شمسولوجي - منتدي طلبة طب عين شمس
السلام عليكم

نورتنا يا ....

لو هتتصفح المنتدي كزائر .. توجة للقسم اللي انت عايزة من المنتدي ...

للتسجيل .. اتفضل افعص علي زرار التسجيل ..

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

شمسولوجي - منتدي طلبة طب عين شمس
السلام عليكم

نورتنا يا ....

لو هتتصفح المنتدي كزائر .. توجة للقسم اللي انت عايزة من المنتدي ...

للتسجيل .. اتفضل افعص علي زرار التسجيل ..
شمسولوجي - منتدي طلبة طب عين شمس
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

قصة المدينة

صفحة 1 من اصل 4 1, 2, 3, 4  الصفحة التالية

اذهب الى الأسفل

قصة المدينة Empty قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:39 am

تعامل رسول الله مع أسرى بدر

أسرى بدر

غزوة بدر الكبرىأسر المسلمون في غزوة بدر سبعين أسيرًا، فماذا سيفعل المسلمون في هؤلاء الأسرى؟ فإلى هذه اللحظة لم يكن هناك تشريعٌ يوضح أمر التعامل مع هؤلاء الأسرى، فكان لا بد أن يتصرف رسول الله بإحدى طرق التشاور التي اعتاد أن يتعامل بها مع الصحابة ؛ فقام بعمل مجلس استشاريّ بأنْ جمع صحابته ، وبدأ يسألهم ويستشيرهم في أمر الأسرى.


موقف أبي بكر الصديق

فقال المستشار الأول لرسول الله (أبو بكر الصديق) : "يا رسول الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدًا".



لقد كان يغلب على رأي أبي بكر جانب الرحمة، فهو يرى أنهم بنو العم والعشيرة، والدولة في حاجة إلى ما سيؤخذ من أموالهم، وربما يؤمنون بعد ذلك، وهذا خير من أن يموتوا على الكفر. وقد كانت اختياراته قريبة من اختيارات رسول الله ؛ نظرًا لتقارب طبيعتي الرسول وأبي بكر ، فكان يغلِّب جانب الرحمة على جانب القوة، كما كان يصفُ الصِّدِّيق ويقول: "أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ"[1].


موقف عمر بن الخطاب

لما أنهى أبو بكر كلامه قال للمستشار الثاني: مَا تَرَى يَابْنَ الْخَطَّابِ؟



فقال عمر بن الخطاب : والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكِّنني من فلان -وذكر قريبًا له- فأضرب عنقه، وتمكن عليًّا من عقيل بن أبي طالب -أخيه- فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم.



فكان رأيه شديد الحسم؛ ففي رأيه أن يُقتل السبعون، وعلى أن يقتل كلٌّ قريبه؛ حتى يُظهِر كل مسلم حُبَّه لله، وأنه ليس في قلبه ولاء لأيِّ مشرك مهما كان، حتى وإن كان أقرب الناس إليه. فكان هذا هو رأي عمر بن الخطاب ، يقول النبي في الحديث: "وَأَشَدُّهَا -أي الأمة- فِي أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ"[2].



فهذان رأيان، وكلاهما مبنيٌّ على الحب الكامل لله تعالى ولأمر الدعوة والدولة الإسلامية، لكن كلاًّ منهما له طريقته، وكلاهما مختلف تمام الاختلاف عن الآخر.



أحدهما يقول: نأخذ الفدية، والآخر يقول: نقتل الأسرى.



يقول عمر بن الخطاب : "فهوى رسول الله ما قال أبو بكر، ولم يهوَ ما قلتُ، وأخذ منهم الفداء". فلما كان من الغد، يقول عمر: "فغدوتُ إلى رسول الله وأبي بكر وهما يبكيان، فقلت: يا رسول الله، أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك، فإن وجدتُ بكاءً بكيت، وإن لم أجد بكاءً تباكيت لبكائكما".



إنها أحاسيس راقية جدًّا في قلب سيدنا عمر بن الخطاب .



فقال : "لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهُمُ الْفِدَاءَ، فَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ"[3]. وأشار إلى شجرة قريبة، وأنزل الله قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67]، أي: يكثر القتل.



{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} [الأنفال: 67]، أي: أخذ الفدية.



{وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 67].



ثم قال: {لَوْلاَ كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68]. والعذاب العظيم هو ما تحدَّث عنه النبي لعمر بن الخطاب، أنه كان أدنى من الشجرة. والكتاب الذي سبق هو الآيات التي نزلت قبل ذلك في سورة محمد ، قال الله في شأن الأسرى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 4].



فأمر الفداء أمر مشروع، لكن الأولى هنا كان أن يثخن في الأرض. وكان سعد بن معاذ يرى مثل رأي عمر بن الخطاب ، وقد قال ذلك مبكرًا عندما بدأ المسلمون يأسرون المشركين، وقبل الاستشارة، وقد نظر النبي لسعد بن معاذ عندما بدأ المسلمون في أسر المشركين، فوجده حزينًا، فقال له: "وَاللَّهِ لَكَأَنَّكَ يَا سَعْدُ تَكْرَهُ مَا يَفْعَلُ الْقَوْمُ"، أي من أسر المسلمين للمشركين. فقال سعد: "أجَلْ، والله يا رسول الله، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل أحبَّ إليَّ من استبقاء الرجال"[4].



واستقر رأي المسلمين على استبقاء الأسرى وأخذ الفدية منهم، وعندما أوحى الله بالآيات لم ينكر عليهم هذا الأمر، ومع أن الله ذكر أن الأولى كان الإثخان في الأرض، إلا أنه أقرَّ أخذ الفداء، وبدأ المسلمون في أخذ الفداء؛ فمن كان معه مال كان يدفع منه، وكان ما يُدفع هو ما بين ألف إلى أربعة آلاف درهم للرجل، وكلٌّ بحسب حالته المادية.


رسول الله يفدي عمه العباس

من أروع الأمثلة التي تُذكر في أمر الفداء، ما دار بين رسول الله والعباس بن عبد المطلب عم رسول الله ، وقد كان أسيرًا في يوم بدر، وكان قد خرج مُستكرَهًا إلى بدر، وقاتل مع المشركين، وأُسِر مع من أُسر، وكان رجلاً غنيًّا، وسوف يدفع فدية ليفتدي نفسه، ودار بينه وبين رسول الله هذا الحوار الرائع، الذي ينقل درجةً من أرقى الدرجات في قيادة الدول، فلا يوجد أيُّ نوع من الوساطة أو المحاباة لأحد من الأقارب أو الأهل أو العشيرة.



قال العباس: "يا رسول الله، قد كنت مسلمًا". أي أنه كان يُخفِي إسلامه، ومن ثَمَّ فلا يدفع الفداء.



فقال رسول الله : "اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِسْلاَمِكَ، فَإِنْ يَكُنْ كَمَا تَقُولُ فَإِنَّ اللَّهَ يَجْزِيكَ، وَأَمَّا ظَاهِرُكَ فَقَدْ كَانَ عَلَيْنَا؛ فَافْتَدِ نَفْسَكَ، وَابْنَيْ أَخَوَيْكَ نَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَحَلِيفَكَ عُتْبَةَ بْنَ عَمْرٍو".



فقال العباس: ما ذاك عندي يا رسول الله.



فقال : "فَأَيْنَ الْمَالَ الَّذِي دَفَنْتَهُ أَنْتَ وَأُمُّ الْفَضْلِ، فَقُلْتَ لَهَا: إِنْ أُصِبْتُ فِي سَفَرِي هَذَا، فَهَذَا الْمَالُ الَّذِي دَفَنْتُهُ لِبَنَيَّ: الْفَضْلِ وَعَبْدِ اللَّهِ وَقُثَمٍ".



فقال العباس: "والله يا رسول الله، إني لأعلم أنك رسول الله؛ إن هذا لشيء ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل، فاحسب لي ما أصبتم مني: عشرين أوقية من مال كان معي".



فقال رسول الله : "ذَاكَ شَيْءٌ أَعْطَانَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْكَ". وأنزل الله : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال: 70].



وهذه الآية نزلت في العباس ، وقد قال بعد ذلك: "فأعطانا الله مكان العشرين أوقية في الإسلام عشرين عبدًا، كلهم في يده مال يضرب به، مع ما أرجو من مغفرة الله "[5].



هذا الأمر يوضِّح لنا كيف كان رسول الله يطبِّق القانون على الجميع، حتى على العباس بن عبد المطلب، وكان الصحابة أنفسهم يستعجبون لهذا الأمر، وقد كان في قلوب الأنصار رِقَّة عجيبة، فلما رأوا هذا الأمر أشفقوا على رسول الله من أن يأخذ الفداء من عمه، وعمه الذي يحبه، فقد كان العباس واقفًا مع رسول الله في بيعة العقبة الثانية، ومعنى ذلك أنه كان قريبًا جدًّا من قلب النبي ، وليس كأبي لهب مثلاً؛ فجاء الأنصار إلى الرسول وحاولوا أن يُعفوا العباس من الفدية لكن بطريقة في غاية اللطف والأدب، فقد كانوا قمة في الأخلاق وفي الإيمان، فقالوا له: "يا رسول الله، ائذن لنا فلنترك لابن أختنا العباس فداءه"[6].



وجَدَّة العباس من بني النجار من الخزرج، الذين هم من الأنصار، فهم يطلبون من الرسول أن يُعفِي عمَّه، لا لأنه عمه، لكن لأنه قريب لهم من هذه الناحية. ولكن الرسول رفض ذلك تمامًا، وأصرَّ على أخذ الفداء، بل أخذ من العباس نفسه أعلى قيمة للفداء، وهي أربعة آلاف درهم للرجل.


موقف آخر مع سهيل بن عمرو

كان سهيل بن عمرو من قادة قريش، وكان أسيرًا في بدر، وهو ممن عرفوا بحسن البيان والخطابة، وكان يحمِّس المشركين على قتال الرسول ، وعندما أخذه المسلمون أسيرًا كان من رأي عمر بن الخطاب أن تُنزع ثَنِيَّة -وهي الأسنان الأمامية- سهيل بن عمرو؛ لئلاّ يقف خطيبًا ضد المسلمين بعد ذلك؛ فقال: "يا رسول الله، دعني أنزع ثَنِيَّتَيْ سهيل بن عمرو، فلا يقوم عليك خطيبًا في موطن أبدًا". ورفض رسول الله هذا الأمر، وتظهر نبوءة جديدة لرسول الله في هذا الموقف، حين قال: "عَسَى أَنْ يَقُومَ مَقَامًا لاَ تَذُمُّهُ"[7].



وقد حدث هذا عندما ارتدت العرب، فقد وقف سهيل وخطب في الناس وثبَّتهم على الإسلام في مكة المكرمة، وكان مما قال: "إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوةً، فمن رابنا ضَرَبْنا عُنُقَه"[8]؛ فثبت الناس في مكة على الإسلام.


صور أخرى من الفداء

كانت هذه إحدى صور الفداء وهي الفداء بالمال، وكان بعض الأسرى من الفقراء، فرأى النبي أن بعض الأسرى يعرفون القراءة والكتابة، والأمة الإسلامية في ذلك الوقت لم تكن قد تعلمت بعدُ، ومن يقرأ ويكتب إنما هم قليل، فكان يفتدي هؤلاء المشركين بأن يُعلِّم كلٌّ منهم عشرة من غلمان المدينة المنورة. ويوضح هذا الأمر دقة النبي وبُعد نظره وعمق فهمه، فهو يريد أن يعلِّم الأمة القراءة والكتابة من أول أمرها، فقد استثمر هذا الحدث العظيم؛ وهو وجود سبعين أسيرًا من المشركين، بعضهم يعرفون القراءة والكتابة في أن يعلِّم الأمة.



وقد منَّ النبي على بعض الأسرى بغير فداء، وأطلقهم هكذا دون أن يأخذ منهم شيئًا، ومنهم أبو عزة الجمحي وكان رجلاً فقيرًا، وقال للرسول : "لقد عرفت ما لي من مال، وإني لذو حاجة وذو عيال، فامنن عليَّ". فمنَّ عليه ، لكن أخذ عليه عهدًا ألاَّ يظاهر عليه أحدًا، ولكنه لم يفِ بعهده، ونال جزاءه بعد ذلك.



وقَتَلَ النبي أسيرين هما: عقبة بن أبي مُعَيْط، والنضر بن الحارث؛ لأنهما كانا من أكابر مجرمي قريش، أو ما نسمِّيهم اليوم مجرمي الحرب.


حكم الأسرى في الإسلام

وقد نزل بعد ذلك التشريع الإسلامي في شأن الأسرى، وهو أن الإمام له الخيار في شأن الأسرى بين أربعة أمور:



1- المنّ بغير فداء.



2- الفداء: وقد يكون بمال، أو بتعليم الغير، أو بأسير مثله (تبادل أسرى).



3- القتل لمجرمي الحرب، أو المعاملة بالمثل إذا كان أعداء الأمة يقتلون الأسارى من المسلمين.



4- الاسترقاق وهو الاحتفاظ بالأسير رقيقًا إلى أجلٍ يحدده الإمام، حسب ما يرى من احتياج المسلمين.



فللإمام أن يختار بين هذه الأمور الأربعة، وللحاكم أن يتعاهد مع دولة ما أو مجموعة من الدول في طريقة التعامل مع الأسرى، كأن يتم الاتفاق مع مجموعة من الدول على أنه لا استرقاق خلال العشر سنوات القادمة، أو لا قتل للأسرى خلال فترة محددة، وهكذا ما دام الشرع يسمح بأكثر من طريقة للتعامل مع الأسرى.


منهج الإسلام في التعامل مع الأسرى

لكن هناك شيء في غاية الأهمية؛ وهو أنه إذا تمَّ الاختفاظ بالأسير، فلا بد من إكرامه ولا بد من رعايته رعايةً أخلاقية سامية تليق بدين الإسلام، قال الله : {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8].



أي أنه مع حالة الفقر والحاجة الشديدة التي تمرُّ بالمسلمين إلا أنهم مع ذلك (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا).



وقد غرس النبي هذا الأمر في صحابته منذ اليوم الأول لوجود أسرى معهم، وقال لهم : "اسْتَوْصُوا بِالأُسَارَى خَيْرًا".



وقد بذل الصحابة كل خير للأُسارى، مع أنهم كانوا منذ أيام قليلة يحاولون قتل المسلمين، مع هذا نَسِي المسلمون ذلك تمامًا، وتذكروا قول الرسول : "اسْتَوْصُوا بِالأُسَارَى خَيْرًا".



يقول أبو عزيز بن عمير -وهو ممن أسر في بدر، وهو أخو مصعب بن عمير- يقول: "كنت في نفر من الأنصار، فكانوا إذا قدَّموا غداءهم وعشاءهم، أكلوا التمر وأطعموني البُرَّ لوصية رسول الله إياهم بنا"[9]. وكان لهذا الأمر الأثر الكبير في نفسية أبي عزيز الذي ما إن أُطلق حتى أعلن إسلامه .



وكان أبو العاص بن الربيع أيضًا في أسارى بدر، يقول: "كنت في رهط من الأنصار، جزاهم الله خيرًا". وأسلم بعد ذلك ، وكان زوجًا لبنت رسول الله السيدة زينب رضي الله عنها، ومع هذا كان أحد الأسرى.



يقول : "كنت في رهط من الأنصار، جزاهم الله خيرًا، كنا إذا تعشَّينا أو تغدَّينا آثروني بالخبز وأكلوا التمر، والخبز معهم قليل والتمر زادهم، حتى إن الرجل لتقع في يده كسرة فيدفعها إليَّ"[10].



وكان الوليد بن الوليد بن المغيرة -وهو أخو خالد بن الوليد - من أسارى بدر، كان يقول مثل ذلك وأكثر، يقول: "وكانوا يحملوننا ويمشون"[11]. أي إذا رأوا منهم جريحًا أو مريضًا أو متعبًا، حملوه رفقًا به.



وهذا هو منهج الإسلام الذي جعلهم يدخلون في الإسلام؛ فقد أسلم أبو العاص بن الربيع، وأبو عزيز بن عمير، والسائب بن عبيد، والوليد بن الوليد.



د. راغب السرجاني

[1] رواه الترمذي (3790، 3791) ترقيم شاكر، وابن ماجه (154) ترقيم عبد الباقي، وأحمد (12927) طبعة مؤسسة قرطبة. قال الشيخ الألباني: صحيح. انظر حديث رقم (895) في صحيح الجامع.

[2] رواه أحمد (12927)، وصححه شعيب الأرناءوط.

[3] رواه أحمد (208)، وصححه شعيب الأرناءوط. وانظر: المباركفوري: الرحيق المختوم ص210.

[4] ابن هشام: السيرة النبوية، القسم الأول (الجزء الأول والثاني) ص 628.

[5] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، تحقيق: سامي محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1420هـ- 1999م، 4/92.

[6] البخاري: كتاب العتق، باب إذا أسر أخو الرجل أو عمه هل يفادى إذا كان مشركًا (2400)، ترقيم البغا.

[7] ابن هشام: السيرة النبوية، القسم الأول (الجزء الأول والثاني) ص649.

[8] السابق نفسه، القسم الثاني (الجزء الثالث والرابع) ص666.

[9] ابن هشام: السيرة النبوية، القسم الأول (الجزء الأول والثاني) ص645.

[10] الواقدي: المغازي 1/119.

[11] السابق نفسه، الصفحة نفسها.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة Empty بين العهد المكي والعهد المدني

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:40 am

العهد المدني

إذا كنا قبل ذلك قد تحدثنا عن العهد المكّيّ؛ فإن الكثير من الأحداث المهمة جدًّا في العهد المكيّ أُغفلت؛ لكثرتها وصعوبة الإلمام بكل ما تمَّ في حياة رسول الله من دروس وعبر وعظات وأحداث وأحكام وتشريعات.



العهد المكي والعهد المدنيإذا كنا نقول ذلك في العهد المكّيّ، فإن الحديث عن العهد المدني يبدو صعبًا بشكل لافت للنظر؛ وذلك لأن المدينة المنوَّرة كان بها من الأحداث الكثير والكثير، وهي أحداث متشعبة من غزوات وسرايا ومعاهدات ولقاءات ومعاملات وحياة زوجية لرسول الله ، وتعاملاته مع الصحابة، ومع المنافقين، ومع أعداء الأمة من اليهود ومن المشركين وغيرهم.


الإعجاز في السيرة النبوية

في الحقيقة هناك تنوعات هائلة في السيرة النبويّة، إننا قد نتحدث في السيرة سنوات وسنوات ودائمًا سوف نجد الجديد؛ لأن السيرة النبويّة كنز لا تنتهي عجائبه، وكما نقرأ القرآن الكريم، ونأتي بالجديد في فقه الآيات، وفي فهم المعاني، ويبدع المفسرون في تفسير بعض الآيات، مع أن القرآن نزل منذ 1400 سنة، فكذلك السيرة النبويّة، كلما قرأنا حدثًا خرجنا منه بالجديد، وكتب السيرة التي تُؤلَّف اليوم بعد 1400 سنة من التدقيق والتحليل والدراسة للسيرة النبويّة، ما زالت تأتي بالجديد.



إن السيرة النبويّة إعجاز وترتيب دقيق من رب العالمين I، وقد وضع الله فيه كل المتغيرات وكل الأحداث التي من الممكن أن تحدث في الأرض وإلى يوم القيامة؛ لكي يقيم الله حجته على البشر في قوله I: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].



ففي كل مواقف الحياة تستطيع أن تجد أسوة حسنة في رسول الله ؛ لأجل ذلك، وفي تناولنا للعهد المدني لن نستطيع بأي حال من الأحوال أن نتناول كل الأمور بالترتيب، سنغفل بعضها، ونحيل هذه الأمور إلى أبحاث أخرى إن شاء الله.


السمات العامة للعهدين المكي والمدني

على سبيل الإجمال، فإن فترة المدينة المنوّرة بصفة عامة لها سمات عامة تميزها عن فترة مكّة المكرّمة، وتستطيع أن تقول: إن فترة مكّة فترةُ بناءٍ للفرد المسلم الصالح المؤمن بربه وبرسوله الكريم المعتقد في البعث والحساب ويوم القيامة، وفي دخول الجنة أو النار، كانت فترة بناء للأواصر القوية بين الجماعة المسلمة الصغيرة جدًّا، كانت فترة تجنب للاستئصال قدر المستطاع، تارةً عن طريق التخفِّي، وتارةً عن طريق تجنب الصراع بكل وسيلة ممكنة، وتارةً أخرى عن طريق الهجرة إلى الحبشة، فقد هاجر المسلمون مرتين إلى الحبشة، والثالثة كانت إلى المدينة المنوّرة.



أما فترة المدينة المنوّرة فكانت فترة بناء للأمة الإسلاميّة بكل ما تعنيه الكلمة، فإذا كنا في فترة مكّة نبني أفرادًا، فإننا قي فترة المدينة نبني دولة كاملة قوية بكل ما تحتاجه الدولة من مؤسسات، ولا شك أن هذه قضية شاقّة وعسيرة، لكن بدأها الرسول بصبرٍ وبدأ معه المؤمنون في هذا البناء الكبير، بناء أمة بكل الأصول والتفريعات.



إننا إذا أردنا أن نقيم (شركة كبرى) من لا شيء سيكون هذا أمرًا غاية في الصعوبة، فما بالنا إذا أردنا بناء أمة، فقصة البناء هذه من معجزات الإسلام؛ لأنه لم تقم أمة في هذا التوقيت بهذا المعدل السريع والبناء القوي والعمق الحضاري الرائع إلا في أمة الإسلام. بعض الدول قامت في وقت قصير، ولكنها أيضًا وقعت في وقت قصير، ولم تترك خلفها أي تراث حضاريّ يُذكر، فلو قارنا بين قيام أمة الإسلام وبين قيام أمة التتار، تجد أن أمة التتار أيضًا قامت سريعًا، وانتشرت انتشارًا هائلاً في الأرض، ولكن أين تراث التتار الآن؟! أين الميراث الحضاري لهذه الدولة؟ انتهى بالكامل، بل على العكس دخلت دولة التتار التي كانت تحتل مساحات شاسعة من العالم الإسلامي دخلت في الإسلام؛ لأن دين الله يختلف كُلِّيَّة عن كل قوانين البشر الوضعيّة، فهو دين غالب قاهر {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصِّلت: 42].



لا شك أن بناء هذه الأمة واجه تحديات هائلة داخليّة وخارجيّة، داخل المدينة المنوّرة وخارجها، داخل الجزيرة العربيّة وخارجها، تحديات في كل جوانب الحياة، سلاسل متتالية من الصراع من أزمة إلى أخرى، ومن مشكلة إلى مشكلة أكبر، ومع ذلك تم بناء الأمة الإسلاميّة.



وهذا الأمر لم يكن حكمة بشريّة فقط من رسول الله مع أنه أحكم البشر، وأعلم الخلق ، لكنَّ هذا وحيٌ من رب العالمين، هذا منهج إلهي صادق، كيف تُبنى أمة بهذا الإعجاز الواضح، وبهذا التوقيت المعجز؟! ففي غضون عشر سنوات فقط أصبحت دولة المدينة المنوّرة دولة معترف بها في العالم كله، لها قوتها ومكانتها ولها سفراؤها ولها مراسلاتها إلى كل بقاع العالم، ولها لقاءات حربية صارمة مع قوى كبيرة جدًّا في موازين العالم في ذلك الوقت.



فهي تجربة رائعة حقًّا وتستحق الدراسة، بل يجب دراستها جيدًا.


حقيقة الإسلام

الحقيقة أن الدين الإسلامي ليس مجرد صلاة وصوم وقيام ليل وذكر، بل هو منظومة متكاملة تحكم حياة الأفراد، وحياة المجتمعات، بل وحياة الأرض بصفة عامة، يقول ربنا I في القرآن الكريم: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الأنعام: 162].



تعلمنا في فترة المدينة كيف يكون المحيا لله رب العالمين في كل جزئيّة من حياتنا.



في فترة مكّة كان هذا يطبق على المسلمين، لكن لم يكن عندهم تشريعات، ولم تكن لهم دولة أو سياسة أو اقتصاد، فهذه الأمور لم تكن واضحة؛ لأن المسلمين كانوا جماعة صغيرة جدًّا مضطهدة ومعذبة ومشردة، لكن الدستور الإسلامي وضَحَ تمام الوضوح في فترة المدينة المنوّرة.



ومع كون المحلل للأحداث يجد أن فترة بناء الأمة تبدو في ظاهرها أصعب من فترة مكّة التي كانت فترة بناء للأفراد، إلا أنني أقول: إن الفترتين كانتا على مستوى واحد من الأهمية، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون هناك أمة إسلامية قويّة بدون تربية مكّة، لن تُفهم فترة المدينة مطلقًا دون الرجوع إلى فترة مكّة.



تربيةُ مكّة كانت هي الأساس للصرح الضخم الذي بُني بعد ذلك في المدينة المنوّرة، إن الأساس قد لا يراه عامّة الناس، الأساس الذي يحمل فوقه عشرات الطوابق، لا أحد يراه، لكن العالمين ببواطن الأمور يقدّرونه جيدًا، يعرفون عمقه ومساحته وقوّته ومدى تحمله، وإذا كان الأساس ضعيفًا فما من شك أن البناء سينهار، قد يستمر فترة من الزمن، لكن مع أول زلزال أو هزة ولو بسيطة سينهار تمامًا. وما أكثر ما رأينا من دولٍ -وربما كانت دولاً إسلامية- قد انهارت؛ لأن الأساس كان ضعيفًا والتربية كانت ضعيفة! وما أحداث (طالبان) منا ببعيد. نحن لا نشك في نياتهم أو أخلاقهم أو طباعهم أو عادتهم، لكن البناء كان ضعيفًا والتربية كانت ضعيفة، ولأجل هذا كان الانهيار في فترة قصيرة؛ لأنها لم تدرس سيرة الرسول دراسة متأنية منهم، أو ممن وقع من أمثالهم في حلقات التاريخ المختلفة.



إنني أقول لكل العاملين على الساحة الإسلاميّة: إن دراسة السيرة ليست ترفًا فكريًّا، إنما هي فريضة على كل من أراد أن يعزّ هذه الأمة أو يشارك في بنائها.



د.راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة Empty أسس بناء الأمة الإسلامية

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:40 am

الأسس الثلاثة لبناء الأمة الإسلاميّة

ما الأسس التي وضعها رسول الله لبناء الأمة الإسلاميّة، وحرص على تقويتها في فترة مكّة المكرَّمة؟ وماذا نأخذ من العهد المكّيِّ لكي ندخل العهد المدني؟



نستطيع أن نقول: إن رسول الله من أول يوم دعا فيه إلى الله وضع ثلاثة أسس رئيسية للأمة الإسلاميّة، وهي:


الأساس الأول: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ

لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُهذه الكلمات تمثل الأساس الأول، الإيمان الصادق الكامل برب العالمين، الإيمان به وتعظيمه، واليقين الكامل في قدرته وحكمته وأحقيته بالطاعة والخضوع، فهذه الكلمة (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ)، عاش لها الرسول فترة طويلة من الزمان من أول البعثة وإلى أن مات ، يزرع في الناس هذه الكلمة الموجزة جدًّا التي توضح للناس معنى عبادتهم لرب العالمين (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ).



كان يمشي وسط المشركين في مكّة المكرّمة يقول لهم: "قُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تفلحوا، قولوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَمْلِكُوا بِهَا الْعَرَبَ وَالْعَجَمَ"[1]، وتفلحوا في الدنيا والآخرة؛ فنجاة البشر بصفة عامة في الدنيا بقول لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، ونجاة البشر يوم القيامة بقول لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. ومن الواضح أنه ليس المقصود قولها باللسان فحسب، فكلنا نقول لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، لكن كم منا يطبّق لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ في حياته.



إن العرب لم يكونوا ينكرون أن الله هو خالق السموات والأرض وخالق البشر {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزُّخرف: 9]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزُّخرف: 87]. فهذا الأمر معترف به من الجميع، لكن المشكلة الرئيسية تكمن في أنهم حكّموا غير الله في حياتهم، وعبدوا الله ظاهرًا وطبّقوا شرع غيره في حياتهم، وفي كل جزئية من جزئيات حياتهم خالفوا شرع الله؛ ولذلك كانوا من الكافرين، وخسروا الخسران المبين، والتقوا مع المسلمين في مواقع شتى -بعد ذلك- من أجل عدم تطبيق كلمة لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ في حياتهم. والذين قالوها -وهم الصحابة - ملكوا العرب والعجم، كما قال لهم رسول الله : "قولوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تفلحوا، قولوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تملكوا العرب والعجم".



يقول ربنا I في كتابه الكريم: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]. فالناس جميعًا يعترفون أن لله الخلق، ولم يدَّعِ بشرٌ قبل ذلك وإلى الآن، بل وإلى قيام الساعة أنه يخلق، الجميع يعلم أن لله الخلق، الجميع يعترف أن الخلق هذا قوة خارجة عن قدرة البشر، وأن الله هو الذي يخلق {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف: 54]. فالآية تقتضي أن تطيع الله ، وهذا الكلام ليس سهلاً بل ربما تعارض مع مصلحتك في الظاهر فحسب؛ لأن الشرع كله لا يتعارض مع المصالح، بل هو يحققها، فاتباع شرع الله يحقق لك المصالح في الدنيا والآخرة، لكن عين الإنسان القاصرة أحيانًا لا ترى الخير، ولا ترى الحق، ولا ترى الصواب في أمر من الأمور، تظن أن اختيارها أفضل من اختيار رب العالمين، فهذا ضعف في الإيمان، بل يجب عليك أن تؤمن إيمانًا يقينيًّا بقدرة رب العالمين I على أنه يختار الاختيار الأفضل، سواءٌ في زمان الرسول أو في زماننا أو إلى يوم القيامة، في كل مكان في الأرض فهذه حقائق ثابتة.



والإنسان إذا كان عنده أي تردد في هذا المعنى فهذا ضعف في الإيمان، ومن ثَمَّ ظلّ رسول الله مدة ثلاث عشرة سنة كاملة من مجمل 23 سنة هي مدة الرسالة، ظل 13 سنة منها يزرع هذا المعنى فقط، وعمل الرسول بتركيز كامل على تأكيد معنى لاَ إِلَهَ إلاَّ اللَّهُ.



فهذا هو الأصل الأول الذي لا تُبنى أمة إسلاميّة إلا به: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.


الأساس الثاني: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ

محمد رسول اللههذا هو الأساس الثاني وهو في منتهى الأهمية، الإيمان الكامل والجازم أن محمدًا رسولٌ بعثه الله ربُّ العالمين برسالة منه سبحانه إلى البشر عامَّة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].



يقول : "أَلاَ وَإِنَّ مَا حَرَّمْتُ مِثْلُ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ"[2] تمامًا بتمام؛ لأنه وحيٌ منه I.



القرآن بوحي منه I، والسُّنَّة المطهرة وحي من عند الله I أيضًا، فهما الكتاب والسنة، فلو أن الناس لم تفهم أنه الرسول ، رسول من عند رب العالمين I، وظنت أنه رجل حكيم، أو عبقري أو سياسي قدير أو مثل هذه الأمور، فيمكن حينها أن تأخذ من كلامه وتردّ حسب ما أرادت، لكن الذي أراد أن يغرسه في العهد المكّيِّ هو أن ما يقوله إنما هو وحيٌ أُوحي إليه من الله I، سواء كان كلام ربِّ العالمين القرآن، أو كان وحيًا وعُبِّر عنه بالمعنى (الحديث النبوي، والحديث القدسي).



فهذا أساس مهم جدًّا في بناء الأمة الإسلاميّة.


الأساس الثالث: الإيماَنُ باليَومِ الآخرِ

هذا هو الأساس الثالث، وهو أيضًا في غاية الأهمية، ولن تُبنى الأمة الإسلاميّة إلا بهذا الأساس أيضًا، وهو الإيمان الجازم بأن بعد الموت بعثًا يوم القيامة، وهناك حسابٌ من إله عظيم كبير قدير عليم حكيم يثيب المحسن بالجنة ويعاقب المسيء بالنار، هذا ما قاله النبي منذ أول يوم وقف على جبل الصفا ينادي الناس جميعًا بالإيمان برب العالمين:



1- لا إله إلا الله.



2- محمد رسول الله.



3- قال: "والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن على ما تعملون، وإنها لجنة أبدًا، أو نار أبدًا"[3].



واستمرّ ثلاث عشرة سنة في مكّة يغرس هذه الأصول الثلاثة، لا شك أن النبي كان يربِّي أصحابه على أمور أخرى كثيرة حول هذه الأصول الثلاثة من تقويةٍ للأواصر بين المسلمين وزرع ٍللأخلاق الحميدة، وتنميةٍ لروح الأخوة والتضحية والتسامي والبذل والعطاء ومثل هذه الأمور.



لكن لن تتحقق هذه الأمور كلها إلا إذا آمنتَ أنه لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأن هناك بعثًا يوم القيامة إيمانًا يقينيًّا جازمًا، هنا نستطيع أن نقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ} [الأنعام: 57]. لن أستطيع أن أفهم تطبيق شرع الله في حياتنا إلا عندما أفهم هذا الأصول الثلاثة.



ومن ثَمَّ كان في العهد المدني تشريعاتٍ وقوانين كثيرة، لم يستطع أن يطبق هذه القوانين وهذه التشريعات إلا من تربى تربية إسلامية صحيحة صادقة صالحة في فترة مكّة، أو تربى بعد ذلك في المدينة المنوّرة، لكن على هذه الأصول الثلاثة المهمة.



فإذا كان الإيمان ضعيفًا كان الانسياق للقانون الذي أتى من عند رب العالمين -عن طريق رسول الله - ضعيفًا، ومن ثَمَّ سيكون بناء الأمة الإسلاميّة ضعيفًا.


فلسفة الحكم في الإسلام

مع أن الدستور الإسلامي هو أحكم قانونٍ عرفته الأرض؛ لأنه من عند رب العالمين I الذي يعلم ما يصلح العباد ويعلم ما ينفع البشر -ومن أجل هذا كان اختياره I لنا دائمًا هو الأفضل من اختيارنا لأنفسنا؛ لأن المسألة مسألة يقين ليس أكثر ولا أقل- إلا أن فلسفة الحكم في الإسلام لا تعتمد فقط على دقة القوانين وإحكامها، لا تعتمد فقط على مهارة الحاكم وحسن إدارته، إنما تعتمد أيضًا على الشعور الدائم من المسلم أنه مراقبٌ من قبل الله I ليس فقط رقابة ظاهرية، ولكن رقابة للباطن أيضًا {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ} [آل عمران: 29]. ويصف ربنا نفسه I في قوله: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19]. ونتيجة هذه المراقبة سيكون الحساب يوم القيامة، ثم الجنة أو النار، ومن ثَمَّ فإن الأمة التي تؤمن بالله لا تخالف الدستور أو القانون الإلهي، حتى في غياب عين الحاكم، حتى في غياب المدير أو الشرطي، لماذا؟ لأنها تعلم أن الله يراقبها، هذه هي فلسفة الحكم في الإسلام، فلو أحسن المسلمون فقه هذه الفلسفة، لكانت أمة الإسلام هي أكثر الأمم انضباطًا في تنفيذ قوانينها، فلو أضفت إلى ذلك حقيقةَ أن القانون الإسلامي هو أفضل قانون في الأرض بلا منازع، فإن هذا يفرز أفضل أمة بكل المقاييس.



كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِلأجل هذا يقول الله U: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]. خير أمة لأن قانونكم هو خير القوانين، واتباعكم للقوانين هو خير الاتّباع، هذا إذا فهم الناس الحقيقة جيدًا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وأن هناك بعثًا وحسابًا يوم القيامة، فإذا رأيت أمة الإسلام في أي فترة من فترات الزمن أو في أي مكان ليست هي خير الأمم، فاعلم أن هذا قد نتج من مخالفة المسلمين، إما بترك أجزاء من القانون، وإما بسوء التربية الذي يفرّغ القانون من روحه ومعناه، فيتحايل عليه المسلم ناسيًا أن الله يراقبه نظرًا لضعف الإيمان، فلو حدث هذا ستجد فسادًا في أمة الإسلام، وستجد الرشوة والتزوير لإرادة الشعوب، والتدليس على الناس والكذب والبهتان والفواحش والمنكرات. بلا شك انهيار كامل لكل فضيلة وخلق ومعروف، لماذا؟



لأن القانون قد فُرِّغ من روحه، ولم يَعُدِ الناس يستشعرون أن هذا وحي من الله رب العالمين، وأن الله يراقب الجميع في كل صغيرة وكبيرة. وإجمالاً لما سبق، لن تكون للمسلمين أمة ودولة بغير تربية مكّة، تربية الإيمان بالله ، وبرسوله الكريم ، والإيمان باليوم الآخر، تربية الصبر والثبات والتضحية والتجرُّد والإخلاص الكامل لله رب العالمين.



د. راغب السرجاني

[1] ابن القيم: زاد المعاد 3/ 38. الصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد 2/ 451.

[2] رواه ابن ماجه (12)، وأحمد (17233). قال الشيخ الألباني: صحيح. انظر حديث رقم (8186) في صحيح الجامع.

[3] الصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد 2/ 323. صفي الرحمن المباركفوري: الرحيق المختوم ص83
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة Empty تعامل رسول الله مع طوائف المسلمين داخل وخارج المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:41 am

رسول الله وطوائف المدينة

كيف تعامل رسول الله مع الطوائف المختلفة الموجودة في المدينة المنوّرة بعد قيام دولة الإسلام فيها؟ هذه الطوائف يمكن أن نجمعها في ثلاث مجموعات كبرى؛ مجموعة المسلمين بشتى أنواعهم، ومجموعة المشركين، ومجموعة اليهود.



انظر الخريطة المتحركة - الوضع داخل وخارج المدينة المنورة


تعامل رسول الله مع الأنصار

لا شك أن أهم مجموعة عند رسول الله هي مجموعة المسلمين، إذ إنها عصب الدولة الإسلاميّة، وهم الذين على أكتافهم سيقوم الصرح الضخم الهائل لأمة الإسلام.



أول طائفة من المسلمين كانت طائفة الأنصار، وهم من أسلم من أهل المدينة من قبيلتي الأوس والخزرج، وهؤلاء هم أهل المدينة الأصليين الذين استضافوا رسول الله والمهاجرين في المدينة المنوّرة، وقدموا تضحيات كبيرة جدًّا لإيواء المسلمين مع كل المخاطر التي واجهت الأنصار في تطبيق هذا العمل العظيم.



قبيلتا الأوس والخزرجكان الأنصار في المدينة المنوّرة ينقسمون إلى قبيلتين كبيرتين، هما قبيلتا الأوس والخزرج، وكانت قبيلة الخزرج تفوق الأوس عددًا (ثلاثة أضعاف تقريبًا)، لكن المشكلة الكبرى التي واجهت الرسول هي أن العلاقة بين القبيلتين كانت في منتهى الشراسة قبل الإسلام، كانت في منتهى العنف، آثار الدماء لم تجفّ بعد من سيوف هؤلاء وهؤلاء، والحرب التي قامت بينهم حرب مشهورة جدًّا في التاريخ إنها حرب بُعاث، وكانت قبل بيعة العقبة الأولى بسنتين فقط، وكان على الرسول عليه الصلاة والسلام أن يصهر القبيلتين الأوس والخزرج في كيان واحد ليدافع عن المدينة المنوَّرة، ويحل مشاكل المدينة المنوّرة، ويقف مع رسول الله وقفة رجل واحد، يقف الأوسيّ إلى جوار الخزرجيّ، لا يتذكر أي ثأر كان بينه وبين إخوانه من القبيلة الأخرى، وهذا أمرٌ في غاية الصعوبة في هذه البيئة القبليّة العربيّة القديمة.



كان اعتماد رسول الله على صدق إيمان الأنصار في التأليف بين قلوبهم، جمع الأوس والخزرج وذكّرهم بالله ، ووضح لهم أن الرابط الأساسي في هذا الدين الجديد الذي بُعث به هو العقيدة، وكل ما سوى هذا الرابط لا ينظر إليه مطلقًا.



ضرب رسول الله على هذا الوتر الحساس، ولصدق إيمان الأنصار (الأوس والخزرج) فقد تقاربت القلوب، فالإسلام يغيِّر تمامًا من تكوين الإنسان، يغير تمامًا من كل الدوافع التي كانت تحركه قبل ذلك، يرتفع بها إلى قوانين السماء، ويترك تمامًا قوانين الأرض الوضعية المادية؛ لأنها قوانين دنيا؛ لينتقل بعد ذلك إلى قانون السماء الرفيع.



نسي الأوس والخزرج كل العداوات القديمة، وتوحدوا معًا مع الرسول في خندق واحد، وهذه كانت أول خطوة قام بها رسول الله حتى قبل خطوة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.



والغريب أننا نعرف في التاريخ جيدًا أمر المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ولكن الكثيرين لا يعرفون أن رسول الله وحَّد بدايةً بين طرفي الأنصار (الأوس والخزرج)، ثم جاء بعد ذلك أمر المؤاخاة.



فكانت أول طائفة تعامل معها الرسول هي الأوس والخزرج، فقد وحَّد بينهم على أساس الدين.


تعامل رسول الله مع المهاجرين

كان وضع المهاجرين الاقتصاديّ قد أصبح في منتهى الخطورة، تركوا معظم أموالهم أو أموالهم كلها في مكة، تركوا الديار، تركوا الأهل، تركوا العشيرة، تركوا الذكريات، تركوا كل شيء وانتقلوا إلى بلدٍ جديد تمامًا، بل إن العديد منهم لم يزر المدينة المنوّرة من قبل، ولك أن تتخيل رجل ترك كل حياته وأعماله وتجارته وانتقل إلى حياة جديدة، وليس معه شيء، وانتقل إلى أرض جديدة ليست مألوفة بالنسبة إليه، وانتقل إلى فرع من القبائل لا يمتّ له بأي صلة، بالإضافة إلى أن المدينة المنوّرة كانت تعاني من الفقر، فالأنصار لم يكونوا من الأغنياء، ونحن نعتقد أنهم أغنياء لكثرة عطائهم، وإيثارهم، وبذلهم المال من أجل نصرة الله ورسوله، أما عموم الأنصار فقد كانوا من الفقراء، قلة من الأنصار فقط كانوا أغنياء.



أتى المهاجرون الذين تركوا كل شيء وراء ظهورهم، وحملت المدينة المنوّرة هذا العبء الضخم وهو إيواء مجموعة أخرى من البشر، فهم يعيشون حياتهم على الكفاف، وينفقون على أنفسهم أقل القليل، فكيف ينفقون على غيرهم؟!



كيف حلَّ رسول الله هذه المشكلة الاقتصادية الكبرى الضخمة التي ستواجه المدينة المنوّرة عند نزول المهاجرين إليها؟



كما أن الحالة النفسية أيضًا للمهاجرين لم تكن على ما يرام؛ إذ يحتاجون إلى تطييب خواطرهم لما تركوه في مكة من مال ومتاع.



احتوى رسول الله هذه الأزمة بمنتهى الحكمة، وتمكَّن رسول الله بالمنهج الرباني الحكيم، والوحي الذي أوحاه الله له أن يقرِّب المهاجرين والأنصار، ويجمعهم في بُوتقة واحدة، فقام رسول الله باتخاذ إجراءات سريعة لحل هذه الأزمة، وهي:


أولاً: التقريب بين المهاجرين والأنصار

أنزل الله I قرآنًا يتلى لحل هذه الأمور، لكي يتوحد المسلمون في كيان قوي، ولكي يرفع الله من معنويات المهاجرين، الذين شعروا بشيء من الذلة والضعف، نتيجة لتركهم أهلهم وأموالهم وذويهم، من أجل اعتناقهم هذا الدين الجديد، فيجب أن يعرف أنه مكرَّم ومعظَّم عند الله بسبب اعتناقه للإسلام، ولهذا أنزل الله على رسوله آيات رفعت من قدر المهاجرين، فالمهاجر أصبح يفتخر أنه مهاجر، والأنصاريّ أصبح يفتخر بأنه آوى مهاجرًا، انظر إلى كلام رب العالمين في كتابه الكريم: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران: 195].



ويقول ربنا I: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الحج: 58].



ويقول: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة: 20]، إلى آخر الآيات.



هذه الآيات وغيرها رفعت جدًّا من معنويات المهاجرين، وأصبح أمر الهجرة مدعاة للفخر، ليس هذا فحسب، بل وتهيئة للأنصار أيضًا، بل إن الله قال في سورة الحشر: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8]. هؤلاء هم المهاجرون، ثم يقول: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].



إذن تسابق المهاجرون للهجرة، وتسابق الأنصار للنصرة أجمعين.



هذا الأمر ليس موجودًا إلا في المنهج الإسلامي، فإذا نظرنا لحال اللاجئين في بقاع العالم المختلفة سنعجب كل العجب، فأيّ مجموعة من اللاجئين لأي ظرف من الظروف سواء كانت عسكريّة أو سياسيّة أو اقتصاديّة، عندما ينتقلون إلى بلد آخر يمثلون عبئًا ثقيلًاً على أهل هذه البلد، يشعر اللاجئون بذلة وضعف وهوان؛ لكونهم تركوا ديارهم وأرضهم وعشيرتهم وما يمتلكون، والدولة المضيفة تشعر بعبءٍ اقتصاديّ وعبء سياسيّ كبير جدًّا، والضغوط عليها من هنا وهناك، هذا الأمر لأنهم ليسوا مرتبطين برب العالمين I، والأمر في النهاية يعود إلى الإيمان، الأصل الذي تحدثنا عنه كثيرًا، والذي يُعدّ من أهم أصول بناء الأمة الإسلاميّة، بل هو أهمها على الإطلاق، انظر إلى كلام رب العالمين في سورة الأنفال:



{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} أي المهاجرين، ثم يقول: {وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 74].



ولهذا فإنه يستحيل بناء أي دولة إسلاميّة أو تشريع إسلامي بدون هذه الأصول، والقواعد التي تقوم عليها أمة الإسلام، وهي الإيمان بالله، والإيمان بالرسول، والإيمان بالبعث، وغير ذلك من القواعد التي تحدثنا عنها سابقًا.



وهكذا، كان أول ما قام به رسول الله بوحي من الله تعالى أنه هيَّأ الأنصار والمهاجرين لقبول فكرة ترك الديار في مكة، والانتقال إلى المدينة المنوّرة، وهو أمر صعب، لكن بفضل الله كانت قوة إيمان المهاجرين والأنصار كفيلة أن تطبق هذا المعنى، كما أراد الله رب العالمين I.


ثانيًا: الكفالة السريعة للمهاجرين

يجب أن يُهيِّئ رسول الله لهذه الأعداد الضخمة التي دخلت المدينة مأوًى ميسورًا، وكان حل هذا الأمر بطريقة عجيبة لم تتكرر في التاريخ أبدًا، وكان الرسول أول من بدء هذا الأمر، ولم نسمع عنه إلا في أمة الإسلام وهو: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، كانت تلك الفكرة عجيبة، إذ جمع الرسول المهاجرين والأنصار، وجعل كل واحد من المهاجرين أخًا لواحد من الأنصار، وجعل الأخوة في كل شيء حتى وصل الأمر إلى الميراث، فلو مات أحد المهاجرين ورثه أخوه الأنصاري والعكس، وقد تمَّ بعد ذلك نَسْخ حكم الميراث هذا، لكن في بداية الأمر كان هذا من مظاهر الأخوة.


من قصص المؤاخاة

وقد كان لهذا الأمر تطبيقات عمليّة كثيرة بعد ذلك في حياة الصحابة رضوان الله عليهم:



ومن أشهر القصص التي تذكر في هذا الصدد ما حدث بين سعد بن الربيع أحد الأنصار - وهو من كبار الصحابة، ومن شهداء أُحد - وبين عبد الرحمن بن عوف المهاجريّ. كان عبد الرحمن تاجرًا في مكة، ترك كل شيء وأتى المدينة المنوَّرة بلا شيء؛ فقد روى البخاري أن سعد بن الربيع قال لعبد الرحمن بن عوف: "إِنِّي أَكْثَرُ الأَنْصَارِ مَالاً، فَاقْسِمْ مَالِي نِصْفَيْنِ"[1].



ولك أن تتخيل ذلك، فإن سعد بن ربيع كان واسع الثراء ولديه من الأموال الكثير، فلو أنه أعطى لعبد الرحمن بن عوف 5 % أو 10 % من ماله لكان ذلك كثيرًا، ومع ذلك، فمن تجرده وحبّه الذي زرعه الله في قلبه لأخيه، وشعوره الكامل أن هذه الأخوة في الله هي الأخوة الحقيقيّة؛ لذلك فإنه يريد أن يقتسم ماله مع أخيه، فيقول له: اقسم مالي نصفين.



ولكي تتأكد من صعوبة هذا الأمر، تخيل أحد إخوانك يمرُّ بأزمة، ويحتاج منك مساعدة، تخيل أن لك رصيدًا في البنك، وكنت غنيًّا، ثم قسمت مالك هذا بينك وبين أخيك. هذا الأمر شاقٌّ صعب، ثم إن الأمر الأصعب، قال: "وَلِي امْرَأَتَانِ، فَانْظُرْ أَعْجَبْهُمَا إِلَيْكَ، فَسَمِّهَا لِي أُطَلِّقْهَا، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهُا فَتَزَوَّجْهَا"[2].



إن هذا لأمرٌ عجيب حقًّا!



أوَ يصل الإيثار لهذه الدرجة؟! يخيّره في الزواج من إحدى زوجتيه. لكن عبد الرحمن بن عوف كان نبيل النفس، قال له: "بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي َأَهْلِكَ وَمَالِكَ، َأَيْنَ سُوقُكُمْ؟"[3].



يريد أن يعمل، يريد أن يأكل من عمل يده، ويكسب من ثمرة جهده، وخاصَّة أنه كان تاجرًا كبيرًا في مكة، وبالفعل دلَّه سعد على سوق بني قينقاع، فتاجر، وكثر ماله.



وهكذا كانت تلك المؤاخاة بين المسلمين مؤاخاةً حقيقيّة، لم تكن في المال والاقتصاد، والسكن فقط، بل يطمئن على أخيه في أمور الآخرة، كما يطمئن على أحواله في أمور الدنيا.



كما في قصة سلمان الفارسي ، عندما آخى رسول الله بينه وبين أبي الدرداء، وعلى الرغم من أن سلمان لم يكن عربيًّا، بل كان فارسيًّا، إلا أن المؤاخاة عمقت العلاقة بين الاثنين؛ فمن ذلك أن سلمان الفارسي زار أبا الدرداء في بيته، فرأى أم الدرداء رضي الله عنها رَثَّة الهيئة، أي لا تعتني بنفسها جيدًا، وكان هذا قبل أن يفرض الحجاب، والرواية في صحيح البخاري، فقال لها سلمان: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. وفي رواية قالت: ليس له حاجة في نساء الدنيا. فجاء أبو الدرداء فصنع له طعامًا، فقال له سلمان: كُلْ. فقال أبو الدرداء: إني صائم.



وهكذا وجد سلمان الفارسي أن المشكلة هي أن أبا الدرداء منصرفٌ تمامًا إلى العبادة، في صيام وقيام، وترك أهل بيته، فهو على بوادر مشكلة حقيقيّة في بيته، مشكلة عائلية، فرّغ سلمان الفارسي وأرضاه من وقته لإصلاح مشكلة أخيه، وبدأ يصلح عنده بعض المفاهيم التي كانت ستفسد حياته وحياة أسرته، وجلس معه، وقال له: كُلْ. وأقسم عليه أن يأكل ويفطر. فأكل أبو الدرداء، وأكل معه سلمان، فلما كان الليل أي أول الليل، ذهب أبو الدرداء يقوم، وكان قد اعتاد أن يقوم الليل كله، فقال له: نَمْ. فنام، لأنه ضيفه، ولا يريد أن يخالفه، ثم ذهب ليقوم، فقال له سلمان:نَمْ. فنام، فلما كان آخر الليل، قام سلمان فقال له: قُمْ الآن. فصليا من آخر الليل، فقال له سلمان: "إن لربك عليك حقًّا، وإن لنفسك عليك حقًّا، وإن لأهلك عليك حقًّا"[4]. وفي رواية أخرى قال: "إن لضيفك عليك حقًّا، فأعطِ كل ذي حقٍّ حقَّه"[5].



ولكن أبا الدرداء لم يقتنع كامل الاقتناع بما فعله معه سلمان، فذهب للرسول يشكو سلمان لأنه جعله يفطر، ولم يجعله يقيم الليل في هذه الليلة، كما يريد، فقال بعد أن ذكر له أبو الدرداء القصة، قال له: "صَدَقَ سَلْمَانُ".[6]



إن ما قاله سلمان صحيح، لا بد أن يكون هناك توازن في حياة المسلم، وهذا هو الحق والعدل.



وهكذا كان الفارسي المهاجري أخًا للعربي الأنصاري، يقدم له النصح، ويعينه على أمور دينه ودنياه، كان يدخل بيت أبي الدرداء، ويخاطب زوجته في حدود الإسلام، ويحل المشاكل التي بينها وبين أبي الدرداء وأرضاه، وكذلك كان أبو الدرداء لا يتكلف شيئًا، لكنه جاء بشيءٍ من طعام البيت، وأعدَّه لسلمان، فأكل معه سلمان ونام معه في هذا البيت، ولانَ في يد أخيه سلمان على الرغم من أنه غير مقتنع بما يقوله؛ لأنه ضيفه في بيته، كل هذه الأمور تثبت أن الأخوة التي كانت بين الاثنين كانت أخوة حقيقيّة، لم تكن مجرد كلمات مكتوبة على الورق، بل حقًّا كان كلٌّ منهم أخًا صادقًا، ومرآةً لأخيه.



وما أجدرنا نحن أن نجرب هذه الأمور، ونقتدي بهؤلاء الصحابة الكرام، ونتعلم منهم حياة الأخوة الإسلاميّة الحقة، ونحيا بهذه الأخوة بيننا، تلك الأخوة التي بنيت عليها الأمة الإسلاميّة كلها، وسادت وقادت العالم بعد ذلك، فبغير هذه الأخوة لا تقوم أمة أبدًا.


ثالثًا: الأخوة في الله

أعطى رسول الله كمًّا هائلًاً من الأحاديث التي تحمِّس على الأخوة، وترفع من أجر الأخوة في الله، قال رسول الله : "لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ"[7]. وبذلك ربط الأخوة بالإيمان.



بل إنه قال في رواية مسلم عن أبي هريرة: "لاَ تَدْخُلُون الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ، أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ"[8].



وعلى هذا النسق أحاديث كثيرة تحثُّ على الإخاء في الله.



كان صحابة النبي من المهاجرين والأنصار يرجون بأخوتهم هذه الأجر والثواب من الله، فرفعوا في قيمة الأخوة بينهم، وبالتالي كان لها أثر فعال حقيقيّ واقعيّ في حياتهم.



لكن رسول الله رأى أن ذلك كله ليس كافيًا لتثبيت دعائم الأخوة في الدولة الإسلاميّة، وذلك أن الدولة ستواجه تحديات خطيرة لا يستقيم أبدًا أن يترك الأمر فيها للنفس. فلا بد من وضع قوانين ودساتير مكتوبة.


رابعًا: ميثاق الدولة الإسلاميّة

وضع رسول الله ما يعرف بالميثاق، وهو قانون مشهور وموجود في أكثر من رواية من روايات السيرة الموثقة، وفيه توضيح كامل للعلاقة بين المهاجرين والأنصار، وأصبح مثل أي قانون يطبق في أي دولة من دول العالم مُلزِم لجميع الأطراف، جاء في هذا الميثاق:



أولًاً: أنهم أمة واحدة من دون الناس. وفي هذا الأمر إذابةً كل الفوارق بين عموم المسلمين، وجعل المهاجرين والأنصار أمة واحدة.



ثانيًا: أن المهاجرين من قريش يتعاقلون بينهم. أي يدفعون الدية، بمعنى أنه إذا قتل أحد المهاجرين رجلًا، فعلى المهاجرين أن يجتمعوا لدفع ديّة القتيل، وهم يفدون عانيهم بالمعروف، بمعنى أنه لو تمّ أسر أحد المهاجرين فعلى المهاجرين أن يجتمعوا لدفع فدية هذا الأسير لفك أسره، وكل قبيلة من الأنصار يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منها تفدي عانيها بالمعروف والقسط بينهم. أي أن الرسول قد قسَّم أهل المدينة المنوَّرة (المجتمع المسلم) إلى عدة طوائف على أساس القبيلة، فالمهاجرون جميعًا من قريش يجتمعون معًا ليفدون عانيهم، ويدفعون الدية عن القاتل منهم. وكذلك كل قبيلة، يقسِّم الأوس إلى أكثر من فرع، ويقسم الخزرج إلى أكثر من فرع كما يقال: "القوم على مَعَاقلهم الأولى"، أي مثلما كانوا قبل الإسلام.



كل ذلك لأن المؤاخاة وحدها لا تستطيع دفع الديات وفك العاني، ويجب أن نلاحظ أن الدولة الإسلاميّة الناشئة ما زالت فقيرة، ولا يوجد لديها بيت مال بعدُ، ولا يوجد لديها ثروات تستطيع من خلالها أن تفك كربة المكروب، فكان من الواجب أن يجتمع المسلمون بهذه الطريقة على أساس القبيلة، لكي تتم أمورهم بيسر، فعلى الرغم من أن الإسلام يكره القبلية، والتحزّب على أساسها، إلا أنها في مواقف كهذه، وللتعاون على البرّ والتقوى، ومساعدة المحتاج تكون واجبة.



وهكذا لا ينبذ الإسلام القبلية بالكلية، وإنما يطورها في إطار الإسلام والشرع، فيجعلها في الأمور الاجتماعية الصعبة في المواساة والمؤاخاة، والتعاون على دفع الديات، وفك الكربات، والمساعدة في أمور المجتمع المختلفة، لروابط الرحم التي بين القبيلة.



وجعل رسول الله لذلك قانونًا يُكتب، ويُحدد، مما يجعله مفروضًا على كل القبائل، وليس العمل به من قبيل الخير أو الإحسان. ولا شك أن هذا القانون لا يمكن أن يطبق إلا إذا رسخت معاني الأخوة التي ذكرناها من قبل، لذلك فالتشريع الإسلامي كله لا يصح فيه أن نأخذ جزءًا ونترك جزءًا، فكل جزئية تكمل أمرًا ما، وفي النهاية يصلح هذا الشرع النهائيّ لإدارة الدنيا وإدارة الدين.



وهكذا أقر رسول الله مبدأ القبليّة في الفكر الإسلامي، ولكن بحدود، بمعنى أنه إذا اعتُدي على حرمات دولة من دول المسلمين فرض الشرع على أهل الدولة أن يدافعوا عن أنفسهم ولا يحتاجون إلى غيرهم، إلا إذا لم يقدروا على الدفاع عن أنفسهم، فيساعدهم الأقرب لهم، لكنه لا يفرض على دولة من المغرب أن تدافع عن دولة من أهل المشرق، إن كان أهل المشرق يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم. فهذا الوضع يقبله الإسلام، ويقبله أيضًا في أمور أخرى، كالزكاة مثلًاً لا تخرج الزكاة من بلد إلى بلد آخر، أو من قطر إلى قطر آخر حتى تكفي أهل هذا القطر، وهكذا. فإذا كانت القبيلة فقيرة ولا تستطيع أن تدفع الدية أو الفدية، يوضح رسول الله ذلك بالفِقْرة التالية: وأن المؤمنين لا يتركون مفرحًا بينهم (أي مديونًا) أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عَقْل. إذا كان على أحد من المسلمين دِيَّة، ولم يكن قادرًا على دفعها، فلا بد هنا أن يجتمع المؤمنون جميعًا لسدِّ دَيْنه، وليست قبيلة من القبائل فقط، وبهذا يكون المجتمع متماسكًا ومترابطًا.



ثالثًا: أن المؤمنين المتقين على من بغى منهم دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فسادٍ بين المؤمنين. أي أن المؤمنين يجتمعون على من بغى منهم أو طلب ظلمًا، أو أحدث إثمًا أو عدوانًا أو أحدث شيئًا بهم.



ثم يقول: وأن أيديهم عليه جميعًا، ولو كان ابن أحد منهم. هكذا، في الدستور الإسلامي يجتمع كل المسلمين على من ارتكب إثمًا أو فسادًا أو عدوانًا، بصرف النظر عن القبيلة التي ينتمي إليها.



ولا يقتل مؤمن مؤمنًا في كافر، ولا ينصر كافرًا على مؤمن. هذا الجزء من الدستور في غاية الأهمية، ذلك أن الدولة الإسلاميّة ستدخل في صراعات شتى مع قبائل كثيرة من القبائل المشركة، سواءٌ في داخل المدينة المنوّرة، أو في خارجها (قريش أو غيرها من الجزيرة العربية)، فإذا كان أحد المسلمين لم يسلم بعدُ أبوه أو أخوه، ودارت الحرب بين الفئة المسلمة والكافرة، وكان أخوه أو أحد أقربائه مع الفئة الكافرة، قد تتحرك فيه مشاعر الأخوة والدم إلى أخيه الكافر إن قتله أحدٌ من المسلمين؛ فينتقم منه. لذلك يأتي هذا القانون المهم، وذلك قبل أن يفرض على المسلمين القتال، قال: لا يقتل مؤمن مؤمنًا في كافر. وسنرى من الحروب التي ستدور في المدينة المنوّرة، ويحدث أن يقتل المسلمون الكافرين، فكيف يكون الأمر حينئذٍ؟ بل ويظهر من سياق الحديث أن المسلم لن يقتل الكافر بدون بغي أو ظلم، ولكن المقصود في الحروب الإسلاميّة التي ستحدث بعد ذلك، لا يقتل مؤمنٌ مؤمنًا في كافر.



وهناك بنود أخرى في الميثاق لعلَّ أهمها هذا البند الأخير:



قال : وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مردَّه إلى الله ، وإلى محمدٍ .



المصدر الرئيسي للتشريع الإسلامي في الدولة الإسلاميّة هو الكتاب والسُّنَّة.



كان هذا هو الميثاق الذي وضعه الرسول لتنظيم العلاقة بين المهاجرين والأنصار، واحتواء أزمة المهاجرين.


خامسًا: الكفالة طويلة المدى للمهاجرين

لن يظل المهاجرون على حالتهم تلك، يأخذون من الأنصار دائمًا، ويكتفون ببقائهم عالة على غيرهم، لذلك سارع الأنصار -رضوان الله عليهم- إلى رسول الله أن يقسم بينهم وبين إخوانهم المهاجرين نخيل المدينة؛ لأن النخيل كثير، وهو من مصادر الدخل الرئيسية عندهم. ولكن رسول الله واقعي، رفض طلبهم هذا؛ لأنه لا يريد للأنصار أن يقدموا كل هذا العطاء العظيم، ثم يندمون بعد ذلك، فاقترح الأنصار عليه اقتراحًا آخر كفرصة لإعطاء المهاجرين دورًا في تنمية المجتمع الإسلامي، فقال الأنصار للمهاجرين: تكفونا المئونة ونشرككم في الثمرة. فقال المهاجرون: اللهم نعم.



وبدأ المهاجرون يعملون في أرض الأنصار، ويقسمون الناتج بينهم، وبذلك تمَّ تفعيل دور المهاجرين داخل الدولة الإسلاميّة، لم يظلوا مجرد معسكرات لاجئين، بل أصبحوا عنصرًا فعالًاً في المجتمع.


سادسًا: إعطاء المهاجرين كل الحرية في المدينة

جاء القانون الأخير أن يكون للمهاجرين الحرية الكاملة في أن يفعلوا مثل الأنصار في المدينة، حرية التملك، وحرية الزواج، وحرية الدخول في مجالس الشورى، وحرية قيادة الجيوش، بل قيادة الدولة كلها، فقد كان رسول الله من المهاجرين، وكذلك كان خلفاؤه رضوان الله عليهم إلى أزمان بعيدة، بل إننا لا نعلم أنصاريًّا تولى خلافة المسلمين أبدًا.



رسخ هذا الأمر في أذهان الجميع، أعطيت لهم كل صلاحيات أهل البلد، وأصبحوا عنصرًا رئيسيًا من أهل البلد، فذابوا ذوبانًا طبيعيًّا داخل المجتمع المسلم، وخلال عدة أشهر فقط لم يكن هناك فرق بين أنصاريّ ومهاجريّ، بل أصبح كلٌّ منهم يدافع عن الدولة الإسلاميّة، وكلهم يدافعون عن المدينة كبلده وموطنه الأصلي، بل إن كثيرًا من المهاجرين بقوا في المدينة المنوّرة حتى بعد فتح مكة.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة Empty رد: قصة المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:41 am

أمريكا تقرأ التاريخ الإسلاميّ

الجدير بالذكر أن هذه الأمور لها تطبيقات عديدة في واقعنا المعاصر، فإذا نظرنا إلى نشأة أمريكا مثلًاً، نجدها قد نهجت نفس ذلك النهج، وكأنها تقرأ التاريخ الإسلامي، وتعرف ما قام به رسول الله منذ أربعة عشر قرنًا، فمن يراجع تاريخ أمريكا يجد أن تعداد سكانها في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي لم يتجاوز 5 ملايين نسمة، في حين أنها الآن، وبعد مائتي سنة فقط تجاوز تعدادها الثلاثمائة مليون، وأصبحت قوة كبيرة وقاهرة، ولها أساطيل، وجيوش، ومصانع، ومخابرات؛ كل ذلك لأنها عملت بأمرين قام بهما رسول الله لتوحيد مسلمي الهجرة، وهما:



- التوحيد بين أفرادها، كما وحَّد رسول الله بين الأوس والخزرج، ثم بين المهاجرين والأنصار وجعلهم كيانًا واحدًا، كذلك قامت أمريكا بضم الـ 52 ولاية في دولة كاملة، برئيس واحد؛ فلا بد أن يعطيها هذا قوة.



- الأمر الآخر هو منح (تأشيرة سفر) لمن خارج أمريكا لكي يعيشوا في أمريكا، ويأخذوا كافة حقوق المواطن الأمريكي، ومع مرور الوقت تذوب الفوارق بين الشعوب، ويغدو أمريكيًّا مثلهم يدافع عن أمريكا كأنها بلاده، وهو ذو أصول ألمانية أو هولندية، أو غير ذلك.



مثل ذلك قام به رسول الله منذ مئات السنين، قام به ولكن بشكل حضاريّ راقٍ جدًّا، إذ لم يجعل الدافع للاختلاط والامتزاج بين الطوائف المختلفة في الدولة هو أمرٌ من أمور الدنيا، بل جعل مثوبته عظيمة في الآخرة والجنة الواسعة، بالإضافة إلى السعادة في الدنيا وسعادة الآخرة. فقد أراد الله لنا بهذا التشريع سعادة الدنيا والآخرة، أما التشريعات الأخرى فمن الممكن أن تحقق نوعًا من السعادة في الدنيا، ولكنها تشريعات منقوصة ولا تعقبها سعادة في الآخرة، كما أنها قد بنيت على الظلم والتعدي والقسوة.



وهكذا تم الحل لأزمة المهاجرين في المدينة المنوّرة، بل على العكس انتقلوا من كونهم أزمة إلى كونهم قوة للدولة الإسلاميّة.


المسلمون خارج الدولة الإسلاميّة
مهاجرو الحبشة

كان في الحبشة أكثر من ثمانين من المهاجرين المسلمين، وهم في بلد لا يظلم عند حاكمها أحد، ولكنهم في الوقت ذاته في بلدٍ لم تكن مؤهلة لإقامة دولة إسلاميّة.



فما كان من رسول الله إلا أن سارع بعدما شعر بالاستقرار في المدينة المنوّرة، سارع باستدعاء بعض مهاجري الحبشة، وليس كل المهاجرين؛ ليساعدوه في إقامة الدولة الإسلاميّة في المدينة، وليساعدوه في بناء هذا الصرح الهائل وهو الدولة الإسلاميّة، فهذا البناء يحتاج إلى طاقات كثيرة، ومع ذلك - في الوقت نفسه - لم يندفع اندفاعًا عاطفيًّا، واستدعاهم جميعًا؛ حتى لا يضيع وجود فرصة أخرى للمسلمين في الحبشة، فمن المهم أن يبقى عدد من المسلمين بعيدًا عن الخطر، حتى تكون الحبشة بمنزلة قاعدة أخرى للإسلام هناك، وخاصَّة أن قريشًا ستتربص للإسلام ولا شك، وكذلك اليهود، والقبائل المحيطة بالمدينة. أي أنه ما زال يحيط به العديد من المخاطر، ولهذا أبقى عليه الصلاة والسلام عددًا من المهاجرين في الحبشة إلى أن يستقر الوضع تمامًا، ويطمئن أن دولة الإسلام لا تستأصل، ولم يكن ذلك إلا بعد صلح الحديبية، في السنة السادسة بعد الهجرة، فعندما اطمأنَّ على أن الأمة الإسلاميّة لن تُستأصل أرسل إليهم.


المسلمون في القبائل البعيدة

فالمسلمون في القبائل البعيد في اليمن، وغفار، وأسلم وغيرها، أبقاهم رسول الله في أماكنهم؛ لأن كل واحد منهم كان مصدر إشعاع لمن حوله، يعمل في الدعوة إلى الله، يدعو قومه أو غيرهم، وهناك أماكن كثيرة لن يصل إليها رسول الله بنفسه، فيوصّلون هم دعوته إليها، فمثلًا الطفيل بن عمرو الدوسي ، من قبيلة (دوس) باليمن، تبعد نحو ألف كم، فكيف يصلهم رسول الله ، فجعل الطفيل رسوله إليهم، وكذلك أبو ذر في قبيلة (غفار)، وعمرو بن عبسة يقوم بالدعوة في (أسلم) وهكذا، كل واحدٍ منهم في مكان. ومع مرور الوقت يكثر المسلمون في الأماكن المختلفة، فإذا جاء الوقت المناسب استدعاهم الرسول ، وزادت قوة المسلمين بشدة في المدينة المنوّرة بقدوم هؤلاء، وكان قدومهم في البداية يلفت الأنظار إلى المدينة المنوّرة، وقد يحفز الناس على استئصال المسلمين من المدينة المنوّرة بسرعة، وفي الوقت نفسه يقلّل من فرصة الدعوة في قبائلهم، فآثر رسول الله أن يُبقي الوضع كما هو بالنسبة لهم، حتى تستقرَّ الأوضاع، فاستدعاهم بعد صلح الحديبية.


المستضعفون في مكة

أما آخر طائفة فهي المستضعفون في مكة الذين ليس لهم حيلة، الذين أمرهم الرسول بالكتمان قدر المستطاع لا يعلنون إسلامهم، ولا يخرجون سِرَّهم حتى لا يُستأصلوا إلى أن يأتي الله بأمره. لم تحل مشكلة هؤلاء إلا بعد فتح مكة، وظلوا في مرحلة السرية طوال السنوات الثماني الأولى من العهد المدني.



هكذا كان تصرف رسول الله مع الطوائف المختلفة من المجتمع المسلم، وكان تصرفًا في غاية الحكمة، تبعًا لظروف كل طائفة.



د. راغب السرجاني

[1] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب إخاء النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار (3569).

[2] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب إخاء النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار (3569).

[3] السابق نفسه، الصفحة نفسها.

[4] البخاري: كتاب الصوم، باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع ولم ير عليه قضاء إذا كان أوفق له (1867)، والترمذي (2413).

[5] رواه الترمذي (2413). وقال الشيخ الألباني: صحيح.

[6] البخاري: كتاب الصوم، باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع ولم ير عليه قضاء إذا كان أوفق له (1867)، والترمذي (2413).

[7] البخاري: كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه (13). مسلم: كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير (45).

[8] مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون وأن محبة المؤمنين من الإيمان وأن إفشاء السلام سبب لحصولها (54)، وأبو داود (5193)، والترمذي (2688)، وابن ماجه (68)، وأحمد (10180)
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة Empty من قواعد بناء الأمة الإسلامية

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:42 am

القرآن والسنة مصدرا التشريع الإسلامي

معا نبني خير أمةكانت الخطوات الأولى التي خطاها رسول الله في المدينة المنوّرة تضع القواعد المستخلصة لبناء أمة الإسلام من ثلاث عشرة سنة مضت في مكّة، وتمثل حجر الأساس لصرح الأمة الإسلاميّة العظيم، وهذه نقاط محددة توضح هذه الخطوات:



1- الإيمان الكامل بالله وبأحقيته الكاملة في التشريع للمسلمين، والإيمان الجازم أنه I له الخلق والأمر.



2- الإيمان اليقينيّ بأن رسول الله مُبلّغ عن رب العزة I، ومن ثَمَّ فالتشريعات التي شَرَعها ، ليست من نتاج فكره ولا اجتهاده، بل هي وحي من رب العالمين، وجبت علينا فيها الطاعة، كما وجبت علينا في القرآن الكريم.



ومن هاتين النقطتين نخرج بشيء في غاية الأهمية، وهو أن القرآن الكريم والسنة المطهرة هما المصدر الرئيسي للتشريع في الأمة الإسلاميّة، وأن هذا ليس لنا فيه خيار، بل هو فرض من رب العالمين، وبدون هذا المعنى لن تقوم على الإطلاق أمة إسلاميّة ناجحة.



وإذا قلنا: إن القرآن والسنة هما المصدر الرئيسي للتشريع، فإننا نعني بذلك أن هناك مصادر أخرى للتشريع، مثل: الاجتهاد والقياس والعرف والمصالح المرسلة وأقوال الصحابة، لكن بشرط ألا يتعارض هذا كله مع مصدري التشريع الأساسيّين القرآن والسنة النبويّة المطهرة.



وهذا الأمر يعطينا بُعدًا آخر للسيرة النبويّة، وهو أننا ندرس مصدرًا رئيسيًا للتشريع وهو حياة النبي ، وهذا يعني أن كلامنا عن بنائه للأمة، وكل خطواته ومعاهداته وغزواته وكافة معاملاته ما هو إلا كلام في صلب الدين.



ومن ثَمَّ لا بد من التحليل الدقيق والدراسة المتأنية لكل موقف من مواقف رسول الله ، ولا مانع من تفريغ الأوقات، بل الأعمار لهذه الدراسة؛ لأن في ذلك نجاتنا في الدنيا والآخرة.



فهاتان قاعدتان في غاية الأهمية في بناء الأمة الإسلاميّة:



1- تربية الشعب على الإيمان بالله رب العالمين.



2- تربية الشعب على الإيمان الكامل برسوله الكريم .


قواعد مهمة في بناء الأمة

ومن قواعد بناء الأمة كذلك:


التربية المتأنية للأمة

وذلك على معنى مراقبة الله رب العالمين لكل أعمالنا، وأن هناك يومًا حتمًا سيأتي، سيحاسب فيه اللهُ البشرَ أجمعين {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزَّلزلة: 7، 8].


تفعيل دور المسجد

ليصبح له دور في كل صغيرة وكبيرة في حياتنا.


الوحدة بين المسلمين

ورأينا ذلك في التوحيد بين الأوس والخزرج، ورأيناه كذلك في المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وإذابة الفوارق القَبَليّةِ بين المسلمين؛ ليصبح أمر العقيدة هو الرابط الرئيسي الذي يربط بين المسلمين.



وأقول: الرابط الرئيسي وليس الرابط الوحيد؛ لأن الإسلام لا ينكر العلاقات الإنسانية الطبيعية التي تكون بين الإنسان وَرَحِمِهِ، وبين الإنسان وعشيرته، ولكن يحددها في أُطر شرعيّة محددة تفيد في بناء الأمة الإسلاميّة.


فقه الواقع

وهو يعني دراسة المتغيرات الموجودة في الواقع، وتحديد طرق التعامل مع كل أزمة حسب حجمها، وحسب الظروف التي تصاحب كل أزمة، ومن ثَمَّ يضع المسلم الحل المناسب في ضوء الأطر الشرعية.



وقد رأينا كيف كان تعامل الرسول مختلفًا مع كل أزمة حسب طبيعتها، ونجد أنه قد انتهج نهجًا حكيمًا للغاية في التعامل مع النوعيات المختلفة من الأفراد والقبائل التي استلزمت المرحلة أن يتعامل معها.



فمع الأوس والخزرج قام رسول الله بالصلح بينهما على أساس العقيدة والدين، ومع المهاجرين قام بخطوات منظمة ومرتبة لاستيعابهم في المجتمع المدني، بل تفعيلهم في بناء الأمة، فتحول المهاجرون من عبءٍ اقتصاديّ وسياسيّ واجتماعيّ على المدينة المنوّرة إلى قوة فاعلة تضيف إلى خير المدينة وقوتها.



ومع المسلمين في الحبشة استقدم بعضهم، وأبقى بعضهم لحين استقرار الأوضاع.



ومع المسلمين في القبائل البعيدة عن المدينة، وليسوا من أهل مكّة أبقاهم في قبائلهم لينشروا الإسلام فيها، ولكي يوسّعوا نطاق الحركة الدعويّة في الجزيرة العربية.



ومع المستضعفين من المسلمين في مكّة الذين لا يستطيعون الهجرة عليهم كتمان الإسلام قدر المستطاع وتجنب الصراع مع المشركين؛ لكي لا يُستأصلوا إلى أن يأتي الله بأمره.



ومع المشركين من الأوس والخزرج كانت إستراتيجيته في التعامل مع هؤلاء هي الدعوة بالتي هي أحسن، ومحاولة ضم العناصر الطيبة منهم إلى الأمة الإسلاميّة، وحاول أن يتجنب الصراع أو الصدام معهم، حتى لا يدخل في صراعات داخليّة تضعف من بنيان الأمة الإسلاميّة الناشئة.



ومع المشركين من الأعراب حول المدينة حاول أن يصل بالدعوة إليهم قدر ما يستطيع، ثم أظهر لهم القوة حتى لا يفكروا في الإغارة على المدينة المنوّرة، أو على قوافل المسلمين حول المدينة المنوّرة، وخاصّة أن هذه القبائل من العرب اشتهرت بالسلب والنهب.



ومع القبائل المشركة الكبرى حول المدينة عقد معاهداتٍ ومحالفات تقوم في أساسها على حسن الجوار، وعدم الاعتداء، ومن هذه القبائل كما ذكرنا قبيلة (جُهَيْنة) في غرب المدينة المنوّرة.



فهذه طوائف مختلفة تعامل معها الرسول .



ويتبقى طائفتان هما: مشركو مكّة واليهود. وفي الحقيقة فهاتان الطائفتان لا بد عند التعامل معهما أن نضع نصب أعيننا قول الله المعجز الموجز، والذي يفسر لنا بوضوح إستراتيجية هؤلاء المشركين واليهود، يقول الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82].



وفي ضوء هذه الآية تفهم أفعال مشركي مكّة ويهود المدينة.



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة Empty رسول الله في المدينة المنورة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:43 am

الأنصار يستقبلون رسول الله

المدينة المنورةوصل رسول الله إلى المدينة المنوّرة، وأول ما يلفت النظر في المدينة هو ردّ فعل الأنصار لدخول الرسول المدينة المنوّرة، فرحٌ شامل بقدوم رسول الله واستقباله بالأناشيد والأهازيج:



"طلع البدر علينا من ثنيَّات الوداع" وغيرها، إلى آخر هذه الكلمات التي كان يقولها الأنصار بحبٍّ حقيقيّ، وفرح فطري في داخلهم.



وهذا الفرح بتحمل المسئولية أمر غريب يحتاج منا إلى وقفة.



شتَّان بين من يبحث عن الدعوة وبين من تبحث الدعوة عنه.



شتان بين من يبحث عن الجهاد ومن يبحث الجهاد عنه.



شتان بين من يبحث عن التضحية ومن تبحث التضحية عنه.



كان الأنصار يبحثون، أين وكيف نستطيع أن نخدم الإسلام؟



أين نستطيع أن نضحي لأجل أمة الإسلام؟



ودخول رسول الله المدينة المنوّرة له دلالات خطيرة جدًّا، ومعناه -كما قال الأنصار وصوَّروا ويعلمون ذلك جيدًا- حربُ الأحمر والأسود من الناس، معناه مفارقة العرب كافة، معناه العداء المستمر مع اليهود الذين يسكنون في داخل المدينة المنوّرة ولهم علاقات قديمة مع الأنصار، معناه تضحية، معناه بذل وإنفاق، معناه موت في سبيل الله .



وهذه المعاني كلها كان الأنصار يعرفونها جيدًا قبل أن يدخل الرسول المدينة، وقد كانوا مع الرسول في بيعة العقبة الثانية، وتعاهدوا معه على أمور عظيمة، فصلنا فيها سابقًا، وهي بإيجاز شديد:



- عاهد الأنصارُ الرسولَ على النفقة في العسر واليسر.



- على السمع والطاعة في النشاط والكسل.



- على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.



- على أن يقوموا في الله لا تأخذهم في الله لومةُ لائمٍ.



- على أن ينصروه إذا قدم إليهم، وأن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأبناءهم وأزواجهم.



كل هذا في مقابل الجنة. ومن المستحيل أن يدفع إنسان هذه الأشياء كلها من غير أن يكون على يقين جازم أنه لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأن الجنة حق وأنه سيدخلها بهذه الأعمال التي قدمها من أجل الله .



فكان هذا الفرح من الأنصار يعبر عن طبيعة الأنصار التي سنراها بعد ذلك في كل مراحل المدينة المنوّرة، وفي كل الفترات سواء في داخل المدينة أو في خارج المدينة، في كل الأحداث، عطاء مستمر متواصل. سبحان الله! يعجب له الإنسان، لا يفقهه إلا بعلمه أن الأنصار مؤمنون إيمانًا يقينيًّا بالله وبرسوله الكريم ؛ لذلك يقول رسول الله في حق الأنصار كلمات جميلة ورائعة، تكتب بمداد الذهب وأغلى من الذهب، يقول : "آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ"[1]. تخيل إذا كنت تحب الأنصار فأنت مؤمن، وإذا كنت تبغض الأنصار فأنت منافق، انظر إلى أي مدى أصبح إيمان العبد بقيمة وعظمة ودرجة الأنصار علامة من علامات إيمانه وعلامة من علامات صدق إيمانه، فمن لا يحب الأنصار فليراجع نفسه جيدًا.



الأنصار خرجوا فرحين مسرورين بتلقي هذا الكَمّ الهائل من المشكلات التي سوف تحدث، وهم يعرفون ابتداءً أن الطريق صعب، لكنهم يعرفون أيضًا أن نهايته الجنة، وكان فرحهم فرحًا إيجابيًّا، فمن أول يوم خرجوا إليه بالسلاح، وهذا يحمل أيضًا معنى التشريف للرسول ، وما زال متبعًا إلى الآن استقبال الكبراء بالسلاح تشريفًا لهم، لكن إضافة إلى ذلك فهذا يوحي بأن الأنصار ما زالوا على عهدهم وبيعتهم، وما زالوا على الوفاء لرسول الله بكل ما عاهدوه عليه في بيعة العقبة الثانية.



وما من شك أن هناك أعداء كثيرين في داخل المدينة المنوّرة وفي خارجها، يتمنون قتل رسول الله ؛ كثير من المشركين موجودون داخل المدينة المنوّرة، فمعظم أهل المدينة لم يُسلموا بعد، وهناك مشركو مكّة الذين ظلّوا يحاولون الإمساك برسول الله ، ولم يفلت منهم إلا بعد وصوله إلى قُباء، وقد حاولت قبيلة أسلم القريبة من المدينة، ونجحت في محاصرة النبي قبل دخوله المدينة بغية تسليمه لقريش ونيل الجائزة الثمينة في ذلك الوقت، وهي مائة من النوق لمن يسلّم لهم الرسول ، لكنهم أسلموا على يد رسول الله بعد أن عرض عليهم الإسلام.



فالأنصار منذ اللحظة الأولى يقولون: نحن معك يا رسول الله، ونفديك بأرواحنا وبكل ما نملك. كان هذا هو حال الأنصار واستقبالهم للرسول استقبالاً حافلاً ومشرّفًا، ينبئ عن طبيعة الأنصار ومعدنهم النفيس الغالي.


وقفة مع هذه النقلة الهائلة في مسيرة الدعوة

لحظة التمكين ربما تكون قريبة، ونظرة سريعة على الفترة التي سبقت الهجرة إلى المدينة المنوّرة تؤكد هذا الأمر، فمنذ ثلاث سنوات فقط كان عام الحزن، ففيه مات أبو طالب وماتت السيدة خديجة رضي الله عنها وأرضاها، وأظلمت مكّة تمامًا وأغلق فيها باب الدعوة إلى الدرجة التي جعلت رسول الله يخرج من مكّة سعيًا على قدميه لإيصال الدعوة إلى مكان آخر؛ لأنه لا أحد في مكّة يؤمن بعد هذا العام.



وخرج رسول الله إلى الطائف في طريق طويل وشاقّ، وتعلمون جميعًا ما حدث في الطائف، وخرج منها وقد قُذف بالحجارة وألقي التراب على رأسه، وسُبّ بأفظع الألفاظ، ودخل مكّة بعد ذلك في جوار مشرك هو المطعم بن عدي.



فالمحلل لهذه الأحداث يجد أنه من المستحيل حقًّا في عُرف أهل الدنيا، وفي حسابات المادة أن تقوم للرسول ولمن معه من المؤمنين المضطهدين المشردين المعذبين في داخل مكّة المكرّمة دولة ولو بعد عشر أو عشرين سنة أو ثلاثين أو حتى بعد مائة سنة، وتستطيع مراجعة الفترة المكّيّة لتعرف مدى صعوبة هذه الفترة.



لا يوجد أنصار من أي نوع، ورفضت مكّة الإسلام ورفضت الإيمان، ورفضت الطائف الإسلام، ورفضت كل القبائل التي أتت في العام العاشر والحادي عشر من البعثة، رفضوا الإيمان بالله وبالرسول الكريم ، ولم يقبل أحد ممن دعاهم رسول الله إلى الإيمان إلا ستة من الخزرج في آخر العام الحادي عشر من البعثة، وكان هذا قبل الهجرة بسنتين.



وفي غضون سنتين فقط أصبح الرسول قائدًا لدولة، وإن كانت الدولة صغيرة فهي بقعة لا ترى على خريطة العالم في ذلك الوقت (المدينة المنوّرة)، لكن المهم أن رسول الله أصبح له دولة وأصبح ممكَّنًا وزعيمًا، والكل يسمع له ويطيع، حدث هذا بدون أن يكون هناك أي شواهد في الواقع تشير إلى إمكانية حدوث مثل هذا الأمر.


الدولة الإسلامية بين التاريخ والواقع

وإذا قارنت هذا الوضع بما نحن عليه الآن في زماننا هذا، تجد أن الشواهد لإقامة الدولة الإسلاميّة الآن كثيرة ومتعددة، ونظرة سريعة أيضًا إلى أحوال المسلمين في الثلاثين أو الأربعين سنة الماضية ووضعهم الآن تؤكد هذه المعاني:



كم من الناس يصلون الآن في المساجد؟!



في الستينيات، لا أقول: كم من الناس يصلون في المساجد؟ بل كم من الناس يصلون أصلاً؟!



عدد قليل جدًّا، ومعظمهم من كبار السن، أما الآن فبفضل الله عدد المصلين كبير وخاصّة من الشباب، كم من المحجبات والملتزمات بالزي الشرعي؟ كم من الدعاة أصحاب الفهم الصحيح الشامل للإسلام انتشروا في بقاع الأرض بكاملها؟ كم من الهيئات تتبنى الآن شئون الإسلام؟



بل انظر إلى عدد المتسلقين الراغبين في السيطرة على أفكار الناس، والذين يلوّحون بالإسلام وينافقون المسلمين، لكن من ثلاثين أو أربعين سنة لم يكن هناك نفاق للإسلام، لماذا؟ لأنه كان ضعيفًا، أمّا الآن فالجميع ينافق المسلمين، وإذا رأيت الرجل ينافق المسلمين أو ينافق الإسلام فاعلم أن الإسلام قوي وقاهر، وأن له حضورًا وهيبةً، وأن له عظمةً في قلب هذا الذي ينافق، ولذلك ينافقه. وبفضل الله إن راجعت قلوب ومشاعر العالم الإسلامي اليوم بصفة عامة تجد فيها انسياقًا طبيعيًّا فطريًّا للإسلام، وحبًّا فطريًّا للإسلام، وإذا أُتيح للمسلم أن يختار بين اتجاهين، يختار الناس -بفضل الله- من يرفع لواء الإسلام وشعار الإسلام، وربما لا يكون يعرف هذا الذي يرفع اللواء لكنه يختاره؛ لأنه يتبنى الفكرة الإسلاميّة، فتجد الناس جميعًا يحبونه، فهذه كلها علامات وشواهد على قرب قيام الدولة الإسلاميّة والأمة الإسلاميّة بإذن الله.



وفي أيام رسول الله لم يكن هذا موجودًا، لا في عام الحزن ولا في العام الذي تلاه، ومع ذلك أقيمت الدولة الإسلاميّة التي تقيم شرع الله في غضون ثلاث سنوات فقط.



فما بالنا إذا كانت الشواهد موجودة، لا شك أن قيام الدولة سيكون قريبًا إن شاء الله.



د. راغب السرجاني

[1] البخاري: كتاب الإيمان، باب علامة الإيمان حب الأنصار (17). ومسلم: كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعليٍّ رضي الله عنهم من الإيمان وعلاماته وبغضهم من علامات النفاق (74).
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة Empty المسجد ودوره في حياة الأمة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:44 am

رسول الله وبناء المسجد

المسجد النبويوصل رسول الله إلى مشارف المدينة المنوّرة، إلى قباء، فماذا فعل ؟ وأريد منك الانتباه جيدًا للترتيبات النبويّة؛ لأنها مقصودة كلها، وكل شيء بحساب {إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، فهذا لترتيب مقصود بالفعل، وكذلك كل الإشارات في حياة رسول الله وحركاته وسكناته بوحي من رب العالمين، والاختيارات البشرية منه التي كانت لا تتوافق مع ما يريده الله من الناس، كان جبريل ينزل مباشرة ليعدل المسار للمسلمين وليوضح مراد رب العالمين من هذه النقطة، وبذلك أصبحت السيرة النبويّة من أولها إلى آخرها بوحي وتأييد من رب العالمين. وما من شك أنه لا سعادة في الدنيا ولا الآخرة إلا باتباع خطوات النبي ، وبالترتيب الذي فعل .



كانت أولى خطوات رسول الله في (قباء) هي بناء المسجد، وسوف نذهب مع رسول الله إلى المدينة المنوّرة ثم نعود لقصة المسجد.


رسول الله يصل المدينة المنورة

بعد أسبوعين من وصول رسول الله (قباء) انتقل منها إلى المدينة المنوّرة، واستُقبلَ الحبيب مرةً أخرى استقبالًاً رائعًا من أهل المدينة، بعد أن كان قد استُقبل في (قباء) أوّل وصوله إليها. وفي المدينة تسابق الأنصار جميعًا بشتى قبائلهم لاستقبال رسول الله ، والجميع يرتقب اللحظة التي ينزل فيها النبي عنده، والكل يريد أن يأخذ بخطام ناقته ليحظى بشرف إقامة النبي عنده، لكن النبي قال لهم كلمة أصبحت بعد ذلك منهجًا لحياتهم وحياة المسلمين، قال : "دَعُوهَا؛ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ"[1]. نَعَمْ مأمورة من رب العالمين، وأنا أيضًا مأمور، والمؤمنون مأمورون {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِينًا} [الأحزاب: 36].



الرسول يوضح لهم هذا الأمر جيدًا، فهو لن يختر أي أمر من الأمور ما دام الله سيختار له، ربما يكون هواي أن أكون عند فلان أو فلان أو عند أقاربي من بني النجار أو كذا أو كذا.



لكن إذا أمر الله فلا مجال للاختيار ولا مجال للهوى، والذي يأمر الناقة هو الله ، وعلينا جميعًا أن نسمع ونطيع.



وهكذا علمهم النبي بوضوح كامل، وكان من الممكن أن ينزل الوحي ويقول: انزل في بيت فلان، أو أقم المسجد في هذا المكان الفلاني، أو كذا أو كذا، لكن هذا المشهد العلني -وجميع الناس يتسابقون لاستقباله وهو يُخْرِجُ نفسه من الاختيار، ويجعل الاختيار الكامل لرب العالمين- هو زرعٌ لمعنى مهم جدًّا سيظل معنا طوال العهد المدنيّ كله، وما أكثر التشريعات والأحكام التي ستنزل في المدينة المنوّرة! وقد لا يفقهها عامَّة الناس، قد لا يدركون الحكمة من وراء الأمر، ومع ذلك عليهم أن يسمعوا ويطيعوا لله رب العالمين.



وبركت ناقة النبي في مكان معين بالمدينة، وفي هذا المكان قرّر الرسول أن يبني المسجد النبوي.


البداية من المسجد

مسجد قباءأول عمل قام به الرسول في (قباء) كان بناء المسجد.



وأول عمل قام به الرسول في المدينة كان بناء المسجد.



وهذا الأمر لم يكن على سبيل المصادفة، ولم يكن مجرد إشارة عابرة، هذا منهج أصيل.



لا قيام لأمة إسلامية بغير المسجد، أو قل لا قيام لأمة إسلامية بغير تفعيل دور المسجد؛ لأن المساجد الآن كثيرة، لكنّ الكثير منها غير مفعّل، ولا يقوم بدوره المنوط به.



يخطئ من يظن أن دور المسجد يقتصر على أداء الصلوات الخمس فحسب، بل إنه في بعض الدول الإسلاميّة يتم غلق المسجد بعد أداء الصلاة مباشرة، وكأن دوره الوحيد هو الصلاة فقط. وفي الحقيقة دورُ المسجد في الأمة الإسلاميّة أعمق من ذلك بكثير، فليست قيمة المسجد في حجمه ولا في شكله ولا في زخرفته ولا من الذي افتتحه أو قصّ الشريط، فهذه كلها شكليات فارغة لا قيمة لها، بل على العكس من ذلك الرسول كان يَنْهَى عن هذه الشكليات، وكان ينهى عن المبالغة في تزيين المساجد، كان يقول: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ بِالْمَسَاجِدِ"[2]. وهذا الحديث في مسند أحمد بن حنبل رحمه الله، وفي سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان عن أنسٍ ؛ ولفظ ابن خزيمة: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَتَبَاهَوْنَ فِيهِ بِالْمَسَاجِدِ ثُمَّ لاَ يَعْمُرُونَهَا إِلاَّ قَلِيلاً"[3]. فربما تجد إنسانًا يقوم ببناء مسجد كبير، ثم لا تجد المصلين إلا صفًّا أو صفين. وقال : "مَا أُمِرْتُ بِتَشْيِيدِ الْمَسَاجِدِ"[4]، ومعنى التشييد الرفع فوق الحاجة. وقال ابن عباس: "لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى"[5]. أي نهتمّ بالشكليات من رخامٍ ومرمرٍ وحليٍّ ونجفٍ وما إلى ذلك، ولا نهتم بالتربية في داخل المسجد.


دور المسجد في حياة الأمة

المسجد في حياة الأمة له أدوار في غاية الأهمية:



وأهم دورٍ للمسجد هو الحفاظ على إيمان المسلمين، وهذا هو الأساس الرئيسي الذي اجتهد النبي أن يغرسه في نفوس أصحابه في مكّة، وفي نفوس الأنصار في بيعتي العقبة، إنه الإيمان بالله . والمسجد كما يظهر من اسمه أي مكان السجود لرب العالمين I، والرضوخ الكامل له والطاعة المطلقة لكل أوامره، فإذا لم تكن تربيتي داخل المسجد فقد ضاع مني دور كبير جدًّا من أدوار المسجد، ومن الصعب جدًّا أن يجلس المسلمون في بيت الله كي يأخذوا قرارًا أو يعتمدوا رأيًا ثُمَّ هم يخالفون ما أراده الله تعالى منهم. هذا المكان (المسجد) يحفظ على المسلمين دينهم؛ لأجل هذا كانت حياة المسلمين تدور في مجملها حول محور المسجد، الصلاة في المسجد، ولا تقبل الأعذار في التخلف عن هذه الصلاة إلا في ظروف ضيقة ومحدودة جدًّا.



- المسجد مكان التقاء المسلمين وتقوية الأواصر بينهم.



قل لي بالله عليك، لو لم تكن منتظمًا في صلاة الجماعة بالمسجد: كم تعرف ممن يصلون معك الجمعة؟!



إنك لا تكاد تراه إلا مرّة كل أسبوع أو كل شهر، وهذا الأمر لا يقوي إطلاقًا الأواصر أو الروابط بين المسلمين، ويختلف الأمر كثيرًا إذا كنت محافظًا على الصلوات خمس مرات في اليوم، وستكون -بلا شك- علاقاتك على أقوى مستوى بكل من حولك، كيف تكون علاقتك بأخيك الذي تراه خمس مرات في اليوم في كل صلاة؟ لا شك أنها ستكون قوية، وإذا حدثت له أي مشكلة أو مرض أو نحو ذلك، سوف تعرف بها سريعًا، في حين أنك إذا لم تكن تلتقي معه إلا كل أسبوع أو أسبوعين أو شهر فربما لا تعرف ما يحدث له إلا قَدَرًا.



المسجد إذن يقوي وينمي الروابط والأواصر بين المسلمين، ويذيب الفوارق بينهم، فالحاكم يصلي بجوار المحكوم، والوزير بجوار الغفير. المسجد يتعاون فيه المسلمون على البرّ والتقوى دون النظر إلى الفوارق الطبقية التي بينهم.



- المسجد يُعدّ مدرسة لتعليم المسلمين كل أمور حياتهم.



- المسجد مكان لقيادة الأمة، فزعماء الأمة الإسلاميّة كانوا دائمًا في زمان ازدهار الأمة الإسلاميّة، سواء أيام الرسول عليه الصلاة والسلام أو في أيام الخلفاء الراشدين، أو في أي عصر من عصور النهضة والحضارة الإسلاميّة كانوا دائمًا يرتبطون بالمسجد ارتباطًا قويًّا، إنها مأساة حقيقية ألا يدخل زعماءُ الأمة المساجد إلا في المناسبات.



صلاح الدين الأيوبي كان يصلي في المسجد.



نور الدين محمود كان يصلي في المسجد.



عبد الرحمن الداخل كان يصلي في المسجد.



عبد الرحمن الناصر كان يصلي في المسجد.



يوسف بن تاشفين كان يصلي في المسجد.



قلج أرسلان كان يصلي في المسجد.



أيُّ بطل من أبطال الإسلام والمسلمين، وأيّ قائد رفع رأس الأمة فترة من الزمن كان مرتبطًا بالمسجد.



وأَبَى الله إلا أن يخزي كل من تخلّى عن المسجد يخزيه في الدنيا، وعذاب الآخرة -لا شك- كبير عند الله لمن حرم الناس من المساجد.



إن سياسة الأمة الإسلاميّة كلها من عهد الرسول وبعد ذلك كانت تُدار من داخل المسجد، فتسير الجيوش من داخل المسجد، وقرارات الحرب من المسجد، والمعاهدات من داخل المسجد، واستقبال الوفود في داخل المسجد، والقضاء في المسجد، مقرّ الحكم في الإسلام وبيت الحكم هو بيت الله .



ولم يكن المسجد مقرًّا للحكم والسياسة والقضاء فحسب، بل كان المسجد أيضًا مكانًا لإعلان أفراح المسلمين.



ومكانًا لتربية الأطفال، ومكان للترفيه أيضًا بأدب.



كان المسجد مأوى للفقراء وعابري السبيل، وكان مكانًا لمداواة المرضى.



وكل ما سبق له أدلته ومواقفه في السيرة النبويّة، لكن المجال لا يتسع لذكرها، فالأمر يحتاج إلى أبحاث لتفسير دور المسجد في حياة المسلمين، فالمسجد له دور في كل جزئية من جزئيات الحياة.



ليس معنى هذا أني أقصد أن نحوّل المسجد الآن إلى مستشفى ودار ضيافة ومحكمة ووزارة، ليس هذا هو المقصود، ولكن المعنى الذي يجب ألا يغيب عن العقل والذهن هو أن تربية المسجد تربية أساسية في إدارة كل هذه الهيئات، لأن الذي لا يعرف لله حقه لن يعرف للخلق حقوقهم، الذي ليس له ضوابط من الشرع لن تكون هناك حدود لظلمه وفساده وضلاله في الأرض، الذي لا يعرف طريق المسجد لا يعرف طريق الحق والعدل والأمانة والشرف.



هذه المعاني السابقة تعرّفنا بوضوح المعنى العميق الذي ذكره ربنا في الآية القرآنية: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114].



هذا الذي منع الناس من تفعيل دور المسجد لم يؤثر فقط على المصلين في المسجد، بل أثَّر في المجتمع بكامله؛ لذلك عظّم الله من شأن هذه الجريمة: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114].



فهذا أول شيء فعله رسول الله في بناء دولته، بَنَى مسجد قباء في (قباء)، وبنى المسجد النبوي في المدينة المنوّرة..


الملامح العامة لبناء المسجد

تعالوا بنا نرى كيف كان بناء هذا المسجد، فقد وقف رسول الله مع صحابته جميعًا يبنون هذا المسجد، وفي بنائه من الدروس والعبر الكثير والكثير.



أولاً: البساطة في البناء، وكان الاهتمام الكامل بالجوهر لا بالشكل، وكان المسجد مبنيًّا بالطوب اللبن والجريد، ومع هذا أخرج هذا المسجد عمالقة حكموا العالم كله بعد ذلك.



ثانيًا: رسول الله الزعيم والقائد لهذه الأمة، والذي يتمنى الجميع أن يفديه بالنفس والمال، ويحميه بروحه ويتمنى ألا يصيبه أي تعب أو نصب، نزل بنفسه مع شعبه يبني المسجد، يحمل معهم التراب وينقل معهم الحجارة، ويقيم الأعمدة ويخطط للبناء، كل هذا مع شعبه، وهذا الأمر من أبلغ الوسائل لتربية الشعوب، وهذه هي المشاركة الحقيقية، والمعاناة الكاملة مع الشعب، وهذه النقطة مستمرة معنا في كل السيرة النبويّة، ففي غزوة بدر كان يقاتل معهم بنفسه، وفي أُحُد كذلك، وفي الخندق، وفي كل سفر وحضر، معهم في مشاكلهم وفي أفراحهم وأتراحهم، وهو معهم حتى عند موتهم، وحتى إيصالهم إلى قبورهم، فهو مع كل واحد منهم يحرص على تربيته من اللحظة الأولى وحتى النهاية، ومع كل إنسان منهم مهما كان هذا الإنسان بسيطًا أو فقيرًا أو من قبيلة أخرى، أو من لون آخر أو من جنس آخر أو من بلد آخر، كل المسلمين سواء والرسول عليه الصلاة والسلام واحدٌ منهم، وكذلك كان زعماء الأمَّة أيضًا في زمن قوة المسلمين.



هذه أسسٌ رئيسية لبناء الأمة الإسلاميّة، وما نتحدث عنه الآن في إيجاز يحتاج إلى تفصيلات كبيرة جدًّا، وتأصيل في داخل الأمة الإسلاميّة لترفع رأسها من جديد.



موقف لطيفٌ حدث من رسول الله بعد قرار بناء المسجد في هذا المكان، وكما نعرف فإن ناقة النبي قد بركت، وقد قال : "دَعُوهَا؛ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ"[6].



وبذلك حُدِّد المسجد النبويّ في أي مكان يكون، وفي ذلك يقول النبي -وهو إلى هذه اللحظة ليس له بيت، ولم يحدد بعدُ أين يسكن في المدينة-: "أَيُّ بُيُوتِ أَهْلِنَا أَقْرَبُ؟" فهو لم يبحث عن أفخم دور المدينة، ولا عن أعز بيوت المدينة، ولا عن أقرب بيوت المدينة إلى قلبه سواء من ناحية قرابة بني النجار، أو من أصحابه أصحاب بيعة العقبة الأولى أو بيعة العقبة الثانية، لكنه قال: "أَيُّ بُيُوتِ أَهْلِنَا أَقْرَبُ؟" في منتهى البساطة أيًّا كانت هذه الدار، فكل دور المسلمين داره وأهله، أهل المسلم هم المسلمون بصرف النظر عن أصولهم أو عرقياتهم أو قبائلهم أو ما إلى ذلك.



قد يكون المسلم الباكستانيّ أو السوريّ أو الإندونيسيّ أو الأمريكيّ، أقرب إلى المسلم من أخيه إذا كان هذا الأخ الذي يرتبط به في النسب لا يشترك معه في العقيدة، وما أبلغ ما قاله رب العالمين لنوح : {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46]. سبحان الله! ابنه وليس من أهله، لماذا؟! لأنهما مختلفان في العقيدة. والآن الرسول يبحث عن أقرب بيوت أهله مع أنه من قريش، وهؤلاء من الأوس والخزرج، فروع أخرى بعيدة تمامًا عن فروع قريش، وأول بيت وأقرب بيت كان بيت أبي أيوب الأنصاريّ ، وفيه استقرّ الرسول فترة من الزمن، وحدثت فيه مواقف لطيفة ليس المجال لتفصيلها الآن.



وبعد ذلك بُني لرسول الله بيت، وعندما نقول (بيت) هذا على سبيل المجاز؛ لأن ما بُني إنما هي حجرة بسيطة وصغيرة جدًّا تفتح على المسجد، وبعد ذلك كان لكل زوجة من زوجات النبي حجرة، ولم يكن في هذا الوقت متزوجًا إلا من السيدة سودة بنت زمعة رضي الله عنها وأرضاها، فكانت حجرة واحدة، وكان عاقدًا على السيدة عائشة رضي الله عنها، لكن لم يكن قد بَنَى بها بعدُ.



ويبدأ رسول الله في بناء دولة لا تحكم المدينة فقط بل دولة مؤهلة لقيادة الأرض بكاملها ولِهَزّ عروش ضخمة جدًّا وممالك عظمى، من هذا البناء البسيط الصغير المسجد النبويّ البسيط الذي بُني في ذلك الوقت، وما من شك أنه مجهود هائل، ولا شك أنه في ظنّ كثير من النّاس حلم بعيد المدى بل مستحيل، لكن -سبحان الله- هذا الحُلم تحقق وبخطواتٍ معروفةٍ وثابتة.



ونحن هنا نتعرف على خطوات رسول الله ، وكانت الخطوة الأولى -والتي سبق أن ذكرناها- هي خطوة الإيمان الحقيقي اليقيني بالله ، وهذه بُنيت في مكّة، وعندما جاء النبي المدينة حرص على التأكيد عليها وزرع هذا المعنى من جديد من خلال المسجد النبوي ومسجد قباء.



د. راغب السرجاني

[1] ابن كثير: السيرة النبوية 2/ 273. ابن القيم: زاد المعاد 3/ 50.

[2] رواه أبو داود (449)، والنسائي (689)، وابن ماجه (739)، وأحمد (12402). قال الشيخ الألباني: صحيح. انظر حديث رقم (7421) في صحيح الجامع.

[3] رواه ابن خزيمة (1321). وقال الشيخ الألباني: ضعيف.

[4] رواه أبو داود (448). قال الشيخ الألباني: صحيح. انظر حديث رقم (5550) في صحيح الجامع.

[5] البخاري في صحيحه 1/ 171، وأبو داود في سننه 1/ 176.

[6] ابن كثير: السيرة النبوية 2/ 273. ابن القيم: زاد المعاد 3/ 50.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة Empty اليهود في القرآن الكريم

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:44 am

تحدثنا عن الظروف التي بدأ فيها رسول الله في إنشاء دولته، وتحدثنا عن علاقته بالطوائف المختلفة، سواء كانوا من المسلمين أوسهم وخزرجهم ومهاجريهم أو من المشركين.



وتحدثنا عن مشركي قريش وكيف كادوا للإسلام، وكيف خرج الرسول من هذه الأزمة بنجاح وبتدبير متقن معروف، وترك لنا تشريعًا يستطيع المسلمون بتطبيقه الوصول لحل كل مشكلة مشابهة.



الآن حديثنا مع أمر في غاية الأهمية والخطورة، وهو موقف الرسول من اليهود الذين كانوا في المدينة.


اليهود في المدينة

كما نعرف فإن في داخل المدينة تعيش ثلاث قبائل كبرى لليهود: بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة، وفي شمال المدينة المنورة ووادي القرى توجد مجموعة ضخمة أخرى من اليهود متجمعة في الأساس في منطقة (خيبر)، فكيف تعامل رسول الله مع هذه القبائل المختلفة من اليهود؟ لكي نفهم تفاعل الرسول مع اليهود لا بد أن تكون لدينا خلفية عن طبيعة اليهود، وخلفية أخرى عن إستراتيجية اليهود في التعامل مع المسلمين، أي فكر اليهود في التعامل مع المسلمين.



انظر فلاشة التجمعات اليهودية في المدينة المنورة


اليهود في القرآن

إن خلفية الفكر اليهودي في تعامله مع المسلمين تتلخص في قول الله : {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82]. وانتبه إلى أنه رغم ما عرفناه من مكائد قريش الكافرة في حربها ضد رسول الله إلا أن حرب اليهود أشد، وعداوة اليهود أشد، ومكر اليهود أشد، لذلك بدأ رب العالمين بهم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82].



نريد أن نعرف كيف تعامل المنهج الإسلامي مع اليهود؟



وكيف تناول التشريع الإسلامي قضية اليهود؟



لقد كان هناك طوال العهد المكي إعداد نفسي للصحابة لتجهيزهم للمكان والبيئة التي سيهاجرون إليها بعد ذلك بكل ما فيها من عناصر، رغم أن الصحابة طوال العهد المكي لم يكونوا يعرفون أنهم سيهاجرون إلى المدينة المنورة حيث التجمعات الضخمة لليهود، لكن هذا الإعجاز ظاهر في كتاب الله ، فهناك كمٌّ هائلٌ من الآيات عن اليهود ذكرت في كتاب ربنا I في فترة مكة، وإن الآيات المكية التي تحدثت عن اليهود أكثر من أن تحُصى.



إن هذا المنهج الرباني عظيم جدًّا ويجب أن نقف عنده وقفة، فالله I أراد أن يوسع أفق المسلمين لما سيحدث لهم بعد ذلك، فقَبْل أن يعرفوا أنهم ستكون لهم دولة، وأنهم سيتعايشون مع اليهود يحيطهم علمًا بما يجري في الأرض من حولهم.



تجد في القرآن المكي آياتٍ يستغربها المحلِّل لها إلا أن يفقه المنهج الإسلامي الرفيع الذي أوحى به رب العزة I إلى النبي الكريم؛ تقرأ حديثًا في القرآن المكيِّ عن الروم ،وتجد حديثًا في القرآن المكي عن اليهود، تجد الرسول يحدث الصحابة عن ملوك العجم، فيكلمهم عن قيصر وعن كسرى وعن المقوقس، فهو على دراية بزعماء العالم في زمانه مع أن المسلمين كانوا في فترة مكة مضطهدين ومشردين وليست لهم دولة ولا حتى شوكة، وكانوا مأمورين بالكفِّ عن المشركين، أي أن احتمالية بناء دولة كانت بعيدة جدًّا في الحسابات المادية، ومع ذلك فإن رب العالمين I كان يعلمهم كيف يدور العالم من حولهم، وهذا منهج يجب أن نعمل به فلا ننصرف عن دراسة أحوال العالم من حولنا بدعوى أننا دول إسلامية صغيرة ضعيفة، أو بدعوى أننا مجموعة من الملتزمين البسطاء.



إنني أحزن كثيرًا عندما أجد الكثير من الشباب لا يعرفون شيئًا من أحوال الدنيا من حولهم، فتراهم لا يدرون بما يحدث في فلسطين أو في الشيشان، أو العراق أو السودان، ولا يدرون بما يحدث بين أمريكا وروسيا، أو بين أمريكا والصين، أو بين الهند وباكستان، وكل العلاقات الدولية المتشابكة التي تنسج خيوطها حول العالم، والتي لا بد أن يفقهها المسلمون حتى يتمكنوا من الاستفادة منها يومًا ما؛ فستنهار قُوًى وتنهض قوى أخرى، وربما سيؤثر ذلك سلبًا على المسلمين أو بالتأكيد سيكون ذا أثرٍ.


انطباعات القرآن المكي عن اليهود

تحدث القرآن المكي كثيرًا عن بني إسرائيل قبل أن يعرف المسلمون أنهم سيذهبون إلى المدينة المنورة، فماذا قال القرآن المكي عنهم؟



لقد ترك القرآن المكي انطباعات إيجابية كثيرة جدًّا عن اليهود، فلم يذكر القرآن المكي عندما كان يتحدث عن بني إسرائيل كلمة اليهود أبدًا، وكلمة اليهود هذه استحدثت في بني إسرائيل بعد أن خالفوا الأنبياء كثيرًا، لكن الفترة التي كانت قبل المخالفة والتي كانوا فيها أتباعًا للأنبياء: موسى ومن بعده من أنبياء، كان يُطلق عليهم في القرآن الكريم (بنو إسرائيل)، وإسرائيل - لا شك - هو نبي الله يعقوب ، ونسبة هؤلاء إلى النبي شرف لهم وتعظيم؛ فترتفع قيمة بني إسرائيل في قلوب المسلمين. إذن القرآن المكي كله يتكلم عن بني إسرائيل بهذا اللفظ، ولم تذكر كلمة يهود ولا مرة في القرآن المكي، وذكرت كلمة أهل الكتاب في القرآن ثلاثين مرة، منها مرة واحدة فقط في القرآن المكي، وجاءت في قوله تعالى: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46]. أي إنه عندما جاء ذكر اليهود مندرجًا تحت مصطلح أهل الكتاب الذي يضم اليهود والنصارى جاء فيها الأمر بالمخاطبة بالتي هي أحسن، وتحدث رب العالمين في كثير من الآيات عن موسى ، وجاء ذكره في القرآن 136 مرة، منها 122 مرة في القرآن المكي، فهو تركيز كبير جدًّا على قصة موسى ، وقد جاء معظم الكلام عن قصة نبي الله موسى مع فرعون وليس عن مخالفات بني إسرائيل الكثيرة، وإن كان ذلك موجودًا على سبيل الإجمال.



وقد ذكر رب العالمين أنه أعطى بني إسرائيل الكثير، حتى قال I في القرآن المكي أيضًا: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان: 32]. ووصف رب العالمين I بني إسرائيل بأنهم صبروا، قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 137].



إذن لدينا ذكر بني إسرائيل بهذا اللفظ فقط، والتركيز على قصة موسى مع فرعون، والتحدث عن صبر بني إسرائيل، وخطاب الأمر للمسلمين بالتعامل مع أهل الكتاب بالتي هي أحسن: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46].



هذه الأمور أعطت انطباعًا إيجابيًّا للمسلمين عن اليهود، وفي النهاية فاليهود أهل كتاب، ويؤمنون بالإله الواحد، ويؤمنون بالرسل، ويؤمنون بالكتب السماوية، ويتوقعون ظهور نبيٍّ؛ لذا فمن الطبيعي جدًّا بالأسباب المادية أن يؤمن اليهود عندما يسمعون عن رسول الله ؛ لذا ترك الله هذه الانطباعات الإيجابية لدى المسلمين حتى يعطيهم الفرصة لكي يتحاوروا ويتناقشوا ويتجادلوا بالتي هي أحسن، فيكسبوا قلوب اليهود إلى دولة الإسلام، ولا شكَّ أن في هذا نصرًا كبيرًا للدعوة، واستنقاذًا لعدد كبير من البشر من النار.



لكن في الوقت نفسه ذكر الله I أيضًا في القرآن المكي بعض الأمور التي تركت انطباعًا آخر عند المسلمين عن اليهود، فمثلاً يتحدث القرآن عن اتخاذ قوم موسى العجل من دون الله {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} [الأعراف: 148]. فعرف الصحابة أن هؤلاء القوم، أو على الأقل أجداد هؤلاء الذين يعيشون في المدينة- قبلوا أن يسجدوا للعجل من دون الله لما تأخر عنهم موسى مدة ثلاثين أو أربعين يومًا، ولقد مكث الصحابة ثلاث عشرة سنةً في مكة، وما فكروا في أي صورة من صور الأعمال الشركية، فبمجرد أن فهموا العبودية لله I جعلوا حياتهم كلها مستقيمة له، فكان بالنسبة لهم تصور غريب جدًّا أن يكون هناك أناس مؤمنون برسول ويؤمنون بإله، ثم يتعاملون مع قضية العبودية بهذه الصورة. وكما قرأنا في القرآن المكي: {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} [الأعراف: 129].



كيف يكون سوء الأدب مع موسى الذي يجلّه الصحابة وما رأوه! وغير هذا كثير جدًّا من الآيات الكريمة، وراجع القرآن المكي وستجد قصة بني إسرائيل: ستجد قصة القرية التي كانت حاضرة البحر، وستقرأ قوله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138]. وستجد: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 4].



إذن هم قوم يُحدِثون فسادًا في الأرض، نَعَمْ قال رب العالمين: {مَرَّتَيْنِ}، ولكن ربنا وهو العليم بهم قال: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء: 8].



أي من الممكن أن يعودوا للإفساد، فهل سيعودون للإفساد في المدينة مرة أخرى أم لا؟ قضية تحتاج إلى إجابة.



بهذه المشاعر دخل الصحابة الكرام، ومعهم رسولنا الكريم المدينة المنورة، اليهود أهل كتاب مثلنا، وأتباع نبي مثلنا، ويؤمنون بإله واحد مثلنا، ومع ذلك فَهُمْ على حذر منهم. لماذا؟ لأنهم قوم يسيئون الأدب مع الأنبياء، متمردون على طاعة الله، متحايلون على الشرع، مختلفون بعد العلم، ناكرون للجميل، كافرون بالنعمة، وهكذا يصبح هناك انطباعات إيجابية وأخرى سلبية عن اليهود عند المسلمين. توجد نظرة متوازنة: عندهم أمل كبير في إسلام اليهود، ولكن في الوقت نفسه يعيشون على حذر تام من مكرهم.



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة Empty رسول الله يدرس واقع المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:45 am

رسول الله يدرس واقع المدينة

المدينة المنورة قديماأول ما فكر فيه رسول الله بعد بنائه المسجد، هو دراسة واقع المدينة المنوّرة بعد أن هاجر إليها.



مَنْ يعيش في المدينة المنوّرة؟



مَنْ حول المدينة المنوّرة؟



مَنْ أصدقاء المدينة المنوّرة؟



مَنْ يعادي المدينة المنوّرة؟



مَنْ يُحايد المدينة المنوّرة؟



ولكن ما الهدف من دراسة واقع المدينة في ذلك الوقت؟



لأن رسول الله سيبني أساسًا قويًّا لدولة ستصبح دولة الإسلام، فيجب أن يعرف الواقع الذي تعيش فيه هذه الدولة، والواقع الذي حول هذه الدولة، والرسول يبني دولة على أرض فيها الكثير من المتغيرات الهائلة، والكثير من المشاكل الضخمة، والكثير من الأزمات الطاحنة، وتعددت الطوائف التي يجب أن يتعامل معها رسول الله من أوّل يوم دخل فيه المدينة المنوّرة.



وكانت كل طائفة من هذه الطوائف لها مشاكل خاصة ولها حسابات مختلفة، ولها أزمات متشعبة ولها أولويات تختلف كثيرًا عن أولويات الطوائف الأخرى.



تعالوا بنا نلقي نظرة على هذه الطوائف المختلفة؛ لنعرف مدى حكمة النبي في التعامل مع كل هذه الطوائف.


الطوائف التي تعامل معها رسول الله بالمدينة

نستطيع أن نصنف هذه الطوائف إلى ثلاث مجموعات، وسوف تظهر مجموعة رابعة خطيرة جدًّا، لكن بعد سنتين من الهجرة.


المجموعة الأولى

المجموعة الأولى من هذه الطوائف هي مجموعة في غاية الأهمية، وهي مجموعة المسلمين، والمسلمون أكثر من نوع:



أولاً: أهل المدينة الأصليون من المسلمين والذين عُرفوا بعد ذلك بالأنصار، وكان هؤلاء طائفتين كبيرتين هما الأوس والخزرج، وكانت بينهما مشاكل كبيرة، وسنرى كيف تعامل معهم النبي .



ثانيًا: المهاجرون وهم الذين فرّوا بدينهم من مكّة إلى المدينة بغير زاد ولا مال ولا أي شيء، وهؤلاء موقفهم صعب للغاية.



ثالثًا: المهاجرون في الحبشة، ومع بُعد مكانهم إلا أن النبي لم ينسهم يومًا من الأيام وعددهم كبير، أكثر من ثمانين رجلاً وامرأة مع أولادهم وممتلكاتهم، وموجودون في الحبشة منذ سنين.



رابعًا: المسلمون في القبائل غير المكّيّة الذين يعيشون في شبه استقرار، ولكن بعيدًا عن المدينة المنوّرة؛ بعض المسلمين في اليمن، وبعض المسلمين في قبيلة غفار، وبعض المسلمين في قبيلة أسلم، وفي غيرها من القبائل بعيدًا عن المدينة المنوّرة، وليس لهم سندٌ واضح في داخل المدينة المنوّرة، ومع ذلك هم في قبائلهم أعزّة، فما موقف هؤلاء؟



خامسًا: المستضعفون في مكّة الذين لا حول لهم ولا قوة، ولم يستطيعوا أن يهاجروا لضعفهم وقلة حيلتهم مثل أم الفضل زوج العباس بن عبد المطلب، ولم يكن إلى هذه اللحظة قد أسلم، وهي امرأة ضعيفة فكيف تهاجر بمفردها ومعها ابنها الصغير عبد الله بن عباس وأرضاه، الذي كان يقول: "كنت أنا وأمي من المستضعفين في مكّة"[1]. فهؤلاء أيضًا كان لهم موقف.



فهذه الطوائف الخمس من المسلمين كان على رسول الله أن يضع حلاًّ وطريقةً ومنهجًا لكل طائفة، مع أن هذه الطوائف متباينة، وكل منها يعيش في ظروف تختلف تمامًا عن الطوائف الأخرى، كلٌّ له خلفياته، وله تربيته، وله أصوله. وسبحان الله مع هذا الوضع المعقد جدًّا، كان على الرسول أن يحلّ كل هذه المشاكل، ويقيم دولةً متجانسة من هذه الطوائف المختلفة من الناس.


المجموعة الثانية

المجموعة الثانية وهي طائفة المشركين، وقد فُرض على رسول الله فرضًا أن يتعامل معها، ولا يعتقد أحد أن المدينة المنوّرة عندما هاجر النبي إليها كانت تمتلئ بالمسلمين، إن استقبال الأنصار للرسول عليه الصلاة والسلام هذا كان من المسلمين من الأوس والخزرج، ولكن الكثير من أهل المدينة حتى هذه اللحظة لم يُسلموا، بل ظلوا على شركهم، وظلوا يعبدون أصنامهم في وجود الرسول ، فهذه طائفة كبيرة، فكيف تعامل الرسول مع المشركين من الأوس والخزرج؟



هناك أيضًا المشركون من الأعراب حول المدينة، وكانت هذه القبائل في معظمها تعيش على السلب والنهب وقطع الطريق، فكيف تعامل معهم رسول ؟



وهناك أيضًا المشركون من القبائل الكبرى حول المدينة، يوجد بعض القبائل الكبيرة الضخمة ما زالت مشركة، كيف سيتعامل معها الرسول مثل قبيلة جُهَيْنة مثلًاً، أو قبيلة مُزَيْنة، وبعض القبائل الأخرى؟



ثم هناك المشركون من قريش، ولا يظن أحد أن المشركين في قريش قد نَسوا قصة الرسول بمجرَّد أنه هاجر. نَعَمْ المسافة بعيدة جدًّا بين المدينة ومكّة، والظروف قاسية جدًّا في هذا الطريق، وهو طريق صحراويّ وعِرٌ في ذلك الوقت، لكن الله I يقول في كتابه الكريم: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217]. فهذا أمر واضح جدًّا، وهو أن قريشًا لن تنسى أبدًا هذه القضية، وهي لم تنساها بالفعل وما نسيتها يومًا من الأيام.



فهذه أربع طوائف من المشركين: مشركو أهل المدينة من الأوس والخزرج، ومشركو الأعراب حول المدينة، ومشركو القبائل الكبرى حول المدينة مثل قبيلة جهينة، ومشركو قريش.



كيف تعامل الرسول مع كل هذه الطوائف؟ ومع كونهم جميعًا من المشركين إلا أن طريقة التعامل معهم تختلف حسب بيئة كل منهم، وظروفه، والتاريخ بينه وبين رسول الله .


المجموعة الثالثة

المجموعة الثالثة وهي في منتهى الخطورة، (مجموعة اليهود):



واليهود -كما هو معروف عنهم- أهل غدر وخيانة، وفي الوقت ذاته أهل قوة وسلاح، فكيف سيتعامل معهم الرسول ؟ ولم يكن اليهود يسكنون حول المدينة، بل كانوا يسكنون في داخلها، ولم يكونوا واحدًا أو اثنين بل كانوا ثلاث قبائل قوية: قبيلة بني قينقاع، وقبيلة بني النضير، وقبيلة بني قريظة. وفي شمال المدينة المنوّرة قبائل أخرى من اليهود تعيش في منطقه خيبر ووادي القرى، فكيف سيتعامل الرسول مع كل هؤلاء اليهود، أتراه يعاهدهم أم يحاربهم؟!



ومن المهم أن أقول في هذا المقام أن هناك طرقًا مختلفة للتعامل في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام، كان لكل طريقة منها ظرف، فلو لم أستوعب الظروف التي من أجلها اختار النبي منهجًا معينًا للتعامل مع هذه الطوائف المختلفة المتباينة، فعندها لن أكون قد فهمت السيرة النبويّة.



ومن ثَمَّ يجب الوقوف على كل حدث من هذه الأحداث وتحليله بدقة؛ لكي تُعرف الأبعاد التي من وراء هذا الحدث، والتي من أجلها اتّخذ الرسول قرارًا دون آخر.



فهذه ثلاث مجموعات مهمة جدًّا تعامل معهم رسول الله ؛ مجموعة المسلمين، ومجموعة المشركين، ومجموعة اليهود. وبعد سنتين ستظهر على الساحة مجموعة رابعة هم المنافقون، نُؤجِّل الكلام عنها إلى حينها.



كيف تعامل الرسول مع كل مجموعة من هذه المجموعات، ومع كل هذه الطوائف المتباينة؟ تُرى ما حكم الشرع الإسلامي في التعامل مع هذه النوعيات المختلفة من البشر؟!



هذا ما سنجيب عليه في المقال المقالات القادمة إن شاء الله.



د. راغب السرجاني

[1] البخاري: كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه وهل يعرض على الصبي الإسلام (1291).
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة Empty الإذن بالقتال

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:46 am

الوضع داخل المدينة وخارجها

مرَّ على المدينة الآن ستة أشهر من بدء المرحلة المدنية من السيرة النبوية، والوضع داخلها فيه شيء من الاستقرار، ولكنه استقرار على بركان قابل للانفجار في أيِّ لحظة، فالمسلمون الآن تقريبًا يحكمون المدينة، ولكن هناك قوى غادرة خطيرة ما زالت تنتشر بينهم في المدينة، وهذه القوى موزَّعة بين مشرك لا يؤمن بالله ويكره هذا الدين الجديد الذي سلبه ملكه وسيادته، وذلك كعبد الله بن أُبيّ بن سلول، وبين يهوديٍّ منحرف علم الحق واتبع غيره.



الوضع خارج المدينة أيضًا فيه بعض الاستقرار ولكن تشوبه اضطرابات كثيرة، فمع أن هناك معاهدات مع بعض القبائل المحيطة بالمدينة لكن تهديد قريش للمدينة كان مستمرًّا، وعلاقات قريش بالأعراب حول المدينة قويّة، ولا يستبعد أبدًا أن يحدث هجوم قرشيّ شامل على المدينة بتعاون مع الأعراب، أو المشركين داخل المدينة، أو مع اليهود، أو مع غيرهم.


الإذن بالقتال

الإذن بالقتالماذا يحدث إن بوغت المسلمون بهجوم في أي لحظة؟



إن القتال كان منهيًّا عنه حتى هذه اللحظات، ولو حدث وهجم أحد المشركين على المسلمين فالقاعدة هي {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94].



لكن الوضع الآن تغير، وأصبح للمسلمين شوكة -ولو أنها ضعيفة- إلا أنها موجودة، وأصبح لهم كيان ودولة. ولا يستقيم لمن أراد أن يقيم دولة ألا يكون قادرًا على الدفاع عنها.



ولكن كيف الدفاع والقتال منهيٌّ عنه؟



هنا ينزل حكم ربنا I للمسلمين بالإذن بالقتال، فيتغير الوضع بتغير المرحلة: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39].



التشريع محكمٌ، وليس عشوائيًّا أبدًا، وهذا من فقه المرحلة؛ المرحلة السابقة في مكة كانت تستلزم الكف والإعراض، وهذه المرحلة تستلزم الإذن بالقتال، والإذن فقط وليس الفرض، وهذا فارقٌ دقيق.



فالإذن تستطيع به أن تقاتل أو لا تقاتل حسبما ترى، وذلك تبعًا لتقديرك لقوتك، ولكن الفرض ليس لك فيه إلا أن تطيع. وهذه ستكون مرحلة أخرى لاحقة قريبة.



كما أننا نلاحظ التدرج الجميل في التربية، فلا يحُمل الناس مرة واحدة على شيء يكرهونه، والناس عادةً تكره القتال {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216].



وكان هذا الإذن بداية تغير إستراتيجي في خط سير المدينة المنورة.


موقف المسلمين بعد الإذن بالقتال

الآن، أُذِن للمسلمين أن يرفعوا عن أنفسهم بعضَ أو كُلَّ الظلم الذي وقع عليهم، إن رأوا أن لهم قدرة على ذلك. والذي أوقع عليهم الظلم في الأساس هم أهل مكة الكافرين، ولم يكن الظلم ظلمًا واحدًا، بل كان ظلمًا متعددًا مركَّبًا؛ فهناك ظلم في الجسد بالتعذيب والحرق والإغراق والقتل أحيانًا، وظلم في المال بمصادرته بدون وجه حق واغتصابه بالقوة، وظلم في الديار بالطرد منها وأخذها، بل بيعها وأكل ثمنها، وظلم في النفس والسمعة بالسبِّ والقذف وتشويه السمعة، وظلم في الحرية بالحبس والعزل عن المجتمع.



فماذا يفعل المسلمون لرفع هذا الظلم؟



إن هجوم المسلمين على مكة الآن بجيش قد لا يكون أمرًا حكيمًا، فقوة المسلمين ما زالت ناشئة، وعددهم ما زال قليلاً، كما أن المدينة مضطربة بالمشركين واليهود، وتركها لمدة طويلة قد لا يكون آمنًا.



فماذا نفعل؟



لقد كان الحل هو مهاجمة قوافل قريش التي تتجه إلى الشام:



- فهذه القوافل لا تحميها إلا قوة عسكرية بسيطة تستطيع القوة الإسلامية أن تجابهها.



- كما أنها تمر قريبًا من المدينة، فلن يكون هناك جهد كبير على المسلمين.



- وسيعودون إلى المدينة بسرعة قبل أن تحدث بها فتن أو ثورات.



- وهم في الوقت ذاته سيستعيدون شيئًا من أملاكهم المسلوبة.



- ويوقعون الرهبة في قلوب أعدائهم.



لقد كانت فكرة صائبة حقًّا أن يرفع المسلمون الظلم عن كاهلهم بمهاجمة قوافل القبيلة المعادية قريش.



وهذه حالة حرب حقيقية، وليس هنا مجال لما يطعن به المستشرقون والعلمانيون بأن المسلمين يغيرون على الآمنين من قريش.



فهذه حرب معلنة بين دولة المدينة المسلمة ودولة مكة الكافرة، وكِلا الطرفين يستحل دم ومال الآخر، وكلا الطرفين يضرب مصالح الآخر، وهذا عرفٌ في حالة الحرب متعارف عليه في كل الأزمان وفي كل الأماكن، والإسلام دين واقعيٌّ، يرد القوة بالقوة، ويشهر السيف في وجوه من أشهروا سيوفهم عليه {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشُّورى: 41، 42].



يلومون المسلمين؛ لأنهم هاجموا قوافل قريش التي استولت على أموالهم وأخذت ديارهم، ولا يلومون مَن سلب أموال شعب بأكمله، وقد تكرر هذا في التاريخ كثيرًا.



يلومون المسلمين؛ لأنهم قتلوا من قاتلهم قبل ذلك، وعذَّبهم وشرَّدهم، ولا يلومون مَن أباد الشعوب بالبارود والنابالم والقنابل الذرية والعنقودية واليورانيوم! مكاييل مختلفة؛ وذلك لأنهم لا يحكمون بشرع الله I، وإنما يحكمون بأهوائهم.


تربية الصحابة قبل القتال

قبل هذا التخطيط العسكري لمهاجمة قوى قريش المعادية لا بد من تربية خاصة للنفوس. الآن هناك تشريع جديد، وقانون يسمح بالقتال، ولكن لماذا تقاتل؟ وماذا لو قتلت في المعركة؟ وماذا لو انتصرت؟ هذه أمور لم يعرفها المسلمون قبل ذلك؛ لأن التشريع جديد، والظروف جديدة.



هنا نجد أن رسول الله -كعادته في تربية المؤمنين- لا يكتفي فقط بذكر التشريع الدقيق أو القانون المحكم، إنما يرتقي بأحلام المؤمنين دائمًا إلى الجنة، ويتجه بنياتهم إلى الله .



القتال في الإسلام هو قتال في سبيل الله، ليس في سبيل النفس، وليس في سبيل القائد، وليس في سبيل الدنيا بأسرها، إنما هو في سبيل الله.



لذلك تجد دائمًا أن كلمة الجهاد في القرآن أو السُّنَّة تأتي مقرونة بـ (في سبيل الله)، {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111].



وروى مسلم عن أبي هريرة ، أن رسول الله قال: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوَدِدْتُ أَنِّي أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ"[1].



وهذا مخالفٌ تمامًا لأغراض الحرب عند غير المسلمين أو عند جيوش العلمانية من المسلمين، فمنهم من يقاتل رغبة في سبيل المال أو السلطة أو التملُّك، ومنهم من يقاتل رهبةً وخوفًا من القائد.



ليست هناك قضية حقيقية يقاتل من أجلها؛ ومن ثَمَّ يقاتل بلا حماسة وبلا روح وبلا هدف، وبالتالي فلن يكون عنده مانعٌ من الهرب إذا استطاع، ومن التهرب من الجيش إن أمكنه ذلك، وحينئذٍ تضيع النيات والأهداف.



أما القتال في الإسلام فمختلف؛ القتال في سبيل الله، والله حيٌّ لا يموت؛ لذلك فروح الجهاد عالية بصورة مستمرة.



لقد قام رسول الله بالإعداد التربوي والنفسي على أعلى مستوى، وأصبح الصف الإسلامي جاهزًا للصدام المروع مع قريش. لكن مع ذلك لم يكن خروج المسلمين إلى القتال خروجًا عشوائيًّا غير مخطَّط، بل إن الرسول جهّز مسرح العمليات بقدر ما يستطيع، فعقد معاهدات مع القبائل التي تقع في غرب المدينة، والتي ستمر بها قوافل قريش، وهذه معاهدات جوارٍ ودفاع مشترك، وهو بهذه المعاهدات سيحيد على الأقل جانب هذه القبائل، وسيطمئن إلى أنه لن يضرب من ظهره في أثناء حربه مع قريش، وسيقوم بعقد معاهدات أخرى لاحقًا لاستكمال نفس الغرض، فكان دائم الأخذ بالأسباب وإعداد العدة، وهذه من أبلغ طرق النصر.



د. راغب السرجاني

[1] مسلم: كتاب الإمارة، باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله (1876) ترقيم عبد الباقي. ورواه ابن ماجه (2753) ترقيم عبد الباقي، وأحمد (7157) طبعة مؤسسة قرطبة.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة Empty أسباب ومقدمات غزوة بدر

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:46 am

الواقع العام في المدينة المنورة

غزوة بدرالدولة الإسلامية لها من العمر الآن سنتان في المدينة، ورسول الله يقود الدولة، ولكن الوضع داخل المدينة ليس مستقرًّا أبدًا؛ فلدينا طوائف شتى من المشركين من قبيلتي الأوس والخزرج، ولدينا اليهود، ولدينا قريش، خاصةً بعد أن جرحت في كبريائها في سرية نخلة، وهناك أيضًا قبائل الأعراب المحيطة بالمدينة، والتي كانت تعيش قبل ذلك على الإغارة والسرقة، ووجود دعوة إسلامية في المدينة يحجِّم كثيرًا من أنشطة السلب والنهب لتلك القبائل، وهذا -لا شك- لا يعجب هذه القبائل، فالأوضاع إذن غير مستقرة بالمرَّة.


أهمية غزوة بدر

يوم الفرقان أو غزوة بدر كانت في 17 من رمضان سنة 2 هجرية، المعركة التي قلبت موازين العالم، أو بالأحرى عدَّلت موازين العالم المقلوبة.



ومن الأهمية بمكان أن نذكر أنه ليس من الضروري أن تحدث نقاط التغيير المحورية في العالم نتيجة صراع بين قوة عالمية أولى، وقوة أخرى في نفس وزنها وعلى قدرها، بل قد يبدأ التغيير بحدث لا يعطيه الناس أيَّ أهمية، بل قد لا يشعرون به أصلاً، فمن كان يسمع ببدر من الفرس والروم أو أهل الصين؟ بل تدبر معي: ما قيمة غزوة بدر أصلاً؟



إن بدرًا معركة بين ثلاثمائة ونيِّف من المسلمين أمام ألف من المشركين في نقطة مجهولة في الصحراء، وأيُّ محلل عسكري في ذلك الوقت لن يرى فيها أكثر من معركة بين قبيلتين أو مجموعتين من الناس، أو مشاجرة بين عائلتين، لا تحمل أيَّة خطورة على القوى العالمية الموجودة آنذاك.



إن جيوش الروم في ذلك الوقت كانت تقدَّر بالملايين، وجيش فارس كان يزيد على مليوني جندي، بينما كانت الشعوب تعيش على مساحات واسعةٍ من الأرض تُكوِّن الآن عشرات الدول.



إن معركة بدرٍ في التحليل السطحي معركة عابرة لا يُرجى أن يكون لها أيّ أثر من أيّ نوع، إلا في بعض النقاط غير المرئية في حياة الصحراء، ولكن التحليل العميق يثبت غير ذلك تمامًا، فبعد بدر ولدت أمة ثابتة راسخة لها رسالةٌ ولها هدف ولها طموح، تغير التاريخ البشري حقًّا بعد قيام دولة الإسلام، فقد نشأت الأمة التي حملت على عاتقها هداية البشرية، الأمة التي ستصبح خير أمة أخرجت للناس.



خرج الجيش الذي سيزلزل بعد ذلك عروش كسرى وقيصر.


يوم الفرقان

إن بدرًا معركة فرّقت بين مرحلة كانت فيها دولة الإسلام دولة ناشئة ضعيفة مهددة، ومرحلة أخرى صارت فيها هذه الدولة فتيَّة قويَّة لها اعتبار وشأن في المنطقة، وأصبح العالم كله يسمع عنها.



كانت بدر إذن لحظة فارقة حقًّا؛ لذلك ليس من المستغرب أن يسميها الله I يوم الفرقان.



إنَّ مقاييس الله I ليست كمقاييس البشر، فقد حدثت عدة صدامات وحروب مروعة بين الروم والفرس، ولم يتغير من واقع العالم ولا من وجه التاريخ شيءٌ، يقول تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الرُّوم: 1- 4].



فازت الروم أو هزمت الروم ليس لذلك أثرٌ في واقع الأرض، ما هي إلا لحظات عابرة في عمر البشرية، أمَّا الصدام البسيط الذي حدث بين المدينة المنورة ومكة فقد غَيَّر وجهَ الأرض إلى يوم القيامة.



لم تكن بدر أبدًا لحظة عابرة، بل كانت لحظة فارقة.



وإذا كان الأمر كذلك فيجب أن نقف وقفة طويلة أمام غزوة بدر، فغزوة بدر لم تكن غزوة عظيمة بجغرافيتها أو خططها أو السلاح المستخدم فيها، إنما كانت عظيمة بأهل الحق فيها، ولو كانوا قلة بسيطة فقراء أو كما وصفهم القرآن أذلة: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123].



كانت بدر عظيمة بالطائفة المؤمنة النبيلة التي شاركت فيها.



من أجل هذه الطائفة حدثت تغييرات كونيَّة هائلة، فنزلت الملائكة وخضع الشيطان، بل نكص على عقبيه مذمومًا مدحورًا.



لا بد أن نقف وقفة لندرس هذه الطائفة المؤمنة.



هذه الطائفة هي معيار للجيش المنتصر.



إن جيش بدر مقياسٌ لجيوش المسلمين؛ فالجيش الذي يستطيع الاتصاف بصفات جيش بدر يستطيع تحقيق انتصارات كانتصار بدر، ويستطيع صناعة يومٍ يسمَّى (يوم الفرقان)، سواء كان ذلك الآن، أو من مائة سنة مضت، أو بعد مائة سنة قادمة، وإلى يوم القيامة.


أسباب غزوة بدر

قافلة مكية عائدة من الشام إلى مكة بقيادة أبي سفيان بن حرب، قافلة ككل القوافل التي خرج إليها المسلمون قبل ذلك، ومعظم القوافل التي قبل ذلك لم يحدث فيها قتال، وحتى القتال الوحيد الذي حدث في سرية نخلة كان قتالاً بسيطًا جدًّا بين عشرة من المسلمين وأربعة من الكفار.



لكن هذه القافلة كانت تختلف عن بقية القوافل في بعض الأمور المهمة:



أولاً: هذه القافلة من أكثر قوافل مكة مالاً، وضربها يمثِّل ضربة اقتصادية هائلة لمكَّة؛ ألف بعير مُوقَرَة بالأموال، لا تقل عن 50 ألف دينار ذهبي.



ثانيًا: هذه القافلة ليست بقيادة قائد مغمور من قواد مكة أو تاجر عادي من تجار قريش، وإنما هي بقيادة أبي سفيان بن حرب من سادة قريش ومن سادة بني أميَّة. ومن الواضح أن للقافلة عند قريش أهميةً بالغةً، ومن ثَمَّ جعلت لها حراسة مشددة وقوية مكوَّنة من ثلاثين أو أربعين رجلاً، في حين لم يكن على حراسة قافلة نخلة سوى أربعة رجال فقط.



ثالثًا: وهو الأهم، أن هذه القافلة تمرُّ بجوار المدينة في شهر رمضان، أي بعد شهر ونصف فقط من أحداث سرية نخلة، وموقف المؤمنين مع هذه القافلة يؤكِّد صلابة موقف المسلمين، واستمرارية حربهم ضد قريش، ويثبت أنهم ليسوا خائفين من آثار سريَّة نخلة، بل على العكس يعتبر هذا الخروج تأكيدًا لقوة المسلمين وتصميمهم، ولا شك أن هذا سيهزُّ كفار مكة.



ولذلك خرج الرسول بأكبر عدد من المسلمين إلى هذه اللحظة، فكل السرايا والغزوات السابقة لم يتجاوز عدد المسلمين فيها مائتين.



المسلمون في غزوة بدر كانوا 313 أو 314 أو 317 على اختلاف الروايات؛ ولذلك أيضًا خرج الأنصار ولأول مرة مع المهاجرين، بينما كانت الغزوات والسرايا التي قبل بدر كلها معتمدة كُلِّيَّةً على المهاجرين.


الرسول يستشير أصحابه في الخروج

كان خروج الأنصار برغبتهم وبشورى من رسول الله ، كما جاء في صحيح مسلم، وقد استشار رسول الله الناس في الخروج للقافلة، وأعلن الموافقةَ أبو بكر وعمر وكثير من المهاجرين، ومع ذلك أخذ الرسول يطلب المزيد من الرأي حتى قال سعد بن عبادة زعيم الخزرج: "إيَّانا تريدُ يا رسولَ الله؟ والذي نفسي بيده، لو أمرتنا أن نُخِيضَها البحر لأخضناها (أي الخيل)، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى بَرْكِ الْغِمَادِ لفعلنا". وخرج الأنصار وبعدد كبير[1].


الجيش الإسلامي في بدر

كان عدد الأنصار في بدر مائتين وواحدًا وثلاثين:



61 من الأوس.



170 من الخزرج.



بينما كان عدد المهاجرين 83 فقط.



وتزود الرسول بسلاح المسافر، وأخذ معه فرسين وسبعين من الإبل، وقسَّم جيش المسلمين إلى مهاجرين وأنصار، وأعطى راية المهاجرين لعلي بن أبي طالب، وأعطى راية الأنصار لسعد بن معاذ، وأعطى الراية العامَّة للجيش لمصعب بن عمير، وجعل على الساقة في مؤخرة الجيش قيس بن صعصعة؛ فهو إعداد في منتهى القوة، ولا تنسَ أن ذلك الجيش يخرج لقافلة يحرسها ثلاثون أو أربعون رجلاً، وهذا يعني أن الجيش الإسلامي عشرة أضعاف حُرَّاس قافلة مكة تقريبًا.



المخابرات الإسلامية حدَّدت أن القافلة ستمر قريبًا جدًّا من بدر، وبدر على بُعد 70 كم جنوب المدينة، واتَّجه الرسول مباشرة إلى بدر؛ لكي يقطع الطريق على القافلة.


أبو سفيان ينجو بالقافلة

على الناحية الأخرى كان على رأس القافلة المكيَّة أبو سفيان بن حرب، واحدٌ من أذكى وأدهى العرب، وهو أيضًا له مخابراته، وقد استطاع أن يعرف أن الرسول خرج من المدينة المنورة قاصدًا القافلة، لكنه لا يعرف إلى أيِّ مكان وصل الرسول .



ولكنه لم يُضِع الوقت؛ فأرسل رسالة سريعة إلى مكة لاستنفار جيش مكة للخروج لإنقاذ القافلة، أرسل الرسالة مع ضمضم بن عمرو الغفاري.



وبسرعة كان ضمضم في مكة، ووقف على بعيره، وشقَّ قميصه، وبدأ في الصراخ على أهل مكة: "يا معشر قريش، اللطيمةَ اللطيمةَ، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمدٌ في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوثَ الغوثَ"[2].



قام الناس كلهم مسرعين، أخذوا الأمر في منتهى الجدية، فهم لم يفيقوا بعدُ من أزمة (سريَّة نخلة).


تكوين جيش المشركين

بدأت قريش في جمع المقاتلين من كل مكان، وعملوا على إعداد جيش على أعلى مستوى:



- ألف وثلاثمائة مقاتل من قريش، وما حولها من قبائل العرب. هناك ثلاثمائة رجعوا من الطريق.



- 100 فرس.



- 600 درع.



- إبل كثيرة لا يعرف عددها بالضبط، ولكنهم كانوا ينحرون للطعام فقط تسعة أو عشرة من الجِمَال في كل يوم.



- خرج على قيادة الجيش كل زعماء الكفر تقريبًا: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأبو جهل، وعقبة بن أبي معيط، ولم يخرج أبو لهب بل أخرج واحدًا مكانه.



- جعلوا على رأس الجيش أبا جهل، فرعون هذه الأمة وسيِّد قريش.



إعداد ضخم لجيش خطير، تعاون الجميع لإخراج هذا الجيش الكبير.


إبليس يتعاون في إتمام المعركة

تعاون مع كفار قريش الشيطان الأكبر إبليس لعنه الله، فعندما قررت قريش الخروج خافت من غدر بني بكر بها، وكان بينهما خلاف قديم؛ فكاد ذلك يقعدها، فتمثَّل لهم الشيطان في صورة سُراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، وكان من أشراف بني كنانة فقال لهم: "أنا جارٌ لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه"[3]. فخرجوا جميعًا، والقصة سندها صحيح، ولها أكثر من طريق. وسبحان الله! كم من المرات التي لا يعلمها إلا الله ساعد الشيطان أولياءه في حرب المؤمنين!



لكن كيد الشيطان هذا لا يسمن ولا يُغني من جوع، إنْ كان الله مع الفريق الآخر {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76].



فكان الشيطان ممن دفع الكافرين للخروج إلى حتفهم في بدر.


أبو جهل نظير إبليس

كذلك فعل أبو جهل وهو من كبار شياطين الإنس؛ فقد ورَّط زعماء مكة جميعًا في الخروج، ودفعهم أيضًا بنفسه إلى حتفهم، وقصته مع أُمَيَّة بن خلف عجيبة، والقصة في صحيح البخاري.



أمية بن خلف وهو من عتاة الإجرام، كان صديقًا لسعد بن معاذ في الجاهلية، وفي أثناء زيارة سعد بن معاذ لمكة، قال سعد لأمية: إنه سمع رسول الله يقول: "إنهم قاتلوك".



فزع أمية بن خلف، وقال: بمكة؟



قال سعد: لا أدري.



ازداد رعب أميَّة، ورجع مسرعًا إلى أهله، وقال لزوجته: يا أم صفوان، ألم تَرَيْ ما قال لي سعد؟



قالت: وما قال لك؟



قال: زعم أن محمدًا أخبرهم أنهم قاتليَّ. فقلت له: بمكة؟ قال: لا أدري. فقال أمية: والله لا أخرج من مكة[4].



وهذه القصة تؤكِّد لنا أن أهل الباطل في يقين تامٍّ من داخلهم أن أهل الإيمان على الحق، وأن كلامهم صحيح لا خطأ فيه، حق لا باطل فيه، لكن الكبر والبطر يمنعهم من الإيمان، فلا بد لكل مؤمن أن يتأكَّد تمامًا أن عدوَّه من داخله على رعبٍ منه وفزع شديد، مهما كان ظاهره قويًّا، وجيشه كبيرًا، وأعوانه من الكثرة بمكان.



فعندما قرر جيش مكة الخروج خشي أمية أن يخرج؛ لأنه يعرف أن كلام رسول الله صدق. حضر إليه أبو جهل فقال له: يا أبا صفوان، إنك متى ما يراك الناس قد تخلفت وأنت سيِّد أهل الوادي تخلفوا معك. في البداية رفض أمية، لكن أبا جهل أرسل إليه عقبة بن أبي معيط، وعقبة -كما نعرف- مجرم بل من أكابر مجرمي مكة، فأحضر مِجْمَرة لعطر النساء ووضعها بين يدي أمية، وقال له: إنما أنت من النساء. قال أمية: قبحك الله! لكن مع إصرار سيد قريش أبي جهل وافق مضطرًّا، ومع ذلك دبَّر خطة لكي تنقذه من القتل، قرر أن يشتري أجود بعير في مكة؛ لكي يستطيع الهرب عليه. ورجع البيت يتجهز للخروج، فقالت له أم صفوان: يا أبا صفوان، أوَقَدْ نسيت ما قال لك أخوك اليثربي؟ قال: لا، ما أريد أن أَجُوزَ معهم إلا قريبًا[5]. وفي أثناء الطريق قرر الرجوع أكثر من مرة، ولكنه فشل حتى وصل بدر، وكان مصيره الذي أخبر به رسول الله ، سبحان الله! {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطَّارق: 15- 16].



أحيانًا يكون رأس الباطل هو الذي يدفع جنده إلى الهلكة، استمع إلى الله يقول: {اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43].



كان أبو جهل يعتقد أن هذا هو أفضل إعداد، وأنه قد مكر بالمسلمين، ولكن: {وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43].



د. راغب السرجاني

[1] مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب غزوة بدر (1779) ترقيم عبد الباقي.

[2] ابن هشام: السيرة النبوية، طبعة مصطفى البابي الحلبي، الطبعة الثانية، 1375هـ، 1/ 609.

[3] ابن كثير: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة، بيروت، 1396هـ- 1971م، 2/ 386.

[4] البخاري: كتاب المغازي، باب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من يقتل ببدر (3734) ترقيم البغا.

[5] السابق نفسه.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة Empty تعامل رسول الله مع المشركين داخل وخارج المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:47 am

رسول الله والمشركون

في هذا المقال ننتقل إلى طائفة أخرى ممن تعامل رسول الله معهم في مجتمع المدينة المنوّرة، وهم طائفة المشركين.



إستراتيجية العمل مع المشركين في ذلك الوقت داخل الدولة في الحالة السلمية كانت إيصال الدعوة وحسن الجوار، وتجنب الصدام بقدر المستطاع، بل التعاون في القضايا المشتركة هو الأساس، ولنلقِ نظرة على مشركي المدينة، وكيف كان تعامل رسول الله معهم.


المشركون في المدينة

محمد رسول اللهقرر بعض المشركين الخروج من المدينة لما دخلها رسول الله ، وكان من هؤلاء (أبو عامر الفاسق) الذي كان معروفًا بأبي عامر الراهب، الذي كان قد قرّر أن يخرج عند دخول الرسول إلى المدينة، ودار بينه وبين الرسول حوارًا أوضح فيه ما في داخله، وقرر الخروج من المدينة. واسمه أبو عامر عبد عمرو بن صَيْفِيّ الأوسيّ، وهو أبو الصحابي الجليل (حنظلة بنن أبي عامر) غَسِيلُ الملائكة الذي استشهد في غزوة أُحُد .



كان هذا الرجل يدَّعِي أنه راهب، وأنه على دين الحنيفية، ولبس المسوح، وادَّعى هذا العلم أيام الجاهلية. لما ذهب الرسول للمدينة المنوّرة ذهب إليه أبو عامر الراهب، وبدأ يحاوره، قال أبو عامر: ما هذا الدين الذي جئت به؟ قال : "جِئْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ دِينِ إِبْرَاهِيمَ". قال الراهب: فأنا عليها. فقال : "إِنَّكَ لَسْتَ عَلَيْهَا". أي أن هناك تحريفًا كبيرًا جدًّا في الديانة التي هو عليها. قال أبو عامر: بلى عليها، إنك أدخلت يا محمد في الحنيفية ما ليس منها. فقال : "مَا فَعَلْتُ، وَلَكِنِّي جِئْتُ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً". قال الراهب: الكاذب أماته الله طريدًا وحيدًا غريبًا. وهو بقوله ذلك يُعرِّض برسول الله ويتهمه بالكذب، وأن الله سيميته طريدًا وحيدًا غريبًا، إلا أن رسول الله ردَّ عليه بكل ثباتٍ قائلاً: "أَجَلْ، مَنْ كَذَبَ فَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ ذَلِكَ". فكان أبو عامر الراهب كذلك؛ فبعد هذا الحوار بينه وبين رسول الله ، وبعد أن رأى أبو عامر المهاجرين والأنصار متحمسين للرسول ويتعاملون معه كزعيم للمدينة المنوّرة، بعد أن رأى ذلك لم يستطع أن يجلس في المدينة، وخرج من المدينة، وسماه الرسول بأبي عامر الفاسق، بدلًاً من أبي عامر الراهب. عاش أبو عامر الفاسق هذا في مكة المكرمة ثماني سنوات إلى أن جاء الفتح الإسلامي لمكة المكرمة في السنة الثامنة للهجرة، فهرب من مكة واتجه إلى الطائف، وسبحان الله! بعدها بقليل أسلمت الطائف في سنة تسعٍ من الهجرة، فهرب من الطائف، وعاش في الشام، وهناك مات طريدًا وحيدًا غريبًا، وكان كل من خرج من المدينة بضعة عشر رجلًاً.



لكن المجموعة الكبرى من الأوس والخزرج بقيت على شركها، وتعيش في المدينة المنوّرة، وعلى رأس هؤلاء عبد الله بن أُبيّ ابن سلول، وهو الذي أصبح بعد ذلك زعيمًا للمنافقين، هذا الرجل كان زعيمًا للخزرج، وكانت له مكانة كبيرة في داخل المدينة المنوّرة عند أوسها وخزرجها على السواء، وهو الوحيد الذي اجتمع عليه الأوس والخزرج لينصبوه ملكًا على المدينة، وذلك قبل قدوم الرسول ، وكانوا ينسجون له الخرز، أي يتوّجونه ملكًا للمدينة المنوّرة، واجتماعهم عليه هو أول اجتماع للمدينة المنوّرة على رجل واحد قبل رسول الله .



وفجأة تغيرت الأحداث وظهر أمر الرسول ، وآمن به ستة من الخزرج أي من قبيلة عبد الله بن أُبيّ ابن سلول، ثم اثنا عشر رجلًاً في بيعة العقبة الأولى، ثم 73 في بيعة العقبة الثانية، كل هذا لم يعلم به عبد الله بن أُبيّ ابن سلول، وقد كان رئيسًا لوفد المدينة في الحج في العام الذي بايع فيه الأنصار بيعة العقبة الثانية (13 من البعثة)، وكان مشركًا آنذاك، وكان وفد المدينة يضم 300 من يثرب منهم 75 مسلمًا و225 مشركًا، ولأنه كان زعيم الوفد كان يظن أنه يعرف كل شيء عن الوفد، ولما شككه بعض أهل قريش نفى بشدة، وقال: لو حدث هذا لاستشارني قومي. بعد ذلك، وبعد بيعة العقبة الثانية التي كانت في ذي الحجة من العام الثالث عشر من البعثة، ففي ربيع الأول من العام الرابع عشر من البعثة، أي بعد 3 أشهر أو يزيد قليلًاً هاجر إلى المدينة المنوّرة، ونُصِّب رئيسًا وزعيمًا للمدينة المنوّرة. سبحان الله! تسلَّم رسول الله ما كان سيتسلمه عبد الله بن أُبيّ ابن سلول، فتحرك الحقد في قلبه على أشد ما يكون، وخاصّة أنه ليس منهم، وإنما جاء من قبيلة أخرى، بل من مدينة أخرى، وكان هذا الأمر مستحيلًاً عند العرب، يستحيل أن يأتي رجل من قبيلة يرأس قبيلة أخرى ويجتمع عليه الناس، أمر غريب جدًّا عند العرب، لهذا رفض عبد الله بن أُبيّ ابن سلول هذا الأمر كُلِّيَّة، ولكي يقبله لم يكن أمامه إلا أن يكون مؤمنًا صادق الإيمان، وخاصَّةً بعد أن وجد أن كل من حوله متقبلون للرسول ، حتى المشركين الذين لم يدخلوا في الإسلام، وقف معظمهم على الحياد، فلم يعد هناك من ينصره على الرسول ، فكان في حالة من الحقد والغيرة للرسول ؛ فرفض الدخول في الإسلام وبقي على شركه وعاش في المدينة المنوّرة، وظل يبحث عن أي فرصة يُؤذي بها رسول الله ، ويناصر أعداءه عليه.



هكذا كانت إستراتيجية الدعوة الإسلاميّة، الدعوة السلمية قدر المستطاع مع مشركي يثرب؛ لأن هناك أملًاً كبيرًا في دعوتهم، والرسول كان يُقدِّم الحسنى على قدر المستطاع، ويدعو الناس بقدر المستطاع إلى الإسلام:



فمن ذلك ما رواه البخاريُّ أن رسول الله ركب على حمار، وأردف أسامة بن زيد وراءه، وذهب ليعود سعد بن عبادة وهو من سادات الخزرج، كان ذلك في أول أيام المدينة المنوّرة قبل بدر وقبل إسلام عبد الله بن أُبيّ ابن سلول، فمر على مجلس وكان بالمجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، ويجب أن نلاحظ أن الدعوة بالتي هي أحسن تقتضي المخالطة، أي يختلط المسلمون بغيرهم، ولكنهم لا يتأثرون بشركهم، ولا آثامهم، ولا معاصيهم. روى البغويّ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن الرسول قال: "الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى آذَاهُمْ، أَفْضَلُ مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لاَ يُخَالِطُهُمْ وَلاَ يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ"[1]. قال ابن المبارك - رحمه الله - في تفسير العزلة: "كن مع القوم، فإذا خاضوا في ذكر الله فخُضْ معهم، وإذا خاضوا في غير ذلك فاسكتْ"[2]. مرَّ رسول الله على هذا المجلس، وكان من المسلمين في المجلس عبد الله بن رواحة، وكان من الجالسين أيضًا عبد الله بن أُبيّ ابن سلول سيد الخزرج، فلما مرَّ حمار رسول الله على القوم غَبَّر ( أي أصاب الجالسين شيئًا من الغبار)، فقال عبد الله بن أُبيّ ابن سلول يرفع صوته على رسول الله يقول: لا تغبروا علينا. قالها بشيءٍ من الحدة، إنه يوضح أنه غاضب من رسول الله ، وبداخله حقد يبدو من كلماته تلك، ولكن الرسول تجاهل هذه الكلمة، ولم يهتم بها ونزل من على حماره، وسلم عليهم، ثم وقف ودعاهم إلى الله تعالى وقرأ عليهم من القرآن الكريم، فهو ما كان يترك رجلًاً ولا قبيلة ولا مجموعة من الناس، إلا وعرَّفهم بدعوته ، وقرأ عليهم القرآن. فقال عبد الله بن أُبيّ ابن سلول - وهو يتميز من الغيظ -: أيها المرء (يخاطب رسول الله )، إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقًّا، ولكن لا تؤذنا به في مجالسنا، وارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه. فقال عبد الله بن رواحة - وهو مسلم -: بلى يا رسول الله، ألا فاغشنا به في مجالسنا، فإنا نحب ذلك. وهكذا دافع ابن رواحة عن رسول الله ، على عكس عبد الله بن أُبيّ ابن سلول تمامًا، ذلك الشاب الصغير بخلاف عظيم القوم، ولكن لا بد هنا أن يدافع عن الرسول ، وهذا دور الشاب المسلم. فاستَبَّ المسلمون والمشركون واليهود، وقامت معركة كل فريق يناصر واحدًا منهم، فريق المسلمين مع عبد الله بن رواحة، وفريق المشركين مع عبد الله بن أُبيّ ابن سلول، لكن اللطيف في الرواية هو موقف اليهود، فعلى الرغم من أن اليهود لم يسبهم أحد، أو يتحدث معهم، إلا أنهم وجدوها فرصة لإثارة الفتنة، حتى كادت تقوم بينهم معركة بالسيوف، فلم يزل النبي يُخَفِّضُهم حتى سكنوا.



لكنه لم يترك الأمر هكذا، فذهب إلى سعد بن عبادة أحد زعماء الخزرج، فقال له: "أرأيت الذي فعل أبو حباب (يريد عبد الله بن أُبيّ ابن سلول)، قال كذا وكذا"[3]. فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله، اعفُ عنه واصفح، فوالذي أنزل عليك الكتاب، لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك، ولقد اجتمع أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصاب، فلما أَبَى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شَرِقَ بذلك، فذلك الذي فعل به ما رأيت فاعذره.



وهكذا كانت الرؤية واضحة عند سعد بن عبادة، ونصح لرسول الله ؛ لأنه يعلم ما في نفس عبد الله بن أُبيّ ابن سلول، ويطلب من الرسول أن يعذره، فهم لم يزالوا في المرحلة الأولى من مراحل المدينة المنوّرة؛ فلم يستمع إلى كلمات كثيرة من القرآن الكريم، ولم يحيَ معهم كثيرًا، اعفُ عنه واصفح لعلَّ الله أن يفتح قلبه بالإسلام. بعد ذلك عفا عنه رسول الله .



وهكذا كان الرسول يحاول قدر المستطاع أن يصل بالدعوة بالتي هي أحسن إلى مشركي الأوس والخزرج، وكان يحاول تجنب الصراع على قدر المستطاع، ومعظم المشركين لم يكونوا على ما عليه عبد الله بن أُبي ابن سلول، بل بالعكس وقفوا على الحياد، وهؤلاء مارس معهم الصحابة الدعوة الإسلاميّة بالتي هي أحسن، وذلك مثل ما حدث مع عمرو بن الجموح وغيره من الصحابة أجمعين.


المشركون من الأعراب

خريطة توضح أماكن تواجد الأعراب في الجزيرة العربية

أما المشركون من الأعراب فكان رسول الله يرسل لهم قدر المستطاع بعض من يدعوهم للإسلام، وكان يتخيرهم من أفراد قبيلتهم، مثل قبيلة (غفار) التي أرسل الرسول إليها أبا ذرٍّ الغفاري ، فأتى بنصف أهله ودعا لها رسول الله وقال: "غِفَارٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا"[4]. ومارس فيها الدعوة ولكن وهم في ديارهم دون أن يدخلوا المدينة المنوّرة، فأرسل لهم من يعلِّمهم من المسلمين. وفي الوقت نفسه أظهر لهم قوة المسلمين حتى لا يغتر هؤلاء أن المهاجرين هاجروا في حالة ضعف أو قلة إلى المدينة المنوّرة، فيغير الأعراب على المدينة المنوّرة طمعًا فيها، فأظهر لهم قوة كما سيظهر لنا بعد ذلك عندما يبعث الرسول السرايا للقبائل المجاورة.


المشركون في القبائل الكبرى خارج المدينة

خريطة القبائل الكبرى خارج المدينة المنوّرةأما بالنسبة للمشركين الذين في القبائل الكبرى خارج المدينة المنوّرة، فقد حاول رسول الله أن يرسل إليهم من يعقد معهم معاهدات، فعقد معاهدة مع قبيلة (جُهَيْنة)، وهي قبيلة كبيرة في غرب المدينة المنوّرة، ذلك أن هذه المنطقة في منتهى الأهمية، جهة الغرب حيث طريق القوافل القرشية القادمة من مكة إلى الشام، فأمّن هذا الجانب، حتى تستطيع الجيوش الإسلاميّة بعد ذلك أن تتحرك في أمان.



كانت هذه هي سياسته مع القبائل الكبرى المحيطة بالمدينة المنوّرة، هي عقد المعاهدات والأحلاف قدر المستطاع.



لم يتبقَّ إلا المشكلة الكبرى، وهي مشكلة مشركي قريش وكيف تعامل معهم الرسول ؟



يعتقد البعض أنه ما دام رسول الله قد ابتعد عنهم مسافة 500 كم بعيدًا عن مكة، فإن ذلك سيمنع عنه خطرهم، أو أن ذلك سيهدِّئ الأوضاع، إلا أن هذا غير صحيح أبدًا، والله يقول: {ولاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217].



سوف يسعى المشركون من أهل مكة قدر المستطاع لغزو المدينة المنوَّرة، ولإخراج المسلمين منها، والتحالف مع غير المسلمين وأعداء المسلمين من هنا وهناك لاستئصال خضرائهم تمامًا.



وهذا كله يثبت لنا حقيقة مهمة وهي أنه لا خيار في المعركة أبدًا، لا بد منها، حتى وإن تجنب المسلمون المعركة، لا بد أن تحدث سُنَّة التدافع التي جعلها رب العالمين في خلقه، وفي أرضه، وإلى يوم القيامة.



د. راغب السرجاني

[1] رواه الترمذي (2507)، وابن ماجه (1338)، وأحمد (5022). قال الشيخ الألباني:صحيح. انظر حديث رقم (6651) في صحيح الجامع.

[2] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 10/ 361.

[3] البخاري: كتاب التفسير، باب تفسير سورة آل عمران (4290). مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وصبره على أذى المنافقين (1798).

[4] البخاري: كتاب المناقب، باب ذكر أسلم وغفار ومزينة وجهينة وأشجع (3322). مسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب من فضائل أبي ذر رضي الله عنه (2473).
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة Empty قبل غزوة بدر

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:48 am

نظرة عامة على الجيشين

غزوة بدرتحدثنا عن مقدمات الغزوة العظيمة، غزوة بدر، وذكرنا فروقًا هائلة بين صفات الجيش الذي ينصره رب العالمين، والجيش الذي يفتقر إلى أيِّ تأييد؛ الجيش المنصور جيش يؤمن بالله ويعمل له بكل ذرة في كيانه، والجيش المهزوم جيش كافر أو فاسق أو منافق أو عاصٍ لا يعمل إلا لمصالحه الذاتية وأهوائه الشخصية، لا يهمه إلا صورته أمام الناس. الجيش المنصور جيش متفائل يوقن بنصر الله له، والجيش المهزوم جيش محبط فاقد للأمل. الجيش المنصور جيش حاسم غير متردد، والجيش المهزوم جيش متردد جبان لا يَقْوى على أخذ قرار. الجيش المنصور يطبق الشورى فيما لا نص فيه، والجيش المهزوم جيش يطبق الدكتاتورية، لا يهتم إلا برأي الزعيم، ولا ينظر إلى القادة أو الشعب. في موقعة بدر كانت صفات الجيش المنصور موجودة بكاملها في جيش المدينة المؤمن، وكانت صفات الجيش المهزوم موجودة بكاملها في جيش مكة الكافر. ولم تكن هذه فقط هي صفات الجيوش المنتصرة والمهزومة، فما زال هناك صفات أخرى كثيرة، سنتعرف عليها من خلال الحديث عن يوم الفرقان.


دور الاستخبارات الإسلامية

اقترب الجيش المكي وعسكر في منطقة العدوة القصوى جنوب وادي بدر، وتقدم الجيش المسلم أيضًا من بدر في منطقة شمال بدر تسمَّى بالعدوة الدنيا. وأراد رسول أن يتيقن من أعداد الكفار وهيئتهم ومكانهم وقادتهم، فقام بعملية استكشافية هو وأبو بكر الصديق، واستطاعا بالفعل أن يعرفوا مكان جيش مكة، لكنه لم يستطع أن يعرف أعداد القوم وقادتهم، فأرسل فرقة استكشافية أخرى فيها علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص . أمسكت الفرقة باثنين من الغلمان للجيش المشرك وأحضروهم للرسول ، والرسول بدأ في استجوابهم، قال : "أَخْبِرَانِي عَنْ قُرَيْشٍ".



قالا: هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى.



قال: "كَمِ الْقَوْمُ؟"



قالا: كثير.



قال: "مَا عِدَّتُهُمْ؟"



قالا: لا ندري.



قال: "كَمْ يَنْحَرُونَ كُلَّ يَوْمٍ؟"



قالا: يومًا تسعًا، ويومًا عشرًا.



قال : "الْقَوْمُ فِيمَا بَيْنَ التِّسْعِمِائَةِ وَالأَلْفِ". ثم قال: "فَمَنْ فِيهِمْ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ؟"



قالا: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر، وطعيمة بن عدي، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة، وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد.



فأقبل على المؤمنين وقال: "هَذِهِ مَكَةُ، قَدْ أَلْقَتْ إِلَيْكُمْ أَفْلاَذَ كَبِدِهَا"[1].



وهكذا استطاع الرسول أن يعرف ما يريد من معلومات عن الجيش المكي.



وتُرجمت هذه المعلومات إلى تحركات سريعة؛ فأخذ رسول الله جيشه، واتجه إلى أرض بدر قبل عدوه؛ ليختار الأرض التي ستتم عليها الموقعة، وليضع جيشه في مواقع إستراتيجية داخل أرض الموقعة.



واختار الرسول مكانًا للنزول فيه في أرض بدر، واستقر رسول الله في هذا المكان، وكان ذلك ليلة بدر.



انظر خريطة معركة بدر

إيجابية الحباب بن المنذر

جاء إلى رسول الله الصحابي الجليل الحُبَاب بن المنذر الأنصاري، وهو من الخبراء العسكريين المعروفين بدقة الرأي وعمق النظرة، سأل الحباب رسول الله سؤالاً يعبِّر عن مدى فقهه لمبدأ الشورى.



قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟



فقال : "بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ".



قال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل.



هذا ليس مناسبًا، هكذا بوضوح دون خجل ولا مواربة. الأمر خطير، والنصيحة مسئولية.



إذن، ما الرأي؟



قال الحباب: فانهض حتى نأتي أدنى ماء من القوم (قريش)، فننزله ونغوِّر (أي نخرب) ما وراءه من القُلُب (جمع قليب، أي آبار بدر)، ثم نبني عليه حوضًا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم؛ فنشرب ولا يشربون.



فقال الرسول دون تردد: "لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ".



وبالفعل غيَّر مكانه الأول، ونزل في المكان الذي أشار به الحباب .



ولنا وقفة مهمة مع إيجابية الحباب ؛ من الممكن أن نتخيل أن الصحابي عندما يرى الرسول فعل شيئًا، أيَّ شيء، أنه لن يفكر في أن يقول رأيه؛ لأنه من المحتمل أن يكون وحيًا، وحتى لو لم يكن وحيًا فمن الممكن أن يقول: إن الرسول أحكم البشر، وأفضل العالمين، ومن المؤكد أن رأيه البشريّ أحسن من رأيي، لكن هذا التصور عن الصحابة ليس صحيحًا.



فالصحابة كان لديهم إيجابية رائعة، لو رأى أحدهم شيئًا يعتقد أن هناك ما هو أولى منه أسرع مباشرة للإدلاء برأيه حتى لو لم يُطلب منه ذلك، وهو يدرك أن الرسول بشر، ويجري عليه في الأمور التي ليس فيها وحي، ما يجري على عامة البشر من اختيار صحيح في مرة وخطأ في مرة أخرى، أو على الأقل قد يختار خلاف الأَوْلى في أمر من الأمور، ويدرك الحباب أن الرسول هو القائل لهم قبل ذلك: "أَنْتُمُ أَعْلَمُ بِأُمُورِ دُنْيَاكُمْ"؛ وبذلك يفتح المجال الواسع لكل فكر، ولكل إبداع، ولكل إضافة. وبذلك تعمل كل عقول المسلمين لخدمة الأمة الإسلامية.



ولو حدث وكان رأي الحباب خطأً، فإن الرسول سيعرفه الصواب، ويكون قد تعلم شيئًا، أو على الأقل قاتَلَ وهو مقتنع بوجهة النظر الأخرى، وهذا يعود بنا لنقطة الشورى من جديد.



هكذا يُرينا مبدأ الشورى كيف يمكن أن نستفيد من طاقات المجتمع. كيف يمكن أن نستغل المواهب الهائلة التي وزَّعها ربنا I على خلقه بحكمة عجيبة.



لو هناك كبت لآراء الشعب ما كان الرسول قد عرف أين ينزل في بدر، ومن المؤكد أن هذا سيكون به ضرر، ليس فقط على الرسول ، لكن على الأمة كلها.



بعد النزول في المكان الذي حدَّده الحباب قام الصحابة بالإشارة على رسول الله بأمر اختلف الرواة في صحته، وهو بناء العريش أو مقر القيادة.



وسواء تم بناء هذا العريش أو لم يتم، فإن الثابت أن رسول الله لم ينعزل عن جيشه، ولكنه قاتل معهم بنفسه بل كان أقربهم إلى العدو كما يقول علي بن أبي طالب كما في رواية الإمام أحمد: "لما حضر البأس يوم بدر اتقينا برسول الله ، وكان من أشد الناس، ما كان -أو لم يكن- أحدٌ أقرب إلى المشركين منه"[2].


نزول السكينة من الله

في ليلة بدر حدث أمران مهمان، وهما النعاس الذي غلب المسلمين في ليلة بدر، والمطر الذي نزل في نفس الليلة.



أما النعاس فعجيب، سبحان الله! المسلمون على بُعد خطوات من الجيش المكي الكبير، ومع ذلك يصلون إلى حالة من السكينة وهدوء الأعصاب التي تجعلهم ينامون في هدوء.



عندما يكون الإنسان مشغولاً بشيء مهم فإنه لا يعرف النوم -وهو في بيته في منتهى الأمان- فما بالك بإنسان نائم في أرض المعركة، ومشغول بمعركة من الممكن أن تكون فيها نهايته؟!



هدوء أعصابٍ عجيب! لا يفكر في عدد أعدائه، ولا يفكر في طريقة القتال، ولا يفكر فيما سوف يجري في هذه المعركة الرهيبة، ولا يفكر في تجارته، ولا يفكر حتى في أولاده وزوجته، ولا يفكر حتى في نفسه. نائم في منتهى الراحة {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال: 11].



في هذه الليلة نام الجميع اطمئنانًا، والوحيد الذي لم ينم كان رسول الله فقد ظل طوال الليل يدعو ويناجي ربه.



على الجانب الآخر كان جيش مكة لا يعرف للنوم سبيلاً، قَلِق، حيران، فغدًا موقعة مرعبة بالنسبة له.



ثم هو غير مقتنع بالحرب أصلاً، ولماذا أحارب؟ من أجل هُبَل واللات والعُزَّى، أم من أجل القائد الزعيم أبي جهل، أم من أجل القافلة؟ القافلة قد عبر بها أبو سفيان إلى بر الأمان، فلماذا القتال ومن المحتمل أن أموت، أَنْفُس مضطربة خائفة تعيش حالة من الفزع والرعب والخوف، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31].



المطر أيضًا في ليلة بدر كان عجيبًا.



منطقة بدر كلها منطقة صغيرة جدًّا، وادي صغير.



سحابة واحدة صغيرة من الممكن أن تغطي الوادي كله.



ونزل المطر في ليلة بدر على أرض بدر، في هذه المساحة الصغيرة، ولعله من سحابة واحدة. ولكنه -ويا سبحان الله- نزل هينًا لطيفًا خفيفًا على المسلمين، ونزل وابلًا شديدًا معوِّقًا على الكافرين.



شرب المسلمون واغتسلوا وتماسك الرمل في معسكرهم فثبتت أقدامهم، وذهبت عنهم وساوس الشيطان والتي كانت قد أتت إلى بعضهم بسبب الجنابة وقلة الماء، ولم تكن آية التيمم قد نزلت بعدُ {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال: 11].



أما الكفار فقد كوَّن المطر عندهم مخاضة كبيرة منعت تقدمهم، وأعاقت حركتهم. ليس لأحدٍ بحرب الله طاقة!


صباح يوم بدر
الرسول يجأر إلى الله بالدعاء

أول كلمات رسول الله في ذلك اليوم كانت دعاءً لرب العالمين؛ دعا أمام الناس جميعًا ليذكرهم بالله الذي بيده النصر والتمكين.



قال : "اللَّهُمَّ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلاَئِهَا وَفَخْرِهَا، تُحَادُّكَ وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ، اللَّهُمَّ فَنَصْرُكَ الَّذِي وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ أَحْنِهِمُ الْغَدَاةَ"[3].



هذا الدعاء ظل معنا طوال رحلة بدر.



والرسول خارج من المدينة لبدر كان يدعو لجنوده من المؤمنين، يقول كما روى أبو داود عن عبد الله بن عمرو: "اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ حُفَاةٌ فَاحْمِلْهُمْ، اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ عُرَاةٌ فَاكْسُهُمْ، اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ جِيَاعٌ فَأَشْبِعْهُمْ"[4].



وقبل القتال كان يقول الدعاء الذي ذكرناه منذ قليل.



وأثناء القتال كان شديد الابتهال إلى ربه، كان يرفع يده إلى السماء ويستقبل القبلة ويقول: "اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ لاَ تُعْبَدُ فِي الأَرْضِ"[5].



واستمر في دعائه وهو رافع يده حتى سقط رداؤه من على كتفيه، حتى أتاه الصديق فرفع الرداء من على الأرض، وألقاه على كتف الرسول وقال له برقة، وهو يمسك بكتفيه :



يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربّك؛ فإنه سينجز لك ما وعدك[6].



انظر وتخيل طول الدعاء وطريقة الدعاء التي تجعل أبا بكر يشفق على الرسول من كثرة الدعاء، ويقول له: كفى.



الدعاء المستمر لم يكن من الرسول فقط، بل كان من الجيش كله، الجيش كله كان شديد الصلة بالله I؛ لذلك يقول ربنا: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: 9].



الاستغاثة بالله كانت من الجميع، وكل هذا يؤكد على أهم صفة من صفات الجيش المنصور التي تكلمنا عنها، وسنتكلم عنها في كل موقعة انتصر فيها المسلمون.



وهي صفة الإيمان بالله I، والاعتقاد الذي لا ريب فيه أنه هو الذي ينصر ويُمَكِّن ويعزّ ويرفع {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10].



كان هذا دعاء الفريق المؤمن.


وأبو جهل يدعو أيضًا!!

لكن الغريب فعلاً أن الكفار أيضًا كانوا يدعون، وعلى رأس الذين كانوا يرفعون أيديهم بالدعاء كان أبو جهل.



في الحقيقة كنت أتعجب كثيرًا عندما أقرأ دعاء أبي جهل يوم بدر؛ فقد كان يقول: "اللهم أقطعَنا للرحم، وأتانا بما لا نعرفه، فأَحِنْه الغداة، اللهم أيُّنا كان أحبَّ إليك، وأرضى عندك، فانصره اليوم"[7].



الحقيقة كنت أتعجب؛ لأن كتب السيرة تنقل إلينا أكثر من مرة مواقف في فترة مكة تثبت أن أبا جهل كان يعرف أن القرآن الكريم معجز، ويعرف أن الملائكة تحرس النبي .



يعرف كل ذلك بوضوح، ومع ذلك فهو الآن يدعو وبصوت يسمعه الجميع أن ينصر اللهُ الأحبَّ إليه.



شيء عجيب!!



تفسير هذا الدعاء من أبي جهل يحتمل أمرين في رأيي:



الأمر الأول: أنه يصنع نوعًا من التحفيز المعنوي لجنوده.



كثيرون من جنود الباطل يشعرون بالضعف؛ لتفاهة قضيتهم، وشعورهم المستمر أن المسلمين معهم قوة أكبر من قوى البشر؛ فيأتي القائد لهم، زعيمهم في الضلال، ويوهمهم أنهم على حق، وأن مهمتهم سامية، وأنهم يعملون لخير المجتمع والوطن، بل العالم! بل وقد يقنعهم كما يفعل الآن أبو جهل أن ما يقومون به من قتال الآن هو جزء من الدين، وأنهم متدينون مخلصون متبعون للإله، كما يقول ربنا في حق فرعون: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه: 79].



وكما قال فرعون نفسه: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29].



يحاول أن يقنعهم أن كل الإجرام الذي يقوم به هو والطواغيت من أمثاله، ما هو إلا خير وهدى ورشاد وإصلاح.



وهذا الكلام نراه كثيرًا، سواء في طواغيت الماضي أو طواغيت الحاضر، كلهم يقولون إنهم مصلحون.



إذن هذا هو الأمر الأول: خداع الناس بأنهم على خير ودين.



الأمر الثاني: وهو أن الطاغية بعد أن يظل يقنع الناس يومًا واثنين وعشرة، وسنة واثنتين وعشرة أنه مصلح ومتدين وأخلاقه عالية، يصدق نفسه، والبطانة التي حوله تقنعه أنه فعلاً متدين وعبقري ومصلح ومؤدب وخَيِّر وطيب ورحيم.



يصدق الطاغية نفسه، ويصدق من حوله من أعوانه، فيصير مقتنعًا فعلاً أنه على صواب.



وهذه مرحلة في منتهى الخطورة.



هذه مرحلة العمى، عمى البصيرة، لا يرى فعلاً الحق من الباطل.



لا يستطيع أن يميز الصواب من الخطأ.



في المرحلة الأولى كان يميِّز الصواب من الخطأ، لكنه كان يفعل الخطأ لهوى في نفسه، أو لمصلحة، أو لهدف.



الآن لم يعُدْ قادرًا على الرؤية {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198].



على العيون غشاوة تحجب الرؤية تمامًا {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7].



وفي الآذان عازل يمنع السمع كُلِّيَّة {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [النمل: 80].



وعلى قلوبهم أغلفة سميكة تمنع وصول أيّ موعظة أو عبرة {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا} [الإسراء: 46].



إذن، فالطواغيت والمجرمون يمرون بمرحلتين:



المرحلة الأولى: مرحلة خداع الآخرين لأجل تحقيق مصلحة معينة، وفيها يستطيع أن يميز الحق من الباطل، لكنه يختار الباطل؛ لهوًى في نفسه.



المرحلة الثانية: هي مرحلة الطمس على البصيرة، وفيها لا يستطيع أن يميّز الحق من الباطل؛ وبالتالي يفتقد أيَّ إمكانية للهداية.



وبديهي أن الذي يدخل في هذه المرحلة الثانية لا يكون إلا من عتاة الإجرام، وأصحاب التاريخ الطويل في الصدِّ عن سبيل الله.



وهذا التحليل أعتقد أنه يفسر لنا كلماتٍ كثيرة جدًّا نسمعها من طواغيت ومجرمين، ومعذِّبين لغيرهم، وناهبين للمال، وهاتكين للأعراض، ومستبيحين للحرمات، ومع ذلك يتكلمون عن الفضيلة والشرف والأمانة والإصلاح.



د. راغب السرجاني

[1] ابن هشام: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وآخرين، دار إحياء التراث العربي، بيروت، بدون تاريخ، القسم الأول (الجزء الأول والثاني) ص617.

[2] مسند أحمد، طبعة مؤسسة قرطبة 1/126، رقم الحديث (1042)، وصححه شعيب الأرناءوط.

[3] ابن هشام: السيرة النبوية، القسم الأول (الجزء الأول والثاني) ص621.

[4] السيوطي: الخصائص الكبرى، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405هـ- 1985م، 1/337.

[5] مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم (1763) ترقيم عبد الباقي، والترمذي (3081) ترقيم أحمد شاكر، وأحمد (208) طبعة مؤسسة قرطبة، وحسنه شعيب الأرناءوط.

[6] الحديث السابق نفسه.

[7] الصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 4/46.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة Empty غزوة بني قريظة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:48 am

كيف بدأت الغزوة؟

غزوة بني قريظةوإن كانت قصة الأحزاب قد انتهت فقصة بني قريظة لم تنته بعد، اليهود أعداء الله وأعداء رسوله وأعداء المؤمنين وأعداء الحق وأعداء الأخلاق الحميدة وأعداء كل خير.



رجع الرسول من الخندق بعد صلاة الصبح وذهب إلى بيته بعد غياب قرابة الشهر، وبعد عناء كبير ومشقة بالغة واغتسل ، فإذا بجبريل قد جاء عند الظهر فقال له: قد وضعت السلاح؟! والله ما وضعناه. أي: نحن الملائكة لم نضعه بعد.



بل في رواية عن السيدة عائشة في الطبري تقول: فكأني برسول يمسح الغبار عن وجه جبريل. أي أن جبريل كان يقاتل قتالاً حقيقيًّا في أرض المعركة.



قال جبريل: اخْرُجْ إِلَيْهِمْ.



قال النبي : "فَأَيْنَ؟"فأشار إلى بني قريظة.



وفي رواية أن جبريل قال: "فَإِنِّي سَائِرٌ أَمَامَكَ أُزَلْزِلُ بِهِمْ حُصُونَهُمْ، وَأَقْذِفُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ".



وهكذا سار جبريل في موكبه من الملائكة، أما الرسول فقد أمر المسلمين بالتوجه السريع إلى بني قريظة، لم يمهلهم حتى يرتاحوا بعد هذا الشهر الصعب من الحرب والحصار، الراحة هناك في الجنة أما الدنيا فدار عمل، قال لهم: "لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْعَصْرَ إِلاَّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ".



وهكذا اجتمع الرسول والصحابة في ثلاثة آلاف مقاتل ( غير الملائكة) في حصار بني قريظة، واستمر الحصار خمسًا وعشرين ليلة.



هل نتصور أن يستمر الحصار كل هذه المدة، بعد جهد ومشقة كان المسلمون فيها منذ شهر بأكمله، ألا يزال بوسعهم أن يحاصروا اليهود، بل ويتحولون من محاصَرين إلى محاصِرين، لقد تغير الحال في لحظات من الهزيمة إلى النصر.

مَا بَيْنَ طَرْفَةِ عَيْنٍ وَانْتِبَاهَتِهَا *** يُبَدِّلُ اللَّهُ مِنْ حَالٍ إلى حَـالٍ


نهاية الحصار وتحكيم سعد بن معاذ

وفي نهاية ذلك الحصار قذف الله الرعب في قلوب اليهود، فاستسلموا وخضعوا لحكم رسول الله مع أنهم كان بإمكانهم المطاولة في الحصار، فأمر رسول الله بهم أن يقيدوا، وقيدوا فعلاً، فجاءت الأوس إلى رسول الله، وكانوا محالفين لبني قريظة في الجاهلية، فقالوا‏:‏ يا رسول الله، قد فعلت في بني قينقاع ما قد علمت، وهم حلفاء إخواننا الخزرج، وهؤلاء موالينا، فأحسن فيهم.



فقال‏: "‏أَلاَ تَرْضَوْنَ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِمْ رَجُلٌ مِنْكُمْ‏؟"



‏ قالوا‏: بلى.



‏ قال‏: "فَذَاكَ إلى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ".



‏ قالوا‏:‏ قد رضينا.



فأرسل رسول الله في طلب سعد بن معاذ؛ لأنه كان في المدينة، لإصابته البالغة التي تعرض لها في الأحزاب، فجاء راكبًا حمارًا، فالتف حوله الأوس، وقالوا له: يا سعد، أجمل في مواليك، فأحسن فيهم؛ فإن رسول الله قد حكمك لتحسن فيهم، وهو ساكت لا يرجع إليهم شيئًا، فلما أكثروا عليه قال‏: لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم.



فلما سمعوا ذلك منه رجع بعضهم إلى المدينة فنعى لهم القوم.



ولما انتهى سعد إلى النبي قال للصحابة‏: "قُومُوا إلى سَيِّدِكُمْ".



فلما أنزلوه قالوا‏:‏ يا سعد، إن هؤلاء قد نزلوا على حكمك.



قال‏:‏ وحكمي نافذ عليهم‏؟‏



قالوا‏:‏ نعم.



قال‏:‏ وعلى المسلمين‏؟‏



قالوا‏:‏ نعم.



قال‏:‏ وعلى من هاهنا‏؟‏ وأعرض بوجهه وأشار إلى ناحية رسول الله إجلالاً له وتعظيمًا‏.



‏ قال‏:‏ "نَعَمْ، وَعَلَيَّ".



‏ قال‏:‏ فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال، وتسبى الذرية، وتقسم الأموال.



فقال رسول الله ‏:‏ ‏"لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ".



وعلى الفور بدأ المسلمون بتنفيذ حكم سعدٍ ، فجمعوا الرجال، فقتلوهم، وهكذا قتل من اليهود أربعمائة رجل وفي رواية سبعمائة، وقتل مع هؤلاء شيطان بني النضير، وأحد أكابر مجرمي معركة الأحزاب حيي بن أخطب والد صفية أم المؤمنين رضي الله عنها، وكان قد دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان؛ وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه حينما جاء يثيره على الغدر والخيانة أيام غزوة الأحزاب، فلما أتي به، وعليه حُلَّة قد شقها من كل ناحية بقدر أنملة لئلا يُسْلَبَها، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، قال لرسول الله ‏:‏ أما والله ما لمت نفسي في معاداتك، ولكن من يُغالب الله يُغْلَب.



ثم قال‏: أيها الناس، لا بأس بأمر الله، كتاب وقَدَر ومَلْحَمَة كتبها الله على بني إسرائيل، ثم جلس، فضربت عنقه، فقتل.‏



وخرج تلك الليلة عمرو بن سعدى، وكان رجلاً لم يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله ، أي أن القتل كان للغادرين فقط، فمن لم يغدر معهم، لم يقتله المسلمون، فرآه محمد بن مسلمة قائد الحرس النبوي، فخلى سبيله حين عرفه، فلم يعلم أين ذهب‏؟‏



وليس هناك مجال للقول أنه كان هناك تجاوز في العقاب الذي وقع باليهود في بني قريظة، فإن هذا ما كانوا يريدون فعله بالمؤمنين منذ أيام قليلة مع كونهم كانوا على العهد، والجزاء من جنس العمل ولا يحق المكر السيئ إلا بأهله.


وفاة سعد بن معاذ

وسبحان الله! بعد ما انتهت قصة بني قريظة استجاب الله لدعوة العبد الصالح سعد بن معاذ ، فانفجر جرحه وسالت منه الدماء حتى خرجت من خارج خيمته ليلقى ربه سعيدًا راضيًا، ويكفيه ما قاله في حقه كما جاء في البخاري، وفي الصحيحين عن جابر أن رسول الله قال‏: ‏"اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ".



وصحح الترمذي من حديث أنس قال‏:‏ لما حملت جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون‏:‏ ما أخف جنازته، فقال رسول الله ‏: ‏"إِنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانَتْ تَحْمِلُهُ".‏



ذلك أن قيمته عظيمة جدًّا في الإسلام، وعند المسلمين، على الرغم من أن كل عمره في الإسلام لم يتجاوز الست سنوات، إلا أن إنجازه يعجز أن يفعله الكثيرون في أعمار طويلة. ‏


الخلاصة

هذه قصة الأحزاب وبني قريظة، لقد كانت موقعة عجيبة بلا قتال تقريبًا، وكفى الله المؤمنين القتال، ولكنها كانت امتحانًا عظيمًا لم يثبت فيه إلا الصادق حقًّا، وكانت في نفس الوقت غزوة فارقة، فرقت بين مرحلتين رئيسيتين في السيرة، فما قبل الأحزاب شيء وما بعد الأحزاب شيء آخر.



فقبل الأحزاب كان الاضطراب والقلق والمشاكل الكثيرة وعدم الاستقرار، أما بعد الأحزاب فقد نضجت الدولة الإسلامية نضوجًا جعلها قادرة على الوقوف بصلابة في وجه كل أعدائها، لقد رسخت الأحزاب أقدام المسلمين في الجزيرة, ولم يجرؤ بعد ذلك أحد على تحدي هذا الكيان الصلب الجديد.



لقد كان الرسول عميقًا جدًّا في تحليله غزوة الأحزاب بعد رحيل الكفار حيث قال: "الآنَ نَغْزُوهُمْ وَلاَ يَغْزُونَا، نَحْنُ نَسِيرُ إِلَيْهِمْ".



لقد كانت ما بين الهجرة والأحزاب فترة تأسيس الدولة الإسلامية، أما الفترة التي ستأتي بعد الأحزاب فستكون فترة تمكين دين الله في الأرض، سنرى فيها صلح الحديبية وفتح خيبر ومؤتة وفتح مكة وحنين وتبوك.



سنرى فيها المراسلات إلى ملوك العالم وأمرائه.



سنرى فيها انتشار دين الله في المدن والبوادي.



سنرى فيها تسابق الوفود لإعلان إسلامهم بين يدي الحبيب .



ستكون فترة سعيدة حقًّا، وكل أحداث السيرة سعيدة، وكيف لا، وهي حياة أفضل العالمين، وخير البشر، وسيد الدعاة، وإمام الأنبياء .



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة Empty صفات الجيش المنتصر

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:49 am

صفات الجيش المنتصر

الجيش المنتصرتتعدد وتتنوع صفات الجيش المنتصر، والحقيقة أننا أحوج ما نكون اليوم إلى التحلي بهذه الصفات؛ لأن النصر لا يكون إلا بها، كما انتصر بها السابقون، ومن هذه الصفات:


1- الإيمان بالله وبرسوله واليوم الآخر

فلا نَصْر بغير الاعتماد على الله ؛ لأن الله ينصر عباده المؤمنين، يقول تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ} [الصَّافات: 173].



يخبر الله أن حزبه وأهل ولايته هم الغالبون، ولهم الظفر، والفلاح على أهل الكفر. وأيُّ منهج لا يقوم على الكتاب والسُّنَّة والتمسك بالعقيدة، فلن يكتب له النصر والنجاح.


2- العمل بصدق للوصول إلى الجنة

وأَنْعِم بها من غاية يُسعى لها، والقائد لا ينعزل عن جيشه، ولا الحاكم عن المحكومين، فهو جيش نشيط، ومتفائل، وجريء، وشجاع يطلب الموت، ويقبل عليه أينما كان، طالما أن الموت سيكون في سبيل الله .


3- الشورى

فهو جيش يأخذ بالشورى كمبدأ أصيل للوصول إلى الحق، والشورى تكون فيما لا نصَّ فيه، يقول تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشُّورى: 38].



ويقول تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]. فهذا أمرٌ من الله لرسوله بمشاورة المسلمين في الأمور التي لا نصّ فيها، والأخذ بالرأي الصواب والنزول عليه، ورأينا مشورة النبي لأصحابه في كل شيء، ورأينا أخذه برأي الحباب بن المنذر بالانتقال من هذا المكان، وأن يكون ماء بدر خلف المسلمين بحيث يشرب المسلمون، ولا يشرب المشركون، وكان الأخذ برأي الحباب سببًا من أسباب النصر.


4- يُعِدُّ العدة المادية من سلاح وخطة وتدريب من أجل تحقيق النصر

يقول تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60]. {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]. جاءت كلمة (قوة) نكرة كي تدل على الشمول، أي: أعدوا لهم قوة العقيدة والقوة البدنية وقوة السلاح وقوة العلم وكل قوة.



وأما قوله: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]، قال ابن عباس: تخزون به عدو الله وعدوكم.


5- الألفة والوَحْدة والترابط والتناسق التي تربط بين أفراد الجيش

فهو جيش قوي ومتماسك يحب بعضه بعضًا في الله ، يحكمه مبدأ العقيدة؛ فالرباط الذي يربط بين جيش بدر هو رباط العقيدة، فالإسلام هو الذي يربط بين أفراد الجيش، فالحب في الله يجمع كل أفراد الجيش، وجيش بدر تحكمه الوحدة، فلا فضل في الجيش لأحدٍ على أحد، ولا فرق بين العربي وغير العربي، فكان في الجيش بلال بن رباح الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، فكان هناك تلاحم وترابط بين أفراد الجيش، سواء كان عربيًّا أو أعجميًّا.



وتعالَوْا نرى مقتل عدوّ الله أميَّة بن خلف، حتى نرى قوة التلاحم بين أهل بدر، فهم طوائف مختلفة ولكن يجمعها الإسلام؛ فالمهاجرون كانوا من العدنانيين، والأنصار كانوا من القحطانيين، فرعان مختلفان جمعهم أخوة الإسلام؛ فبلال بن رباح لم يشعر بالغربة في هذا الجيش العربي مع أنه حبشي؛ ففي موقعة بدر رأى بلال بن رباح أمية بن خلف وابنه بعد أن تأكدا من الهزيمة، ورأى عبد الرحمن بن عوف أمية بن خلف وابنه وكانت معه أدراعٌ في يده، فلما رأى أمية عبد الرحمن بن عوف قال: هل لك فيَّ؛ فأنا خير من هذه الأدراع التي معك؟ أما لك حاجة في اللبن؟ أي: مَن يأسرني فسوف أعطيه فدية كبيرة من الإبل.



فقال بلال -لما رأى رأس الكفر أمية بن خلف-: لا نجوت إن نجا. قال: قلت: أيْ بلال، أسيريّ. قال: لا نجوت إن نجا. قال: قلت: أتسمع يابن السوداء؟ قال: لا نجوت إن نجا. ثم صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا. قال: فأحاطوا بنا ثم جعلونا في مثل المَسَكَةِ[1]، وأنا أذبُّ عنه. قال: فضرب رجل ابنه فوقع. قال: وصاح أمية صيحة ما سمعت بمثلها قطُّ. قال: قلت: انجُ بنفسك ولا نجاءَ، فوالله ما أغني عنك شيئًا. قال: فهَبَرُوهُمَا بأسيافهم حتى فرغوا منهما. قال: فكان عبد الرحمن يقول: يرحم الله بلالاً، ذهبت أَدْراعي، وفجعني بأسيري[2].



فعبد الرحمن بن عوف يقدِّر الحالة النفسية لبلال ، وهو يرى أمية بن خلف الذي كان يصبُّ عليه صنوف العذاب، هل يتركه بلال بعد ذلك يفرُّ من الموت بعد أن يفدي نفسه ببعض المال؟! إن الرباط الذي كان موجودًا في السابق هو رباط القبيلة، فأهل الجاهلية قالوا: انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا؛ ينصر أخاه حتى ولو كان ظالمًا، بل ويساعده على الظلم، حتى إن أحد شعراء الجاهلية يقول:



بغاة ظالمين وما ظُلمنا ... ولكنَّا سنبدأ ظالمينا[3]



أما الرسول فقد قال نفس الكلمة، ولكن بتعديل كبير في الفكر والتصور والمفهوم؛ قال رسول الله : "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا". فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالمًا، كيف أنصره؟ قال: "تَحْجِزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ"[4].



فالصواب أن ينصر الإنسان أخاه في الخير والعدل فقط، أما إن ظَلَم فأَعْمَلُ بشتى السبل والطرق بردِّه عن ظلمه، وأكبر ظلمٍ في الدنيا هو الشرك بالله، يقول تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].


6- هو جيش كفءٌ

فأحيانًا يكون الحق موجودًا ولكن لا يوجد مَن يطلبه ويحسن الطلب فيضيع الحق، فالمسألة مسألة أمانة، فقد جاء رجل إلى النبي وسأله عن الساعة، فردَّ عليه الرسول : "إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ، فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ". فقال الرجل: وكيف إضاعتها؟ فقال : "إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ لِغَيْرِ أَهْلِهِ، فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ"[5].



فهذه مشكلة كبيرة تواجهها الأمة الإسلامية في وقتها الحالي، فتوسيد الأمر إلى أهله يؤدِّي إلى التقدم والتفوق؛ لأنه يؤديه على أكمل وجه، يقول تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26]. فالقوي هو الكفء، فلا بد أن يكون كفئًا قويًّا في كل شيء، سواء في مجال الزراعة أو التجارة أو الصناعة أو التعليم أو أيِّ مجال، وأمينًا بحيث يخاف الله ، وأنه مطّلعٌ عليه ويراقبه في سرِّه وعلنه، فلا يغش ولا يدلس، ولا يبخل برأي. وهذا ما نراه في جيش بدر، فهو جيش يتميز بالأمانة والكفاءة؛ احترافية في الأداء، ومهارة في المناورة، وقوة في النزال، ودقة رأي وبُعد نظر، ومع ذلك يتميز بالأمانة، ومراقبة الله .


7- الحسم وعدم التردد، والإقدام على القتال

وقد سطَّر الصحابة رضوان الله عليهم صفحات بيضاء سوف تظل نورًا يستضيء به المسلمون إلى قيام الساعة {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]. فالتسويف يؤدِّي إلى التردد، والتردد يؤدي إلى اتخاذ قرارات غير صحيحة، والقرارات غير الصحيحة تؤدي إلى الهزيمة.


8- عدم الاعتماد على الكافرين

رفض رسول الله أن يخرج معه للقتال يوم بدر إلا من كان مؤمنًا، ولا يستعين بمشركٍ إلا في بعض الأمور البسيطة المعروفة في كتب الفقه. يروي مسلم عن السيدة عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله خرج قبل بدر، فلما كان بحَرَّة الوَبَرة أدركه رجلٌ، قد كان يذكر منه جرأة ونجدة، ففرح أصحاب رسول الله حين رأوه، فلما أدركه قال لرسول الله : جئتُ لأتبعك، وأصيب معك. قال له رسول الله : "تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؟" قال: لا. قال: "فَارْجِعْ؛ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ".



قالت: ثم مضى، حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل، فقال له كما قال أول مرة، فقال له النبي كما قال أول مرة؛ قال: "فارجع؛ فلن أستعين بمشرك". قالت: ثم رجع فأدركه بالبيداء، فقال له كما قال أول مرة: "تؤمن بالله ورسوله؟" قال: نعم. فقال له رسول الله : "فانطلق"[6].



سبحان الله! مع قوة الرجل وبأسه وكفاءته، إلا أن رسول الله لم يأذن له بشهود القتال؛ لأنه ليس مؤمنًا، وقد يخدع المسلمين أو تأتي من قِبَله الهزيمة. وفي بعض الأوقات يكون الرجل أمينًا ولكن ليس قويًّا، فقد ردَّ الرسول بعض الصحابة؛ وذلك لأنه رأى فيهم بعض الضعف لصغر سنِّهم، مع علمه التام بأمانتهم ورغبتهم الصادقة في القتال.


9- الاعتماد على الشباب، والارتقاء بهم

فقد ردَّ الرسول عبد الله بن عمر والبراء بن عازب لضعفهم وصغر سنِّهم، وقَبِل بعض الصحابة الصغار في السن؛ لأنه رأى أن فيهم بعض القوة والجلد مثل عمير بن أبي وقاص، ومعاذ بن عمرو بن الجموح، ومُعَوِّذ بن عفراء.



وتميّز الجيش بكونه من الشباب؛ فمعظم المشاركين في غزوة بدر كانوا من صغار السن، فمتوسط عمر الجيش لم يتجاوز الثانية والثلاثين، فالدعوة تعتمد على الشباب؛ لهذا قال الرسول : "نَصَرَنِي الشَّبَابُ وَخَذَلَنِي الشُّيُوخُ"[7]. فالمشاركون في غزوة بدر معظمهم من الشباب الصغير، وشهداء بدرٍ كان معظمهم من الشباب صغير السن، والمواقع القيادية كانت في يد الشباب؛ راية المهاجرين كانت مع عليِّ بن أبي طالب وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين، وحامل راية الأنصار سعد بن معاذ في الثانية والثلاثين من عمره، وحامل الراية العامَّة للجيش كله مصعب بن عمير لم يتجاوز السابعة والثلاثين أو الثامنة والثلاثين.



فالشباب هم عماد الأمة، وعلى عاتقهم ترتفع الأمم، وهم الذين قام النصر على أكتافهم يوم بدر، وهم طاقة هائلة تحقق النصر والعزة لو أحسنَّا توجيههم، فكيف يكون الشباب هم عماد الأمة ثم نشغلهم بأشياء تافهة، لا قيمة لها. وليس معنى هذا التقليل من دور الشيوخ، ولكن نستفيد من خبرتهم وتجاربهم وآرائهم، وهي من الأهمية بمكان.


10- روح الأمل والتفاؤل واليقين في نصر الله لهذه الأمة

فالله ينصر عباده المؤمنين {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 10]. ويقول تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].


الثبات نعمة من عند الله

إذا فقدت الأمة صفة واحدة من الصفات العشر لا ينتصر المسلمون، وسوف نرى ذلك في غزوة أُحُد. وإذا تمسك المسلمون بهذه الصفات العشر، رزقهم الله نعمةَ الثبات، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال: 15].



ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45]. وعند الحديث عن المطر، يقول: {وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال: 11]. وعن الملائكة يقول: {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12].



فلا يُمنح الثبات إلا من قدَّم الصفات العشر السابقة، وإذا ثبت المسلمون في أرض المعركة أنزل الله عليهم النصر من عنده، فالنصر يأتي بطريقة يعرفها المسلمون، وبطريقة لا يتوقعونها حتى ينسب المسلمون النصر إلى الله ، يقول تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 10].



فبعض المسلمين كره لقاء جيش بدر {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال: 5]؛ فكانوا يتوقعون الموت المحقق للمسلمين، ونزلت الملائكة من السماء تساند جيش الإيمان.


الأخوة أخوة العقيدة

ظهر في يوم بدر واتّضح تغلب العقيدة على عاطفة النسب، فقد قتل عمر بن الخطاب خاله العاص بن هشام بن المغيرة؛ فالرباط الموجود في ذلك اليوم هو رباط العقيدة، فكان الصحابي يقتل خاله، أو ابنه، أو عمه، أو أباه، وأبو بكر الصديق كان يبحث عن ابنه عبد الرحمن بن أبي بكر حتى يقتله، إنه شيءٌ صعب أن يقتل الإنسان ابنه أو يحاول إلحاق الضرر به، حتى ولو كان عاقًّا أو مشركًا[8].



فالرسول يشبِّه أبا بكر بنبي الله إبراهيم مع الفارق؛ لأن إبراهيم كان سوف يذبح ابنه البارّ الطائع الذي أصبح نبيًّا بعد ذلك، أما أبو بكر فسوف يقتل ابنه العاصي الكافر، وأشدُّ الناس بلاء الأنبياء ثم الذين يلونهم. ومصعب بن عمير في يوم بدر يرى أخاه أبا عزيز أسيرًا، فيوصي من أسره -وهو رجل من الأنصار- أن يشدَّ عليه؛ لأن أمَّه ذات متاع، ولعلها أن تفديه بمال كثير، فعندما أخذ أبو عزيز يلومه: أهذه وصاتك بي؟ فقال له مصعب: إنه أخي دونك[9]. وهناك من يقول هذا تجردٌ من المشاعر الإنسانية، وأنه لا يشعر بأخيه من النسب، ولكن هذا هو قمة المشاعر الإنسانية، وهو توجيه المشاعر بكاملها لله ، أن يعيش الإنسان لقضية ما يكرس لها كل جهده وطاقته لهذه القضية، فإذا كانت هذه القضية هي إرضاء الله ، فهذه من أبلغ وأرقى المشاعر التي يتحلى بها الإنسان، ونحن نتكلم عن يوم قتال ونزال ومفاصلة، أما في أيام السلم والدعوة فهناك الرحمة والمعاملة بالحسنى مع صلة الرحم، يقول تعالى في سورة لقمان عن معاملة المسلم لوالديه المشركين: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15].



وأمر رسول الله سعد بن أبي وقاص أن يعامل والدته المشركة بالرفق واللين.



د. راغب السرجاني

[1] المسكة: الأسْوِرَة.

[2] صفي الرحمن المباركفوري: الرحيق المختوم، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، مصر، الطبعة السابعة عشرة، 1426هـ- 2005م، ص205.

[3] القائل عمرو بن كلثوم الشاعر الجاهلي.

[4] رواه البخاري (6552) ترقيم مصطفى البغا، والترمذي (2255) ترقيم أحمد شاكر، وأحمد (13101) طبعة مؤسسة قرطبة.

[5] رواه البخاري (59)، وأحمد (8714).

[6] رواه مسلم (1817) ترقيم عبد الباقي، والترمذي (1558)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1101).

[7] حديث لا أصل له.

[8] المباركفوري: الرحيق المختوم ص205.

[9] ابن كثير: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة، بيروت، 1396هـ- 1976م، 2/475.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة Empty آثار ونتائج غزوة بدر

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:50 am

يوم الفرقان

غزوة بدركانت غزوة بدر من أعظم الغزوات في تاريخ المسلمين، وهي كما سماها رب العالمين I يوم الفرقان، وإذا سمَّى الله غزوة أو يومًا بهذا الاسم، فما من شك أنها فصلت بالفعل، وفرَّقت بين مرحلتين مهمَّتين من مراحل الدعوة الإسلامية والأمة الإسلامية.



وإذا نظرت إلى حال الأمة الإسلامية قبل وبعد غزوة بدر، فإنك تلاحظ الفارق الهائل بين الحالين، فقد كان لغزوة بدر أثرٌ كبيرٌ، ليس فقط على المدينة المنورة أو مكة المكرمة، بل على الجزيرة العربية كلها وعلى العالم بصفة عامة، وما زال لغزوة بدر آثارٌ إلى يومنا هذا، وسيكون لها الأثر إلى يوم القيامة.


آثار غزوة بدر على المسلمين
الأثر الأول: الميلاد الحقيقي للدولة الإسلامية

هذا هو الأثر الأول والأعظم لهذه الغزوة العظيمة؛ الميلاد الحقيقي للأمة الإسلامية والدولة الإسلامية بقيادة الرسول ، وعلى أكتاف الجيش الإسلامي الذي ولد في هذه الغزوة قامت دولة الإسلام، وقد عرف صحابة النبي صفات الأمة المنتصرة وصفات الجيش المنتصر، ودرسوها جيدًا وطبَّقوها في كل المعارك التي انتصر فيها المسلمون، وإذا خالف المسلمون نقطة أو بعض النقاط من هذه الصفات تأتي الهزيمة والمصائب.



ومن هنا كانت غزوة بدر مقياسًا ومعيارًا يجب أن يقيس عليه المسلمون أحوالهم، فإن كانوا يطابقون هذه الصفات وهذه الأحوال فلله الحمد والمنّة والفضل؛ وإن كانوا غير ذلك فلا بد أن يعدِّلوا مسارهم؛ ليعودوا إلى الطريقة التي سار عليها أهل بدر أجمعين.



إن أمة الإسلام ولدت بعد غزوة بدر وأصبح لها هَيْبَة في الجزيرة العربية بكاملها، وبدأ أهل الجزيرة العربية جميعًا يتساءلون عن الإسلام وعن المسلمين، فقد كانوا قبل ذلك يعتقدون أن الأمر مجرد اختلاف داخلي في مكة، فهو مجرد رجل ظهر في مكة بينه وبين قومه خلاف وظهر لهذا الرجل أتباع، وهؤلاء الأتباع لهم أعداء، فكانت الحرب الداخلية الأهلية في داخل مكة المكرمة، ثم كانت الهجرة التي لفتت أنظار العرب، لكن اللفت الحقيقي للأنظار كان بعد غزوة بدر؛ فكان الانتصار الضخم الهائل الذي حققه المسلمون كفيلاً بأن يسأل كثيرٌ من الناس عن الإسلام وعن المسلمين. ولا شك أن هذا الأمر فتح للإسلام قلوبًا كثيرة، فكان هذا الأثر هو أول الآثار وأعظمها، وبدأ الرسول ينظم دولته كدولة مستقلة، لها كيانها ولها احترامها ولها مكانتها العظيمة في داخل الجزيرة العربية.


الأثر الثاني: الأثر الإيجابي على المسلمين في المدينة ممن لم يشهدوا الغزوة

لما وصلت أخبار هذه الغزوة إلى المدينة المنورة اختلطت بعض المشاعر في قلوب المؤمنين؛ مشاعر الفرح والسرور بهذا النصر العظيم بمشاعر الندم لعدم المشاركة في هذا النصر العظيم، فقد كان نصرًا كبيرًا وعظيمًا، والتفّ المسلمون حول البشير الذي جاء بالخبر، وكان زيد بن حارثة ، يطمئِنُّون على النبي الذي لم يرجع مباشرةً من بدر، فقد مكث في أرض بدر ثلاثة أيام كعادة الجيوش المنتصرة، وبعد ذلك رجع إلى المدينة المنورة؛ فكان خبر النصر سابقًا لرجوع النبي ، واستقبلت وفود التهنئة الرسول بمنتهى الترحاب والفرح والسرور، وفي الوقت نفسه جاء الكثير من الأنصار يعتذرون من عدم مشاركتهم في هذه الغزوة مع رغبتهم الأكيدة في الجهاد في سبيل الله، وهم لم يكونوا يعرفون أن هناك قتالاً، ومن بينهم أُسيد بن حضير الذي جاء إلى النبي وقال: "يا رسول الله، الحمد لله الذي أظفرك وأقرَّ عينك، والله يا رسول الله ما كان تخلفي عن بدر وأنا أظن أنك تلقى عدوًّا، ولكن ظننت أنها عيرٌ، ولو ظننت أنه عدو ما تخلّفت". فقال له : "صَدَقْتَ"[1].



فمشاعر الندم هذه التي كانت في قلوب الأنصار والمهاجرين الذين لم يشاركوا في غزوة بدر، سيكون لها أثرٌ إيجابيٌّ وواضحٌ في مقدمات غزوة أُحد كما سيتبيَّن لنا، فكان لغزوة بدر أثرٌ إيجابيٌّ كبير على الجيش المسلم، وأثرٌ إيجابي أيضًا على الذين لم يشاركوا، وقامت الدولة الإسلامية على أكتاف هؤلاء وهؤلاء.


آثار غزوة بدر على المشركين
مكانة قريش بين العرب بعد بدر

في الوقت الذي كان لغزوة بدر آثارها الإيجابية على المسلمين كان هناك أثرٌ سلبيٌّ على المشركين في مكة الذين فجعوا بهذا الحدث الضخم، فكانت بدر ضربة قاسمة هائلة لقريش، وهزة عظيمة جدًّا لكبرياء وكرامة وعزة قريش؛ فقد كانت أمنع قبيلة في العرب وأعز قبيلة، وصاحبة التاريخ المجيد، وكانت تحظى باحترام كل القبائل العربية، ولكن بعد (بدر) اهتزَّت مكانتها واختلف وضعها كثيرًا عن ذي قبل، فقد قُتل سبعون من المشركين ممن شاركوا في بدر، وأُسر سبعون آخرون، وهو عدد هائل وكبير بالمقارنة مع (سرية نخلة) التي قامت لها قريش ولم تقعد، وأشعلت حربًا إعلامية كبيرة ضد المسلمين، مع أنه لم يُقتل في هذه السرية غير واحد، ولم يؤسر غير اثنين. ووقعت قريش كلها في مأساة عظيمة بعد هذه الغزوة، والذين قتلوا من المشركين هم عمالقة الكفر وقادة الضلال وأئمة الفساد في الأرض، فمنهم فرعون هذه الأمة أبو جهل عليه لعنة الله، ومنهم الوليد بن المغيرة، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والنضر بن الحارث، وعقبة بن أبي مُعَيْط، وأمية بن خلف، وأسماء ضخمة جدًّا ومشهورة من هؤلاء السبعين الذين قُتلوا، وكان قتلهم جميعًا في يوم واحد[2].



وتخيَّل هذا الخبر عندما يصل إلى أسماع أهل مكة! وتعالَوْا نرى الْحَيْسُمان بن عبد الله الخزاعي، وهو مَنْ أبلغ الخبر إلى أهل مكة.



قالوا: "ما وراءك؟"



قال: "قُتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، في رجال من الزعماء سماهم". أي أنه ظل يذكر لهم زعماء ورجالات قريش الذين قُتلوا.



فلما قال ذلك، قال صفوان بن أمية بن خلف -وهو من قادة الكفر حينئذٍ-: "والله إن يعقل هذا -أي أنَّ هذا الرجل لا يعقل- فاسألوه عني".



فقالوا: ما فعل صفوان بن أمية؟ وهو لم يشارك في بدر.



فقال: "ها هو ذا جالسًا في الحِجْر، قد والله رأيت أباه وأخاه حين قُتلا".



ووقع الخبر كالصاعقة على أهل قريش، ولم يصدِّقوا ما قال لهم الحَيْسُمان، وانتظروا رسولاً آخر يخبرهم بالخبر اليقين، فلا يُعقل أن يُقتل كل هؤلاء وفي يوم واحد. ثم جاء أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، ابن عم الرسول ، فأول من رآه أبو لهب -وهو لم يخرج في غزوة بدر- فقال أبو لهب لأبي سفيان: "هلم إليَّ؛ فعندك لعمري الخبر".



فجلس إليه والناس قيام عليهما، فقال أبو سفيان: "ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا، يقتلوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا". ثم يقول كلمة عجيبة: "وايم الله مع ذلك ما لُمْتُ الناس، لقِيَنَا رجالاً بيضًا على خيل بَلْق (أي بيضاء) بين السماء والأرض، والله ما تُليق شيئًا (أي: ما تترك أمامها شيئًا)، ولا يقوم لها شيء"[3]. وأبو سفيان يصرِّح بهذه الكلمات أمام المشركين، وهم يسمعون ولا يصدقون ولا يؤمنون.



وكان ممن حضر هذا الموقف من المسلمين الذين يخفون إسلامهم، أبو رافع ، وهو غلام العباس بن عبد المطلب وقد أُسر العباس في بدر، قال أبو رافع: "تلك والله الملائكة ". يقول أبو رافع: "فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة، فثاورْتُه[4]، فاحتملني فضرب بي الأرض ثم برك عليَّ يضربني، وكنت رجلاً ضعيفًا، فقامت أم الفضل -وهي زوج العباس رضي الله عنها وكانت تكتم إسلامها- إلى عمود من عمد الحجرة، فأخذته فضربته به ضربةً فلقت في رأسه شجَّةً منكرة، وقالت: تستضعفه أنْ غاب عنه سيده؛ فقام مولِّيًا ذليلاً، فوالله ما عاش إلا سبع ليال، حتى رماه الله بالعَدَسة[5] فقتلته، فلقد تركه ابناه ليلتين أو ثلاثًا ما يدفنانه حتى أنتن في بيته، وكانت قريش تتقي العدسة وعدواها كما يتقي الناس الطاعون، حتى قال لهما رجل من قريش: ويحكما! ألا تستحيان؟! إن أباكما قد أنتن في بيته لا تغيبانه. قالا: إنا نخشى هذه القرحة. قال: انطلقا، فأنا معكما. فما غسلوه إلا قذفًا بالماء عليه من بعيد ما يمسونه، ثم احتملوه فدفنوه بأعلى مكة إلى جدار، وقذفوا عليه الحجارة حتى واروه"[6].



وهذه النهاية لأبي لهب كانت بعد سبع ليال فقط من غزوة بدر، وفَقَد المشركون قائدًا آخر من كبار قوادهم بعد أن فقدوا هذا العدد من زعمائهم في بدر، وكانت نهايته في منتهى الخزي والعار والذلة والمهانة، مع أنه كبير بني هاشم، وكان من المفترض أن تكون هناك جنازة مهيبة لهذا القائد، وتَقْدُم وفود العرب لتعزّي في وفاته، لكن لم يحدث هذا؛ لأن العرب تتشاءم من المرض الذي مات به أبو لهب.



وكما نرى ترتَّب على انتصار المسلمين في بدر أزمات كثيرة للمشركين في مكة:



أولاً: أزمة سياسية: فقد فَقَدت قريش مكانتها بين العرب واهتزت هيبتها تمامًا.



ثانيًا: أزمة اجتماعية: فما من بيت في قريش إلا وقد أصيب منه واحد أو اثنان.



ثالثًا: الأزمة الكبيرة جدًّا والخطيرة أيضًا، وهي المشكلة الاقتصادية، حيث كانت قريش تعتمد على التجارة في رحلة الصيف ورحلة الشتاء، وتمر إحدى الرحلتين على المدينة في طريقها إلى الشام، ووجود دولة في المدينة المنورة بهذه القوة بحيث إنها تسيطر على المداخل والمخارج المؤدية إلى الشام، هذه القوة -لا شك- ستمنع التجارة إلى الشام، ولو مُنعت التجارة مع الشام سقطت التجارة كُلِّيَّة في مكة، وستتأثر كذلك تجارة اليمن؛ لأنهم كانوا يأتون من الشام بما يبيعونه في اليمن، ومن اليمن بما يبيعونه في الشام، وهكذا.



فهي مأساة اقتصادية حقيقية لأهل مكة المكرمة، مع العلم أن قريشًا ما زالت متأثرة بأحداث سرية نخلة التي فقدت فيها قريش قافلة ثرية جدًّا، ثم نجت العير في بدر بصعوبة بالغة، ومن المستحيل أن تستمر التجارة مع الشام في ظل هذه الأجواء.



كان هذا هو حال مكة بعد بدر، ولا شك أن أهل الكفر لن يسكتوا على هذا الحادث، وهذا المصاب العظيم الذي أصابهم في بدر.


أثر غزوة بدر على الأعراب حول المدينة

كانت حياة الأعراب تقوم أساسًا على السلب والنهب، فكانوا لصوصًا وقطَّاع طرقٍ، وقيامُ دعوةٍ أخلاقيةٍ داخل المدينة المنورة ودولة قوية مثل دولة الإسلام، لا شك أن هذا الأمر سوف يحجِّم من السرقات وقطع الطريق الذي يقوم به الأعراب. وبعد أن انتصر الرسول في غزوة بدر، بدأ الأعراب يفكرون في محاولةٍ لجمع أنفسهم للقيام بغزو المدينة المنورة؛ لمنع هذه القوة من التنامي.



جمعت بنو سُليم الأعداد وأعدَّت نفسها لتغزو المدينة، وقد عَلِم النبي هذا الأمر، فجمع صحابته وانطلق إلى بني سُليم، وبمجرد أن رآه بنو سُليم فرُّوا في الجبال، وتركوا كل شيء، ورجع من بني سليم بمجموعة كبيرة من الغنائم ما يقرب من خمسمائة بعير، وقد تمَّ تقسيمها على جيش المدينة المنورة. كان هذا الأمر بعد بدر بسبعة أيام فقط، وازدادت رهبة المدينة المنورة والدولة الإسلامية الناشئة في الجزيرة العربية كلها.



وعلى غرار بني سليم كان هناك أكثر من غزوة في السنة التي تلت غزوة بدر.

انظر فلاشة أثر غزوة بدر على الأعراب حول المدينة


ظهور طائفة المنافقين

قبل بدر كان تقسيم الطوائف السكانية داخل المدينة المنورة: مسلمين ومشركين ويهود، لكن الآن وبعد بدر تغيُّر الوضع كثيرًا، فأصبحت الطوائف مسلمين ويهود، وتغيّرت شريحة المشركين فأصبحوا إما مسلمين عن اقتناعٍ بالإسلام، وإما منافقين.



إذن ظهرت طائفة جديدة لم تكن موجودة قبل ذلك في كل مراحل الدعوة النبوية، وهي طائفة المنافقين، وهم لا يظهرون إلا إذا قويت شوكة الإسلام والمسلمين، فكثرة المنافقين إنما هي علامة صحِّيَّة تشير إلى قوة دولة الإسلام، ومن ثَمَّ تُنَافق هذه القوة، لكن عندما كانت ضعيفة لم يفكر أحد من المشركين أن ينافقها. وعلى رأس هذه الطائفة من المنافقين كان الرجل الذي يكره رسول الله كراهية شديدة، وهو عبد الله بن أُبيّ بن سلول؛ فبعد أن كان زعيمًا لمشركي المدينة أصبح زعيمًا للمنافقين في المدينة المنورة، وقد جاء هؤلاء المنافقون جميعًا بعد بدر يعلنون إسلامهم ظاهرًا وهم يبطنون الكفر في داخلهم، ولا شك أنه سيكون لهم الأثر السيئ على المسلمين في المدينة المنورة.


السيطرة العسكرية للمسلمين على الجزيرة العربية

استطاع المسلمون أن يصلوا إلى أماكن كثيرة من الجزيرة العربية، يظهر ذلك في سرية زيد بن حارثة، ولهذه السرية قصة رائعة ينبغي أن نقف عندها.



لما سيطر المسلمون سيطرة كاملة على شمال مكة المكرمة والطريق إلى الشام، بدأت قريش تفكر فيما ينبغي أن يفعلوا، والأمر جدّ خطير، فقد وقفت التجارة إلى الشام، وهذا عصب حياة أهل مكة، فاجتمعوا اجتماعًا كبيرًا وقال صفوان بن أمية لقريش -وكان قائدًا للحملة التي ينبغي أن تذهب إلى الشام في هذا العام-: "إن محمدًا وصحبه عوَّرُوا علينا متجرنا، فما ندري كيف نفعل بأصحابه، وهم لا يبرحون الساحل (ساحل البحر الأحمر)؟! وأهل الساحل قد وادعهم، ودخل عامَّتهم معهم، فما ندري أين نسلك؟ وإن أقمنا في دارنا هذه أكلنا رءوس أموالنا، فلم يكن لها من بقاء، وإنما حياتنا بمكة على التجارة إلى الشام في الصيف، وإلى الحبشة في الشتاء".



فقام الأسود بن عبد المطلب وقال لصفوان ولمن معه من المشركين: "فَنَكِّبْ[7] عن الساحل وخُذْ طريقَ العراق"[8].



هذا الطريق طويل جدًّا يخترق نجد إلى الشام، ويمرُّ هذا الطريق شرق المدينة، لكنه على بُعدٍ كبير جدًّا منها، ولم تكن قريش تعرف هذا الطريق، وإن أرادت أن تسير فيه فلا بد من دليل ماهر لكي يمر بها من هذا الطريق الوعر والصعب جدًّا، حتى يصلوا إلى الشام. وبالفعل اختارت قريش هذا الطريق، وكان دليلهم فرات بن حيان من بني بكر بن وائل.



وخرجت عيرُ قريش بقيادة صفوان بن أمية، منطلقة في الطريق الجديد، وعلى الفور نقلت المخابرات الإسلامية أخبار هذه القافلة، وجهَّز رسول الله سريعًا سرية بقيادة زيد بن حارثة ، وكان قوام هذه السرية مائة راكب، وانطلقت السرية مسرعة لقطع طريق هذه القافلة. وبالفعل نجحوا في الإمساك بالقافلة، وفرَّ صفوان بن أمية ومن معه، وبقي فرات بن حيان دليلُ القافلة، وأخذ المسلمون القافلة بكاملها وأُخذ فرات بن حيان أسيرًا، فكانت غنيمة كبيرة جدًّا من الأواني والفضة التي كانت تحملها القافلة للتجارة بالشام، وقد قُدِّرت قيمة هذه القافلة بمائة ألف دينار، قُسِّمت على أفراد السرية بعد أن أخذ منها النبي الخُمْس، وأسلم الأسير فرات بن حيان بعد ذلك، فكانت هذه ضربة في منتهى القوة لقريش، ومأساة شديدة ونكبة كبيرة أصابت قريشًا بعد بدر.



انظر فلاشة السيطرة العسكرية للمسلمين على الجزيرة العربية



كان ذلك في جمادى الآخرة سنة 3هـ، أي بعد عشرة أشهر من غزوة بدر، فكانت سيطرة المسلمين على الجزيرة العربية مستمرة وليست سيطرة عابرة، وكان لا بد -إذن- أن تتحرك قريش لهجوم كاسح شامل على المدينة المنورة، وكان هذا من مقدمات غزوة أُحُد.



د. راغب السرجاني

[1] ابن كثير: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة، بيروت، 1971م، 2/ 472.

[2] ابن هشام: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وآخرين، دار إحياء التراث العربي، بيروت، بدون تاريخ، القسم الأول (الجزء الأول والثاني) ص708- 710.

[3] ابن هشام: السيرة النبوية، القسم الأول (الجزء الأول والثاني) ص646، 647.

[4] ثاورته: ثبت إليه.

[5] العدسة: قرحة قاتلة كالطاعون. وقد عدس الرجل: إذا أصابه ذلك.

[6] ابن كثير: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة، بيروت، 1971م، 2/479.

[7] أي: اعتزل هذا الطريق واتركه.

[8] الواقدي: المغازي 1/197.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة Empty قريش وإثارة الفتنة الطائفية في المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:50 am

قريش ومحاولات لرد الاعتبار

مكة المكرمةتمثّل قبيلة قريش صاحبة التاريخ المجيد كبرى القبائل العربية وأعزها، وليس من المعتاد في الجزيرة العربية أن تقف أيّ قبيلة في مواجهتها، بل على العكس فإن كل القبائل تحرص على إقامة علاقات دبلوماسيّة قوية معها، وكما نعرف فإن قريشًا ترعى البيت الحرام، وتهتمّ بأمور الحجاج في مكّة، ولها المكانة الكبيرة في قلوب العرب.



وإذا وضعت هذه الخلفية في تحليلك، فإنك تعرف أن قريشًا لن تسكت على هذا الطعن الخطير الذي وجّهه الأوس والخزرج لكبريائها، عندما استضافوا رسولَ الله وأصحابه من المؤمنين.



وتحوّلت المسألة لدى قريش -كما سنرى- إلى كبرياء ومعاندة وإظهار للكرامة، ومن المهم أن نتذكر أن أكابر قريشٍ وزعماءها حاولوا بشتى الطرق أن يقتلوا هذه الدعوة في مهدها، لكنهم لم يستطيعوا، وليس من السهل لهؤلاء الأسياد أن يسلِّموا بالهزيمة.



أضف إلى ما سبق أن قريشًا كان لها علاقة قوية بالأوس والخزرج، وكان بينهم التعاون والتحالف والتجارة والإجارة، بل كان بينهم مصاهرة وزواج، وكان أخوال الرسول من بني النجار من الخزرج، ومما لا شك فيه أن هجرة الرسول من مكّة إلى المدينة ستؤثّر على العلاقة بين قريش والأوس والخزرج، وسيكون لهذا آثار اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة كثيرة ووخيمة على أهل مكّة.



ولا شك أن قريشًا كانت تعرف أن الرسول ذهب إلى المدينة المنوّرة حيث يسكن اليهود، ولو أسلم اليهود فإن هذا سيضيف قوة كبيرة جدًّا إلى قوة المسلمين، فقد كانوا يملكون السلاح والحصون والعتاد والأفراد والأموال، وهم قوة كبيرة. وقد توقع القرشيون أن يسلم اليهود؛ لأنهم أهل كتاب يتحدثون عن الإله الواحد وعن الرسل، وعن الكتب السماوية، بل إنهم يتحدثون عن ظهور نبي في هذه الفترة من الزمان، فلا يستبعد في تحليل قريش إسلامهم. وإذا أضفت إلى كل هذه العوامل أن المدينة المنوّرة تقع على طريق التجارة من مكّة المكرمة إلى الشام، وأن وجود المسلمين في هذه المنطقة كقوة وكدولة سيهدد مصالح قريش التجاريّة بقوة، وسيضرب اقتصاديّات مكّة ضربات موجعة؛ علمتَ أنه من المستحيل إذن أن تترك قريش دولة الإسلام تكبر وتنمو هكذا دون مقاومة، لهذا كان من المتوقع ألا تنسى قريش محمدًا بعد أن هاجر إلى المدينة، وأصبح بعيدًا عن مكّة 500 كيلو متر.



وتبقى السُّنَّة الإلهية الواضحة في كتاب رب العالمين I {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217].



وقد سارت قريش في خطوات منظَّمة ومرتبة لتهدم الدولة الإسلاميّة الناشئة، وأول ما فعلته قريش في هذا الإطار هو اتباع الطريق الأسهل، وهو المنهج الدبلوماسيّ من مراسلات ومفاوضات، ولكنها -سبحان الله- كانت كلها مفاوضات تحمل تهديدًا خطيرًا للمدينة المنوَّرة، ولم تكن في صورة عقود ومواثيق، لكنها كانت في صورة تهديدٍ مباشرٍ من القوة الأولى في الجزيرة العربية لقوة الأوس والخزرج.


قريش وإثارة الفتنة الطائفية داخل المدينة المنورة

راسلت قريش زعيم المشركين في المدينة عبد الله بن أُبيّ بن سلول واستغلّت رغبته في الملك والسيادة، واستغلت أيضًا كراهيته لرسول الله ، وطبيعته الجبانة التي لا تقدر على المواجهة، فأرسلت إليه وإلى مشركي المدينة بصفة عامَّة رسالة، وهذه الرسالة في سنن أبي داود، قالت قريش لعبد الله بن أُبيّ بن سلول: "إنكم آويتم صاحبنا، وإنَّا نقسم بالله لتقاتلنه أو لتخرجنّه، أو لنسيرنَّ إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونستبيح نساءكم"[1].



تهديد مباشر لمشركي الأوس والخزرج لإخراج الرسول أو قتله. هكذا صراحة، وجاء التهديد بالطبع يوافق هوًى عند عبد الله بن أُبيّ بن سلول؛ ولذلك فقد أخذ قرارًا في منتهى الخطورة، جمع المشركين من الأوس والخزرج، وقرر أن يقاتل المسلمين من الأوس والخزرج.



سبحان الله! تناسى عبد الله بن أُبيّ بن سلول تمامًا -وهو من الخزرج بل هو سيِّد الخزرج- عداءَه القديم مع الأوس، تناسى العداوات العميقة والدماء التي سالت بين القبيلتين قبل ذلك، ما عاد يذكر غير الحرب العقائديّة الآن.



سيقاتل المسلمين من أبناء الخزرج وسيضع يده في يد المشركين من أبناء الأوس، وهذا ليس غريبًا، فقد تكرر هذا كثيرًا، وهي سنن ثابتة لا تتغير ولا تتبدل؛ فأهل الباطل على اختلاف عقائدهم وتصوراتهم وطرقهم في التفكير دائمًا يجتمعون لحرب المسلمين، وستجدون ذلك متكررًا كثيرًا في قصة الرسول ، وفي الفتوح الإسلاميَّة؛ فتوح فارس والروم، وفي فتح الأندلس، والحروب الصليبيّة، وحروب التتار، وفي احتلال أوربا للعالم الإسلاميِّ في القرن التاسع عشر والعشرين، وإلى الآن في أكثر من بقعة من بقاع العالم، وفي أكثر من نقطة من نقاط الصراع بين المسلمين وغيرهم.



اتفاق اليهود مع النصارى، واتفاقهم مع الهندوس، واتفاق أمريكا مع روسيا، واتفاق إنجلترا مع فرنسا، واتفاق الشيوعيين مع الرأسماليين مع الاختلاف البيِّن بين هذه المدارس، إلا أنهم يتفقون ويتجمعون إذا كان عدوهم الإسلام، والحرب عقائديّة في المقام الأول، انظر إلى قول الله : {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89].


رسول الله يقضي على الفتنة الطائفية

جمع عبد الله بن أُبيّ بن سلول المشركين من الأوس والخزرج لحرب المسلمين من الأوس والخزرج، وتجمع كذلك المسلمون لحرب المشركين، وكانت هذه بوادر حرب أهليّة كبيرة وخطيرة.



فتنة طائفيّة داخليَّة توشك أن تنشب بين المسلمين، وطائفة أخرى على غير دينهم تعيش معهم في داخل البلد الواحد.



ماذا يفعل القائد الحكيم في مثل هذه المواقف؟



جاء رسول الله سريعًا، وحاول قدر استطاعته أن يوقف الصراع قبل أن يبدأ، وقد وصل إليهم بالفعل قبل أن يبدأ القتال بينهم.



وهو في هذه الحال لن يستطيع أن يذكِّر بالجنة والنار والعقيدة والمبادئ الإسلاميّة؛ لأن مِن بينهم مشركين، فهم أخلاط من المسلمين والمشركين، ولكن النبي ضرب على وترَيْنِ مهمَّيْن جدًّا، وكلا الوترين يمثِّل عاملاً مشتركًا بين الفريقين:



الأول: هو وتر التحدي، وإثارة النخوة، والعزة والإباء الموجود عند العرب كلهم، سواء كانوا مسلمين أو مشركين، وقال لهم: "لَقَدْ بَلَغَ وَعِيدُ قُرَيْشٍ مِنْكُمُ الْمَبَالِغَ، مَا كَانَتْ تَكِيدُكُمْ بِأَكْثَرَ مِمَّا تُرِيدُونَ أَنْ تَكِيدُوا بِهِ أَنْفُسَكُمْ"[2].



سبحان الله! لقد حرَّك النبي فيهم عنصر التحدي لقريش، وأن قريشًا لن تستطيع أن توقعكم في مكيدة أكبر من هذه.



الوتر الثاني: وتر الرحم والقبيلة، قال لهم : "تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا أَبْنَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ؟"[3].



هل تريدون أن يقتل الأوسيُّ أوسيًّا؟ وهل سيقتل الخزرجيُّ خزرجيًّا؟ وهل سيقتل اليثربيّ يثربيًّا آخر من بلده ووطنه، ويعيش نفس ظروفه ويتعرض لنفس المخاطر التي يتعرض لها؟! لقد ذكرهم بالمواطنة ليثرب والمدينة المنوَّرة.



فلما سمع القوم هذا الكلام تفرَّقوا جميعًا مسلمهم ومشركهم.



إنها حكمة بالغة من النبي ، يجب تجنُّب الفتنة الطائفيّة في داخل البلد الواحد تمامًا؛ لأن أشد الناس فرحًا بهذه الفتنة الطائفيّة هم أعداء الأمة، ونتيجة الفتنة أن طرفًا يقضي على الطرف الآخر في داخل البلد الواحد، وتُكسر شوكة الدولة دون عناء من الأعداء، وهذا ما كانت تريده قريش.



لكن القائد الحكيم منع ذلك باقتدار، وعلى كل المخلصين لهذا الدين أن يستوعبوا هذا الدرس تمامًا في البلاد الإسلاميّة، فما أكثر ما تثار الفتن الطائفيَّة في البلاد الإسلاميّة، ولا تجرّ على البلاد إلا الويلات والدمار!!



بل ما أكثر ما تثار الفتن ليس بين المسلمين والطوائف الأخرى، بل بين المسلمين والمسلمين، جماعة تحارب جماعة، أو سلطة تحارب جماعة، والجميع -سبحان الله- في مركب واحد!!



رأينا هذا في فلسطين، وفي العراق، وفي الأردن، وفي مصر، وفي ليبيا، وفي الجزائر، وفي غيرها وغيرها.



الرسول كان يعلِّمنا كيف نتجنب الصراع الداخليّ بكل وسيلة، وبما يناسب الأفراد الواقعين في الفتنة.



ويعلِّمنا أيضًا كيف نعرف الأرضيّة المشتركة بيننا وبين من يعيش معنا في البلاد، ويعلمنا كيف نوحِّد لغة الحوار، ويعلمنا كيف يمكن أن نزرع فكرة المواطنة في نفوس كل من يسكن على أرض الوطن، بصرف النظر عن دينه، وعن عرقه، وعن أصله.



منهج في غاية الحكمة، وهكذا فشل المخطط الأول لقريش.



ولكن قريش لم تيئس، فالحرب ما زالت مستمرة.



د. راغب السرجاني

[1] رواه أبو داود (3004)، ترقيم محيي الدين.

[2] رواه أبو داود (3004).

[3] السابق نفسه.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة Empty قريش تستخدم الحرب النفسية وقطع العلاقات الدبلوماسية

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:51 am

الحرب النفسيَّة ضد المسلمين

فسيكفيكهم اللهأرسلت قريش رسالة إلى المسلمين قالت لهم: لا يغرنكم أنكم أفلتمونا إلى يثرب، سنأتيكم فنستأصلكم، ونبيد خضراءكم في عقر داركم.



أسلوب التهديد والوعيد، وهو أسلوب قديم حديث، استُخدم قديمًا ويستخدم حديثًا، هذا الأسلوب وإن كان يُحتمل أنه من قبيل الحرب النفسيّة الوهميّة على المسلمين، إلا أن المسلمين أخذوه مأخذ الجدّ والاعتبار. والعقل لا يمنع أن تغزو قريش المدينةَ المنوّرة، أو على الأقل أن تخطط لقتل الرسول ، وقد حاولت قريش قتل رسول الله أكثر من مرة، وآخرها المحاولة التي تمت قبل الهجرة بقليل، وأرادوا أن يضربوا عنقه بأربعين سيفًا في وقت واحد؛ كي يتفرق دمّه بين القبائل كما كانوا يقولون، وقد رصدوا لمن يقتله أو يأسره مائة من الإبل وهذا مبلغ ضخم جدًّا، ولا يستبعد أن ترصد قريش مائة من الإبل لمن يتسلل داخل المدينة ليقتل الرسول ، فهذا محتمل جدًّا.



لأجل هذا كان الرسول كثيرًا ما يبيت ساهرًا حذرًا من غدر قريش. وفي يوم من الأيام تعب من كثرة السهر، فقال كما تروي السيدة عائشة هذا في البخاري ومسلم، تَقُولُ رضي الله عنها: سَهِرَ رَسُولُ اللَّهِ مَقْدَمَهُ الْمَدِينَةَ لَيْلَةً، فَقَالَ: "لَيْتَ رَجُلاً صَالِحًا مِنْ أَصْحَابِي يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ". قَالَتْ: فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ، سَمِعْنَا خَشْخَشَةَ سِلاَحٍ فَقَالَ: "مَنْ هَذَا؟" قَالَ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ : "مَا جَاءَ بِكَ؟" قَالَ: وَقَعَ فِي نَفْسِي خَوْفٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ، فَجِئْتُ أَحْرُسُهُ. فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ نَامَ[1].



كان هذا هو حال المسلمين في المدينة، ولم يكن هذا الموقف أحد المواقف العارضة أو النادرة، بل كان هذا كل ليلة، ولم تتوقف الحراسة عن رسول الله إلا بعد أن عصمه الله ، لما نزل قول الله: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67].



عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "كَانَ النَّبِيُّ يُحْرَسُ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)"[2].



فَأَخْرَجَ رَسُولُ اللَّهِ رَأْسَهُ مِنَ الْقُبَّةِ، فَقَالَ لَهُمْ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، انْصَرِفُوا؛ فَقَدْ عَصَمَنِي اللَّهُ"[3].



وهذه الخاصية كانت لرسول الله ، فقد عصمه الله تعالى من الناس، لكن عموم القيادات الإسلاميَّة لا بد أن تحمي نفسها من أعدائها.



وهذا التهديد لم يكن خاصًّا بالرسول فحسب، بل كان لكل من آمن معه كافَّة وبخاصَّة القيادات الإسلاميَّة.



ولا ننسى أن قريشًا قد رصدت قبل ذلك مائة ناقة لمن يأتي بأبي بكر الصديق حيًّا أو ميتًا، وكان هذا هو حال كل القيادات الإسلاميّة؛ قال أُبَيُّ بن كعب: "لما قدم الرسول وأصحابه المدينة، وآوتهم الأنصار، رمتهم العرب عن قوس واحدة؛ فكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح، ولا يصبحون إلا فيه"[4].



فاغتيال الزعامات الإسلاميَّة هدف لأعداء الأمة. وهذه الحرب النفسيّة من قريش ضد المسلمين لم تفلح أيضًا، فماذا تفعل قريش؟!


قطع العلاقات الدبلوماسيّة مع المدينة المنوَّرة

كانت قريش تفتخر على غيرها من القبائل بأنها تسقي الحجيج، وتعمِّر البيت الحرام، وكانت القوانين والأعراف في الجزيرة العربية كلها، بل في مكّة نفسها وفي قريش تقضي بأن من يريد أن يدخل البيت الحرام فهو آمن، بل يُكرم ويُرعى ويُخدم.



وقد تنكّرت قريش لكل هذا، ونسيت أو تناست القوانين والأعراف، وقررت أن تمنع أهل المدينة من البيت الحرام، وأن تعربد في الأرض كما يحلو لها.


موقف سعد بن معاذ وأبي جهل

ويتضح هذا الأسلوب جليا فيما رواه البخاري عَنْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، أَنَّهُ قَالَ:



كَانَ صَدِيقًا لأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَكَانَ أُمَيَّةُ إِذَا مَرَّ بِالْمَدِينَةِ نَزَلَ عَلَى سَعْدٍ، وَكَانَ سَعْدٌ إِذَا مَرَّ بِمَكَّةَ نَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ الْمَدِينَةَ انْطَلَقَ سَعْدٌ مُعْتَمِرًا، فَنَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ بِمَكَّةَ، فَقَالَ لِأُمَيَّةَ: انْظُرْ لِي سَاعَةَ خَلْوَةٍ؛ لَعَلِّي أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ. فَخَرَجَ بِهِ قَرِيبًا مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ، فَلَقِيَهُمَا أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا صَفْوَانَ، مَنْ هَذَا مَعَكَ؟ وهنا نلاحظ تجاهل أبي جهل لسعد بن معاذ مع أنه يعرفه جيدًا فهو سيد الأوس، فَقَالَ: هَذَا سَعْدٌ. ومن إجابة أمية يتضح أن أبا جهل على معرفة بسعد بن معاذ، فقد اكتفى أمية بن خلف بالإشارة إلى اسمه فقط ولم يعرّفه بأكثر من ذلك، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: أَلاَ أَرَاكَ تَطُوفُ بِمَكَّةَ آمِنًا، وَقَدْ أَوَيْتُمْ الصُّبَاةَ وَزَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ تَنْصُرُونَهُمْ وَتُعِينُونَهُمْ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْلاَ أَنَّكَ مَعَ أَبِي صَفْوَانَ مَا رَجَعْتَ إِلَى أَهْلِكَ سَالِمًا. فهذا تهديد خطير من أبي جهل، وقد فقد كل صوابه وحنكته وحكمته في التعامل مع قبيلة قويّة مثل قبيلة الأوس أو الخزرج، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ -وَرَفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِ-: أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ مَنَعْتَنِي هَذَا لأَمْنَعَنَّكَ مَا هُوَ أَشَدُّ عَلَيْكَ مِنْهُ، طَرِيقَكَ عَلَى الْمَدِينَةِ[5].



فهذا موقف جليل من صحابي جليل سعد بن معاذ ، يحتاج منا إلى وقفة.



إن التذلل والخضوع والخنوع لزعماء الكفر وقادة الضلال وجبابرة الأرض، لا يزيدهم إلا كبرًا وغطرسةً وظلمًا وجورًا، أما الوقوف بهذه الوقفة الجادة الحاسمة، فلا شك أنه يزلزل كيانهم، ويهزّ أعصابهم.



ونلاحظ أن سعد بن معاذ كان واقعيًّا جدًّا في تهديده، فلم يهدِّد بقتل أو بغزو مكّة أو بالقدوم إلى مكَّة للعمرة رغمًا عن أنف أبي جهل، ولكن هدَّده بما يملك.



وهنا لم يفقد سعد بن معاذ مصداقية كلامه، فكان كلامه في غاية التأثير، فهو يعرف مواطن القوة عنده، ويعرف ما بيده، ويعرف ما يضعف عدوه، ويعرف مصالح مكّة، ويعرف حقًّا من أين تُؤكل الكتف، فهذا موقف رجولي يليق بمؤمن.



وربما يسأل البعض: لماذا ردَّ سعد بن معاذ بهذه الغلظة على أبي جهل، بينما ردَّ رسول الله بلطف ولين على عبد الله بن أُبيّ بن سلول المشرك الخزرجيّ مع أنه أساء للنبي القول قبل ذلك؟



والجواب: أن الأمر يختلف لاختلاف الظرف، واختلاف المكان، واختلاف الشخص المشرك الذي دار الحوار معه.



فالرسول كان يتحاور مع عبد الله بن أُبيّ بن سلول زعيم المشركين في يثرب وقبيلته الخزرج، وهم لم يقفوا سدًّا منيعًا أمام الإسلام كما فعلت قريش، بل إن عددًا كبيرًا من الأنصار من قبيلة الخزرج، والمشركون من قبيلة الخزرج بما فيهم عبد الله بن أُبيّ بن سلول لم يسمعوا عن الإسلام إلا منذ فترةٍ وجيزة، ولم يختلطوا بالرسول وبالمسلمين اختلاطًا كافيًا.



ومن ثَمَّ كان الرسول يؤمل كثيرًا في إسلامهم، ويعتقد أنهم بطبيعتهم الرقيقة المشهورة عن أهل المدينة سيميلون في المعظم إلى الإسلام إن عاجلاً أو آجلاً، فهو لا يريد تصعيد الموقف مع قبيلة الخزرج، بل على العكس يريد امتلاك القلوب وإقناع العقول، وهذا كله إنما يتطلب رفقًا في التعامل ولينًا في الكلام.



أما موقف سعد بن معاذ وأرضاه فهو يختلف تمامًا، فهو موقف مع واحدٍ من أكابر مجرمي قريش، بل مع أعتى عتاتها وأفجر فجارها، مع فرعون هذه الأمة، وبثّ الرعب في قلبه أمر مطلوب، وإشعاره بالقلق والاضطراب واجب شرعيّ، وإثارة خوفه على تجارته وماله وسلطانه هدف إستراتيجي للمسلمين.



وتاريخ أبي جهل يشير إلى أنه لن يؤمن، وخاصَّةً أن رسول الله قد دعا عليه قبل ذلك وقال: "اللهُمَّ عليك بأبي جهل"[6]. ومن هنا فسعد بن معاذ لم يؤمِّل في إسلام أبي جهل لا من قريب ولا من بعيد، ومن ثَمَّ كان قراره حاسمًا، وهو الوقوف بصلابة في وجه أبي جهل لتسجيل نقطة أو نقاط لصالح المسلمين.



وهذه الوقفة لن تخيف أبا جهل على ماله فحسب، بل سيقع الرعب في قلبه من الأنصار ، وسيعلم أن الأنصار الذين وعدوا بحماية الرسول وافون بوعدهم، وحريصون على عهودهم ومواثيقهم، وجاهزون تمامًا للتضحية بعلاقاتهم وأموالهم، بل وأرواحهم في سبيل الدفاع عن رسول الله .



وما من شك أن هذا كله قد أثر تأثيرًا مباشرًا في نفسيَّة جبار قريش أبي جهل.



من هنا كان الاختلاف بين الموقفين؛ موقف الرسول مع عبد الله بن أُبيّ بن سلول، وموقف سعد بن معاذ مع أبي جهل، وكلاهما صحيح وحكيم، ولكن يجب أن تعرف ظروف وملابسات كل موقف لتدرك الحكمة وتخرج بدروس وعظات لا تقدر بثمن.



لكن هل اكتفت قريش بذلك؟



لقد رأينا تعاملها مع بعض الرموز المشركة داخل المدينة المنوّرة، ورأينا كذلك الحرب النفسية ضد المسلمين والتهديد والوعيد، ورأينا أيضًا قطع العلاقات الدبلوماسيّة مع المدينة، وكيف كان الموقف مع سيد الأوس سعد بن معاذ.



كما رأينا تغيير القوانين والتنكُّر للأعراف، ونكث العهود ومنع المسلمين من الوصول إلى مكّة ظلمًا وقهرًا.



هذا ما سنعرفه في المقال القادم إن شاء الله.



د. راغب السرجاني

[1] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب الحراسة في الغزو في سبيل الله (2729، 6804). مسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب في فضل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه (2410).

[2] رواه الترمذي في سننه (3046)، ترقيم أحمد شاكر.

[3] السابق نفسه.

[4] رواه الحاكم في مستدركه (3512)، والمتقي الهندي في كنز العمال (4541).

[5] البخاري: كتاب المغازي، باب ذكر النبي r من يقتل ببدر (3734)، ترقيم البغا.

[6] البخاري: كتاب الوضوء، باب إذا ألقي على ظهر المصلي قذر أو جيفة لم تفسد عليه صلاته (237). مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي من أذى المشركين والمنافقين (1794)، ترقيم عبد الباقي.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة Empty الحصار الاقتصادي على المدينة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:52 am

الحصار الاقتصادي

القوافل التجاريةلم تكتفِ قريش بالحرب النفسية أو قطع العلاقات الدبلوماسية مع المدينة ومن قبل إثارة الفتنة الطائفية في حربها ضد المسلمين، لم تكتفِ بذلك بل إنها بدأت في تنفيذ خطوات أخرى عمليّة للتضييق على المسلمين، منها محاولة التضييق الاقتصادي على المدينة المنوّرة بالتأثير على القبائل المحيطة بالمدينة، وبالاتصال باليهود الذين يعيشون بداخل المدينة المنوّرة لمنعهم من التعامل مع المسلمين، وقد استغلّت قريش ما لها من نفوذ وما لها من علاقات مختلفة لتحاصر المسلمين، وتضيّق عليهم ولكن -سبحان الله- مع خطورة هذا الأمر لم يكن له التأثير الكافي في الدولة الإسلاميَّة. لماذا؟



لأن رسول الله منذ أول يوم نزل المدينة المنوّرة وهو يحسب لهذا الأمر حسابه، ويعلم أنه سيواجه مشكلة الحصار الاقتصاديّ من قريش للمدينة، ومن ثَمَّ كان يخطط تخطيطًا في غاية الروعة.



ماذا فعل رسول الله ؟



لقد أدرك الرسول من اللحظة الأولى التي بدأ يخطط فيها لبناء الأمة الإسلاميّة، أن الأمة الإسلاميّة لا يمكن أن تُبنى إلا على أكتاف أبنائها.


أهمية الاقتصاد الإسلامي

إن الاقتصاد الإسلامي إذا كان معتمدًا على الآخرين، فإنه سيصبح اقتصادًا هشًّا ضعيفًا لا قيمة له، فما بالكم لو كان يعتمد على عدو أو يعتمد على اليهود. إن المدينة المنوَّرة حال هجرة المسلمين إليها لم تكن فقيرة فحسب، بل كان اقتصادها إلى درجة كبيرة جدًّا في يد اليهود، وكان سوق المدينة الرئيسي هو سوق بني قَيْنُقاع، ولعله السوق الوحيد في المدينة، وكانت التجارة في معظمها تتم في داخل هذا السوق، وحتى كبار التجار من الأنصار كانوا لا يتعاملون إلا في داخل هذا السوق.



الأخطر من التجارة والسوق والمال هو أن الماء أيضًا كان في يد اليهود، وكان أهل المدينة يشترون الماء من الآبار التي يمتلكها اليهود، وأشهر الآبار بئر رُومَة وهو معروف ومشهور.



ماذا لو حدث اتفاق بين قريش واليهود؟



ماذا لو منع اليهود تجارتهم عن المسلمين؟



ماذا لو منعوا الماء عن المسلمين؟



فهذا الموقف لا يحسد عليه أحد، ومن هنا خطط رسول الله من أول يوم للخروج من هذه الأزمة بمهارة ودقة، وسطَّر لنا أصولاً أصبحت من الثوابت في التشريع الإسلاميِّ.


رسول الله وتفعيل الاقتصاد الإسلامي

وتفصيل هذه الوسائل يحتاج إلى وقت طويل، لكننا الآن نوجز بعض العناوين المهمة للخروج من الأزمة الاقتصاديَّة:



أولاً: حرْص الرسول على توفير الماء المملوك للدولة الإسلاميّة، وذلك لأن الماء سلعة إستراتيجية، ولا يصلح أن تقوم دولة لا تمتلك الماء؛ لذلك روى أحمد والنسائي عن الأحنف بن قيس أن رسول الله قال: "مَنْ يَبْتَاعُ بِئْرَ رُومَةَ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ!"[1] وهذه البئر كانت مملوكة ليهودي كما قلنا، فابتاعها عثمان بن عفان ، ثم ذهب إلى رسول الله وقال له: ابتعتها بكذا وكذا. فقال : "اجْعَلْهَا سِقَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَأَجْرُهَا لَكَ". فقال: اللهُمَّ نعم[2].



وعثمان بن عفان اقتصاديٌّ إسلامي كبير، وقد وجَّه جهده لشراء ما ينفع الأمة، بدلًاً من التجارة في شيء من الرفاهيات والكماليات، وكان هذا بتوجيهٍ من الرسول حيث وجهه لشراء السلع الإستراتيجية، التي هي في هذا الموقف الماء، وقد تكون السلعة الإستراتيجية في وقت من الأوقات البترول أو القمح أو القطن أو الطاقة النوويّة بحسب الظروف والأحوال.



ونلمح في هذا الموقف شيئًا في غاية الأهمية، وهو دور التربية الإيمانية في بناء الأمة الإسلاميّة، ففي هذا الموقف الرسول لا يملك شيئًا دنيويًّا يعوِّض به عثمان بن عفان عن الماء الذي اشتراه، ولا يتوقع أن يشتري المسلمون منه الماء؛ لأن المسلمين فقراء، ومن ثَمَّ فقد حفَّزه النبي بشيءٍ عظيم، قال: "مَنْ يَبْتَاعُ بِئْرَ رُومَةَ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ!"[3]. وفي رواية: "فَلَهُ الْجَنَّةُ"[4].



ولو لم يكن إيمان عثمان بن عفان يقينيًّا بالله ورسوله ، وبالجنة والنار لما هان عليه أن يدفع آلاف الدراهم دون أيّ عائد دنيويّ.



ولم تكن هذه المشكلة تُحلّ دون تطوعٍ من اقتصادي مسلم غني، يرغب في الدار الآخرة؛ لأن بيت مال المسلمين لم يكن به مال، لذلك -كخطوة أولى قبل بناء دولة- لا بد من الاطمئنان على إيمان وعقيدة الجنود الذين ستُبنى على أكتافهم هذه الدولة.



وبهذه الخطوة الجبّارة أمّن رسول الله الماء لأمته.



ثانيًا: الاستقلالية عن سوق اليهود، وإنشاء السوق الإسلامي الحر المعتمد على نفسه.



فالرسول علم أن الدولة الإسلاميّة لا يمكن لها أن تقوم في المدينة، وهي تعتمد على سوق بني قَيْنُقاع اليهودي؛ لذلك أمر الصحابة بأن يبحثوا عن مكان مناسب في المدينة المنوّرة ليصبح سوقًا للمسلمين، ويتحكم في تجارته المسلمون، ويُدار على شرع المسلمين وقانون المسلمين، وقد اجتهد الصحابة في البحث عن مكان مناسبٍ للسوق، وذهبوا هنا وهناك وذهب الرسول بنفسه إلى أكثر من موضع، ولم يعجبه في البداية المواضع المختارة إلى أن رأى موضعًا يصلح من حيث المساحة والموقع، فقال : "هَذَا سُوقُكُمْ". وانظر إلى رواية الطبراني وابن ماجه رحمهم الله، عن أبي أسيد قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ فَقَالَ لَهُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَوْضِعًا لِلسُّوقِ، أَفَلاَ تَنْظُرُ إِلَيْهِ؟ قَالَ: "بَلَى". فَقَامَ مَعَهُ حَتَّى جَاءَ مَوْقِعَ السُّوقِ، فَلَمَّا رَآهُ أَعْجَبَهُ، وَرَقَدَهُ بِرِجْلِهِ -أي ضرب موضع السوق برجله- فَقَالَ: "هَذَا سُوقُكُمْ، فَلاَ يُنْتَقَصَنَّ (أَي لا ينتقصن من قيمة هذا السوق، ولا من أرض هذا السوق)، وَلاَ يُضْرَبَنَّ عَلَيْهِ خَرَاجٌ"[5]. أي لا يصح للحاكم أن يضع قيودًا أو ضرائب على من يريد أن يتاجر في هذا السوق؛ وذلك ليشجع التجارة الإسلاميّة.



وهذا الأمر نجد عكسه في كثير من البلاد الإسلاميّة، فنجد القيود على رءوس المال الوطنية والتسهيلات لرءوس المال الأجنبية، فتنتشر رءوس المال الأجنبية وأحيانًا المعادية في بلاد المسلمين، وربما تنتعش التجارة نسبيًّا في فترة من الزمن، لكن بصفةٍ مؤقتة ويصبح السوق معتمدًا على رأس المال الأجنبي، وبالتالي تقع قرارات إستراتيجية خطيرة، سواء من ناحية الاقتصاد أو من ناحية السياسة في يدِ هذه الشركات الأجنبية.



وقد وضع هذا الأمر في اعتباره من أول يوم أنشأ فيه السوق الإسلامي، وبدأ المسلمون يهجرون سوق اليهود (بني قَيْنُقاع) ويتعاملون مع السوق الإسلامي، فكانت مقاطعة محمودة، وهذه المقاطعة لم تكن سلبية، بل كانت إيجابية بإنشاء السوق البديل، وإيجابية لإيجاد البضائع الموازية لبضائع اليهود وغيرهم.



ولا شك أن السوق الإسلاميّة في أولها كانت ضعيفة عن السوق اليهودية، لكن بمرور الوقت قويت شوكة الاقتصاد الإسلامي وأصبح الاقتصاد الإسلامي معتمدًا على نفسه. وكان هذا الاهتمام من الرسول من أول الدعوة ولم يكن أمرًا لحظيًّا في حياته ، بل ظل طيلة عمره يحفِّز الناس على إقامة اقتصاد إسلامي.



وحفَّز على التجارة وعلى الزراعة وعلى الصناعة، وعلى أي عمل مهما كان بسيطًا، وربط كل ذلك بالأجر والثواب عند الله تعالى، كما ربطه أيضًا بعزة المسلم والأمة في الدنيا، وأتبع كل ذلك بفيضٍ هائل من التشريعات والقوانين التي تكفل دقة وسهولة التعامل الاقتصادي، وتحفظ للجميع حقوقهم وتعرّفهم بما لهم وبما عليهم.



ليس هذا فحسب، بل علَّم الشَّعب أن الفساد بكل صوره حرام، وحرّم الرشوة والسرقة والاختلاس والإسراف والتهرب من الزكاة، وبهذا حفظ للدولة مالها وحقوقها وللشعب ماله وحقّه، وظهرت البركة في المال القليل، ومع أن المسلمين كانوا في البداية فقراء لكن زاد المال وتحسّن الاقتصاد، وخرج المسلمون من أزمتهم بنجاح بفضل الله ، وبفضل التشريع الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: 96]. وهذه البركات رأيناها فعلًاً في المدينة المنوّرة.



فهذه النظرة الاقتصادية الثاقبة لرسول الله فوّتت على قريش فرصة محاربة المسلمين اقتصاديًّا، وفوتت عليهم أيضًا التحالفات التي كان يعقدونها مع اليهود وغيرهم، وخرج المسلمون فعلاً من عنق الزجاجة، وباتوا يعتمدون على أنفسهم في حياتهم، ومن لا يملك قوته لا يملك رأيه.



ومع كل هذه المحاولات من قِبل قريش والتي تبوء بالفشل لاستئصال شأفة المسلمين، لم تكتفِ قريشٌ بذلك، بل استمرَّت في المحاولة والكيد والتدبير، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].



د. راغب السرجاني

[1] رواه النسائي (3606، 3607)، ترقيم أبي غدة. وأحمد (511)، طبعة مؤسسة قرطبة.

[2] السابق نفسه.

[3] رواه النسائي (3606، 3607)، ترقيم أبي غدة. وأحمد (511)، طبعة مؤسسة قرطبة.

[4] البخاري: كتاب الوصايا، باب إذا وقف أرضًا أو بئرًا واشترط لنفسه مثل دلاء المسلمين (2626).

[5] رواه ابن ماجه (2233)، وضعفه البوصيري في الزوائد.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة Empty بداية يوم أحد ونصر المسلمين

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:52 am

تحدثنا عن مقدمات غزوة أحد والإعداد الجيد لجيش الكفار والذي وصل إلى ثلاثة آلاف مقاتل بعُدة جيدة وآلة الحرب.



وكذلك تحدثنا عن الإعداد الجيد للجيش المسلم وأن النبي خرج بألف من رجال المسلمين ولكن انسحب منه قبل أن يدخل أرض المعركة ثلاثمائة من المنافقين فأصبح الجيش سبعمائة من المسلمين.



وأيضا إلى جانب الإعداد الجيد توفرت صفات الجيش المنصور في الجيش المسلم الخارج إلى أحد من إيمان بالله U وإيمان برسوله ، ومن إيمان بالله واليوم الآخر وطلب الجنة ورغبة في الموت في سبيل الله ومن أخوة وأمل وشورى ومشاركة القائد لجنده، وغير ذلك من صفات الجيش المنصور التي تحدثنا عنها بالتفصيل عند حديثنا عن غزوة بدر.


آخر خطوات الإعداد للمعركة

ولما دخل النبي أرض أحد أحتل مواقع متميزة في أرض المعركة ووضع فرقة من الرماة على الثغرة الوحيدة الموجودة في أرض المعركة، وأكد عليهم مرارا عدم التخلي عن مواقعهم مهما كانت الظروف.



قال لعبد الله بن جبير قائد الرماة: "انْضَحْ عَنَّا الْخَيْلَ بِالنَّبْلِ لَا يَأْتُونَ مِنْ خَلْفِنَا، إِنْ كَانَتْ لَنَا أَوْ عَلَيْنَا فَاثْبُتْ مَكَانَكَ، لَا نُؤْتَيَنَّ مِنْ قِبَلِكَ".



ثم قال للرماة: "إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ فَلَا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هَذَا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا الْقَوْمَ وَوَطِئْنَاهُمْ فَلَا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ هَذَا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ".



فكانت الأوامر في منتهى الوضوح لا تفتح بابا للاجتهاد عند الرماة، كلها تحمل معنى واحدًا، وهو الثبات الثبات فوق جبل الرماة.


بدء القتال

وبدأ القتال وكان يوم السبت الموافق السابع من شوال بعد غزوة بدر بعام تقريبا.



وبدأ القتال في منتهى القوة والشراسة وأول ما بدء للقتال كان حول راية الكفار، وكما ذكرنا فراية الكفار كانت مع بني عبد الدار وكان أول من يحملها من بني عبد الدار طلحة بن أبي طلحة العبدري، وكان طلحة من أكبر وأعظم وأقوى فرسان قريش وكان يلقب بكبش الكتيبة وخرج ليطلب القتال وكان أول من طلب القتل من قريش وخرج وهو حامل الراية وعلى جمل وأحجم عنه المسلمون لما رأوا هيئته وقوة بأسه، وتقدم الزبير بن العوام الذي لم يكتف بقتاله بل قفز فوق جمل طلحة بن أبي طلحة وجذبه إلى الأرض وبرك فوقه وقتله > ، ولما رأى الزبير بن العوام يقتل كبش الكتيبة قال: "أَلَا إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ".



واشتد القتال بين الفريقين وتقدم عثمان بن أبي طلحة أخو طلحة بن أبي طلحة الذي قتله الزبير وطلب القتال وخرج له حمزة > وقتله حمزة ثم خرج أخوهم الثالث أبو سعدة فقتله سعد بن أبي وقاص >، ثم خرج مسافع بن طلحة بن أبي طلحة، ثم كلاب بن طلحة بن أبي طلحة، ثم الجُلاس بن طلحة بن أبي طلحة، مجموعة كبيرة من بني عبد الدار وكانوا ستة من بيت واحد بيت أبي طلحة، وكانت مأساة بالنسبة لبيت أبي طلحة بن عبد الدار، وبرغم كل ما حدث في بيت أبي طلحة خرج من بني عبد الدار رجل آخر هو أرطأة بن شرحبيل، فقتله علي بن أبي طالب، ثم خرج شريح بن قارظ فقتله غلام أنصاري اسمه قزمان، ثم خرج عمرو بن عبد مناف فقتله أيضا قزمان، فخرج ابن شرحبيل بن هاشم، فقتله أيضا قزمان، وقد قاتل قزمان في ذلك اليوم قتالا شديدا.



وَقُتِل يومئذ عشرة من بني عبد الدار، وكلما قتل واحدًا منهم تسلم الراية رجلًا آخر لأنهم تعاهدوا مع أبي سفيان أن لا يتخلوا أبدًا عن الراية وصدقوا في عهدهم مع أبي سفيان، ثم خرج مولى لبني عبد الدار وكان اسمه صواب من الحبشة وقاتل قتالًا أشد من السابقين جميعًا قاتل حتى قطعت يده الأولى، ثم الثانية، ثم قطعت رأسه وهو يحمل الراية حتى سقط وبسقوط هذا الغلام الحادي عشر سقطت الراية المشركة ولم ترفع بعد ذلك.



واحتدم القتال بين الفريقين وكان شعار المسلمين في هذا اليوم أَمِتْ أَمِتْ وكانت بداية قوية بالنسبة للمسلمين فقد سقط إحدى عشر قتيلًا من المشركين مقابل لا شيء من المسلمين فكان النصر في البداية حليف المسلمين وانهارت معنويات الكفار، وارتفعت معنويات المسلمين إلى أعلى درجة، وبدأ يسيطر المسلمون على الموقف وقاتلوا بقوة وبضراوة شديدة.


أبو دجانة وسيف رسول الله

وكان من أبرز المقاتلين في ذلك الوقت سيدنا أبو دجانة > وحمزة بن عبد المطلب > ، ولقد فعلا الأفاعيل بجيش المشركين.



وأبو دجانة هو الذي أخذ السيف من النبي لما قال : "مَنْ يَأْخُذ هَذَا السَّيْفَ بِحَقِّهِ". وربط على رأسه عصابة حمراء وقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت. وجال في الأرض وقتل كثيرا من المشركين.



وكان الزبير بن العوام يجد في نفسه؛ لأن النبي أعطى السيف لأبي دجانة ولم يعطه له هو قال الزبير في نفسه: أنا ابن صفية عمته ومن قريش وقد قمت إليه فسألته السيف قبل أبي دجانة فأعطاه له وتركني والله لأنظرن ما يصنع فاتبعته فرأيته وهو يقول:



أنا الذي عاهدني خليلي ... ونحن بالسفح لدى النخيل.



أن لا أقوم الدهر في الكيول ... أضرب بسيف الله والرسول.



فيقول الزبير بن العوام فجعل لا يلقى أحد من المشركين إلا قتله.



وكان في المشركين رجل يقتل كل جريح مسلم، فيقول الزبير: فدعوت الله أن يجمع بينه وبين أبي دجانة. مع أن الزبير من كبار الفارسين، فاجتمعا فضرب ضربتين فضرب المشرك أبا دجانة، فاتقاه بدرقته أي بدرعه فعضت بسيفه، فضربه أبو دجانة فقتله.



واخترق أبو دجانة صفوف المشركين حتى وصل إلى صفوف النساء، ورأى أبو دجانة كما يقول: رأيت إنسانًا يخمش الناس خمشًا شديدًا، فصمدت له، فلما حملت عليه السيف وَلْوَل فإذا هو امرأة وكانت هند بنت عتبة فأكرمت سيف رسول الله أن أضرب به امرأة.


حمزة بن عبد المطلب

قاتل حمزة > قتالًا شديدًا كقتال أبو دجانة >، وقاتل قتالًا شديدًا في كل الميادين لم يقف أبدًا في وجهه أحد من المشركين، لكن وقف في ظهره وحشي بن حرب أحد الغلمان في جيش المشركين.



ويحكي وحشي بن حرب قصته فيقول: كنت غلامًا لجبير بن مطعم، وكان عمه عدي قد أصيب يوم بدر فلما أجمعت قريش المسير إلى أحد قال لي جبير: إنك إن قتلت حمزة عم محمد بعمي فأنت عتيق، قال فخرجت مع الناس وكنت رجلًا حبشيًا أقذف بالحربة قذف الحبشة قلما أخطئ بها شيئًا، فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصره حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق يهد الناس هدًا ما يقوم له شيء، يقول وحشي: فهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها إليه فوقعت في ثنته (أي في أحشائه) حتى خرجت من بين رجليه وذهب لينوء نحوي فغُلب. وكان يريد قتل وحشي، ويقول وحشي: فتركته حتى مات، فأخذت حربتي فذهبت إلى العسكر فقعدت فيه ولم يكن لي بغيره حاجة وإنما قتلته لأعتق فلما قدمت مكة عتقت.



وحلت الكارثة على جيش المسلمين بقتل حمزة > أسد الله وأسد رسوله .



ومع قتل حمزة وبرغم الخسارة الفادحة التي خسرها المسلمون ظل المسلمون مسيطرون على الموقف تمامًا في أرض أحد.



قاتل عامة المسلمين يومئذ قتالًا عظيمًا شديدًا قاتل أبو بكر وعمر وعلي والزبير بن العوام ومصعب بن عمير وطلحة بن عبيد الله وعبد الله بن جحش وسعد بن معاذ كل المسلمين قاتلوا قتالًا شديدًا وأبلوا بلاءً حسنًا في ذلك اليوم.


محاولة خالد بن الوليد اختراق جيش المسلمين

كانت لخالد بن الوليد > نظرة عسكرية ثاقبة وكان يومئذ مشركًا ورأى الثغرة التي يمكن له من خلالها أن يخترق جيش المسلمين والتف بفرقة كانت معه من فرسان المشركين حول جبل الرماة إلا أنه فوجئ بسيل من السهام من فوق الجبل من كتيبة الرماة التي وضعها النبي فوق الجبل فرَدّت خالد بن الوليد.



وما استطاع خالد بن الوليد بحنكته وذكائه أن يتجاوز تلك الكتيبة ويخترق خلف الجيش المسلم.



وكانت هذه المحاولة الأولى لخالد وكرر ذلك مرات عديدة إلا أنه في كل مرة ترده فرقة الرماة من فوق الجبل، وفشل سيدنا خالد في تجاوز فرقة الرماة التي كان قد وضعها النبي فوق الجبل.


نصر للمسلمين

وبدأت الهزيمة تدب في جيش المشركين ثلاثة آلاف مشرك وكأنهم يقابلون ثلاثين ألف مسلم برغم قلة المسلمين.



وبدأ المشركين يفكرون جديًا في الهرب وبدأوا يتراجعون إلى الوراء شيئًا فشيئًا ثم فروا قِبَل مكة تاركين النساء وراءهم حتى النساء هربن، ويقول الزبير بن العوام: لقد رأيت خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير.



فكان نصرا للجيش المسلم لا يقل روعة عن نصر بدر، يقول تعالى:



{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} ]آل عمران:152[.



وتحسونهم أي: تستأصلونهم.



والله U قد وعد المؤمنين إن كانوا صادقين وصابرين ومتبعين للنبي أن يعطيهم النصر في أحد وفي غيرها.



والرسول بشرهم بذلك قبل الخروج إلى أحد وإلى هذه اللحظة المسلمون ملتزمون بما قاله النبي بما كانوا عليه يوم بدر لذا تحقق النصر حتى هذه اللحظة.



وبنظرة إلى الجيش الإسلامي نجد أنه إلى الآن مؤمن بالله U مؤمن باليوم الآخر، يطلب الجنة، طَبّق الشورى، أعد الجيش إعدادًا جيدًا، حاسم، معتمد على الشباب، القائد في هذا الجيش يعيش مع شعبه ويشترك معهم في كل صغيرة وكبيرة، الأخوة في الله واضحة في المعركة، الأمل في قلوبهم، واليقين في نصر الله يملأ نفوسهم، الأمر موسد إلى أهله، والصفات العشر التي تحدثنا عنهم في غزوة بدر متحققين في جيش أحد إلى هذه اللحظة، والنصر حليف للمسلمين.



{مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ}



وبعد هذا الانتصار العظيم وبعد الهروب الكبير لجيش المشركين تخلى بعض المسلمين عن صفة واحدة من تلك الصفات العشر فتغير الموقف تمامًا.



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة Empty أهمية غزوة الأحزاب

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:54 am

حسد الكفار للمسلمين وخوفهم منهم

غزوة الأحزاباستكان المنافقون في المدينة بعد تحركات المسلمين السابقة، ورضخوا لأوامر النبي ، وكتموا الكفر بداخلهم.



أما اليهود فقد تحركت مخاوفهم، فلا يزال بنو قريظة داخل المدينة المنورة، ومع أنهم أعلنوا التزامهم بالمعاهدة إلا أنهم أخذوا يخافون من قوة المسلمين، بل انتقل زعماء بني النضير إلى خيبر مثل سلام بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب؛ لذلك نتوقع وقوع خطر كبير يأتي من هذا التجمع الكبير لليهود في خيبر؛ لأنهم رأوا تناقص اليهود في المدينة المنورة، فبعد القضاء على اليهود في المدينة سوف يتوجه المسلمون إلى خيبر.



وبدأت قريش تشعر بالخطر بعد عدم خروجها إلى بدر الصغرى في شوال 4هـ، وعدم القدرة على مواجهة المسلمين، إضافةً إلى انقطاع تجارة قريش عن بلاد الشام بعد قيام الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، هذا إضافةً إلى أن القبائل التي تحيط بالمدينة المنورة بدأت تشعر بالخطر والقلق، مثل قبائل غطفان وبني سُليم وبني هُذيل وبني لِحْيان، وهي القبائل التي غدرت بالمسلمين في ماء الرجيع وبئر معونة. إضافةً أيضًا إلى بني فزارة، وهم فرع من بني سُليم وقائدهم عيينة بن حصن، الذي وادعه رسول الله ، فنراه ينقلب على المسلمين. كل هذه العوامل تنذر بخطر كبير على المسلمين، فالكل يترصد بهم، ويعمل على إبادتهم، ولكن الله لا يترك عباده المؤمنين أبدًا.


اليهود وتحالف الأحزاب

في كل المعارك السابقة كان المسلمون يقاتلون كل قوة على حدة، والعرب لا يتجمعون أبدًا، فهم قبائل متفرقة، ولم يُعرف عن العرب التجمع إلا مرة واحدة، وكانت في الجاهلية في اليوم المعروف (يوم ذي قار) الذي انتصر العرب فيه على الفرس، أما ما عدا ذلك فلم يعرف عن العرب أن تجمعوا بعد يوم ذي قار، فكل قبيلة تعمل من أجل مصالحها الشخصية، وفي تجمع هذه القبائل أزمة كبيرة على المسلمين، فهذا شيء مستغرب.



ولكن من قام بدور تجميع القبائل العربية هم اليهود، مع أنهم لم يشتركوا في القتال، فهذا دور يجيده اليهود من عصر النبي وحتى يومنا هذا؛ فدائمًا اليهود يؤلِّبون الآخرين على حرب دعوة الحق، ثم بعد ذلك لا يشتركون في القتال، وهذا دور ينفذه اليهود بمهارة واحتراف، فهم يحرضون الولايات المتحدة على حرب المسلمين في العراق، والتدخل في جنوب السودان، وتحريض روسيا على حرب المسلمين في الشيشان، وغير ذلك كثير، فهذا دأب اليهود في كل العصور والأزمان.



خرجت مجموعة من يهود خيبر ويهود بني النضير لتجميع الأحزاب، وتوجه الوفد إلى قريش لإغرائها بحرب المسلمين، وأن هذه فرصة لجمع كل القبائل لقتال المسلمين، وبدأت قريش في تجميع المقاتلين، فتجمع أربعة آلاف مقاتل، ثم انتقل اليهود من قريش إلى غطفان لإغرائهم إلى قتال المسلمين، وتخوفت غطفان من حرب المسلمين، مع أنهم قبائل كثيرة وقوية، وقام اليهود بإغراء غطفان بالأموال؛ فرغم بخل اليهود بالمال -وهذا شيء معروف عنهم- إلا أنهم في الصدِّ عن سبيل الله ومحاربة الإسلام ينفقون ببذخ؛ فقد عاهد اليهود غطفان وعيينة بن حصن - الذي عاهد رسول الله ثم نقض عهده الآن - على أن تكون لهم ثمار خيبر مدةَ عام، وخيبر كانت غنية جدًّا، فضحوا بكل هذا من أجل هزيمة المسلمين، وإلحاق الأذى بهم. ووافقت قبائل غطفان بعد أن أغراهم اليهود بالمال على أن يعملوا على تجميع ستة آلاف مقاتل، فيكون مجموع الأحزاب عشرة آلاف مقاتل، وهذا عدد ضخم وكبير، فكيف سيواجه المسلمون هذه المحنة؟



وطار الخبر المرعب إلى المدينة المنورة، ولعل هذا هو أخطر الأنباء التي وصلت إلى المدينة المنورة منذ بداية الدولة الإسلامية في المدينة وحتى الآن؛ فالعرب إذا وصل عددهم إلى ألفٍ يفتخرون، حيث يقول أحدهم: "إنا لنزيد على الألف، ولن يغلب ألف من قلة". وهنا قال المؤمنون الصادقون كما أخبر الله في كتابه الكريم: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22].



فالله قد أخبرهم بقيام تحالف ضدهم، وهذا ما تحقق، ولكن وعدهم بالنصر. وعلى الجانب الآخر فقد ارتعد المنافقون من هذا التجمُّع، وكيف يحاربون هذا التجمع الكبير، فنزل قوله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا} [الأحزاب: 12].



قرر المنافقون عدم القتال مع المسلمين؛ لأنهم لا يؤمنون بقدرة الله في تحقيق النصر. إنهم خطر كبير على الأمة، ويتربصون بها الدوائر، ويتمنون اليوم الذي يأتي ولا يرون المسلمين في المدينة.



فالمسلمون -فعلاً- يواجهون محنة كبيرة، فلا بد أن يكونوا على استعداد تام لقتال هذه الجموع المشركة والظالمة، فإن ثبت المسلمون وخرجوا من هذه الأزمة منتصرين فسوف يُكتب لهم السيادة والسيطرة في الجزيرة كلها؛ فلذلك استبشر المسلمون بهذه الأزمة على ضخامتها؛ ففي بدر ظلت الأزمة تتصاعد وتتصاعد حتى وصلت إلى أقصاها في شهر شعبان، وبعدها بشهر في رمضان 2هـ خرجوا إلى بدر بصفات الجيش المنصور، فانتصر المسلمون بعد الصدام المروع في بدر، والآن توجد أزمة كبيرة مع المشركين والصدام أصبح قريبًا، وصدق القائل:



ضاقت فلما استحكمت حلقاتُها ... فُرِجت وكنت أظنها لا تُفرج[1]



فالنصر أصبح قريبًا لأن الأزمة وصلت إلى أشدها، وبعد أن يصل الليل إلى ذروة الظلام يأتي نور الفجر؛ فقد أحاطت جيوش التحالف بالمدينة، كما يحيط السِّوَار بالمِعْصَم، ومع ذلك أخرج الله المسلمين من أزمتهم منتصرين.



كيف كان ردُّ فعل المسلمين تجاه هذه الأزمة؟



كيف اتخذوا قرارات لم تؤخذ من قبل في تاريخ العرب جميعهم؟



كيف ظهر أمر المنافقين في كل لحظة من لحظات المعركة؟



كيف ردَّ الله الكافرين بغيظهم لم ينالوا خيرًا؟



إنها دروس عظيمة نتعلمها من السيرة النبوية العطرة، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.


أهمية غزوة الأحزاب
غزوة فارقة

تُعَدّ غزوة الأحزاب من أهم الغزوات التي مرت بالمسلمين خلال سنوات المدينة المنورة العشر، ليس فقط لخطورتها أو صعوبتها أو لانتصار المسلمين فيها، ولكن لأنها كانت غزوة فارقة بين مرحلتين رئيسيتين من مراحل الحياة في المدينة المنورة.


وضع المسلمين قبل الغزوة

فالوضع داخل الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة قبل وأثناء غزوة الأحزاب لم يكن مستقرًّا أبدًا، فقد كانت المخاوف تأخذ المسلمين من كل جانب، وكانت القلاقل والاضطرابات تموج بالمدينة في كل يوم وفي كل ساعة، وكانت جموع الضلال والكفر تكيد للمسلمين في كل لحظة، وتجعل حياتهم سلسلة مضنية من الآلام والجراح والمكائد والفتن، وكانت جموع الضلال هذه تضم المدارس الفكرية والعقائدية المختلفة والمتشعبة في الجزيرة العربية، ففيها العرب المشركون سواء من قريش أو من غيرها، وفيها الأعراب حول المدينة، وفيها اليهود بكل جموعهم وقبائلهم، وفيها المنافقون الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر.



كل هذه الجموع كانت تؤجج نيران الفتنة في المدينة المنورة، وتجعلها وكأنها تعيش على أتُونٍ ملتهب لا يدع لمسلم وقتًا لراحة أو استقرار.



والذي يحلل الأوضاع قبل غزوة الأحزاب في السنة الخامسة يجد أن المسلمين كانوا قد حققوا انتصارًا باهرًا في غزوة بدر، ولكن هذا الانتصار المبهر أُتبع بثلاث مصائب كبرى، كانت أشهرها مصيبة أُحد، التي تحدثنا عنها بالتفصيل قبل ذلك، واستشهد سبعون من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ثم أُتبعت هذه المصيبة بمصيبتين خطيرتين؛ وهما مصيبة (ماء الرجيع) التي قتل فيها عشرة من المسلمين، ومصيبة (بئر معونة) التي قتل فيها سبعون من المسلمين. وكانت هاتان المصيبتان الأخيرتان بعد شهور قليلة جدًّا من غزوة أُحد، وذلك معناه أن المسلمين فقدوا في خلال أربعة أو خمسة أشهر مائة وخمسين من خيرة الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وهذا رقم هائل بالنسبة للجماعة المسلمة في ذلك الوقت.



والمحلل للأحداث أيضًا قبل الأحزاب يجد أن المسلمين حققوا انتصارين كبيرين على قبيلتين من قبائل اليهود، وهما بنو قينقاع وبنو النضير، وتم إجلاؤهما من المدينة المنورة، لكن ما زال الوضع غير مستقر حتى بعد إجلاء هاتين القبيلتين الكبيرتين؛ فزعماء بني النضير وعلى رأسهم حيي بن أخطب ما زالوا أحياءً، وقد هاجروا إلى خيبر في شمال المدينة، وهم يضمرون كل الشر للمسلمين، ولن يهدأ لهم بال إلا بالكيد للرسول وأصحابه. وغير زعماء بني النضير، فهناك القبيلة الخطيرة بنو قريظة، التي ما زالت تقبع في الجنوب الشرقي للمدينة المنورة، وهي قبيلة ذات حصون وقلاع وسلاح ورجال.



وهي وإن كانت تعاهد المسلمين معاهدة دفاع مشترك عن المدينة وحسن جوار، إلا أنهم كعامَّة اليهود لا أمان ولا عهد لهم.



وهكذا فالوضع قبل الأحزاب، وأثناء الأحزاب كان في غاية الخطورة وعدم الاستقرار.


وضع المسلمين بعد الغزوة

استمرت غزوة الأحزاب شهرًا كاملاً، وكانت فيها أحداث كثيرة مثيرة ومتشعبة، ثم انتهت الغزوة برحيل المشركين وأعوانهم وانتصار المسلمين - على قلتهم وضعفهم - انتصارًا عجيبًا، ووجه العجب أنه كان انتصارًا دون قتال تقريبًا، وذلك كما قال ربنا في كتابه: {وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ القِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25].



ومع ذلك سمعنا تعليقًا عجيبًا أيضًا من رسول الله بعد الأحزاب، أثبتت الأيام بعد ذلك مدى عمقه وقدرته على وصف الأحداث.



قال الرسول ، كما جاء في البخاري تعليقًا على انتهاء غزوة الأحزاب: "الآنَ نَغْزُوهُمْ وَلاَ يَغْزُونَا، نَحْنُ نَسِيرُ إِلَيْهِمْ"[2].



وفعلاً بانتهاء غزوة الأحزاب استقر الوضع في المدينة المنورة، وما عادت تخاف من أي تهديد، وما فكر أعداء الله في غزوها بعد ذلك، بل كانت الجيوش الإسلامية تخرج منها إلى كل مكان في الجزيرة العربية وخارج الجزيرة.


والخلاصة

لقد كانت غزوة الأحزاب غزوة فارقة في حياة الأمة الإسلامية، وغزوة محورية في بناء الكيان الإسلامي الراسخ.



وغزوة بهذه القيمة وبهذه الآثار، لا بد أن تدرس بعناية، وتحلل بعمق؛ لنستخرج منها الأسس التي على أساسها تم هذا النصر المبين، ولنعرف الضوابط الشرعية التي حكمت الجماعة المسلمة في هذه الفترة الحرجة من حياة الأمة.



وتستمد دراسة غزوة الأحزاب أهمية خاصة في زماننا الآن؛ وذلك لكثرة الأحداث التي تشبهها، فما أكثر الأحزاب التي تحزبت ضد أمة الإسلام في زماننا الآن! وما أكثر الشبه بين هذه الأحزاب الحديثة وبين الأحزاب التي تجمعت أيام رسول الله ! سواء من ناحية طرق التجميع، أو من ناحية المدارس الفكرية، أو من ناحية الخطة والتنظيم.



تشابه كبير جدًّا بين الماضي والحاضر، وهذا يعطي أهمية قصوى لمراجعة مصادرنا الأصيلة في تحليل الأحداث، وأهم هذه المصادر مصدران هما الكتاب والسنة؛ ففي كتاب الله عز وجل تعليق مباشر عميق معجز عن غزوة الأحزاب، وقد ترك الله عز وجل في هذا التعليق ذكر الأسماء والشخصيات ليتحدث عن سمات عامة وأصول ثابتة لتصلح بعد ذلك هذه التعليقات لكل زمان ومكان، وكذلك في السنة المطهرة، فقد مر الرسول في حياته بعد البعثة بكل المتغيرات والأحداث التي من الممكن أن تمر بها الأمة في أيِّ زمان ومكان، ومن ثَمَّ تستطيع أن تجد ضالتك في إحدى غزواته أو مواقفه ؛ وذلك بأن تعرف بدقة الظروف التي تمر بها الأمة في فترة ما وفي مكان ما، ثم تبحث عن الفترة التي تشبه هذه الفترة في حياة الرسول ، ثم تدرس هذه الفترة بعمق، وتأخذ بعناية المنهج النبوي في التعامل مع الأحداث، ثم تسير بدقة وإخلاص على نفس الطريق الذي سار فيه رسول الله ، فتصل بفضل الله إلى موعود الله.



هذا المنهج في البحث والتطبيق يضمن لك السلامة من كل زيغ أو ضلال. روي عن العِرْبَاض بن سارية ، أن رسول الله قال: "... وَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا؛ فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ"[3].



وسنة الرسول هي طريقنا في الحياة، وكذلك منهجه في معالجة الأمور وأسلوبه في التفاعل مع الأحداث، وهذا كله حي ينبض في كل صفحة من صفحات سيرته ، وفي كل لحظة من لحظات حياته .



د. راغب السرجاني

[1] القائل الإمام الشافعي.

[2] البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب (3884)، ترقيم البغا.

[3] رواه أبو داود (4607) ترقيم محيي الدين، والترمذي (2676) ترقيم شاكر، وابن ماجه (43) ترقيم عبد الباقي، وأحمد (17182) طبعة مؤسسة قرطبة، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2549).
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة Empty موقف اليهود من الإسلام

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:54 am

تعامل رسول الله مع اليهود

حاول رسول الله عند أول دخوله المدينة أن يرقق قلوب اليهود، ويشعرهم أنهم فريق واحد من المؤمنين؛ وذلك بأمرين قام بهما بناءً على الوحي.


الأمر الأول

بيت المقدس وقبة الصخرةهو جعل القبلة في الصلاة تجاه بيت المقدس، وقد ثبت في البخاري ومسلم أن رسول الله توجه إلى بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا من بداية دخوله المدينة المنورة حتى قبيل (غزوة بدر)، كما سنرى خلال الأحداث.



إذن هناك قبلة واحدة مع أهل الكتاب (اليهود) الموجودين أساسًا في المدينة المنورة، قبلة واحدة تعطيهم انطباعًا واضحًا أننا فريق واحد نتجه إلى قبلة واحدة، نعبد إلهًا واحدًا، نؤمن بالأنبياء السابقين جميعًا.



تبقى جزئية بسيطة وهي أن يؤمن اليهود بالنبي الجديد محمد الموجود عندهم في التوراة والإنجيل، والذي ظهرت علامات وبشارات تؤكد فعلاً أنه النبي المنتظر؛ فتوحيد القبلة هو الأمر الأول الذي يسهل على اليهود الإيمان برسالة الإسلام، ويلغي كل الحواجز القلبية التي من الممكن أن توجد بين فريق وفريق آخر منافس له.


الأمر الثاني

هو صيام عاشوراء، فعندما دخل رسول الله المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسأل: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا يوم عظيم؛ أنجى فيه اللهُ موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا؛ فنحن نصومه. فقال : "نحن أحق وأولى بموسى منكم"[1]. فصامه رسول الله ، وأمر المسلمين بصيامه، وأصبح المسلمون واليهود يصومون معًا يومًا واحدًا في السنة، وهذا اليوم تعظيم لموسى ، بل تقليد له. كل هذا تقريب للقلوب ومحاولة لاكتساب قلوب اليهود بأننا لسنا أعداءً؛ فنحن جميعًا نعبد إلهًا واحدًا. وبدأ في دعوته لليهود، وجمع اليهود مراتٍ كثيرة ليدعوهم، وكان يجمع القبائل بعضها مع بعض أحيانًا، ويخاطب الأفراد أحيانًا أخرى، وجاءه أناسٌ من بني قينقاع ومن بني النضير ومن بني قريظة.


موقف اليهود من الإسلام

موقف اليهود من الإسلام أول من أتى رسول الله من اليهود عبد الله بن سلام ، وكان اسمه الحصين بن سلام، فسمَّاه الرسول عبدَ الله.



وقد كان من أمره أنه عندما سمع بقدوم الرسول إلى المدينة المنورة، أراد أن يختبره؛ ليعرف هل هو الرسول الموجود في التوراة والإنجيل أم لا؟



رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلاَمٍ مَقْدَمُ رَسُولِ اللَّهِ الْمَدِينَةَ، فَأَتَاهُ، فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلاَثٍ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إِلاَّ نَبِيٌّ. قَالَ: مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ؟ وَمَا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ؟ وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ يَنْزِعُ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ؟ وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ يَنْزِعُ إِلَى أَخْوَالِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "خَبَّرَنِي بِهِنَّ آنِفًا جِبْرِيلُ". قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ، وَأَمَّا الشَّبَهُ فِي الْوَلَدِ فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَشِيَ الْمَرْأَةَ فَسَبَقَهَا مَاؤُهُ كَانَ الشَّبَهُ لَهُ، وَإِذَا سَبَقَ مَاؤُهَا كَانَ الشَّبَهُ لَهَا". قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ، إِنْ عَلِمُوا بِإِسْلاَمِي قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَهُمْ بَهَتُونِي عِنْدَكَ. فَجَاءَتِ الْيَهُودُ وَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ الْبَيْتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "أَيُّ رَجُلٍ فِيكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ؟" قَالُوا: أَعْلَمُنَا وَابْنُ أَعْلَمِنَا، وَأَخْيَرُنَا وَابْنُ أَخْيَرِنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ؟" قَالُوا: أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ. فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالُوا: شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا. وَوَقَعُوا فِيهِ[2].



وفي رواية أخرى أن عبد الله بن سلام قال لهم: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، اتَّقُوا اللَّهَ، فَوَالَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ جَاءَ بِحَقٍّ. قَالُوا: كَذَبْتَ. فَأَخْرَجَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ [3].



هنا وضحت الرؤية تمامًا أمام الرسول ؛ اليهود كلهم يعرفون تمام المعرفة أن هذا هو رسول الله، ومع هذا ينكرون ذلك.



الوحيد الذي أسلم منهم هو عبد الله بن سلام ، وأسلم بعد ذلك مجموعة قليلة جدًّا من اليهود، أما عموم اليهود فقد ظلوا على كفرهم، كان هذا هو موقف بني قينقاع.



أما بنو النضير فقد جاء منهم حيي بن أخطب وأخوه أبو ياسر بن أخطب، وبنو النضير قبيلة قوية فيها الكثير من أشراف اليهود، ففيها: أبو رافع سلام بن أبي الحقيق، وفيها سلام بن مشكم، وفيها كعب بن الأشرف. وتحكي أم المؤمنين السيدة صفية بنت حيي بن أخطب - رضي الله عنها - قصة قدوم حيي بن أخطب على رسول الله ، فتقول: إن حيي بن أخطب وعمها أبا ياسر بن أخطب ذهبا إلى الرسول في الصباح ثم عادا قُبَيْلَ غروب الشمس، ثم تصف فتقول: فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، قالت: فأتيا كالَّين كسلانين ساقطين يمشيان الهُوَيْنى، قالت: فهششتُ إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إليَّ واحد منهم، مع ما بهما من الغم، وسمعت عمي أبا ياسر يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نَعَمْ، والله هو. قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم. فقال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت[4].



لقد وضَّح حيي بن أخطب بذلك منهج اليهود في التعامل مع الدين الإسلامي الجديد بمنتهى الوضوح، وهو المنهج الذي ظل ساريًا عند معظم اليهود إلى يومنا هذا إلا من رحم الله تعالى.



وبنو النضير بأكملهم لم يسلم منهم رجل واحد، وكذلك بنو قريظة لم يسلم منهم أحد. سبحان الله! هذا موقف عجيب جدًّا يحتاج وقفة وتحليلاً ودراسة لطبيعة هؤلاء البشر في تعاملهم مع رسول يعلمون علم اليقين أنه رسول الله، لكن عندما تراجع قصتهم مع سيدنا موسى قد تفهم لماذا فعلوا ذلك مع رسول الله .



المهم ماذا سنفعل في هذا الوضع: اليهود كلهم تقريبًا رفضوا الإسلام؟ ما حال أهل الكتاب في دولة يحكمها حاكم مسلم بشرع إسلامي؟



هذا ما سنبينه في المقال القادم إن شاء الله.



د. راغب السرجاني

[1] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب إتيان اليهود النبي حين قدم المدينة (3727)، ترقيم البغا. مسلم: كتاب الصيام، باب صوم يوم عاشوراء (1130)، ترقيم عبد الباقي.

[2] البخاري: كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة" (3151).

[3] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب هجرة النبي وأصحابه إلى المدينة (3699).

[4] ابن هشام: السيرة النبوية، طبعة مصطفى البابي الحلبي، الطبعة الثانية، 1375هـ، 1/ 518، 519. المباركفوري: الرحيق المختوم، دار الوفاء، مصر، الطبعة السابعة عشرة، 2005م، ص172.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة Empty معاهدة رسول الله مع اليهود

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:55 am

تعامل رسول الله مع اليهود

خاتم الرسولعلمنا في المقال السابق رفض اليهود –إلا عبد الله بن سلام وبعض اليهود وهم قليل- الدخول في الإسلام مع علمهم بصدق رسالة رسول الله ، فماذا سيكون الوضع: اليهود كلهم تقريبًا رفضوا الإسلام؟ ما حال أهل الكتاب في دولة يحكمها حاكم مسلم بشرع إسلامي؟



لقد علَّمنا رسول الله كيف نتصرف في هذا الموقف من خلال ما فعله هو، لقد قرر أن يعقد معاهدة بين المسلمين واليهود. ومن الأهمية بمكان أن ندرس ظروف هذه المعاهدة؛ لكي نستطيع أن نقارن بين واقعنا الذي نعيشه الآن وبين ما فعله رسول الله ، فالرسول الذي عقد هذه المعاهدة، وحافظ عليها قدر استطاعته هو نفسه الذي أَجْلى بعد ذلك بني قينقاع ثم بني النضير، وهو نفسه الذي قتل رجال بني قريظة.



الرسول هو الرسول، ولكن الحال اختلفت، ولنا فيه أسوة حسنة في كل مواقفه وخطوات حياته.



لا بد أن نعرف متى عاهد؟ ومتى حارب؟ متى قَبِلَ من اليهود بعض البنود في المعاهدة؟ ومتى لم يقبل منهم أن يجلسوا في المدينة المنورة يومًا واحدًا بعد أن أجلاهم؟ هذه أمور تحتاج منا بحثًا دقيقًا.



لماذا قرار المعاهدة؟ من الممكن أن يكون لدى الإنسان غيظٌ شديد من اليهود؛ لأنهم سمعوا هذه الكلمات التي أدركوا جميعًا أنها الحق، وبعد ذلك لم يتبعوه، ومع ذلك فإن الدين الإسلامي والشرع الإسلامي لا يظلم الناس شيئًا. ليس معنى قيام دولة إسلامية أن تُهضم حقوق أهل الكتاب.



إن العلاقة بين المسلمين وأهل الكتاب واضحة جدًّا في كتاب ربنا I، لخصها قول الله في سورة (الممتحنة)، قال I:



{لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 8، 9].


الإسلام وحقوق الآخر

لقد صنع الإسلام قفزة حضارية هائلة، إن العالم اليوم يتحدث بالكاد عن قبول الآخر، وعن الاعتراف بالآخر، وعن سماع الآخر، وهذا يعني أن العالم الآن في طفولة حضارية، أما الإسلام فإنه تجاوز هذه المطالب إلى ما هو أعظم منها بكثير، فقد نزل الإسلام منذ 1400 سنة بما هو أعظم وأسمى من ذلك، نزل بالإحسان إلى الآخر، وبالبر بالآخر، وبالعدل مع الآخر، وبرحمة الآخر، فليس معنى أن الرسول معه الحق الذي لا ريب فيه، أن يُكرِه أهل الكتاب على الدخول في الإسلام، فرغم أنه كان يتفطَّر حزنًا على يهوديٍّ أو نصراني مات على غير الإسلام، فإنه لا يستطيع أن يكرهه؛ لأن الإكراه ليس من شرعنا {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256].



قرر رسول الله أن يعقد معاهدة مع اليهود؛ لأنه يرى أن فرصة الدعوة ما زالت موجودة؛ فلم يكن هناك تاريخ عدائي يُذكر بين المسلمين واليهود قبل ذلك. نَعَمْ هم كذبوا الآن، لكن ربما يفتح الله قلوبهم في المستقبل؛ فلم يكن الرسول ييئس مطلقًا من دعوة إنسان، فقرر أن يعقد معهم معاهدة.


بنود أول معاهدة في الإسلام

تُرى ما بنود هذه المعاهدة بين رسول الله واليهود؟ لا بد أن نركز تركيزًا شديدًا في بنود هذه المعاهدة؛ فهذه البنود يُستخلص منها قواعد المعاهدات في الإسلام وأصولها. هذه المعاهدة بهذا الوصف الذي سنصل إليه - إن شاء الله رب العالمين - توضح مدى التجنِّي على السيرة النبوية، الذي فعله مَن شبَّه المعاهدات الحديثة مع اليهود بالمعاهدة التي عقدها رسول الله في زمانه، فشتَّان بين المعاهدتين!



تعالَوْا نقرأ معاهدة الرسول :


البند الأول

"يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم".



هذه هي القاعدة الأولى، ومعناها أن حرية العقيدة في الإسلام حقيقة كبرى {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256].



فللمسلمين دين ولليهود دين، وطبعًا ذكر في هذا البند يهود بني عوف، وفي بقية المعاهدة تعريف كل اليهود الموجودين في داخل المدينة المنورة بأسماء قبائلهم، أي: يهود بني النجار، ويهود بني حارثة، ويهود بني ساعدة، وهكذا.


البند الثاني

وهو في غاية الأهمية: "وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم". أي أن الذمة المالية لهم محفوظة تمامًا.



هذا الكلام يوقع عليه زعيم الدولة في ذلك الوقت ، والحقوق الاقتصادية لهم محفوظة بعيدًا عن ذمة المسلمين المالية، فليس معنى أننا عاهدناهم، وأن الزعامة والرئاسة في الدولة للمسلمين أن نأخذ حقًّا لهم أو أن نأخذ ممتلكاتهم. فلهم حرية التملك ما داموا على عهدهم مع المسلمين في داخل الدولة الإسلامية، وفي الوقت نفسه ففي هذا البند نوع من التميّز للمسلمين، فليس معنى إقامة معاهدة أن تتميع الأمور ويصبح الاقتصاد الإسلامي ممزوجًا بالاقتصاد اليهودي ويندمجان. لا؛ فنحن ليس لنا دخل بحياتهم، ولنا حياتنا المستقلة التي نعتز بها، وهذا الكلام يكتبه الرسول وهو يعرف أن الاقتصاد في هذه اللحظة كان معظمه في أيدي اليهود.


البند الثالث

أن في وقت الحرب يتغير هذا الأمر، فإذا حدث ضغط أو حرب أو حصار على المدينة المنورة فالجميع - بحق المواطنة - يدافع عن المدينة المنورة، وأن بينهم النصر على من دَهَمَ يثرب، ما داموا يعيشون معًا في بلد واحد، فعليهم التعاون في الدفاع عن البلد لو حدث غزو خارجي. ثم يقول: "وإن اليهود يُنفِقون مع المؤمنين ما داموا محاربين".



لو قامت حرب يجب أن تجتمع النفقة للدفاع عن البلد، وأن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم، وأن النصر للمظلوم، وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم. وكلها أمور تحفظ لليهود شأنهم في الدولة التي يتزعمها مسلم، هو الرسول .


البند الرابع

وهو بند خطير وصريح جدًّا، وفي منتهى القوة، يقول رسول الله : "وإنه لا تُجار قريشٌ ولا من نصرها". وهذا موقف خطير، قبل ذلك قال: "إن بينهم النصرَ على من دَهِمَ يثرب".



إذا دهم يثرب أيُّ عدو فعلى الجميع أن يتعاون في صده حتى لو كان هذا العدو هو قريش، وقريش لم يكن بينها وبين اليهود مشاكل قبل ذلك، بالعكس كانت العلاقات الدبلوماسية بينهما جيدة، ولما قبل اليهود بهذه المعاهدة قرروا - في الظاهر - أن يقاطعوا قريشًا؛ لأن قريشًا تعادي المسلمين، وكان من المتوقع أن تهجم قريش على المدينة المنورة، فإن الرسول لمعرفته أن اليهود أهل خداع ومكر وغدر وخيانة صرَّح في المعاهدة باسم قريش حتى لا يأتي اليهود ذات يوم ويقولوا: إن قريشًا مستثناة من المعاهدة لكذا أو لكذا. وهذا يعلمنا أن أي معاهدة مع اليهود لا بد أن تكون كل كلمة فيها مكتوبة بوضوح؛ فقال: "إنه لا تُجار قريش ولا من نصرها". أي إذا هجمت قريش على المدينة فعلى اليهود أن يساعدوا المسلمين، لا أن يساعدوا قريشًا في حربها ضد المسلمين. وهذا ما سنرى مخالفة له بعد ذلك في بني قريظة، ونفهم من الآن خلفيات غضب الرسول عليهم عندما أعانوا قريشًا على المسلمين في يوم الأحزاب.



نحن نلاحظ أن هناك قوة وصلابة في المعاهدة من طرف رسول الله ، وهو الذي يُملِي الشروط على اليهود.


البند الخامس

ثم ذكر رسول الله : وألاَّ يخرج من اليهود أحدٌ إلا بإذنه . فهو نظام يشبه نظام الجوازات الآن، فلا أحد يغادر الدولة إلا بإذن من السلطة فيه، ليس لقبائل اليهود في داخل المدينة المنورة أن يخرجوا في سفر أو في حرب أو في أمر من الأمور إلا بإذن الرسول ؛ لأنهم من الممكن أن يحدثوا مشاكل خارج المدينة تجرُّ الويلات على كل المدينة المنورة بمن فيها من اليهود والمسلمين، أي أن تأشيرة الخروج والسماح بالسفر كانت في يد الرسول . ولا بد أن ننتبه للفرق الرهيب بين هذه المعاهدة وبين المعاهدات التي عقدت بعد ذلك في فلسطين مع اليهود.


البند السادس

وهو أهم بنود المعاهدة، حيث قال : "وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يُخاف فسادُه، فإن مرده إلى الله ، وإلى محمد ". لو حدث خلاف بين المسلمين واليهود أو شجار بينهم، فإن الحكم لله ولرسوله الكريم .



انظر مدى القوة، ومدى النصر، ومدى البأس الذي حققه رسول الله بهذه المعاهدة، ومدى العلو الذي كان فيه على اليهود، ورغم ذلك يأتي من يشبه المعاهدات الحديثة بهذه المعاهدة بين رسول الله واليهود.


دروس من المعاهدة

ماذا نتعلم من رسول الله في هذه المعاهدة؟



أولاً: نتعلم أن الإسلام دين ينتظم كلَّ أمور الحياة؛ فهذا هو رسول الله الذي علَّم المسلمين الصلاة والصيام والقيام والقرآن وبناء المساجد؛ يقف الآن بصلابة وبرجولة وبقوة وبحكمة سياسية بارعة يعاهد اليهود معاهدة كانت يد الله فيها هي العليا.



ثانيًا: ماذا حصَّل المسلمون من هذه المعاهدة؟ حصلوا اتقاء شر اليهود، والتعاهد على البر وليس على الإثم، والاعتراف - وهذه كلمة في غاية الأهمية - الاعتراف من اليهود بدولة المسلمين الناشئة؛ فهذه دولة قوية لها احترام ولها عزة، ولها رأي تجلس مع اليهود لتعقد معاهدةً، للمسلمين فيها اليد العليا.



كذلك إبعاد قوة اليهود عن معاونة قريش، وكان هذا نجاحًا كبيرًا؛ فرسول الله فصل بين الحزبين: حزب قريش وحزب اليهود، وأيّ مخالفة سيدفع اليهود بعد ذلك ثمنها، ثم الحكمُ والمَرَدُّ للرسول .



كما قَبِل اليهود - ولهم من العمر مئات السنين في داخل يثرب - بزعامة الرسول على المدينة المنورة. أيُّ فضلٍ، وأيُّ خيرٍ، وأي عظمة، وأي تمكين في هذه المعاهدة التي جرت بين الرسول واليهود.



ثالثًا: أن شرط المعاهدات مع غير المسلمين ألا نخالف شرع الله . إن البون شاسع بين هذه المعاهدة وبين المعاهدات الحديثة، فكيف يشبهونها بمعاهدة الرسول مع اليهود؟!



في معاهدة رسول الله مع اليهود لم يخالف شرع الله ، ولم يقدِّم تنازلاً واحدًا مُخِلاًّ بالدين، وقد بيَّنا أن أهم شرط في العهود مع أهل الكتاب ألا يُنقض أمر من أمور الدين، وعندما أقر عدُوُّي على امتلاكه لأرض من أراضي المسلمين، فهذا إخلال واضح بأمر من أمور الدين، كما حدث بعد ذلك في المعاهدات الحديثة.



كما أنه لا يُقبل في معاهدة إسلامية أن يُعقد الصلح في وقتٍ تَعَيَّن الجهاد، ومن الأسباب التي تجعل الجهاد فرض عينٍ - ولا شك في ذلك - نزول العدو في الأرض الإسلامية، كما فعل اليهود حين نزلوا أرض فلسطين.



من مخالفة الشرع أيضًا الإقرار بالظلم. إن معاهدة الرسول تنص على أن النصر للمظلوم، ومن ثَمَّ لا يجوز عقد معاهدة يكون من جرَّائها أن يُزجَّ في السجون بمئات أو آلاف من المجاهدين، أو يكون من جرائها إقصاء عدد هائل من المجاهدين عن الأرض الإسلامية، أو يكون من جرائها مصادرة الديار والأموال والأراضي، وما إلى ذلك.



في معاهدة الرسول: "وإنَّ الجار كالنفس غير مضارٍ ولا آثم"[1]. ولكن اليهود الآن ظلموا كل الجيران: ظلموا الجيران من الفلسطينيين، والجيران من السوريين، والجيران من اللبنانيين، والجيران من المصريين، وهذه كلها مخالفات شرعية لا تجوز في المعاهدات مع اليهود، أو مع غيرهم من غير المسلمين.



في زمان الرسول أو في عهده، كان الخروج من المدينة لا يتمُّ إلا بإذنه، لكن الآن لا يخرج أحد من الفلسطينيين من فلسطين إلا بإذن من اليهود.



أخذ الرسول العهد على اليهود ألا يجيروا قريشًا، القوة الأولى في الجزيرة في ذلك العقد. لكن هل أَمِنَ المسلمون شر أعدائهم بهذه المعاهدات الحديثة؟ هل اشترط المسلمون على اليهود ألاَّ يعاونوا عدوًّا للمسلمين يريد أن يضرب إحدى البلاد الإسلامية؟ هل اشترطوا عليهم ألاَّ يعاونوا أمريكا مثلاً في ضرب العراق أو سوريا أو السودان أو إيران، وغيرها من بلاد العالم الإسلامي؟ كل ذلك لم يحدث.



والأهم من ذلك أنه عند الاختلاف من يحكم بيننا؟ في معاهدة الرسول كان الحاكم هو الله عز وجلَّ ورسوله ، وهذا مصرَّح به في المعاهدة ووقَّع اليهود على ذلك، أمَّا الآن فالمرد للأمم المتحدة، أو قُلْ لأمريكا.



من الذي أعطى فلسطين لليهود؟ إنها الأمم المتحدة التي أصدرت قرار التقسيم، وأعطت جزءًا كبيرًا من فلسطين لليهود، وبعد ذلك سلَّمتها كلها لهم. في الواقع إن المعاهدات في العصر الحديث مختلفة تمام الاختلاف عن المعاهدة التي عقدها الرسول ، ولا وجه للمقارنة.



د. راغب السرجاني

[1] ابن هشام: السيرة النبوية 1/ 503، 504.
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة المدينة Empty الطريق إلى الحديبية

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:56 am

مرحلة الفتح والتمكين

نواصل الدراسة -إن شاء الله- عن حدث أعتقد أنه من أعظم أحداث السيرة النبوية، وأعظم أحداث الأرض بصفة عامة، وهو لحظة فارقة حقيقية في تاريخ الأمة الإسلامية، وله انعكاسات ليس فقط على الجزيرة العربية، ولكن على العالم أجمع كما سيتبين لنا إن شاء الله.



صلح الحديبيةوهذا الحدث العظيم هو صلح الحديبية ويكفي في وصف عظمة هذا الحدث أن الله سماه بالفتح المبين في سورة الشورى، وهذا الفتح ليس كما يظن بعض الناس أنه فتح مكة الذي جاء في قوله I: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1].



فالكثيرون من المفسرين يفسرون هذا الفتح المبين بأنه صلح الحديبية، ويكفي أن الله قد ذكر أولئك الذين اشتركوا في هذا الخروج إلى صلح الحديبية من الصحابة أن الله I قد رضي عنهم تصريحا في كتابه الكريم قال I: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18].



وهذا الكلام خاص بما يزيد على ألف وأربعمائة من الصحابة، وتخيل هذا الجمع الهائل من الصحابة، وقد صرح الله I أنه قد رضي عنهم فعلا، وهذا الأمر يستوجب منا الوقوف والدراسة والتأني في بحث هذا الموضوع المهم والخطير، وإننا لن نستطيع أن نفهم أبعاد صلح الحديبية إلا بدراسة أحداث العام السادس من الهجرة، فبعد نهاية العام السادس بدأ نجم المسلمين يسطع في الجزيرة العربية بكاملها، ولذلك قال الرسول بعد رجوع الأحزاب وهم يتجرعون كأس الهزيمة قال كلمته المشهورة: "الآنَ نَغْزُوهُمْ وَلاَ يَغْزُونَا، نَحْنُ نَسِيرُ إِلَيْهِمْ".



ومن ثَمَّ كانت السنة السادسة للهجرة وهي السنة التي تلت غزوة الأحزاب في مجملها مجموعة من السرايا والغزوات في كل مكان في الجزيرة العربية، ونتج عن ذلك آثار كثيرة، كلها في صالح المسلمين، فمجمل هذه الآثار أن الدولة الإسلامية أصبحت دولة مرهوبة الجانب، لها قوة ولها هيبة ولها عظمة في قلوب جميع العرب بما فيهم قريش، وأن قريشًا بدأت تفتقد إلى الأعوان وإلى الأحلاف وإلى الأصحاب، وبدأ ميزان القوة يسير في صف المسلمين على حساب قريش، وهذا الأمر سيكون له مردود مهم جدًّا في صلح الحديبية كما سيتبين لنا الآن.


رؤيا الرسول

تبدأ القصة بشيء غريب جدًّا وهو أن الرسول عليه الصلاة والسلام في شوال من السنة السادسة من الهجرة -أي بعد مرور سنة من غزوة الأحزاب- رأى رؤيا، والرؤيا أنه يدخل البيت الحرام هو وأصحابه أجمعين معتمرين، ورؤيا النبيين حق، والرسول فهم من ذلك أن عليه أن يأخذ أصحابه ويذهبوا معتمرين إلى البيت الحرام. يقول I: {لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} [الفتح: 27].



وهذا الكلام في منتهى العجب، وتخيل أن الرسول سيأخذ أصحابه ويذهب في رحلة جماعية إلى مكة المكرمة إلى عقر دار قريش لأداء العمرة، إنه أمر صعب جدًّا على قريش، فمنذ عام واحد فقط جاءت الأحزاب في عشرة آلاف مقاتل؛ أربعة آلاف من قريش وستة آلاف من القبائل التي تحالفها من غطفان يحاصرون المدينة المنورة بغرض استئصال المؤمنين بكاملهم، والآن بعد مرور سنة واحدة الرسول في شجاعة منقطعة النظير يأمر الصحابة بالتجهز لأداء عمرة في مكة المكرمة، وليس بينه وبين قريش أي نوع من التعهدات، أو الصلح أو الاتفاقيات، وهذا أمر لافت للنظر، وتقبل الصحابة هذا الأمر بلا تردد، بل اشتاقوا إلى الأمر.



والسفر إلى مكة المكرمة في ذلك الوقت سواء في عمرة أو في غير عمرة يحمل خطورة شديدة جدًّا على المسلمين، والمسلمون تحملوا الكثير والكثير قبل ذلك من قريش، وقريش لم ترع قبل ذلك أي حق للبيت الحرام ولا للبلد الحرام، وانتهكت أعرافها قبل ذلك كثيرا، ومع ذلك فالصحابة ما ترددوا في قبول الأمر النبوي للذهاب إلى العمرة في داخل مكة المكرمة، فالرسول هنا يحاول الاستفادة قدر المستطاع من قوانين المجتمع المشرك الذي يعيش فيه.



الأعراف الدولية في ذلك الوقت والأعراف في الجزيرة العربية وأعراف قريش ذاتها تقضي بأن الذي يذهب إلى أداء العمرة في مكة المكرمة آمـن مهما كان بينه وبين قريش خلافات، هكذا كانت القوانين.



هل قريش سوف تحترم القوانين القديمة والمعروفة بحماية من يزور البيت، أو يريد أداء العبادة، أم ستقف أمام المسلمين وتمنع دخولهم للبيت الحرام؟


الخروج إلى مكة

خرج الصحابة في ذي القعدة 6هـ سعداء وقد انشرحت صدورهم لهذه العمرة مع خطورتها، طائعين لأمر رسول الله ، وانشراح الصدر شيء مهم جدًّا، وبداية طيبة ولذلك قال سيدنا موسى : {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه: 25].



لأن الإنسان عندما ينشرح صدره في عمل ما يكون أداؤه فيه أداء مميزًا، حقيقة ليس هناك أي نوع من الإكراه لصحابة الرسول إلى هذه المهمة الصعبة.



ولكن على الناحية الأخرى نجد جميع المنافقين كرهوا أن يخرجوا إلى هذه المهمة الصعبة، وقد ترددوا كثيرًا وفكروا كثيرًا، وفي النهاية أخذوا القرار بأنهم لن يخرجوا مع الرسول إلى مكة المكرمة؛ لأن في تخيلهم أن هذا المشوار مشوار مهلك، كيف تذهب إلى قريش في عقر دارها وبسلاح المسافر، فهذا الأمر خطير فعلاً، ولذلك لم يخرج مع المسلمين إلا منافق واحد كان اسمه الجد بن قيس.



الأعراب أيضًا حول المدينة المنورة دعوا إلى الخروج، ولكنهم جميعا أبوا أن يخرجوا مع رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لذلك فهذا الصف الذي خرج من المدينة إلى مكة هو صف خالص نقي طاهر تقريبًا ألف وأربعمائة مؤمن ليس فيهم إلا منافق واحد ليس له كبير الأثر في وسط المؤمنين، ونحن رأينا في الغزوات السابقة أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- إذا خرج بصف مؤمن خالص كان النصر قريبا بإذن الله ، وسوف نرى نتائج عظيمة جدًّا في هذا الصف النقي في المدينة المنورة.



في غرة ذي القعدة سنة ست من الهجرة النبوية -أي بعد عام من الأحزاب- اتجه إلى مكة المكرمة معتمرا ومعه ألف وأربعمائة صحابي وفي رواية أخرى ألف وخمسمائة صحابي وزوجته أم سلمة رضي الله عنها، وعند ذي الحليفة -وهي الآن آبار علي، وهي المكان الذي يحرم منه القادمون من المدينة إلى مكة- أحرم الرسول وقلد الهدي، وكان مع الصحابة مجموعة ضخمة من الإبل ليذبحوها في مكة المكرمة، وأخذ الهدي في العمرة أمر من النوافل.



أحرم الرسول بالعمرة وأحرم الصحابة وبدءوا بالتلبية، وكل هذا يدل على أنه لم يذهب إلى مكة إلا للعمرة فقط، وهو يعلم أن هناك عيونا كثيرة لقريش على الطريق، وأن هذه العيون -لا شك- ستنقل الأخبار إلى مكة المكرمة وأنه لا يريد حربًا في مكة، ولم يذهب المسلمون لمكة إلا للعمرة وما رآه في الرؤية هو فقط مجرد العمرة، ولذلك لم يخرج المسلمون إلا بسلاح المسافر.


قريش تصد المسلمين عن البيت الحرام

وصل الرسول إلى منطقة تسمى كراع الغميم وهي على بعد ستين كيلو مترًا، أو أربعة وستين كيلو مترًا من مكة المكرمة، وهناك فوجئ الرسول بأن قريشا قد جمعت جيشًا، وجمعت الأحابيش؛ والأحابيش هي مجموعة من القبائل كانت تتحالف مع قريش، سميت بذلك قيل لأنهم اجتمعوا عند جبل يسمى حبشى، وعقدوا اتفاقية دفاع مشترك عند مكة المكرمة. فهذه مجموعة من القبائل تتحالف مع قريش جمعتها قريش لصد الرسول عن أداء العمرة مع أن العرف والقانون الدولي في ذلك الوقت يسمح للرسول بأن يذهب إلى مكة معززًا مكرمًا، بل على قريش في أعرافها وفي قوانينها أن ترعى حقوق المسلمين، وأن تخدم المسلمين، وأن تسقي الحجاج، وأن تفعل كذا وكذا.



كل ذلك ضربت به قريش عُرض الحائط، وبدأت في التعامل مع الموضوع بنوع من الغدر ومخالفة القوانين ومخالفة العهود التي بينها وبين العرب قاطبة، فوجد الرسول أن هناك جيشًا يقف عند كراع الغميم يمنع المسلمين من الوصول إلى مكة المكرمة، الموقف خطير، الرسول في ألف وأربعمائة من الصحابة بسلاح المسافر، وعند كُراع الغميم يقف جيش قريش ومن معها من القبائل.



الموقف خطير فعلاً، فوقف وبدأ يأخذ الشورى، الرسول ما كان يتخلف عن الشورى في موقف من المواقف إلا في حالة واحدة إذا كان هناك أمر مباشر من الله ؛ لذلك لم يجمع الرسول أصحابه ليأخذ رأيهم نذهب أم لا نذهب مع خطورة الأمر, الأمر خطير ومحفوف بالمخاطر في أن يذهب المسلمون إلى مكة المكرمة لأداء العمرة في ذلك التوقيت لكن الله I يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36].



أما في هذا الموقف فليس هناك وحي فلا بد من الشورى، جمع أصحابه ليرى ماذا يصنعون أمام تجمع قريش؟ وكان هناك رأي بأن يلتف المسلمون خلف قبائل الأحابيش المتحالفة مع قريش، ويغيرون على ديارهم ومساكنهم، فيسبون ويأسرون، ويكون ذلك لهم عزة ومنعة وقوة على الكافرين، فكان ممن تكلم أبو بكر الصديق وقال: الله ورسوله أعلم، إنما جئنا معتمرين ولم نجئ لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه. رأى الصديق أن لا نسعى إلى قتال، لا نذهب إلي قبائل الأحابيش، ولا نقاتل هذا الجيش بل نكمل الطريق في محاولة للوصل إلى هذا البيت إن كان هذا الجيش الذي وضع في كراع الغميم مجرد تخويف للمسلمين، ولن يقاتلنا، سوف نكمل الطريق ونذهب إلى العمرة في مكة المكرمة، وإن أصروا على القتال، قاتلناهم، فنحن لا نخشى القتال، ولكن لا نسعى إليه كما قال أبو بكر الصديق .



الصحابة قبلوا ذلك الرأي، واستحسنوه، وكذلك النبي ، ومن ثَمَّ أكملوا الطريق، ولكن قريشًا كانت مصرَّة على منع الرسول من الدخول إلى مكة المكرمة في عمرة أو غيرها؛ لذلك وضعت فرقة قوية من الفرسان على رأسهم خالد بن الوليد في حوالي مائتي فارس، ووراءهم جيش مكة.


تشريع صلاة الخوف

وقف الرسول أمام هذه الفرقة المسلحة، وفي أثناء هذا الوقوف جاء موعد صلاة الظهر، وسبحان الله! المسلمون في أي ظرف من الظروف لا يضيعون الصلاة ولا يؤخرون الصلاة عن وقتها إلا في ظروف ضيقة جدًّا ومحدودة جدًّا تكاد في السيرة تعد على أصابع اليد الواحدة، مثل ما كان في غزوة الأحزاب قبل ذلك، ولكن عموم الأمر أن المسلمين يصلون الصلاة في أوقاتها حتى في ميادين القتال، وأنهم كانوا كثيرًا ما يصلون الصلاة على خيولهم إيماء إذا احتدم القتال، فوقف الرسول ، ووقف المسلمون معه يصلون صلاة الظهر، وكان يراقبهم من بعيد خالد بن الوليد قائد فرسان المشركين، فرأى المسلمين في صلاتهم، فالكل في ركوع وفي سجود، وتكرر الأمر أكثر من مرة أمام خالد بن الوليد، فأحسَّ أن هذه فرصة ممكنة للهجوم على المسلمين، فسأل من حوله، هل هناك صلاة تالية للمسلمين مثل هذه الصلاة؟ فقال له من حوله من المشركين الذين يعلمون بأحوال المسلمين: نعم، هناك صلاة يسمونها صلاة العصر.



فوجد خالد بن الوليد أن هناك فرصة يمكن أن يهجم على المسلمين فيها أثناء صلاة العصر ولم يخبر بذلك أحدًا من أصحابه المشركين، سبحان الله! عندما جاء وقت صلاة العصر ووقف الرسول ليصلي بالمؤمنين نزل عليه حكم صلاة الخوف وهي صلاة خاصة جدًّا؛ لأنه لا يؤديها المسلمون إلا في ظروف ضيقة جدًّا، فالمسلمون الذين في ميدان القتال والذين يخافون عدوهم أن يغير عليهم يصلون صلاة الخوف وحكم هذه الصلاة أن الإمام، وهو الرسول يصلي ركعتين ويصلي خلفه نصف الجيش والنصف الثاني لا يصلي، لأنه يقف للحراسة وبعد أن يصلي الإمام الركعة الثانية يقعد للتشهد وتسلم الطائفة التي صلت مع النبي وصلاتها ركعتان؛ لأنهم يصلون صلاة قصر للمسافر، وينصرف نصف الجيش الذي صلى، حتى يقف في الحراسة، ويأتي نصف الجيش الثاني الذي كان يقوم بمهمة الحراسة فيصلي ركعتين مع الرسول . ويعني هذا أن الرسول في صلاة الخوف قد صلى أربع ركعات، وأن نصف الجيش صلى الركعتين الأوليين ونصف الجيش صلى الركعتين التاليتين؛ وبهذا دائمًا يوجد نصف عدد الجيش في الحراسة ونصف عدد الجيش في الصلاة، ونزل حكم صلاة الخوف في كراع الغميم. وهذا الحكم نزل أمام عيني خالد بن الوليد، ولما رأى خالد بن الوليد ما حدث من قصر الصلاة على نصف الصحابة، ووقوف النصف الآخر في الحراسة، قال كلمة عجيبة قال: إن القوم ممنوعون.



ولعل هذا الموقف كان له أثر كبير في تفكير خالد بن الوليد في قضية الإسلام وفي إسلامه؛ لأنه أسلم بعد صلح الحديبية بشهور قليلة، ولم يقع قتال، ولم يستطع خالد بن الوليد أن يحارب المسلمين، وكان الرسول لا يريد الدخول في قتال.


المسلمون يواصلون المسير نحو مكة

أخذ الرسول الصحابة وانحرف به عن جيش خالد بن الوليد متجنبا إياه، وبدأ في التوجه إلى مكة المكرمة لأداء العمرة مصرًّا على استكمال الأمر إلى نهايته، وخالد بن الوليد أصبح مترددًا في الدخول في القتال، وقال: إن القوم ممنوعون. ورجع بسرعة إلى مكة المكرمة يخبرهم بهذا الأمر، وأكمل الطريق إلى مكة المكرمة إلى أن وصل إلى مكان يعرف بالحديبية، وبئر الحديبية التي سميت المنطقة باسمه قريبة جدًّا من مكة المكرمة؛ لأنها بين التنعيم وبين مكة المكرمة، والتنعيم يبعد عن مكة حوالي خمسة كيلو مترات. أي أن الرسول تقريبًا دخل في حدود مكة المكرمة نفسها، وأصبح الموقف شديد الحرج، ففي أي لحظة من اللحظات القادمة قد يحدث قتال.



ولكن قبل أن يدخل مكة المكرمة حدث أمر مفاجئ، فقد بركت ناقة الرسول ، الصحابة اجتمعوا ليدفعوا الناقة إلى القيام وإكمال المسيرة إلى داخل مكة المكرمة، ورفضت الناقة أن تقوم، فقال الصحابة: خلأت القصواء، خلأت القصواء. أي امتنعت ورفضت المسير، فقال رسول الله : "مَا خلأت الْقَصْوَاءُ وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ. ثم قال: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَسْأَلُونِي خِطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلاَّ أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا".



فالفيل الذي كان يركبه أبرهة ويحاول دخول مكة المكرمة وأمره الله بأن لا يدخل فوقف الفيل ولم يستطيع أبرهة أن يدفع الفيل لدخول مكة، فهذا الأمر تكرر تمامًا مع الناقة النبوية؛ ولذلك قال الرسول : "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَسْأَلُونِي خِطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا".



فالرسول قرر أنه على قدر المستطاع سيقبل بالصلح مع قريش لأن الرسول كان يشعر أن هناك وحيًا في هذه القضية. نعم، لم يكن هناك أمر مباشر إلى الرسول ، ولكنه يفهم وضع الناقة ويفهم أنها مأمورة؛ ولذلك عرف أن الله لا يريد قتالاً بينه وبين قريش في ذلك الوقت.



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة المدينة Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

صفحة 1 من اصل 4 1, 2, 3, 4  الصفحة التالية

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى