها بعض المستشرقين، وهي أن الحديث من اختلاق الصديق؛ لكي يرجح كفة المهاجرين في النقاش الدائر في سقيفة بني ساعدة، وواضح أن المستشرقين لم يفتقروا إلى العلم والفقه فقط، بل افتقروا أيضًا إلى الأدب، واضح أنهم لا يعلمون شيئًا عن الصديق، وعن الصحابة، ولا عن عدالة الصحابة أجمعين، ثم ألم يُروَ الحديث من طرق أخرى كثيرة، غير طريق الصديق رضي الله عنه، وعن بعض الأنصار أيضًا، وجاء في كتاب الصحاح السنن في أكثر من موضع، ثم هل كان يسكت الأنصار إذا شكوا في الأمر؟
أكانت تعوزهم الحجة أو القوة؟
أكانوا يتركون ملكًا لحديث مشكوك فيه؟
فإن قال المستشرقون أن الأنصار استحيوا من أبي بكر، فنقول ألم تقولوا عنهم منذ قليل إنهم طلاب دنيا وسلطان؟
أيستحي طالب دنيا من أن يقول لرجل يأخذ ملكه: هات الدليل على صدق ما تقول؟!
أليس انصياع الأنصار التام دليلًا على نبل أخلاقهم، وقيمهم من ناحية، ودليلًا على ارتفاع الصديق رضي الله عنه فوق مستوى الشبهات من ناحية أخرى؟
هذا والله أراه حقا لا ريب فيه، لكن ماذا أقول؟
[فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ] {الحج:46} .
لَا يَزَالُ هَذَا الْأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنَ النَّاسِ اثْنَانِ.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى