شمسولوجي - منتدي طلبة طب عين شمس
السلام عليكم

نورتنا يا ....

لو هتتصفح المنتدي كزائر .. توجة للقسم اللي انت عايزة من المنتدي ...

للتسجيل .. اتفضل افعص علي زرار التسجيل ..

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

شمسولوجي - منتدي طلبة طب عين شمس
السلام عليكم

نورتنا يا ....

لو هتتصفح المنتدي كزائر .. توجة للقسم اللي انت عايزة من المنتدي ...

للتسجيل .. اتفضل افعص علي زرار التسجيل ..
شمسولوجي - منتدي طلبة طب عين شمس
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

النبطي .. يوسف زيدان

اذهب الى الأسفل

النبطي .. يوسف زيدان  Empty النبطي .. يوسف زيدان

مُساهمة من طرف Admin الأربعاء نوفمبر 10, 2010 12:06 am



السلام عليكم ..

هنتابع هنا ان شاء الله رواية النبطي .. رواية جديدة للمبدع دائما القديرالدكتور / يوسف زيدان

.. الموضوع هيبقي مغلق علشان تبقي فصول الرواية ورا بعض ..

المصدر : من جريدة الشروق

Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : النبطي .. يوسف زيدان  Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

النبطي .. يوسف زيدان  Empty الفصل الاول

مُساهمة من طرف Admin الأربعاء نوفمبر 10, 2010 12:06 am

رواية «النبطى» تحكيها الفتاة المصرية مارية، التى تزوجت تاجرا نبطيا وانتقلت من قريتها الواقعة بأطراف الدلتا الشرقية، إلى منطقة «البترا» بجنوب الأردن، حاليا.. الرواية ثلاثة أقسام (حيوات) مرت بها مارية، وحكت ما شاهدته خلالها.

وفيما يلى ننشر بداية الفصل الأول من «الحيوة الأولى»


شهر الأفراح
فى يوم حار لم تسطع فيه شمس، جاء العرب من بعيد يخطبوننى لواحد منهم. الأوان ربيع، غير أن الغبار الأصفر الآتى منذ يومين، من صحرائهم القريبة، الجرداء، يهيم فى كل الأنحاء فيحجب الأشياء من حولى، ويطمرها. تحصنت منذ صحوت، بحجرة أمى، وبقيت فى فرشتى وحيدة، مكتوفة الركبتين بالذراعين، وقد أرحت للخلف رأسى حتى مس جدار الخرابة العتيقة، اللصيقة، التى نسميها البرابى. جدارها العتيق رطب، والميل إلى الخلف يريح. دجاجات أمى، وكل دواجنها، انسلت من حوش البيت إلى حجرتنا. وراحت تتحامى من الحر والغبار، بالوقوف ساكنة فوق الأرض الرطبة، أسفل سرير أمى وتحت دكتى، وهى تباعد ما بين أجسامها وأجنحتها، وتبقى المناقير مفتوحة. رائحة الدواجن فى الحر نفاذة. أنا بالبيت وحدى، فأمى وأخى بنيامين ذهبا من قبل صحوى، إلى بيت بطرس الجابى، البيت الذى نسميه القصر، لأنه كبير ومن طابقين.

لم يسألونى عن رأيى فى الخاطب العربى، لكنى بلا تردد، موافقة عليه. فقد تجاوزت الثامنة عشرة من عمرى، بعدة من شهور، ويكاد يأسى من الزواج يبلغ منتهاه.. آه.. تأخر عنى الفرح، حتى تهرأ قلبى مع تقلب الليل فوق النهار، وتعاقب حر الصيف على مطر الشتاء. تمر أيامى بطيئة، وأنا متوحدة هنا. شاحبة الروح. حيرى.

صاحباتى اللواتى كن يمرحن حولى، تزوجن، فخلا الكفر من ضحكات العذارى، ومن الفرحات الأولى التى دامت حتى ظننتها لا تتبدد. لا شىء لا يتبدد. لم يبق فى الكفر إلا الرجال الطيبون، العابسون بغير سبب، والنسوة الكادحات اللواتى ينظرن نحوى، بإشفاق يليق بعانس، والأطفال الصاخبون فى الدرب طيلة النهار، بغير مرح.. متى سيكون لى أطفال؟

حظى من الحياة قليل، مع أننى بيضاء كقلب القمحة، وجميلة. نحيلة قليلا، لكنى جميلة. نسوة الكفر كن يؤكدن أننى إذا تزوجت، وزاد وزنى، سأصير حسناء. فعيناى الصافيتان واسعتان، لونهما لون العسل الذى يجمعونه أيام البرسيم. وتحوطهما رموش كثيفة فى لون ليالى الشتاء. حاجباى العريضان، كثيفا الشعر، وناعمان. شعرى أيضا ناعم وطويل، وسميكة ضفائره. أنا لا أحب الضفائر، شعرى مرسلا أبهى. كانت دميانة صاحبتى تقول إنى حين أطلق خصلات شعرى، وأخط بالكحل رموشى، أغدو فاتنة مثل نساء البلدة البيضاء.

دميانة كانت تعرف كل شىء، ما يقال وما لا يقال. تزوجت قبل أعوام ثلاثة، أيام كنا فى الخامسة عشرة. عمرنا واحد. فقد قالت الأمهات إننا ولدنا فى شهر توت، الخريفى، أول شهور السنة التى ملك فيها الملك المسمى هرقل، بلادنا الواسعة والنواحى التى حولها. تزوجت دميانة، فى الشهر ذاته الذى تسقط فيه، وتصفر، أوراق عروش العنب. لا تعلو لى ضحكة، من يوم ابتعدت عنى. صرت من بعد رحيلها وحيدة، حزينة. لكنى أيام عرسها كنت فرحة من أجلها، لأنها اشتهت الزواج ككل البنات، وهامت بالأوهام. امتدت خطبتها شهور ذاك الصيف الذى مر علينا كأنه الطيف، ثم تزوجت حين تقصفت أوراق الكرم وتغضنت أغصانها والشجون.

تركتنى، وتركت الكفر كله، لتسكن مع الولد الممصوص الذى تزوجته، فى بلدته البعيدة التى نسميها البرمون. أهل البلدة البيضاء يسمونها بيلوز، ويسميها العرب الفرما. لهذه البلدة الكبيرة، مثل كل شىء كبير، ثلاثة أسماء. الوصول إلى هناك، يحتاج ركوب بغلة، تظل تسير شمالا نهارا كاملا، أو أكثر. يقولون هنا، إن دميانة بعد زواجها بعام، ولدت طفلتين فى بطن واحدة، ثم انقطع منها حبل الحبل.

حنينى إلى دميانة، حارق. لا أستطيع السفر إليها، وهى لم تأت يوما لزيارة أمها. أمها يسميها أهل الكفر: هزة. لأنها بدينة، يهتز جسمها كله حين تمشى. الناس فى الكفر ينادون بعضهم بعضا، أحيانا، بغير أسمائهم. كانوا ينادون أمى وأنا صغيرة: غزالة. لأنها نحيفة رشيقة الحركة كالغزلان، وكحيلة جفول لا تهدأ فى البيت حركتها. أمى جميلة وحنون.. ما عادوا بعدما مات أبى ينادونها غزالة، صاروا يسمونها أم مارية، وصارت تخاف أن يأتى يوم يسموننى فيه: العانس.

يوم رحلت دميانة عنا مع زوجها وأهله على حمار ضعيف، خرج أهل الكفر كلهم لوداعها بعد العرس. مشينا معها من باب الكنيسة، حتى نهاية ساحة السوق. وعند السور الخلفى للبلدة البيضاء، بلدة الكفار، جمعنا الحضن الأخير، العجول. لحظتها لم تكلمنى دميانة، ولكن عيناها الدامعتان قالتا الكثير. باحت بنظراتها، حتى أحسست بخوفها، وهى التى طالما تحرقت للزواج، وطالما عرفت ما يكون بين النساء والرجال. لكنها فى لحظة الفراق أجهشت مذعورة، وتولت عنى كأنها تفر إلى أفق مخيف.

فى طريق عودتنا من وداعها، بخطى الفرح والحزن، همست لى أمها هزة عند بوابة الكفر، بأن على الإسراع بالزواج كى ألحق بدميانة. أضافت وهى تتوكأ على كتفى، فتميلنى ناحيتها وتوجعنى، أن الفتاة إذا تخطت الخامسة عشرة بلا زوج، يدب بباطنها الصدأ فيخرب معدنها. هززت لها رأسى كالموافقة، مع أننى لم أفهم مقصدها. لم أكن قد عرفت بعد، أن معدنى فى مكمنى. كلامها أدار برأسى يومها، الأسئلة المحيرة: كيف سأسرع إلى الزواج؟ وأين سبيلى المتاح؟ وما معدنى هذا الذى قد يصدأ ؟ وكيف يمنع الزوج الصدأ؟

الزوج.. أتراه أتى اليوم، ليأخذنى إلى الموضع الذى يسعدنى فيه، وأسعده. هل آن أوان سعدى؟ النسوة المتزوجات، الحزينات، يسمين الزواج السعد. لكننى رأيت البنات الصغيرات وحدهن السعيدات، المرحات طيلة الوقت كفراشات تبتهج بغير حساب، وإن غابت الأسباب.

آه يا دميانة، ما عدنا صغيرات. أمى حبستنى من بعد عرسك، فلم أعد أطوف حرة فى الأنحاء، نهارا، مثلما كنا نفعل أيام بهجتنا الأولى. مساء يوم رحيلك، جلست كالمعتاد على الأرض أمام أمى، وجلست هى على شفا سريرها القديم. وبعد لحظة مددها السكون، دعتنى إلى ما عودتنى عليه فى الأمسيات: أن أروى لها ما رأيته فى يومى، وأقص كل ما قيل أمامى. كى تطمئن على، على ما كانت تقول.

رويت لأمى ليلتها تفاصيل عرسك، وما حفظته من كلام أهل الكفر فى يومك الحافل. وحين حكيت لها نصيحة أمك بالإسراع إلى الزواج، كى أتجنب الصدأ، طفرت من عينيها دمعتان من عصير الألم، وأمالها الهم إلى الوراء. ولت وجهها الشاحب ناحية الحائط، وببطء مريضة، شدت فوقها لحافها الخشن كأنها ستنام، مع أن الجو كان حارا والهوام مبتهجة.

بعدما تولت عنى، بقيت ساعة أقلب أغصان العوسج، متقدة الحواف، ليعلو دخانها من الماجور المكسور، فيطرد عن حجرتنا الهوام والناموس.. بعد حين، أخذنى من الظلام وهج الأغصان، وأشكال الدخان الغامضة. همت شاردة، مغلقة العينين، مسترجعة ببطء لذيذ صورتك فى ثوب عرسك، وقد وضعوا الإكليل على رأسك. ابتهجت فى سرى، لما تذكرت لمعة عينيك فى الكنيسة، ساعة انتهى الكاهن من تلاوة الصلوات، وصيرك امرأة.. هه، أنا ما حكيت لك يا دميانة ما جرى معى فى البرابى مع الرجل الغريب، قبل زواجك بيومين، قبيل الغروب. لم أجد فرصة لأحكيه لك، ولا حكيته طبعا لأمى، ولا لغيرها.

فى تلك الليلة البعيدة، بقيت هائمة، سكرى بلذة الذكريات. حتى إذا امتلأت سماء حجرتنا دخانا، واحترقت الأغصان اليابسة كلها. هزت أكتافى رعدة مباغتة، فقمت كالملسوعة لأدس نفسى تحت لحاف أمى. مع أن الجو كان حارا. احتضنتها من ظهرها، وحين مستنى الطمأنينة نمت. أمى لم تكن نائمة حقا. آخر ما بدا بجوف فؤادى، بعدما أغمضت عينى طويلا؛ نظرة الرجل الغريب ولمسات أنامله. آه يا دميانة، كأن الأمر كان الليلة الفائتة، وكأن الأعوام ما مرت.

عرفت بمجىء العرب الخاطبين، ضحى اليوم. دخلت على الحبشية الخادمة بقصر الجابى، ساعة اشتداد الحر وسكون العصافير، وهى تدعونى بإشاراتها وألفاظها المبهمة للذهاب إلى القصر. الحبشية لا تعرف كلامنا، مع أنها هنا منذ سنين. انتبهت لها، وللنسوة الصاخبات اللواتى جئن وراءها، حين داست أرض حجرتنا وفوق رأسها ماجور فخارى، فيه ماء نظيف. دخلت خلفها أم نونا، القصيرة، تضحك وترجرج صدرها الكبير، داعية بفرحة غامرة لأن أقوم فأرتدى هذا الثوب الجديد، الزاهى، الممدد من قبل صحوى على سرير أمى.

هيا يا مارية، استحمى بسرعة وارتدى الثوب الجديد، فقد وصلوا ولن نتركهم ينتظرون.
من الذين وصلوا، وينتظرون من؟
يوووه يا مارية. العرب جاءوا يطلبونك. وصلوا إلى الساحة، بحمير وجمال كثيرة. اللقاء والغداء بقصر الجابى.
ما أخبرنى أحد بأى شىء.
جئت لأخبرك، أمك أرسلتنى، هيا انشطى. بعد استحمامك، كحلى عينيك.

راحت الحبشية تنظر نحوى، وتبتسم، فتلمع أسنانها الشهباء فى ليل وجهها. نظرت إليها مستغربة وقفتها، فخرجت بعدما تركت على الأرض الماجور، وبجواره صابونة بالية فوق قطعة من اللوف الأبيض. لحظة نهوضى من فرشتى، عادت أم نونا وأغلقت على الباب، وهى تهز رأسها وتغمز لى.. تتغامز النسوة الكبيرات، عند ذكر الزواج.

قمت، كمأخوذة من حلم إلى حلم. غسلت عنى العرق والغبار، وعصبت مسرعة ضفيرتى، ودخلت فى ثوبى الجديد بعدما مررت بالمرود بين أجفانى. فور خروجى، صخبت الجارات اللواتى كن يعرشن فى الحوش. تضاحكن، وعلت الزغاريد، وهن يغنين ترنيمة الأفراح التى مطلعها: أقبلى يا عروس سليمان، يا أجمل من بدر التمام.

الثوب ضيق عن عمد من عند صدرى، وأكمامه ضيق منبتها من تحت إبطى، لكن أطرافها واسعة من فوق كفى، ومؤطرة بشريط من قماش لامع. لما خرجت تحوطنى الجارات، يحوطهن أطفالهن؛ كان الهواء قد رق قليلا، وقل الغبار العالق فى الأجواء. رأتنى هزة وهى جالسة على المصطبة التى بآخر الدرب، فدعتنى بتحنان إليها، وحين جئتها جذبتنى حتى احتضنتنى بقوة، ثم علقت بعنقى عقدا مبهجا فيه خرز ملون، كانت تخفيه فى شق ثدييها العظيمين. لما التف حول عنقى العقد، تصايحت النسوة وتضاحكن، وصخبن بالزغاريد مع دخولنا القصر من بابه الخلفى.

قصر الجابى تحوطه حديقة خضراء الأرض، فيها أشجار رمان وبرتقال وليمون. الحديقة صغيرة من الخلف، من جهة الكفر، وفسيحة فى الجهة المقابلة التى فيها الباب الكبير. وفيها هناك حوض ماء مدور نسميه النافورة، لأن بقلبه ماسورة ينفر من قلبها فى الهواء الماء. الطابق الأرضى للقصر، بمدخله بسطة رخامية، وباب، بعده فسحة تفتح عليها غرف أربعة. أولها غرفة الضيوف الواسعة، التى على يمين الداخل من الباب. الغرفة مبلطة، وعلى نوافذها ستائر تمنع عن الجالسين الشمس والغبار. أحب الستائر، فهى رقيقة ناعمة، تسحر عيون الأطفال والصبايا.

لحظة عبورى من أمام غرفة الضيوف، لمحت العرب متكئين فيها على الأرائك، متباعدين، مستريحين كأنهم فى بيوتهم. نسوة الكفر كن يتحشرن فرحات، فى آخر الفسحة، أمام غرفة الطبخ.

احترت لحظة، حتى ألفيت أمى تنظرنى وسط النسوة، وعيناها الدامعتان تبتسمان. أعطتنى إبريقا زجاجيا أزرق، فيه نبيذ أحمر ممزوج بماء، تسبح فيه قطع صغار من التفاح الأخضر. وفى يدى الأخرى وضعت سبعة أكواب، متراكبة، وقالت ادخلى عليهم.

ركبتاى ترتجفان، وأطراف كفى. أم نونا من خلفى تدلك بتحنان كتفى ومنبت ذراعى، وهى تتلو صلوات مهموسة. أصوات الرجال تأتى من غرفة الضيوف عالية، فيهتاج خوفى. رجوت أمى أن تدخل معى، فهزت رأسها غير موافقة. كدت أبكى، فقالت لتهدئنى إن الحبشية ستدخل ورائى، ومعها إبريق آخر ومزيد من الأكواب.
صبى للضيوف أولا، ولا تترددى. وسوف تناولك الحبشية بقية الأكواب.
أمى..
ادخلى يا مارية.

أود لو أهبط إلى الأرض، فأبكى حينا لأهدأ. لكن النسوة أخذننى إلى غرفة الضيوف، ودفعننى من وراء بابها نحو الرجال. لا مفر، دخلت والخجل يعصرنى، وتهصرنى العيون.
الغرفة واسعة جدا، كالدنيا. كأنها أوسع مما كنت أعرفها، وأعلى ارتفاعا. العرب المعرشون، أكثر من عشرة رجال يجلسون على اليمين صفا، وفى مواجهة الباب يتربع بطرس الجابى مفتخرا، وتحت قدميه صرة كبيرة من الكتان. عن يساره واحد من العرب، كبير السن، وعن يمينه ابن أخته السمين، بسنتى، ثم أخى بنيامين. على أرائك الجهة اليسرى، جماعة من رجال الكفر، بأولهم أبونا شنوته كاهن كنيستنا، بجلبابه الأسود متقرح الأطراف والأكمام. على بطنه الكبير، يتدلى من عنقه الصليب الخشبى، المعلق بالحبل الخشن.. لو كان يلبس برنس القداس اللامع، والقفطان الأسود، لكان منظره أليق بمجالسة الخاطبين.

العرب جاءوا يخطبون، ولا نساء معهم. أين سأجلس بعدما أصب لهم ما يشربون؟ لا امرأة فى الغرفة لأجلس بجوارها، ولا نسمة هواء. العرب يتشابهون فى الأردية الواسعة المخططة بالسيور اللامعة العراض، والعمائم البيضاء المعصوبة فوق رؤوسهم. عيونهم مكحلة. نظرت مشدوهة نحو بطرس الجابى، الجالس هناك فى جلباب فاقع اللون، أصفر. من كتفيه تنسدل عباءة بلون الجميز، ومن حول عنقه يتدلى الحبل الأسود اللامع، المعلق فيه سن التمساح.

كأنهم فوجئوا، كلهم، بدخولى. توقف صخبهم وحدقوا ناحيتى، فازداد اضطرابى. بلغ وجيب قلبى مداه، لحظة قال أحدهم بصوت أجش: ما أحلى العروس. وقال آخر منهم: مرحى، مرحى. وقال الكاهن: بركاتك يا أم النور.

رحت أصب لكل واحد كأسا، فيأخذها من يدى إلى فمه.. فى وسطهم عربى لم يشرب كأسه. أخذها منى بيمناه فوضعها بجواره من دون أن ينظر نحوى، فأمكننى من النظر إليه. ملامحه دقيقة رقيقة، وعيناه المكحلتان واسعتان. ثوبه نظيف أبيض، وعمامته تفوح بعطر خافت. على جانبى وجهه النحيل الرائق، ينسدل غطاء رأسه الشفاف. أتراه خاطبى؟ يا ليته. فهو يبدو مثل قديس شاب، أو ملاك تاه عن طرق السماء، فهبط إلى الأرض بلا قصد، ليعيش حينا بين الناس.

وهو يأخذ الكأس من يدى المرتجفة، قال بصوت خفيض: شكرا يا خالة. تمنيت لحظتها بقلب حالمة، لو كان هو الذى جاء يخطبى.. لكنه لم يكن، كان أخا خاطبى الأصغر منه، المسمى عندهم الكاتب لأنه يكتب لهم عقود التجارات، وهو الملقب هناك بالنبطى مع أنهم كلهم أنباط، وهو الذى سيعلمنى فى حيوة تالية، خفايا كلام العرب وأسرار مس المعانى بالكلمات.

سقيت العرب جميعا وهم ينظرون، ولما وصلت بصب النبيذ إلى بطرس الجابى، لم يرفع وجهه نحوى. قال مزهوا وهو يأخذ الكأس من يدى: يكفيك هذا يا مارية، اجلسى هنا جنب أخيك، الحبشية سوف تصب للباقين من أهلنا.

أفسح بنيامين موضعا فجلست فى الركن، خجلى، وعن يمينى الكاهن شنوته. لم أنظر فى وجوه الخاطبين، من شدة تحديقهم نحوى وهم صامتون. تنحنح بطرس الجابى مرتين، ثم تحدث إلى عربى منهم، والغرفة كلها تسمع: هذه يا شريكى الحبيب، ابنتنا مارية، صالحة وطيعة وتقية، وأنتم أهل لها، وسوف تكون ببلادكم وديعة آمنة، وتصير أما لأطفال كثيرين منكم، بمشيئة الرب.
جاوبه واحد منهم، بصوت خشن: سنكون لها خير الحافظين، وسوف تبقى بيننا عزيزة مكرمة، فنحن فى بلادنا أعزاء مكرمون. ولن يسعنا إلا إكرامها، فهى ابنة جدتنا المصرية هاجر، أم العرب أجمعين.

تداخلت أصواتهم واصطخبوا فيما بينهم بكلام كثير، فالتفت إليهم. لمحت وجوههم المكسوة حمرة وسمرة، لكنى لم أميز خاطبى. فى نظرتهم جرأة تهيل على الخجل، وتسحب وجهى نحو الأرض. بعد حين من حيرتى فى جلستى، ألقى أحدهم إلى الكاهن شنوته كيسا صغيرا من قماش، وقال إنها دراهم لطلبات العرس. باركه الكاهن وهو يدس الكيس مبتهجا فى جيب جلبابه، ثم ينهمك معهم فى كلام كثير عن البابيلون، وعن جند الملك هرقل، وعن حروب تجرى فى نواح بعيدة. هم يسمون البابيلون الفرس، وجند هرقل يسمونهم الروم، ويقولون الدرهم وهم يقصدون الدراخمة.

كان بطرس الجابى يكلمهم بكلامهم، وكأنه منهم، وكنت أتحين اللحظات فأحتال لأنظر إليهم، وإليه. أعادنى لإطراقتى، حين رفع صوته بقوله إن الزواج سيكون فى الكنيسة، بيت الرب، وصخرة الديانة التى تجمعنا. رد عليه جاره العربى، كبير السن: سيتم المراد كله بمعونة الرب يا خال بطرس، مد يدك فخذ منى أمام الرجال مهر العروس. ولسوف نغيب شهرا فى رحلتنا إلى قوص، نعود بعده لنأخذ العروس ونتم الزواج. أمامكم من الآن شهر للأفراح، وسوف نتلوه بشهر أفراح آخر، حين نصل ديارنا سالمين.


عدل سابقا من قبل Admin في الأربعاء نوفمبر 10, 2010 12:08 am عدل 1 مرات
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : النبطي .. يوسف زيدان  Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

النبطي .. يوسف زيدان  Empty الفصل الثاني

مُساهمة من طرف Admin الأربعاء نوفمبر 10, 2010 12:08 am

نحن فى الكفر نعرف كلام العرب، وهم يعرفون كلامنا. فهم يأتون إلى ساحة السوق، من ألوف السنين، ويأتى معهم أطفالهم الذين كنا نلعب معهم. فيعلم الأطفال الأطفال. يسمونهم هنا التجار، والبعض منا يسميهم أبناء إسماعيل، والبعض العرب. وهم يسمون كثيرا من الأشياء بغير أسمائها، فيقولون المهر بدلا من الأربون، ويسمون الناموس الذباب، والذباب الذباب.. ويسموننا القبط، ويسمون بلادنا مصر، مع أنها من ألوف السنين اسمها كيمى.

من ألوف السنين. تلك هى إجابة أمى، كلما سألتها عن أصل شىء.. متى يا أمى كانت البرابى المجاورة عامرة؟ من ألوف السنين.. متى التصقت بيوت الكفر، بجدار البرابى؟ من ألوف السنين.. متى صنعوا بوابة الكفر المتهالكة؟ متى صارت البلدة البيضاء بيضاء؟ متى صار الكفار كفارا؟ متى جاء النهر ليمر قرب بيوتنا؟ متى اختلفت النساء عن الرجال؟ متى وفد العرب من صحرائهم إلى ساحة السوق؟.. كل ذلك عند أمى، كان من ألوف السنين.

دخلت الحبشية بالأطباق والأرغفة، تسبقها رائحة الطعام. صفتها على أطراف المائدة الطويلة، قصيرة القوائم، التى بوسط الغرفة. هى أيام صوم، لكن رائحة الثوم المقلى فى الطعام، فواحة شهية. عندما دعى العرب إلى الطعام، وهموا بالهبوط إلى الأرض أمام المائدة، سنحت لى فرصة الفرار من الغرفة، فاستبقت مع الحبشية الباب.

تلقتنى أمى فى الفسحة، لهفى، وبعدما احتضنتنى أسلمتنى إلى امرأتين كانتا تهشان الأطفال من أمام غرفة الضيوف. أخذتنى إحداهما إلى غرفة الطبخ، وأجلستنى فى زاويتها على ماجور قديم، مقلوب.. رأسى يدور كحجر الرحى الطاحن، وبطنى يعصره مغص غريب مفاجئ. وددت لو انفردت برهة، لكن النسوة دخلن يسبحن فوق أطفالهن، فغرفن من الأوانى الكبار أطباقا تراصت على الأرض، وسط أرغفة كثيرة انهال عليها الجميع من حولى آكلين، غير ملتفتين ناحيتى.

رحت، وحيدة، أحدق نحو نعلى، وفى رأسى تجوس خواطر حارة، غامضة، رهيفة الأطراف كحواف الصوان المكسور. بعد حين غابت عن أذنى الأصوات، وغامت عيناى، وتذكرت دميانة.

أحتاجك اليوم. أحتاج يا دميانة أن نحكى الحكايات، ونوصل النهايات بالبدايات. أكان يخطر لنا، يا حبة قلبى، أن مآلى سيكون بين هؤلاء الأعراب الأغراب، وأنهم سيطلبوننى من بطرس الجابى. لو سألت أمى، فسوف تقول إن أخى بنيامين صغير ولا يصح له مجالسة خاطبين، وإن العم بطرس قريب لها من بعيد.

كل الناس هنا أقارب، من قريب ومن بعيد، وكلهم أخفوا عنى الأيام الفائتة خبر الخاطبين. لكننى كنت أشعر بشىء فى الخفاء يجرى، فالجارات اللواتى كن يأتين إلى حوش بيتنا نهارا، يبقين مع أطفالهن أطول مما اعتدن، ويتضاحكن أمامى ويتغامزن بغير داع، فلا تعترض أمى ولا تحتفى. كانت تكتفى بالتبسم الباهت، والتشاغل بحياكة ثوبى الجديد هذا، الذى ظننته أول الأمر ثوبا للعيد الذى اقترب. الثوب زاهى الألوان، مؤطرة حوافه بأشرطة القصب الدمياطية البديعة.. دمياط بلدة بعيدة فى جهة الشمال، تصنع أقمشة غالية.

أنا أعرف أنواع الأقمشة، لأن أمى تحيك لأهل الكفر، وتخيط ملابس النسوة وجلابيب الأطفال. كلما قصر منها الخيط، مدت لى الإبرة لأضع لها خيطا آخر. ما عادت ترى الثقب الدقيق، فقد صارت كبيرة السن. ربما بلغت من عمرها الأربعين. لو سألتها عن سنها، فلن تجيب. أم نونا، كانت تردد دوما أنها فى عمر أمى، وسمعتها الشهر الماضى تقول مازحة، إنها تشعر بنفسها فى العشرين، مع أنها بلغت الأربعين.

انتبهت لما حولى حين تزحفت نحوى طفلة، وراحت تشاغب ذيل ثوبى البراق. هى ابنة مارية، ابنة هيدرا السقا. عمرها عامان. أود لو أحملها إلى حجرى، لكنها ستلطخ ثوبى الجديد بالتراب وبقايا الطعام. أبدعت أمى حياكة هذا الثوب، فهى ماهرة الأصابع، لكنها لا تحيك جلابيب الرجال ولا أثواب العرائس. فهذه، يخيطها حائك مخصوص، عنده بيت كبير ودكان صغير، فى قلب الكفر الكبير. الكفر النائمة بيوته على خد النهر، مثلما تنام بيوت كفرنا.

قبل عرس دميانة بأيام، ذهبت مرة إلى ذاك الكفر الذى نسميه الكبير، لأنه بالنسبة إلى كفرنا كبير. أحضرنا من هناك ثوب زفافها الأخضر المزركش، وإكليل العرس. كنا جماعة كبيرة من أهل كفرنا. ذهبنا مع دميانة وأبيها الطيب، الذى يسميه الناس أحيانا أبوالعنق، لأن عنقه طويل نحيل. سرنا غربا بحذاء النهر وقد ابتدأ ازدياد فيضانه، حتى وصلنا للكفر الكبير بعد ساعة سير. يقولون، لو أكملنا يومها احتذاء ضفة النهر، لوصلنا إلى بلدة أبعد من الكفر الكبير، وأكبر منه، اسمها الزقازيق.. ويقولون، إن أجدادنا جاءوا قديما من تلك البلدة البعيدة، التى لم أرها. الزقازيق فى كلامنا، معناها السمك الصغير.

فى الكفر الكبير بيوت كثيرة، كبيرة، بينها دروب طوال متعرجة. فى التفافة درب منها، ينزوى دكان الحائك وبيته. زوجته امرأة طيبة، قدمت لنا يومها، بليلة قمح محلاة بعسل، بلا حليب. قضينا الظهيرة فى بيتها ممتلئين بالمرح، ثم عدنا بثوب الزفاف والإكليل، وقد كاد يدهمنا فى الطريق ظلام الغروب.

فى طريق عودتنا، كانت العصافير ترجع صاخبة إلى الأشجار، وكان أبودميانة يداعبنا بالنكات، فتضحك قلوبنا وعيوننا والشفاه. هو رجل طيب. أم دميانة لم تأت معنا يومها، فهى لا تستطيع المشى إلى بعيد، ولم يجد زوجها لها بغلة لتركبها. هكذا قال لنا. لما اقتربنا من كفرنا، اقتربت منى دميانة وهى تحتضن بتحنان ثوب عرسها، وهمست بأنها تنوى إبقاء زوجها فى السرير عاريا، أسبوعا كاملا، حتى تشبع منه. اضطربت من كلامها فلم أرد، ولم تكن تنتظر ردا. بدت مع شرودها، كأنها تفيض من باطنها إلى باطنها.. فى جلسة المساء، حكيت لأمى ما جرى فى رحلتنا، وذكرت ما همست به دميانة لى، فجفلت ثم مالت برأسها من فوق سريرها نحوى، وقالت مرتجفة وهى تزم شفتيها وحاجبيها:

عيب.. عيب.
إذا كان فى الزواج عيب، فلماذا يحتفل به الناس. يزينون العروس ليشجعوا الزوج، وينشرون على الملأ خرقة دم العذرية، ويتركون الزوجين منفردين ليفعلا كل ما يشتهيان. وبعد ذلك يقولون إذا ذكرت أمامهم الأفعال، إنها عيب.
لعل العيب فى الكلام، لا فى الفعل. فالأمر ما دام مكتوما لا يقال، ولا يقال عنه، فهم يقبلونه. المكتوم عند الناس مقبول. أيام حبستنى أمى، رجوتها باكية أن تطلقنى مثلما كنت حرة، فرفضت وقالت إننى كبرت، وإنها تخاف على من كلام الناس. الكلام هو العيب، وهو ما يخيف.

لم أعد أكلم أمى كثيرا، مثلما كان الحال فى زمنى البهيج، أيام كنت أدور طيلة النهار مثل كل الصبايا، فى حنايا البرابى المجاورة، وفى الأطراف وساحة السوق. أزور بيوت الكفر كلها، ثم أعود قبل الغروب لأحكى لأمى بالليل ما جرى فى النهار، وأروى لها كل ما سمعته، كى تطمئن على. أمى لم تكن يوما مطمئنة.. المكان الوحيد الذى طالما تمنيت الذهاب إليه، وما ذهبت، هو البلدة البيضاء التى تفصل ساحة السوق الفسيحة، بين سورها الخلفى وبيوت كفرنا.

كفرنا يبدو من خارجه كأنه بيت واحد كبير، نبت من جانب جدار البرابى، ثم امتد إلى حافة الربوة المشرفة على تلك الأرض الوطيئة، التى يعلو إليها النهر حين يفيض، ويزرعها أهل الكفر حين يغيض. يسميها أهل الكفر هبة النهر، وكنا أيام الطفولة نسميها الملاعب.

الربوة التى يجلس الكفر على حافتها، فوقها كل ما أعرفه. خرابة الآثار القديمة المسماة البرابى، بيوت كفرنا، ساحة السوق، البلدة البيضاء. وعلى امتداد النظر، تحوط الربوة من جميع الجهات، عدا جهة النهر، عروش الكروم والأشجار العالية والنخلات المتباعدة والمتقاربة. وعلى مبعدة منا، كفور أخرى تختبئ وسط الزروع، وتحوطها الخضرة التى تحوطنا.

الخضرة تمتد حولنا، حتى آخر العالم. آخر العالم. وصلت إلى هناك، يوم جريت فزعة من صرخات أمى والنسوة، بعد صيحات هيدرا السقا فى الدرب، بأن عمى بشاى قد قتل فى ترعة الثعبان.

انتبهت من هيجان خواطرى وجولان الأفكار، حين علت جلبة الرجال الخارجين من غرفة الضيوف. أصداء ضحكاتهم بين الجدران، صاخبة. بحماس ومرح، نهضت النسوة من حول الطعام، وفى ذيولهن الأطفال، فتحشروا خارج غرفة الطبخ لينظروا ظهور العرب المغادرين. رفعت عينى إلى شباك الغرفة، فرأيت أن أوان الغروب قد حان.

قمت متمهلة من فوق الماجور المقلوب، ونفضت عن ذيل ثوبى الغبار والنمل الساعى. خرجت من غرفة الطبخ تائهة، فرأيت بطرس الجابى عائدا بعدما ودع العرب. رجال الكفر خرجوا معهم، لتوديعهم ثانية عند ساحة السوق. استدعانى بإشارة باسمة إلى غرفة الضيوف، فدخلت أمى معى وسبقتنى إلى حيث جلس. جلس بنيامين عند الزاوية اليسرى للغرفة، وبقيت واقفة خلف أمى.

وهو يمد يده فى جيب جلبابه، التفت بطرس الجابى مبتهجا إلى ناحية بنيامين، وهز راضيا رأسه السمين وهو يهنئ أمى المبتسمة، ويناولنى خمسة دنانير ذهبية، لامعة، قال إنها الأربون. أضاف بصوت أعلى: سيكون عقد الأملاك، والتتويج بالإكليل، وبقية مراسم الزيجة؛ بعد أربعة أسابيع.

دمعت عين أمى حين مد بطرس الجابى يده فى جيبه الآخر، وأعطانى من عنده دينارين ذهبيين، لا يلمعان، قال إنهما هدية عرسى.. لم أمتلك قبل اليوم دنانير، لكن كان قلبى يخفق لها، حين أرى لمعانها فى يد التجار بساحة السوق.
أشار بطرس الجابى إلى الصرة الموضوعة على الأرض، وقال إنها هدايا العرب لى، ولأمى. أكد أنهم قوم كرماء، وأغنياء، وأنه يعرفهم منذ زمن بعيد، ويعرف أقاربهم الساكنين بصحراء سيناء، والصحراوات الممتدة إلى قوص. لم أكن يومها قد عرفت ما سيناء، وما قوص. وليتنى ما عرفت.
دعت أمى لبطرس الجابى بدوام السعادة، فهز رأسه مسرورا وهو يخرج من غرفة الضيوف وأمى تتبعه، وأنا أتبعها. فى منتصف الفسحة التى بين الغرف، همس لأمى بصوت خفيض، بالكاد سمعته: اسمعى، لن أكون هنا يوم العرس، فعندى بعد أسبوعين رحلة للصعيد، ولا أعرف متى سأعود، فالأحوال هناك مضطربة، ويقال إن جند هرقل سيرجعون فيطردون البابيلين.

أظهرت أمى الجزع، ثم قالت بصوت مرقق، وهى تعقد أصابع كفيها على بطنها: سوف ننتظرك يا سيدى، فالعرس بدونك لن يكون مبهجا، وأنت لنا السند الوحيد والمعين.

لا.. لا تؤخرى مارية، فيهجم عليها لهيب الصيف فى طريقها إلى بلاد العرب. وقد أغيب فى رحلتى شهرين أو أكثر، فعندى عمل كثير هناك.

تعود لنا سالما، يا سيدى.
اسمعى، بسنتى سيبقى هنا ومعه الحبشية. إن احتجت شيئا لعرس مارية، اطلبيه منهما.
هل سأراك يا سيدى قبل سفرك؟

طبعا، سأرسل فى طلبك. ولكن اهتمى بمارية الأيام القادمة، فهى الآن العروس.
ترحلت النسوة والأطفال عن القصر، وكنا آخر من رحل. فقد بقينا خلف بطرس الجابى، حتى تركنا عند السلم الذى بآخر الفسحة، وصعد إلى طابقه الأعلى. غرفة نومه هناك، وهناك غرف أخرى لا أعرفها، لأننى ما صعدت إلى هذا الطابق قط.

أمى صعدت إليه كثيرا. فهى قريبة له من بعيد، وهو يطلبها للعناية بقصره، فتقضى هناك طيلة النهار ولا تعود إلى سريرها منهكة، إلا بعيد الغروب. هو رجل طيب، وطويل، وليس له زوجة.

خرجنا إلى الحديقة الأمامية، وقد كاد الظلام يمحو الظلال، فاستوقفنى بسنتى السمين. كان ينتظرنا فى غبش الغروب، بجلبابه الغامق المتهدل، تحت شجرة الرمان الكبيرة التى عند بوابة القصر. نادانى فعدت من خلف أمى، إليه، ولما وقفت قبالته هم أن يتكلم، لكنه اكتفى بالصمت وهو يمد لى يمناه، ليهدينى دينارا ذهبيا لامعا، ويمد عينيه محدقا كالأبله إلى شفتى التحتانية. تمنعت عن قبول هديته، فأصر بأن صر حاجبيه، من دون أن يحول عينيه عنى. مددت ذراعى لآخذ منه الدينار شاكرة، فتعمد لمس باطن كفى بأطراف أصابعه. امتدح فجأة ثوبى، فهربت من أمامه. مع أن الثوب يستحق المديح.

لما انصرفت عنه، ظل بسنتى متسمرا بموضعه تحت الشجرة. أحسست به، من دون أن ألتفت ورائى، أنه ينظر إلى ورائى وينادينى بلا صوت. أسرعت الخطى، حتى لحقت بالخارجين من باب القصر الخلفى، إلى الدرب المظلم. أدركت الباقيات من النسوة، ومن ورائهن أطفالهن، ومن ورائهم أمى والحبشية تحملان صرة الهدايا الثقيلة. أغلقت خلفى الباب الخلفى للقصر، وبقيت برهة عند باب بيتنا، أنظر السائرين فى الدرب، وهم ينسلون من أمامى رويدا. ابتلعتهم حلكة الدرب وأبواب بيوتهم وبوابة الكفر.

كفرنا صفان من بيوت مبنية بالطين المعجون بالتبن. بين الصفين درب، رطب مفتوحة عليه كل البيوت. كنت أظنه فى صغرى، جزءا من بيتنا. بأول الدرب البوابة القديمة المفتوحة دوما على ساحة السوق، وبآخره الباب الخلفى لقصر بطرس الجابى. بيوت الصف الذى على يمين الخارج من باب القصر الخلفى، يحدها من خلفها جدار البرابى السميك، الثقيل.

الصف يبدأ من ناحية الساحة، بالكنيسة. بعدها بيت حنا الكرام، وبعده بقية البيوت التى آخرها بيت الكاهن شنوته، ثم بيتنا. بيتنا بين قصر الجابى وبيت الكاهن، محصور. كان أبى ينوح مساء فى سريره بترنيمة تضايق أمى، فتنهره، لكنه لا يكف عن العويل بما معناه: جناحك مكسور يا عصفور، بين الجابى والكاهن محصور.. بعدما مات أبى، ظل نواحه يتردد زمنا فى أحلامى.

بيوت صفنا تستند كلها إلى جدار البرابى، المشقوق فى بعض البيوت. الشق الذى فى بيتنا جعلناه بابا إلى البرابى، لكنه مرتفع عن الأرض كنافذة. والشق الذى فى بيت حنا الكرام، كبير، ومفتوح بلا باب على ناحية من أرض البرابى، تحوطها أحجار كبار متكسرة. كان حنا الكرام يربى هناك الخنازير، ويلقى لها كل مساء بالقمامة التى يجمعها ساعة الغروب من ساحة السوق، ويتركها أمامها كى تمصها طيلة النهار التالى. كانوا يسمونه حنا الكرام، مع أنه لا يزرع الكروم، ولم أشاهد يوما عنقود عنب فى بيته. فى بيته شهدت الويل، وعرفت الفزع.

الصف المقابل لبيتنا، يبدأ من عند البوابة ببيت العم سمعان، صاحب النسناس. نسميه بذلك، لأنه كان يعيش مع قرد صغير من نوع النسانيس، طويل الذيل جميل الوجه، لا يكف عن الحركة. كنا نلعب معه ونحن صغار، فيلاعبنا ويبتهج معنا. ذهب به العم سمعان مرة، ولم يعد به. من بعدها. هو يعود إلى الكفر أيام جمع العنب، لأنه يعمل بالمعصرة، ومع الخريف يرحل ليعمل فى نواح بعيدة لا أعرفها. يقولون عنه هنا إنه مجنون، لأنه لم يتزوج قط، ويكلم نفسه حين ينفرد وحين يمشى وحيدا.. أمى كانت تقول: الذى يعيش وحيدا سيموت وحيدا، وقد لا يجد من يدفنه.

بآخر هذا الصف بيت عمى بشاى، المواجه لبيتنا. عمى بشاى كان أصغر من أبى بسنوات، وكان يذهب إلى بيته فى الليل فقط، أما نهاره فيقضيه خارج الكفر، أو فى بيتنا. لما ذهب إلى الحرب الكبيرة، وقتل هناك، أغلقنا بيته فمات من طول الوحدة، لأن المكان لا يحيا من غير السكان.
بعدما وقفت برهة عند باب بيتنا، حائرة دخلت البيت هانئة ومنهكة. كان بنيامين قد دخل قبلى إلى حجرته الأقرب إلى الباب، ودخلت أمى والحبشية حجرتنا اللصيقة بالبرابى. قابلت الحبشية فى الحوش، خارجة وهى تبتهج، فأغلقت خلفها باب البيت وذهبت إلى حجرة الحبوب المتوسطة بين الحجرتين، لأخلع عنى متسترة بظلامها، هذا الثوب الجديد الملتصق بصدرى وخصرى.

ارتحت حين أغلقت بابها ورائى، ومن ورائه سكتت الأصوات، أو سكنت أذنى عن استماعها. وارتحت حين طرحت عنى ستر رأسى وخلعت نعلى، ثم أرجحت فى الظلام شعرى. وارتحت حين رفعت عنى برفق، ثوبى اللصيق المؤجج وما تحته من سراويل.. بقيت لحظات فى وحدتى عارية، مطمئنة للوحدة والظلام، ومضطربة الباطن.. قبل أن أمد ذراعى اليسرى، لألتقط ردائى المنزلى المعلق على الوتد الغائص فى الحائط، ألصقت بحائط الحجرة ظهرى الدافئ. رفعت يدى وأنا مغمضة العينين، حتى لمست الوتد بأناملى المرتجفة، ومررت بها عليه ثم تعلقت به.. بدأ اهتزاز قلبى، حين أحسست بأطراف ضفائرى المفكوكة، تداعب كتفى وعنقى وأعالى صدرى.

أمسكت شعرى بيدى اليمنى، وحككت به رقبتى من مبتداها، فاعتراها خدر لذيذ. بأطراف أصابعى وأظافرى، رحت أفرك صامتة صدرى، وأخمش منتهاه الناهض.. تماوج فى برد ودفء، ثم غمرتنى الرعشة المخدرة، وسرت بأسافلى سخونة تزايدت، والتهبت، وتأججت، وتوهجت.. ثم هدأت، وأخذنى الدوار.

نواصل الأربعاء المقبل نشر الفصل الثالث
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : النبطي .. يوسف زيدان  Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

النبطي .. يوسف زيدان  Empty الفصل الثالث

مُساهمة من طرف Admin الأربعاء نوفمبر 10, 2010 3:13 pm

نمتُ من أول الليلِ ساعة ثم سحبنى من بساط النُّعاس، السُّهْدُ ونقيقُ الضفادع، فبقيتُ أتقلَّب فى فرشتى طيلةَ ليلتى.. أنهكنى الأرقُ، وأقلقنى التردُّدُ ما بين انتباهاتِ القلق وخَطْفاتِ الوسن، حتى تصايحتِ الدِّيكةُ كى تنبِّه الشمسَ إلى طلوعها. ألا تَمَلُّ الشمسُ هذا الطلوعَ اليومىَّ المبكر؟

تكاسلتُ عن مفارقة دِكَّتى، حتى بدتْ ألوانُ الفجر الشفَّافة من بين جريد السقف، وتشاجرتِ العصافيرُ كى توقظ الناس. أمى قامتْ قبلى من سريرها إلى أعمالها اليومية، فتصنَّعتُ النوم حتى خرجتْ من الحجرة، ثم استدرتُ وأطلتُ النَّظَرَ فى زاوية الحجرة، حيث الصُرَّةُ المربوطةُ بأطرافها. استدرتُ ثانية فى فَرْشتى، وقرَّبتُ أنفى من سور البرابى، حتى نفذت إلىَّ رائحةُ الأحجار العتيقة، فأخذنى نَوْمٌ صباحىٌّ لذيذ.

كانت أمى رحيمة بى، فلم تنهرنى كعادتها لتوقظنى. حين دفعتُ عنى سَكَرات التكاسل، كان غبارُ الأيام الفائتة قد تبدَّد عن الأجواء، وراح ضوءُ الشمسِ الأبيضُ يفترشُ حوش البيت. عند الباب المفتوح على الحوش، غمرتنى بهجةٌ وطمأنينةٌ نادرة. أمى تجلس عند الحائط المقابل، وبين ساقيها ماجورُ الغسيل الكبير، متآكل الحواف، وقد شمَّرت عن ذراعيها وانهمكت فى لَتِّ غسيلٍ قليل. قطعٍ معدودات. رأيتُ الحبلين المشدودين بين جانبىْ الحوش، يهتزَّان ابتهاجا، كأنهما ينتظران المشطوفَ من الغسيل.

ابتسمتُ لأمى ومِلْتُ عليها لأضعَ على رأسها قُبلة، فأمالتْ إلى كتفى رأسها، وأمسكتْ معصمى بكفِّها الحانية المبتلَّة بالماء، المتبَّلة بالأمومة، كأنها تتشبَّث بى. جلستُ عن يمينها لأساعدها فى عَصْرِ المغسول، فأزاحت عن الماجور كفِّى وهى تقول: ارتاحى أنتِ، فأنتِ هنا ضيفةٌ سوف ترحلُ بعد شهر.

وددتُ لو أقول لها إنى أحبها، وإنى سآتى كثيرا لزيارتها، وإنى سأتذكَّرها كُلَّ صباحٍ ومساء. لكنى ارتبكتُ، فاكتفيتُ بأن قبَّلتُ ثانية رأسَها المكشوف، ولمستُ بخدِّى مَفْرق شعرها.. جلستُ خلفها، وأخرجتُ المشطَ الخشبىَّ العريض من جيب جلبابى، وبقَصْد مداعبتها، مررتُ بالمشط على شعرها المتهدِّل على ظهرها، فأحسستُ بها تبتسم.

مسكينةٌ أمى، لم يبق برأسها إلا شعرٌ خفيفٌ، يزدادُ كُلَّ يومٍ خفَّة. شعرى أنا كثيفٌ. تصل أطرافُه حين أضفِّره، إلى أعلى نقطتين بصدرى. وحين أفُكُّه يطولُ، فيكاد يمسُّ بطنى بأطرافه.. بلَّلتُ شَعْرى من ماء الشَّطْف، ورحتُ هانئة أمطُّ بالمشط خُصلاته المتموِّجة، كى أُسْبِلَها استعدادا لتضفيرها من جديد، بينما عيناى تجولانِ فى أنحاء البيت.

لبيتنا حائطٌ واحدٌ، فيه البابُ الخشبى الرقيق، الفاصل بين الدرب وحَوْش البيت. بابُنا فى غالب الأوقات غيرُ مُوصَدٍ، لأننا نسكن آخر الدرب، ولا يمر من أمامنا أىُّ غريب. لا يدخل الدرب أصلا، أىُّ غريب.

حوائط البيت الثلاثة، الأخرى، ليست له. فعن يمين الداخل من البابِ، السورُ الخلفى لقصر الجابى. وفى مواجهته جدارُ الأحجار الكبار، الفاصل بين الكَفْر والبرابى. حائطنا الثالث، مشتركٌ مع بيت أبونا شُـنُوتَه وهو الذى بناه، فيما أظن.. حَوشُ بيتنا، مفتوحةٌ عليه الحجراتُ الثلاث، ومساحتها مجتمعة كمساحته. حجرتنا أنا وأمى تلاصق البرابى، بعدها حجرة الحبوب، ثم الحجرةُ المجاورة لباب البيت حيث ينام اليوم بنيامين ليلا، وكان أبى ينام فيها ليلَه ونهارَه، حتى ذهب إلى الرَّبِّ ليرتاح من مرضه.. لا أحبُّ دخول هذه الحجرة.

فى الحوش، على يسار الداخل من باب البيت، معزاةٌ مربوطة من عنقها. ناعمةُ الشعر، جميلةُ العينين. أهداها بطرس الجابى لأمى يومَ عيد العذراء، ولم تلد عندنا بعدُ. وفى الزاوية المقابلة، حيث التقاء جدار القصر بحائط البيت الوحيد، زيرٌ نشرب منه الماء النظيف، الذى يأتينا به هيدرا السقَّا كلَّ يومين.

سقَّاءُ الكَفْرِ مسودُّ الوجه، ونحيلٌ قصير، القِرْبَةُ التى يحملها على ظهره وكتفيه، طولها فى مِثْل طوله. زوجته سمينةٌ، تزنُ مثله ثلاثَ مرات، لكنه يحبُّها ويدلِّلها دوما ويناديها: يا بقرة. يقولون إنه فى شبابه، حَجَّ مرتين إلى كنيسة القيامة، ماشيا. هذه الكنيسة بعيدةٌ جدا. فى المرة الأولى جاء بصليب خشبىٍّ كبير، علَّقه فى عنقه ولم يخلعه قطُّ. وفى المرة الأخيرة عاد من هناك، وقد اختار لنفسه اسم هيدرا، وهجر اسمه السابق: بشاتى. لو بدَّلتُ يوما اسمى، سأختار صوفيا أو مرتينا.

فى منتصف الحوش، يمتدُّ حَبْلان مجدولان من لوف النخيل، نعلِّق عليهما المبلول من الغسيل. وبآخر الحوش من جهة البرابى، فرنٌ كبير خلفه نخلةٌ تُعطى البلح كلَّ عام، بجوارها جذعُ نخلةٍ خشن، مائلٌ كالسُّلَّم، نصعدُ عليه إلى سطح البيت.. عند التقاء جدار البرابى بسورِ القصر، غرفةٌ ضيقة غير مسقوفة، فيها حفرةٌ مغطاةٌ ببلاطةٍ كبيرةٍ مثقوبة من وسطها، هى محلُّ قضاء الحاجة.

السكونُ تامٌّ من حولى، وفى داخلى، لولا طنينُ الذباب وخربشاتُ الدجاجات. هى لا تكفُّ عن نَقْرِ الأرض، والتقافز فى الأنحاء. دجاجاتُ أمى طيبةٌ ورقيقةٌ، مثل أمى. أحبُّ الصغار منها، والصغار والكبار من الإوزِّ، لكنى لا أحبُّ البطَّ. خاصة ذكُوره التى تفحُّ دوما وتطارد بقية الطير، وقد تعضُّ الصغار من الأطفال فتُبكيهم، مع أن منقارها لا أسنان فيه. ذَكَرُ البطِّ أسودُ، وقبيحٌ منظره، يذكِّرنى بالرجل الضخم الذى خَتَننى أنا ودميانة فى بيت حنَّا الكرَّام، حين كنا صغيرات. أخذتنا النسوةُ يومَها من غفلة الطفولة، إلى بيته الكئيب الملاصق للكنيسة، وفى الغرفة المظلمة التى بآخر البيت، أمسكننا فجأة كى يتمكَّنَّ منَّا.. بسطنَنا على ظهرينا فوق سرير قديم، وبَعَّدْنَ بأيدٍ قويةٍ بين ساقَيْنا. وبعدما نزعنَ عنَّا السراويل، مال علينا الرجلُ الأسودُ بأنفاسه المتهدِّجة، كأنه ذَكَرُ بَطٍّ يفحُّ، وقَصَفَ بسكِّينه قطعة من معدِننا.. امتلأ الكَفْرُ بصراخنا الفَزِع .. لم تكن أمى بقُربى.

قُومى يا مارية لنشر الغسيل.

ربطتُ على عَجَلٍ طرف ضفيرتى بالشريط الملوَّن، وقمتُ لألتقطَ الملابس المعصورة. ما بين انحناءاتى على الماجور ووقفاتى أمام الحبل المشدود، لم أنظر إلى وجه أمى. وحين نظرتُ، رأيتُ دموعا على خدِّها. هى تبكى مثلما اعتادت، صامتة. سألتُها عن سِرِّ بكائها، فمسحتْ خدَّها بباطن كَفِّها وقالت: لا شىء.. سألتها إن كانت حزينة لأننى سأتركها؟ فأجهشتْ حتى سال أنفُها، ثم مَرَّتْ على وجهها بباطن ذيل ثوبها، وقامتْ منتفضة إلى حجرتنا. لحقتُ بها ورجوتها أن تهدأ، كيلا تنهمر معها دموعى. بباطن كفَّيها كفكفتْ سَيْلَ دمعها، وأشاحتْ عنى وهى تقول: هذا قلبُ الأُمِّ يا مارية، سوف تعرفينه يوما ما.

جلسنا برهة صامتتينِ، ثم خرجتُ من الحجرة وراءها مستسلمة، ولما جلستْ أمام الفرن لتسحب الرماد من جوفه بالبَشْكُور الحديدى، عدتُ إلى جلستى السابقة على الأرض، وأسندتُ ظهرى إلى سور القصر. لم أجد ما أنشغل به ففككتُ ضفيرتى كى أُضفِّرها من جديد، فعاد خاطرى إلى شروده، وتنقَّلتُ بين ذكرياتٍ تمرُّ بقلبى مثلما تمرُّ فوق الغيطان قطعُ السحاب.

ازداد النهارُ حَرَّا، وما أوقدتْ أمى بَعْدُ نيرانَ الفرن. الحياةُ فى كَفْرنا مملةٌ. بعينٍ كَسْلى، لاحقتُ حركةَ أمى وهى تكنسُ الحوش بعرجون قديم، ثم تجلبُ من فوق السطح عددا من أقراص الجلَّة، وتَصُفُّها قُرب فوَّهة الفرن. ارتقتْ جذع النخلة المائل ثانية، لتستلَّ من الأكوام التى فوق السطح، أغصانا يابسة سوف تكون حطبا. اليابسُ من كل شىء، والأخفُّ والأشفُّ، سريعُ الاشتعال إذا مسَّه أىُّ لهب.. فى داخلى لهبٌ مشتعل.

قدحتْ أمى حَجَرى الصَّوَّان فالتقط القشُّ الشرارةَ منهما، وجلستْ بالقرب منى، منهمكة فى دَسِّ الحطبِ والجِلَّةِ بجوف الفرن. الجلَّة أسرع اشتعالا، وأقلُّ دخانا. أمى تبدو دوما منهمكة، ومنهكة، فهى لا تهدأ عن الانشغال بعملٍ ما. مسكينةٌ أمى ومهمومةٌ مثل بقية الأمهات، وشاحبة. لا يزال على وجهها مَسْحَاتٌ من جمالها الأول، تذكِّر بزمن صِبَاها، أيامَ كانت تُشبهنى. سوف أُشبهها حين أكبر.. لماذا ارتضتِ الزواجَ بأبى، وهى تعلم أنه ضعيفٌ، ويعانى المرض. هل كان حاله أفضل أيامَ تزوَّجَتْهُ، أم تراها انتظرتْ مثلى، فلم تجد أفضل من نصيبها المكتوب؟

أبى استبدَّ به السُّلُّ سنين، ثم أهلكه بعدما أنهكه. أمى عانتْ معه المرَّ فى مرضه، وباعت كُلَّ المعز التى كانت عندنا، ثم باعتِ الطيور بأبخس ثمن. لولا بطرسُ الجابى، لصارت حياتُنا بؤسا مقيما.

أتانا صوتُ أُمِّ نونا، ونونا ابنتها، من وراء باب بيتنا المفتوح. دخلتا علينا ضاحكتَيْن، يحوطهما بعضُ أطفالهما. لهما هيئةُ أُختين قصيرتين، ولهما بطنانِ منتفخانِ معظم الأوقات، كأنهما تتنافسان فى الإنجاب. أُمُّ نونا أنجبتها أيامَ كانت فى الخامسة عشرة، وعندما بلغت ابنتها الحادية عشرة، زوَّجتها لابن عَمِّ أبيها. كانت نونا فى أول زواجها، تهربُ نهارا من بيتهم، لتلعب مع الأطفال فى الدرب والساحة. فيخرج زوجُها العاملُ بالمعصرة، ويفتِّشُ عنها حتى يُمسك بها ويحملها على كتفه، كلُعبةٍ، ويعود بها إلى البيت وهى تبكى، وترفسه بساقيها القصيرتين. والناسُ تضحك. كُنا نسمع صرخاتها آناءَ الليل، وكانت أمها حين تسألها النسوةُ، تهزُّ كتفها اليمنى، كعادتها، وتقول غير عابئةٍ: البنتُ صغيرةٌ، وكلُّ ما فيها صغير. ثم تضحك. نونا ما زالت تنادى زوجها إلى اليوم، يا عمِّى، لكنها ما عادتِ الآن تلعب، فقد بلغ عمرها قرابة العشرين عاما، ولها من الأطفال خمسةٌ.

جئنا نخبزُ الفطير معكم.

تهلَّلتْ أمى لأمِّ نونا ورحَّبتْ، فاقتربت منَّا وحطَّتْ عن رأسها ماجور العجين وغطَّته بغطاء رأسها، وأبقت شعرها مكشوفا. شعرُها قصيرٌ مثلها، لكنه كثيفٌ. نونا تمسك كالحبالى سلَّة من الخوص، وعصا من تلك التى نفرد بها عجين الفطير. هشَّتْ أُمُّ نونا الأطفال إلى الدرب، ليلعبوا بعيدا عن نار الفرن ودُخَانه، وعن الخبز والخابزات، وعادت إلينا بعدما وَارَبَتْ خلفهم باب البيت. دخلت نونا حجرتنا، لتحطَّ من على كتفها رضيعَها النائم، ثم عادت ومعها ابنتها مارية ذات العامين، الممسكةُ دوما بذيل ثوبها.

وهى تخرج من حجرتنا، صاحتْ نونا وكأنها اكتشفت هناك كنـزا: لم تفتحوا صُرَّة الهدايا ! طلبتْ منى أمى إحضار الصُّرَّة الثقيلة إلى وسط الحوش، فأتيتُ بها بعناءٍ. تحلَّقنا حول الصُرَّة فى وسط الحوش، غير مبالياتٍ بحرِّ الشمس الواقفة فوقنا. فكَّتْ أمى الأطرافَ المعقودة، فانفرطتْ من الصُّرة قطعٌ متنوعةُ الألوان، من القماش الغالى. علا صَخَبُ نونا وأمها، وجلجلتِ الضحكاتُ. قسَّمت أمى هدايانا، فتركت لى من قطع القماش خمسا، وأخذت لنفسها قطعة سوداء، وأعطت لنونا قطعة حمراء، ولأمها قطعتين. كانت فى الصُّرَّة صُرَّةٌ أصغر منها، فيها أكياسٌ من كتَّان، فى كل كيسٍ طحينٌ ذو رائحةٍ نَفَّاذة. اهتزَّت أمُّ نونا وهى تقول مبتهجة: هذه بهاراتٌ للأكلات يأتى بها العربُ من بلادٍ بعيدة، وهذا مبشورُ جوزِ الهند الذى يُرَشُّ على الفطير. زبيب، تينٌ مجفَّف، بلحٌ عجيب، هذه الكُرات الصغار لا أعرفها.
عرفنا بعد أيامٍ، أن تلك الكراتِ المجهولة، توابلُ تسمى جوز الطيب. تُدقُّ ويُوضع منها اليسيرُ على الطبيخ، فتشهِّى الطعام وتزكِّى رائحته.. شقَّتْ أمى قماش الصُّرَّة الكبيرة، فصارت صُرَّتين قسَّمت عليهما بقية الهدايا، ثم أعطتْ واحدة منهما لأُمِّ نونا ودخلتْ بالأخرى إلى حجرتنا فوضعتها هناك، وعادت مزهوَّة. لم أدرك ساعتَها السِّرَّ الساكن خلف هذه القِسْمة، ولا السببَ فى أن أُمَّ نونا تلقَّت نصيبها راضية، بلا تمنُّع، وأرسلته على رأس ابنتها لبيتها، بعدما حزمته جيدا. فى المساء عرفتُ من أمى، أن أمَّ نونا بتوفيقٍ من أُمِّ النور، هى التى دَلَّتِ العرب علىَّ وامتدحتنى عندهم، حتى أتوا بالأمس خاطبين.

حَمِيَتْ نارُ الفرن وطقطقتْ فى جوفه الأغصانُ اليابسة، وانتهينا من تدوير قطع العجين الصغار، وابتدأنا فى دَحْيها وبَسْطها لتصير أرغفة وفطائر. حين هدأ الدخانُ وانتظمتْ نارُ الفرنِ، صارت قُبَّتُه جاهزة لدسِّ العجين المرقَّق. أدخلنا الفطائر أولا، فهى لا تحتاج النار القوية التى تُنضج الأرغفة.

أحبُّ رائحة الفطير، حتى وإن كان من غير زُبدٍ. هو بالزُّبد أشهى مذاقا، لكنَّ الأيامَ صيامٌ . ظلت أُمُّ نونا تغنىِّ وتهزُّ كتفيها، كأنها ترقص جالسة، وهى تنتظر كل فطيرةٍ خارجةٍ حتى تدهنها بزيت السُّمْسُمِ، وترُشَّ عليها ذلك الأبيض المبشور المسمَّى جوز الهند. كلَّما انتهتْ من فطيرةٍ، وضعتها باسمة فى سلَّة الخوص الكبيرة، المغطَّاةِ بقطعة الكتان. صنعنا فطائر كثيرة، ثلاثين أو أكثر، ثم ابتدأ خَبْزُ الأرغفة. ما كدنا ننتهى، حتى تقاطرتْ علينا الجاراتُ المهنِّئاتُ، يَخُضن فى أطفالهن.

ساعةَ العصرِ كانت الأفواهُ تلوك برضا، قطعَ الفطير اللذيذة. إحدى الجارات جاءتْ بماجور جديدٍ، مغسول، وأفرغت فيه ما كان فى الزير من ماء. سكبتْ عليه عَسَل الفواكه، وقلَّبته بخشبةٍ نظيفة، وراحت تغرفُ منه أكوابا للحاضرين. من وراء الحشد المحيط بباب البيت، جاء هيدرا السقَّا، فأفرغ مبتهجا قِرْبته فى الزير، وهو يصيح: بركاتك يا أمَّ النور.. علتِ الضحكاتُ، وحلَّقَتْ فى سماء بيتنا بهجةٌ كانت منسية.

بعدما أكلوا جميعا، وشربوا، تحلَّقوا حول هَزَّة الجالسة على عتبة الباب، وجاءوا لها بطبلةٍ كبيرةٍ وأعوادٍ دقاقٍ من البوص. هى الأمهرُ بين نسوة الكَفرِ فى النَّقْرِ على الطبلة، تدقُّ عليها بأصابع يدها اليمنى، وبين أصابعها اليسرى الممسكة بالطبلة، عُودُ البوص الذى يرفُّ عند النقر به، فيرنُّ صوتُ الطبلة، وتهيِّج أصداؤه الشوقَ إلى الرقص.. الفتياتُ رقصن أولا، وانضمت إليهنَّ الأمهاتُ تباعا، كالمعتاد. قبيل الغروب، كان الكلُّ يرقص أو يتراقص أو يشدُّنى إلى وسط الحوش، لأرقص بينهنَّ.

الرقصُ مفرحٌ.. يديرُ الرأس.. يُسْكرُ. لو عرفه الذين يشربون الخمر ليسْكروا، لَسَكروا بالرقص بدلا مما يشربون. سُكْرُ الرقص أحسنُ، ودواره أرقُّ دَوَار. سكرتُ مرة من النبيذ خِفية، فدار رأسى حتى نمتُ، ثم انقبض بطنى بعد صحوى وصدع دماغى. الرقصُ لا يصدِّع ولا يقبضُ، بل يطرح عنَّا الأحزانَ ويكسو الخدودَ حُمرة مُشتهاة، ويمنح الراقصات مِفْتاح المرح. والأهمُّ، أنه يترك للصبايا فُسحة لتبيان المفاتن.

لم أرقص منذ زفاف دميانة. أمها هَزَّةُ كانت تقول إننى أبدعُ الفتياتِ رقصا، لأننى أجذب نظرها فأقودُ أصابعها لنقر الطبل، بأكثر مما تقُودُنى هى للحركة. لم أفهمْ يوما كلامها، لكننى كنتُ أسعدُ به وأفخرُ، كلَّما قالته. انهمكتُ معهنَّ ولمحتُ أمى مرَّاتٍ أثناء رقصى، فرأيتها تمسح عن عينيها الدموع بسِتْرِ رأسها. أمى تبكى حين تحزن، وحين تفرح. هل هى سعيدةٌ لزواجى، أم حزينةٌ لقُرب رحيلى عنها؟ أظنها مثلى، وحالُها مثلُ حالى أيامَ زواج دميانة.

النسوةُ جذبنها لترقص بقُربى، فتفلَّتتْ، فلاحقنها، فتمنَّعتْ، فنهرتها هَزَّةُ وزعقتْ فيها وهى تضحك: هيّا يا غزالة، اُرْقصى اليوم لمارية.. جاءت أمى على بساط الاستحياء، تدفعها الأذرعُ إلى قلب الدائرة، فرقصتْ بجوارى وسط صخب النسوةِ والأطفال. الأطفالُ يصخبون حين تَصْخـبُ الأمهاتُ، ويضحكون إذا ضحكن. اهتاجتِ الحركاتُ والضحكاتُ مع وَقْعِ الطبل والأغنيات، وراح جريد النخلةِ العاليةِ، يهزُّ الهواءَ فرحا بى.

أمى لم أرها ترقص من قبل. ولَّيتُ وجهى نحوها لأعرف طريقتها فى الرقص، فرأيتها تضحكُ متردِّدة خَجْلى، وتهزُّ كتفيها وتقلِّب فى الهواء كَفَّيها، بأكثر مما تحرِّك خَصْرها ورِدْفيها. لكنها على كل حال سعيدة. أنهتْ رقصتها بأن احتضنتنى وسط هتاف النسوة، وسالتْ دموعُها من جديد، ثم انفلتتْ إلى جلستها الأولى عند باب حجرتنا.

مع مغيب الشمس أُضيئت القناديل، وامتلأ الحوش، وتحشَّر أهلُ الكَفْر حول باب البيت. أتى الرجالُ يتقاطرون من مزارع العنب وحقول القمح. المتأخِّرون منهم عودة لا يجدون مكانا، فيقعدون عند المصاطب التى بآخر الدرب، وحول باب بيتنا. كلَّما جاء منهم واحدٌ، ناولتْه امرأتُه فطيرة، وكوبا من الماء البارد المعسَّل.. بعد الغروب جاء بنيامين مُتعبا كعادته، وحائرا، وفَرِحا من أجلى. جلس بجوار أمى، فأعطته فطيرة راح يمضغ منها على مهل، وقد انهالت عليه دعوات النسوة بزواجٍ قريب. هو يصغرنى بعامين أو ثلاثة.

استولى الليلُ على السماء، وتسرَّبتِ النِّسوةُ وأزواجهُنَّ والأطفالُ. كانت أُمُّ نونا آخرة الباقين. لما خلتْ بنا، شدَّتنى بتدلُّلٍ يليق بامرأةٍ قصيرة، وأخذتنى إلى حيث يجلس بنيامين وأمى. أجلستنى فصرنا كمثل الدائرة، وقالت مُتهامسة لأخى ونحن نسمع: تَعلَمُ يا حبَّة القلب، يا بنيامين المسكين، أنك عندى مثل أعزِّ أبنائى. وسيكون زواجك قريبا بمشيئة ربنا المسيح، وسيكون لك خيرٌ كثيرٌ إذا صحَّت زِيجةُ مارية، فقد كلَّمتُ العربَ لتعمل معهم فى توزيع التجارات بنواحينا. وسيأتى خيرٌ كثيرٌ، لك ولأمك الكادحة الصابرة. العربُ أغنياءُ، وقد امتدحتُك عندهم وطلبتُ منهم أن تعمل معهم، فلم يرفضوا. فإن صحَّتِ الزيجةُ، فانتظرِ الخيرَ الكثير.

سوف تصحُّ، بمشيئة الرَّبِّ وعنايةِ العذراء.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : النبطي .. يوسف زيدان  Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

النبطي .. يوسف زيدان  Empty الفصل الرابع

مُساهمة من طرف Admin الأحد نوفمبر 21, 2010 3:27 am

الحيوة الأولى
الفصل الرابع أبونا باخُوم

مَرَّ اليومُ الأول من شهر الأفراح، مفعماً بالمسرَّات. أسعدنى حتى توهمتُ أننى عدتُ إلى زمنى البهيج. رقصى المبهج بالأمس هيَّجَ رواكدى، وردَّنى إلىَّ، ودفع عنى الهموم.. لكننى عدتُ بعد يومين إلى حالى قبل خطبتى، عندما عاد الصمتُ ليسكن بيتنا. أمى تقضى النهار كلَّه، وبعضَ الليل، فى حياكة الأقمشة المهداة. وبنيامين يخرج مع الشمس، كلَّ صباح، ليكدح فى الحقول. وأنا متردِّدةٌ بين التوافه، لا شاغل لى إلا أعمالُ البيت القليلة، والشرودُ فى أحلام الزواج الذى ما عاد مستحيلاً.

صباحَ يوم الجمعة دعوتُ أُمَّ نونا لأعرفَ منها شيئاً عن الخاطب العربى، فجاءت عصرَ السبت معتذرةً بأنها كانت بالأمس بالبلدة البيضاء. هى تعملُ معظمَ الأيام هناك. جلسنا على عتبة باب بيتنا، وحين أخبرتها بأننى لم أميِّز خاطبى العربى، قالت وهى تضحك وتلكزنى بكتفها، فيهتزُّ صدرها الثقيل:
يووه يا مارية.. وماذا كنتِ تفعلين فى غرفة الضيوف؟
خجلتُ، فلم أرفع وجهى نحوهم.
ياه، لو أخبرتنى يومَها لعرَّفتُكِ. هو الطويلُ الذى كان يعلِّق فى عنقه، صليبَ العظم المصبوغ. ياااه يا مارية.




امتد صمتٌ طويلٌ، مثقلٌ بسكينة الدَّرْبِ وسكونِ الهواء. السبتُ يومُ السكونِ، والاستعدادِ لصخب الأحد. رحَّلَنا الشرودُ عن بعضنا ونحن متجاورتانِ، وأخذتنى الخواطرُ إلى جهاتٍ متفرقة.. بعد حينٍ من الغياب التفتُّ إلى أمِّ نونا، فرأيتُ عينيها الضيقتينِ تنظرانِ نحو بيت عمِّى بشاى، المغلقِ المهجورِ. أحضرتها من شرودها بسؤالها:
ما اسمه؟
مَنْ؟
خاطبى.
آه.. اسمه سلامة، أهله ينادونه سُلُومة.. سُلُومة، الفيلُ أبو زَلُّومة. هئ هئ هئ.
يسمونه الفيل!
لا، لا. أُمازحُكِ يا مارية.
أمُّ نونا تحبُّ المزاح، لأنها قصيرة. ابنتها نونا، لا تكفُّ أيضاً عن المرح والممازحات. القصيراتُ من النسوة مرحاتٌ، لكن القصار من الرجال خبثاء. فى الكَفْر رجالٌ قصار، وهم ماكرون بطبعهم وخبثاء كالثعالب. سألتُ أمَّ نونا عن عُمْرِ الخاطب، فقالت أظنه فى الثلاثين. وعن هيئته، فقالت طويلٌ وجميلٌ.. سكتتْ لحظةً قبل أن تُضيف: ولكنْ فى عينه حَوَلٌ طفيفٌ.
اقشعرَّ جلدُ ذراعى من كلامها الأخير، واشتدتِ القشعريرةُ عندما سألتها عن بلدته، هل هى بعيدة عن هنا؟ فقالت من دون أن تنظر نحوى: يوووه.
فى حجرتنا، قلتُ لأمى بعد الغروب، إن خاطبى كبيرُ السِّنِّ. لم يعجبها الكلام، فعقدتْ حاجبيها وهى تؤكِّد أن الرجال لا يكبرون، مهما امتدَّ بهم العُمر، فالنساءُ يكبرن لأنهن يلدنَ ويُرضعن، فينهدُّ الحوْلُ وتسقُطُ العافية.. قلتُ إنه أحولُ، فقالتْ لا تنظرى فى عينيه.. سكتُّ لحظةً ثم صارحتُها بأننى خائفةٌ من العيش معه فى الصحراء البعيدة، فقالت بحزمٍ: ما كُلُّ هذا الدلالِ يا مارية، هل أتانا خاطبٌ غيره؟ وهل ننتظر حتى تدخلى فى زمرة العوانس التعِسات؟

آلمتنى أمى، ونامت. أولتنى ظهرها من فوق سريرها، وتركتنى مُمدَّدةً على دِكَّتى، أتقلَّب على شوك كلامها. بقيتُ طويلاً من غير نوم، ثم قلتُ فى نفسى لعلها محقة. لا بأس. بعد شهرٍ سأكون زوجةً، وبعد عامٍ أُمًّا، وبعد سنواتٍ سيكون لى بناتٌ كثيرات، وأولادٌ.

ما معنى أن الرجالَ لا يكبرون؟ بطرسُ الجابى كبيرٌ، وبنيامين أخى صغيرٌ. صحيحٌ أن جسمه نحيلٌ، لكنه جميلٌ، وقوىٌّ. حين يحمل أجولة الخزين، أو يدقُّ بالشاكوش المسامير، يشمِّر عن ذراعيه فتظهر قوة كتفيه ويلمعُ منبتُ ذراعيه، ويبدو جلد كتفه الناصع كأنه يلفُّ بداخله حزمةً من حبالٍ قوية. بنيامين قوىٌّ وجميل، لأنه صغير. كنتُ أتمنى زوجاً شاباً، مثله، أو أكبر منه بقليل. بطرسُ الجابى كبيرٌ، لكنه ليس ضعيفاً ولا قبيحاً. فى وجهه حمرةٌ، من مداومة احتساء النبيذ. أخى بنيامين شاحبٌ لكنه أجمل منه، لأنه أصغر منه. كُلُّ صغيرٍ، أجملُ من كلِّ كبير. الكتكوتُ أجملُ من الديك والدجاجة، والمعزاةُ الوليدةُ أجملُ من أمها وأبيها، والشموعُ أجملُ من الشعلات. كيف يا أمى سأكلِّم زوجى، ولا أنظر إلى عينيه؟ هل أخَّر الزمانُ زواجى، ليهبنى فى النهاية زوجاً أحول؟.. حَظِّى من الحياة، حقاً، قليل.

سَحَّتْ دموعى ساخنةً، حتى بلَّلتْ مخدَّتى. بكيتُ صامتةً، فلم تشعر أُمى ببكائى. صرتُ أبكى مثلَها، خِفيةً، بلا صوت. البنتُ تصير كأُمِّها لا محالة. لما غلبنى النومُ، رأيتُ أحلاماً وفيرةً، قويةً كأنها الحقيقة. تقلَّبتُ فى رقدتى كثيراً، حتى أيقظتنى أمى قبل سطوع الشمس. هذا فجرُ الأحد، اليومُ الأبهجُ بين أيام الأسبوع.

بعد استحمامٍ سريعٍ بحجرة الحبوب، ألبستنى أمى بهمةٍ عالية ثوباً جديداً، قماشه بلون السماء. راحتْ من خلفى تشدُّ جوانب الثوب علىَّ، وتهمهم وهى تأخذ علاماتٍ بالإبرة، ثم تخلعه عنى لتخيِّط موضع العلامات. فعلتْ ذلك مرات. لم أنتبه إلى جمال لون الثوب فى غَبَشِ الفجر، لكننى بعدما جدلتُ ضفيرتى وخرجتُ إلى الحوش، وقد أرسلتِ الشمسُ نُورَها، بدا لونه بديعاً. أمى ماهرةٌ فى الحياكة، وهى تحفظ تفاصيل جسمى.

قبل خروجنا إلى الكنيسة، وراءنا بنيامين، مدَّت لى أمى مِرْوَدَ الكُحل، وعقدتْ بطرفِ ضفيرتى أشرطةً من حريرٍ لامع، زرقاء اللون. ثم ألقتْ حول رقبتى قطعةً من حرير الأشرطة اللامع، لأغطى بها رأسى عند دخول الكنيسة.
النسوةُ رأيننى فى الدرب فسعدنَ بى، وحسدننى، حتى حسدتُ نفسى من فرط سعادتى بثوبى البديع، المفصح. صدرى يطلُّ جريئاً من تحت القماش الناعم اللصيق، وذيلُ الثوب يرفُّ حول قدمىَّ حين أمشى، ثم يقترب من فخذىَّ على استحياءٍ، حتى يلتصق ببطنى وصدرى. الصدريةُ اللصيقةُ الضيقةُ، المؤطَّرةُ أطرافها بالشريط الأزرق اللامع، ترفعنى فى الهواء.



رقبتى عاريةٌ، وجميلة، ابتهجتُ حين رأيتها فى المرآة قبل خروجى. لو كان هذا الثوب بلا أكمام، لصار ألطفَ وأجمل. المكشوفُ ألطف، لأن الأجسامَ أجملُ من الأقمشة. لن أقول ذلك لأمى ولا لغيرها، لأنهم لن يفهمونى.. قبل خطبتى، كانت أمى تحيكُ ملابسى واسعةً، موصدةَ الصدر تماماً، وكبيرة الأكمام. كأنها كانت تصرُّ على صَرْف عيون أهل الكَفْر، عن المخبوء من مفاتنى. وهى اليوم تسمحُ بما كانت تمنعه، وتحيك لى ثانىَ الأثواب الضيقة الفاتنة.. لو كانت دميانةُ الآن هنا.

لما رأتنى نونا، قالت والنسوةُ تسمع: جميلةٌ وحَقِّ العذراء يا مارية، فى ثوبك ميوعةٌ ودلال، محظوظٌ زوجُك العربى.. غمرنى خجلٌ لم تخفِّف منه ضحكاتُ النسوة، وقُبلاتهن التى انهالت. أمى ابتسمتْ راضيةً، ولما طلبتْ منها نونا، أن تحيك لها ثوباً مثل ثوبى. تخلَّصت أمى من الأمر بقولها إن الأشرطة الحريرية الملونة، نفدت من عندها.. بحنقٍ طفولىٍّ طلبتْ نونا من أمها، أن تأتى لها بأشرطةٍ حريريةٍ من البلدة البيضاء، أو من أىِّ مكان. قبل أن تردَّ عليها أمُّها، قالتِ امرأةُ هيدرا السقَّا، المسحوبة من لسانها: يا أمَّ نونا، أحضرى أيضاً لابنتك بَعْضَ طولٍ، فمثلُ هذا الثوب لا يناسب القصيرات.. انفجرتْ ضَحْكاتُ النسوة، فنظر إليهنَّ الكاهنُ شُنُوتَه شذراً، وزمَّ شفتيه مُغاضباً، فَهَدَأْنَ مكتفياتٍ بالابتسامات وبقايا الضحكات.

القُدَّاسُ تأخَّر، لأن القسَّ والشمامسة لم يصلوا بعدُ من الكَفْر الكبير. منذ رحل أبونا باخوم عن الكَفْر، قبل قرابة عامين، يأتينا أيامَ الآحاد قسوسٌ من الكَفْر الكبير، لإقامة القُدَّاسات، ويأتى معهم شمامسة. لم أعرف سبب رحيل أبونا باخوم عن الكَفْر، لأننى كنت حبيسة البيت وَقْتَ ارتحل، ولما استفسرتُ من الناس ومن الكاهن شُنُوتَه، لم أجد إجابة. أحزننى ذهابه عنا، لأننا كنا نحبه. كان يجمعنا ونحن أطفال قربَ بوابة الكَفْر، ويُلقى علينا عظاتٍ طيبةً، يجعلها على لسان الطيور والحيوانات. ويروى لنا قصصاً مسليةً، عن ابتداء الخلق وسيرة الملوك الطيبين.

علَّمنا أبونا باخوم الدينَ القويم، بحكاياتٍ كان يحكيها عن عصفورةٍ وابنتها: العصفورةُ الابنةُ كانت غاضبة من أخيها العصفور المتشرِّد، فطلبتْ من أمها أن تطرده من الشجرة، فقالت لها أمها لو طردناه فسوف يتشرَّد أكثر، وقد تأكله الحدأةُ لأنه وحيد، فنحزن. ونحن فى النهاية نحبه، وبالحبِّ سوف يعرف الطريقَ القويم، يوماً ما.. العصفورةُ الأمُّ قالتْ لابنتها أيامَ الصوم، وقد رأتها حائرةً: إذا اشتهيتِ مأكولاً أو مشروباً غيرَ صيامىّ، فكُلى واشربى، لأن صومك قد فَسَدَ ولم يعد له داعٍ، فالصومُ يكون عن الاشتهاء، لا عن الأكل والشُّرب.

كنتُ أرى فى أبونا باخوم، أباً وأُمّاً وعمّاً. حين كان الكاهن شُنُوتَه ينهاه عن تعليم البنات، مع الصبيان، كان يبتسم له ولا ينصاع. أبونا باخوم لم تكن له زوجةٌ، مع أن البياضَ لحق لحيته، وكان ينام وحده فى الكنيسة. كنت أحبُّه وأفرح بكلامه حين يقول إنى أذكى أطفال الكَفْر، وأسرعهم تعلُّماً. فى طفولتى كنت أقول إننى حين أكبر، سأتزوج أبونا باخوم، فتضحك أمى وتقول: الرهبانُ لا يتزوَّجون، شُنُوتَه له زوجة لأنه كاهنٌ، لا راهب.. لم أكن أفهم هذا الكلام، وما زلتُ إلى اليوم لا أتفهَّمه. باخوم فى كلامنا معناها صورة الله، وشُنُوتَه تعنى الله يعيش، وتعنى ابن الله.

كانتِ الآحاد أحلى أيامنا، فكلَّما بلغ أحدنا السابعة من عمره، أهداه أبونا باخوم قطعة قماش، فيصير له جلباب جديد. جلبابُ الولد جيبه إلى الداخل، وجيب جلابيب البنات يخاط من الخارج، كيلا يحجبن عن الناس ما يخفين فى جيوبهنَّ.. كنا جميعاً بعد قُدَّاس الأحد، نجتمع بأول الساحة فى الصباح الباكر، ونجلس على الأرض فى دائرةٍ تحوطها البهجة، عند جدار الكنيسة، وقد علَّق عليه أبونا باخوم اللوحة الكبيرة السوداء، التى يكتب عليها الحروف بالطباشير وأحجار الجير. قطعُ الطبشور أوضحُ كتابةً.
كان أبونا باخوم يحب الرسم، فأَحَبَّهُ الأطفال لأنه يحبه. كان فى مرَّةٍ يرسم لنا سحاباً متلاصقاً، ثلاثَ قطعٍ كبار، ويقول إنها العالم الفسيحُ، ونواحى الأرض التى يحوطها البحرُ من كل الجهات. وفى مرَّةٍ أخرى، يرسم لنا على اللوحة السوداء ذراعاً كبيرة، بأعلاها كَفٌّ مفتوح الأصابع، ثم يقلب اللوحة فتصير الذراع بأعلى، ويقول إنها النيلُ، نهرنا الكبير، وباطنُ الكفِّ أرضنا الخضراء الواسعة، والأصابعُ الخمسة هى أنهارٌ تفرَّعت عن النيل. تسأله دميانةُ عن موضع كفرنا، فيشير إلى طرف الإصبع الصغير من الكفِّ المقلوبة، ويقول نحنُ فى مكانٍ صغير هنا، فنضحك كلنا حتى يضحك معنا وهو يقول: حين تكبرون قليلاً، ستعرفون.

كبرتُ ثلاثة أعوامٍ، من دون أن أعرف شيئاً جديداً. حوائطُ البيت لا تعلِّم، ولا صمتُ أمى، ولا المعزاةُ المربوطة بحوش البيت. تعلَّمنا من أبونا باخوم كيف نكتب كلامنا، وكلامَ العرب. كلامُنا أسهل كتابةً. كنا إذا عَلَتِ الشمس فوقنا، ندخل إلى الكنيسة كى نحتمى تحت سقفها، ويدخل معنا أبونا باخوم.. كنا سعداء.

أيامَ كنتُ فى العاشرة من عمرى، أو الحادية عشرة، أرسلتنى أمى إلى الكنيسة بنصف دجاجةٍ مسلوقةٍ، ورغيفين. كان يومَ عيدٍ، ينتهى الصومُ فيه، وفيه أهلُ الكَفْر كلهم يطبخون ويخبزون، فرحين. تمنيتُ ألا أجد الكاهنَ شُنُوتَه فى الكنيسة، كى أُعطى الطعام كلَّه إلى أبونا باخوم، وحده. لكننى لما اقتربتُ من باب الكنيسة، سمعتهما من ورائه يتجادلان. تسمَّعتُ ما كانا يقولان، فلم أفهم كلامهما ولكنى حفظته، وقُلته لأمى فى المساء، فلم تردّ عليه بشىء:

يا أبونا باخوم، قلتُ لك لا يصحُّ هذا. أنت بذلك تشوِّش إيمان الناس.
قد أكون مخطئاً، ولكن ما دخلُ الإيمان بالخشبة؟
لا تقل خشبة، الربُّ صُلِب.. صُلِب.. يعنى على صليب، صليب.
اهدأ يا أبونا شُنُوتَه، اهدأ. لعلَّنى مخطئ. ولكنى قرأت فى كتاب قديم، أن الرومان كانوا يصلبون على عمودٍ خشبى، ليس له شكل الصليب.
اقرأ ما شئت، أو لا تقرأ فيكون أفضل. المهم ألا تذكر مثل هذا الكلام للناس، وإلا سأبلغ عنك الأسقف مينا، وأنت تعرف ما سوف يفعله.
بلغنى أنك أبلغته.. لكن لا بأس.. وأظنُّ أن الأسقف يعرف هذا الأمر جيداً.
لكنه لا يقوله.. لا يقوله لأحد..
دخل أبو دميانة من بوابة الكَفْر، فجلستُ من فورى على عتبة باب الكنيسة. حيَّانى بلطفه المعتاد، ودقَّ بابَ الكنيسة وهو يفتحه. دخل فأعطى لهما بعضاً من العنب الذى كان يحمله، ثم خرج قاصداً بيته. بابُ الكنيسة ظل مفتوحاً، وظللتُ جالسة بموضعى أنتظر خروج الكاهن شُنُوتَه، لأدخل بالطعام.. ساد الصمتُ بينهما، هُنيهةً، فأدركنى الملل. قمتُ لأدخل إليهما بما أحمله، فسمعتُ الكاهن شنوته يقول بغيظٍ كظيم:
وهل بلغ الأسقف، أيضاً، أن بمخلاتك نسخةً من إنجيل يهوذا؟
لحظة يا أبونا شُنُوتَه، أظنُّ أن أحداً عند الباب..
دخلتُ عليهما مضطربةً، فتوقَّف كلامهما، وظلا جالسيْنِ على طرفىْ المصطبة. رحَّب بى أبونا باخوم وهو يُقبل نحوى مبتسماً، ليأخذ منى ما أحمله. بينما أشاح الكاهن شُنُوتَه عنى إلى ناحية المذبح، وأدار وجهه الغاضب. سأله أبونا باخوم وهو يضع الطعام بقربه، أن يأكل معه، فانتفض واقفاً وغمغم وهو يخرج من الكنيسة منفعلاً، كعادته، بما معناه: الأنسبُ لك بيتُك، بيتُك دَيْرُك.. لم أكن أعرف أيامَها، ما هو الديرُ.

تأخَّر القسُّ والقُدَّاسُ، فاضطرب المنتظرون من أهل الكَفْر، وفشا القلقُ بين الرجال. أنا وأمى والنسوةُ، لم نهتم للتأخير، فقد شغلنا ثوبى الجديد، وحكاياتُ الآحاد الصباحية المعتادة، وكَتْمُ الضحكات.

الكاهنُ شُنُوتَه ظَلَّ يدور حولنا، قلقاً، حتى ظهر القسُّ والشمامسةُ وبطرسُ الجابى. لم يأتوا من ناحية الساحة. دخلوا إلى الدرب من الباب الخلفى للقصر، وأقبلوا علينا يتقدَّمهم القسُّ وبطرس الجابى، وقد انهمكا فى همهماتٍ وهموم. دخل الرجالُ إلى الكنيسة خلف الكاهن شُنُوتَه، الغاضب، وبَقِيَتِ النسوةُ بقرب الباب كعادتهنَّ فى القُدَّاسات.

النسوةُ يشاركن فى الصلوات والأدعية واستماع العِظات، من بعيد، ولا يتقدَّمن إلى مذبح الكنيسة، ولو حتى لتنظيفه. كنيسةُ الكَفْر حجرةٌ واحدة، مساحتها مثل حَوْش بيتنا. وهى مسقوفةٌ بجريد النخل، مثل كل بيوت الكَفْر لا قبَّةَ لها، ولا بُرْجَ يعلوه ناقوس. ليس فى نصفها الأول، غير مصاطب من طينٍ معجون بالقش، تمتد من عند الباب على الجانبين، حتى تصل إلى ناحية المذبح.

حيث الفاصل الخشبى الذى يقف وراءه الكاهنُ، ومن خلفه بلاطة كبيرة أخذوها قديماً من البرابى، يسمونها المذبح. لم أشاهد شيئاً يُذبح عليها. على الحوائط صورٌ باهتة للستِّ السيدة مرتا مريم، العذراء، ولربنا يسوع المسيح ورجالٍ آخرين لا أعرفهم. السِّتُّ العذراءُ هى المرأةُ الوحيدة المرسومة فى الكنيسة، والباقون رجال. على يمين الباب وعلى يساره، رسموا على الحائط مرتين، شيخاً أشيبَ يكتب فى أوراقٍ، وبجواره يجلس أسدٌ. الأسدُ قِطٌّ ضخمٌ يعيش فى نواحٍ بعيدة، وهو مفترسٌ.

كادتِ التصاويرُ تختفى وتزول، فما عاد أحدٌ يعيد رسمها، مثلما كان أبونا باخوم يفعل كلَّ عام. يأتى بالألوان فى كيزان نحاسية، وبفُرشاتين صغيرةٍ وكبيرةٍ يمرُّ على كل لونٍ بلونه، حتى تنصع الصور من جديد. كنا نمرح حوله، وكنتُ أقول له إننى أتمنى حين أكبر، أن أرسم الجدران مثلَه. فيبتسم ولا يقول شيئاً.

بعد تلاوة الصلوات وإلقاء العِظات، وقف الكاهنُ شُنُوتَه والقسُّ عند حاجز المذبح، حسبَ المعتاد أيام الآحاد، والتفَّ حولهما الشمامسة. كان بينهم شماسٌ جديد يافعٌ، سِنُّه فى مثل سِنِّى، لم يحوِّل عينيه عنى. وضعوا على الطاولة العالية، نحيلة القوائم، هذين الرغيفين اللذين نسمِّيهما القُربان، وكوبَ الماء الممزوج بالنبيذ.

انتظمنا فى طابور المناولة، تباعاً. أمام الكاهن نفتح أفواهنا، فيضع فيها بأصابعه ذات الأظافر الكبار، زرقاءِ الأطراف، لقمةَ عيشٍ. ثم يمدُّ إلى أفواهنا ملعقةً، فيها مصَّةٌ من ذاك النبيذ المخفَّف.. أعاف التناول من يده لقبح أظافره، لكن أبونا باخوم قال لى قديما، إن لهذه المناولة سِراً خطيراً لا تصحُّ بدونه الديانة. وكان يقول إن هذا الخبزَ لحمُ المسيح، وذاك النبيذ دمه. كنتُ أصدِّق ما يقوله أبونا باخوم، ولكنى لم أفهم يوماً هذا الكلام. أمى تقول إنها تفهمه.
الكاهنُ شُنُوتَه كان فيما سبق، يسمع اعترافات الرجال والنساء. يجلسون أمامه ويحكون خطاياهم، وهو يستمع إليهم بإنصاتٍ. ثم يتلو صلوات ويستغفر لهم، فيغفرُ الرَّبُّ خطيَّتهم. لما جاء الوباءُ قبل خمس سنين، وخطف امرأته وابنتيه، توحَّد. صار يحبس نفسه بالبيت معظمَ النهار، ويجلس طوال الليل وحدَه عند أطراف البرابى. ومع كرِّ الأيام، صار غريب الأحوال والنظرات، فصار الرجالُ وحدهم يعترفون أمامه وينظِّفون له الكنيسة، فالنسوة صرنَ يتحاشينَ الانفراد معه، ويتهرَّبْنَ من عينيه الجاحظتين المحدِّقتين دوماً إلى جهة النهود. نونا كانت تقول، وهى تغمز، إنه مسكينٌ لأن مصيبته فى أهل بيته، عصفتْ بعقله.

لم أعترف للكاهن قطُّ، كنت فى طفولتى أعترفُ لأمى كلَّ مساءٍ، وبعدما حبستنى بالبيت لم يعد عندى ما أعترف به. قبل قرابة عامين، أوشكتُ فى ليلةٍ هادئة أن أحكى لأمى، ما جرى مع الرجل الغريب. وكنتُ سأعترفُ لها بأننى أراه فى أحلامى، وأحسُّ بأنفاسه حين يتولاَّنى الأرقُ.. لكننى فى آخر لحظةٍ أحجمتُ، وحسناً فعلتُ.

جلستُ بين النسوة عند بوابة الكنيسة، نسمع العظة المعتادة. نظرةُ القسِّ قلقةٌ، وكلامه قليل. من دون أن يفيض، ذَكَرَ ما يقوله لنا عادةً أيامَ الآحاد، عن المصير المهول الذى ينتظر الخُطاة يوم الدينونة، وعذابهم الطويل فى الآخرة. والنعيم الذى ينتظرنا نحن المؤمنين، ساكنى السماء بجوار الربِّ، وحدَنا، ما دمنا الطائعين لأوامر الربِّ وأحكام رجال الدين. أما الكُفَّار أتباع الملك، يقصد سكان البلدة البيضاء، فالجحيمُ ينتظرهم فى الآخرة.

رجالُ الكنيسة يكرهون أهل البلدة البيضاء، ويؤكِّدون لنا أننا أصحابُ الدين القويم والسلوك المستقيم، لأننا الفقراء البائسون، خرافُ الربِّ. أما الأغنياء ذوو الوجوه الناعمة كوجوه الخطاة، فهم أصحاب الدنيا الفانية، وأتباع خلقيدونية.. لا أعرف معنى هذه الكلمة، لكنه بالتأكيد شنيعٌ.


-----------------


وده آخر الفصول اللي هتنشرها جريدة الشروق
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : النبطي .. يوسف زيدان  Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

النبطي .. يوسف زيدان  Empty رد: النبطي .. يوسف زيدان

مُساهمة من طرف Admin الأربعاء ديسمبر 08, 2010 12:03 pm

الثلاثاء 14 ديسمبر في تمام الساعة السابعة والنصف مساء، ندوة وحفل توقيع رواية "النبطي" بمكتبة " أ "
132 شارع المرغني، مصر الجديدة
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : النبطي .. يوسف زيدان  Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى