شمسولوجي - منتدي طلبة طب عين شمس
السلام عليكم

نورتنا يا ....

لو هتتصفح المنتدي كزائر .. توجة للقسم اللي انت عايزة من المنتدي ...

للتسجيل .. اتفضل افعص علي زرار التسجيل ..

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

شمسولوجي - منتدي طلبة طب عين شمس
السلام عليكم

نورتنا يا ....

لو هتتصفح المنتدي كزائر .. توجة للقسم اللي انت عايزة من المنتدي ...

للتسجيل .. اتفضل افعص علي زرار التسجيل ..
شمسولوجي - منتدي طلبة طب عين شمس
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

قصة مكة

صفحة 2 من اصل 3 الصفحة السابقة  1, 2, 3  الصفحة التالية

اذهب الى الأسفل

قصة مكة - صفحة 2 Empty الوحي تكريم للبشرية

مُساهمة من طرف Admin الأحد أغسطس 15, 2010 2:14 pm

نزول الوحي

نزول الوحينزل الوحي على رسول الله في غار حراء وهذه لحظة فارقة وعجيبة في تاريخ البشرية، أنا أعتقد أن هذه اللحظة هي أعظم لحظة مرت في تاريخ الأرض وإلى يوم القيامة.



إن لحظة نزول الوحي، كانت الظلمات قد عمت الأرض بكاملها، والبشرية تسير إلى هاوية سحيقة، هبوط وانحدار وانحطاط في القيم والأخلاق والشرائع، فإذا بالله تعالى يَمُن على عباده بالوحي العظيم {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15، 16].



كثيرًا ما نسمع عن هذا الحدث المهيب، لكن قليل منا من يعطي لهذا الحدث هذا القدر العظيم.



الله أرسل رسولاً إلى الإنسانية، فهذا الوحي هو مِنّة من الله على عباده كما ذكر الله في كتابه فقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164].



وماذا لو وصلتك رسالة من ملك دولة عظمى، هذه الرسالة يوضح لك فيها أنه يحبك ويمتلك من الخير ما يدخل عليك السرور.



كيف يكون حالك في حينها؟ وما مدى مبلغك من السعادة وهذه رسالة من أحد ملوك الأرض الذي لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا؟!



والله بعظمته وقوته وجبروته وقدرته أرسل رسولاً إلى هذا الإنسان البسيط الضعيف الذي يعيش على وجه كرة معلقة في الفضاء تكاد لا ترى في الكون الفسيح.



وما يكون حجم الأرض بالنسبة إلى هذا الكون؟ وما هو حجم الإنسان بالنسبة لحجم الأرض؟ وبالتبعية حجم الإنسان بالنسبة لحجم الكون؟ وما هو حجم الإنسان بالنسبة للملائكة؟



إن الكثير من الناس لا تقدر هذا الحدث قدره؛ لأنهم لا يقدرون الله قدره.



الله لا يحتاج إلينا، ولا يحتاج إلى غيرنا، ولا تنفعه طاعتنا ولا تضره معصيتنا، ورغم ذلك من رحمته بنا وحبه لنا أرسل إلينا رسالة هداية ورسالة بشرى وإنذار، هذه الرسالة نزل بها أشرف الملائكة جبريل على أشرف الخلق محمد بأشرف الكلام القرآن الكريم.



اقرأ باسم ربك الذي خلقفي هذه اللحظة نزل الكلام الذي سيظل دستورًا في الأرض إلى أن تفنى الأرض.



هذا الحدث هو تكريم للإنسان كما قال الحق تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تفضيلاً} [الإسراء: 70].


الوحي تكريم للبشرية

الوحي من أعظم صور التكريم التي امتن الله به على البشرية. ومع كل هذا التكريم الذي كرمه الله للإنسان وإرسال رسول إليه ودستور ومنهج يسير عليه يوضح للإنسان كل نقطة في حياته، والإنسان لا يقدر قيمته كإنسان، وأحيانًا يقضي حياته في ترف وملذات وشهوات وأوقات ضائعة، وطموحات تافهة، فهو لا يقدر قيمته كإنسان، أحيانًا يظلم غيره، ويؤذي غيره، ويعذب غيره، وهو لا يدري أنه إنسان مكرّم يظلم إنسانًا مكرمًا.



وأحيانًا تنحدر قيمة الإنسانية إلى درجات أقل بكثير من الدرجات الحيوانية.


أهمية الوحي

إن التفكر في لحظة الوحي يحدو بفكر الإنسان ليغير مفهوم الإنسان عن نفسه، ويغير مفهومه عن إخوانه من البشر وعن الأرض التي يعيش فيها.



الوحي عبارة عن رسالة من رب العالمين إلى كل إنسان على وجه الأرض: افعل كذا ولا تفعل كذا، الوحي نور وهداية ودليل، ليس مجرد تكاليف، ولكنه نعمة من الله ورحمة بعباده.



إن الله الذي خلقنا هو أعلم بنا من أنفسنا، وهو الذي يدرك الماضي، ويدرك الحاضر، ويدرك المستقبل، والمطلع على كل شيء، والعالِم بكل شيء، أنزل لنا هذا الوحي لنهتدي بهديه ونأتمر بأمره وننتهي بنهيه.



فاتباعك للوحي سعادة الدنيا والآخرة، ومخالفتك للوحي شقاء الدنيا والآخرة.



إن الوحي بمنزلة المنقذ لك بعد إشرافك على الهلاك، وبمنزلة الدليل الذي يهديك للطريق بعد تيه طويل في صحراء الحياة.



ولو تخيلت نفسك في صحراء وأشرفت على الهلاك، أو في بحر وأشرفت على الغرق، ووجدت من يأخذ بيدك من الصحراء إلى العمران، وأوصلك إلى شاطئ النجاة بعد أن كان الغرق هو مصيرك دون أن يسألك أجرًا أو منفعة، وما فعل ذلك إلا لأنه يخاف عليك من الهلاك والضياع، هذا هو الوحي الذي يأخذ بأيدي البشرية من التيه الذي يعيشون فيه إلى السعادة في المكان الأعظم في الجنة.



يقول I في كتابه: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى} [طه: 123].



فالإنسان هو الذي يحدد مصير نفسه تبعا لتعامله مع الوحي، فالذي يتبع لا يضل ولا يشقى في الدنيا والآخرة، ومن يعرض فقد عرض نفسه للضنك في الدنيا والحشر يوم القيامة أعمى.



يقول سيدنا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ يَوْمًا فَقَالَ: "إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ جِبْرِيلَ عِنْدَ رَأْسِي وَمِيكَائِيلَ عِنْدَ رِجْلَيَّ، يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اضْرِبْ لَهُ مَثَلاً. فَقَالَ: اسْمَعْ سَمِعَتْ أُذُنُكَ، وَاعْقِلْ عَقَلَ قَلْبُكَ، إِنَّمَا مَثَلُكَ وَمَثَلُ أُمَّتِكَ كَمَثَلِ مَلِكٍ اتَّخَذَ دَارًا، ثُمَّ بَنَى فِيهَا بَيْتًا، ثُمَّ جَعَلَ فِيهَا مَائِدَةً، ثُمَّ بَعَثَ رَسُولاً يَدْعُو النَّاسَ إِلَى طَعَامِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ الرَّسُولَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَهُ، فَاللَّهُ هُوَ الْمَلِكُ، وَالدَّارُ الإِسْلاَمُ، وَالْبَيْتُ الْجَنَّةُ، وَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ رَسُولٌ، فَمَنْ أَجَابَكَ دَخَلَ الإِسْلاَمَ، وَمَنْ دَخَلَ الإِسْلاَمَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ أَكَلَ مَا فِيهَا".



وفي رواية البخاري يقول: "فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا فَقَدْ عَصَى اللَّهَ". وفي رواية أحمد يقول: "فَمَنِ اتَّبَعَهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَتَّبِعْهُ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا".



فالوحي يدعونا إلى الجنة، أما مخالفة الوحي فالمصير إلى العذاب الشديد.



وقد تعجب حينما تعلم أن الناس يعرفون ذلك، ولكن لا يقدرون للوحي قدره؛ لأنهم لا يقدرون الله قدره.. {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزُّمر: 67].



فلو قدر الناس الله حق قدره ما عصوه، لكن يتناسى الناس قدر الله ، وهذا مؤداه الضنك في الدنيا والهلاك المبين في الآخرة.



فالوحي رسالة من الله رب العالمين، ولا بد من فهم سيرة النبي على ذلك الأساس، وهو أن حياة النبي كلها وحي من رب العالمين كما يقول الحق تبارك وتعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النَّجم: 3، 4].



حتى النوافل في حياته وحي من الله فكما أن صيام رمضان وحي فصيام الاثنين والخميس والثلاثة أيام البيض، وكل النوافل هي وحي من الله، لكن هناك ما هو فرض وما هو نافلة، فكل أمر في حياته وحي، حتى اختياراته البشرية في أموره العادية إن جاءت مخالفة لما أراده الله من البشر ينزل الوحي ليوضح مراد الله ، ولتكون حياة النبي قدوة وأسوة للمسلمين {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].



فلخير الإنسان ولخير البشرية ولخير الدنيا والآخرة نتعلم سيرة النبي .



فأمر الوحي وأمر السيرة النبويّة ليس بالأمر الهين الذي يستهان به، ولكن هذا الأمر جِدُّ خطير، وهو من الأهمية بمكان، نسأل الله أن يفقهنا في سيرة النبي .



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة مكة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة مكة - صفحة 2 Empty نزول الوحي على رسول الله

مُساهمة من طرف Admin الأحد أغسطس 15, 2010 2:26 pm

نزول جبريل على النبي

دخل جبريل على النبي في هيئة رجل. ودخول رجل على رجل ليس مفزعًا في حد ذاته رغم أن الرجل غريب ولا يعرفه النبي ، ولكن لماذا خاف النبي لما رأى جبريل ؟



تعالَوْا نسمع القصة من رسول الله ، وسنعلم لِمَا خاف .



نزول جبريل على النبيتروي السيدة عائشة -رضي الله عنها- فتقول: فَدَخَلَ عَلَيْهِ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ. هكذا بدون مقدمات، ولا سلام، ولا كلام، لم يُعرِّف نفسَه، ولم يسأل الرسول عن نفسه، يخاطبه وكأنه يعرفه من زمن، ويقول له: اقرأ. والرسول لا يدري أي شيء يقرأ، فالرسول أمّيّ لا يعرف القراءة ولا الكتابة، يقول له: اقرأ. فقال بأدبه الجم، قَالَ:"مَا أَنَا بِقَارِئٍ".



لم يسأله الرسول من أنت؟ وماذا تريد؟ فهو بُهت بدخوله عليه فجأة، وقوله له: اقرأ. قال الرسول : ما أنا بقارئ. ففوجئ برد الفعل الذي أفزع الرسول ، هذا الرجل اقترب من الرسول، ثم احتضنه بشدة، يقول الرسول : قَالَ: فَأَخَذَنِي، فَغَطَّنِي (يعني احتضنني)، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ (أي كان الأمر شاقًّا جدًّا عليه، والرسول لم يكن ضعيفًا، بل كان قوي البنية، فمعنى ذلك أن هذا الرجل قوته هائلة)، ثُمَّ أَرْسَلَنِي (تركني).



ثم َقَالَ: اقْرَأْ (المرة الثانية). قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ (المرة الثالثة). فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ.



فقال: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي.



ولكن، لماذا كل ذلك العنف في التبليغ، ذلك ليعلم أنه لا يحلم وأنه يعيش واقعًا حقيقيًّا، وأن الكلام الذي سيقوله الرجل الآن يحتاج إلى تركيز ووعي، لست تحلم يا محمد هذه حقيقة.



فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1- 5].



من هذا الرجل؟ كيف ظهر؟ وكيف اختفى بعد ما قال هذه الكلمات؟ الرسول لا يعلم، والرسول هو أبلغ العرب وأفصحهم، وبالتأكيد أنه عرف منذ اللحظة الأولى أن هذا الكلام ليس من كلام البشر هذا كلام معجز.



وثمة أمر آخر وهو أن هذا الرجل الذي جاءه، يتحدث عن الإله الذي يبحث عنه الرسول منذ زمن، فالرسول يعتكف ويتفكر؛ ليعرف من خالق هذا الكون، فهذا الرجل يتحدث عن الإله الذي خلق والذي يتكرم والذي يعلم.



والرجل لم يخبره عن أي شيء يريده منه، لم يخبره أنه سيصبح رسولاً.



قرأ هذه الكلمات التي لم تسمع من قبل على وجه الأرض، ثم اختفى، تركه وذهب، وكان في كل مرة يغطه حتى بلغ منه الجهد، وفي رواية أنه قال : "لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي".



كل هذه الأمور أدت إلى أن الرسول يخاف جدًّا ويخشى على نفسه، فذهب يجري إلى بيته قاطعًا اعتكافه باحثًا عن الأمان.


هلع النبي وخوفه !

تقول السيدة عائشة في وصف ذلك الموقف: فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ. ولكن لماذا حدث هذا الهلع الشديد وهذا الخوف للنبي ؟



أولاً: هو إثبات لبشرية الرسول ، فنفس ذلك الموقف تكرر مع سيدنا موسى ، فهو بشر وله كل أحاسيس البشر.



ثانيًا: إثبات عدم انتظار النبي لأمر النبوة، فبمجرد ظهور الرجل واختفائه خاف وجرى.



ثالثًا: هذا الأمر كان بمنزلة التشويق والتهيئة والإعداد لما سيأتي بعد ذلك.



فبعد ذلك كان النبي يخرج مرارًا إلى الجبال، لعله يقابل ذلك الرجل الذي جاءه في الغار، فأصبح مشتاقًا إلى قدوم جبريل .


النبي يقص الأمر على السيدة خديجة

وصل النبي إلى بيته، تقول السيدة عائشة: فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.



كانت السيدة خديجة تحب رسول الله حبًّا لا يوصف، ولم تذكر كتب السيرة مشاحنة واحدة حدثت بين النبي وبين السيدة خديجة رضي الله عنها.



روى النبي هذا الموقف الغريب الذي حدث له للسيدة خديجة -رضي الله عنها- وما قيل له من كلمات، ثم قال لخديجة: "لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي".



كان موقف السيدة خديجة يدعو إلى العجب والاستغراب، فهي لم تخف كعادة النساء أو كطبيعة البشر، بل لم تتعجب أو تتساءل.



وأخذت الأمر بكل بساطة، وكأن الرسول يقص عليها أمرًا عاديًّا، بل قالت له في يقين غريب: "كَلاَّ وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ".



استنبطت السيدة خديجة أن هذا الرجل صاحب الأخلاق الحميدة لن يخزيه الله أبدًا.



وما أشارت السيدة خديجة إلا إلى معاملاته للناس، وخدماته لهم، ولم تشر من قريب أو من بعيد إلى تحنثه وتعبده واعتكافه.



فالمعاملات مع الناس هي المحك الحقيقي لتقييم الإنسان.



والسيدة خديجة تعي دور الزوجة تمامًا، فعملت على تهدئة النبي ، فهي مثال الزوجة المؤمنة، فهي سكن ومصدر طمأنينة لزوجها، كما أخبر الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الرُّوم: 21].



ولم تشأ هذه المرأة العاقلة الكاملة أن تترك النبي للأوهام والضلالات، وفضلت أن تذهب إلى أهل العلم والدراية فذهبوا إلى ورقة.



وفي اختيارها ورقة بن نوفل يدل على حكمة ورجاحة عقل هذه المرأة، وعلى فطرتها السليمة النقية، فلم تذهب به إلى كاهن أو خادم للأصنام، ولكن ذهبت به إلى رجل على ديانة السابقين، فكان قد تنصَّر في الجاهلية.



وفي ذلك رسالة إلى كل شباب الأمة، فإن في اختيار الزوجة الصالحة نقطة محورية في حياة الفرد المسلم، وهذه النقطة مهمة في بناء الأمة كلها.


هذا هو الطريق

تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ، حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرَأً قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ.



وكان ورقة يعلم أن نبيًّا سيخرج في آخر الزمان، وكان ورقة ينتظره. وهذا الأمر يبصرنا بمدى جرم أهل الكتاب، فهم يعرفون أن الرسول حق وذلك من خلال كتبهم، ومع ذلك لم يؤمنوا، قال تعالى: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146].



فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ (وكان يعرف أخلاق النبي وعرف صفاته): يَابْنَ أَخِي، مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى.



يصرح ورقة بن نوفل بأمر في غاية الأهمية، يصرح بأن هذا جبريل ، وجبريل لا ينزل إلا على الأنبياء، إذن محمد أصبح رسول الله.



وتخيل كَمّ الأحاسيس والمشاعر التي جاشت في صدر النبي وهو يسمع هذا الكلام. أيكون الله قد اختاره من بين كل الخلق ليكون نبي آخر الزمان.



النبوة ليست مقامًا يصل إليه أحد بالاجتهاد في العبادة، بل هي اختيار واصطفاء من الله كما يقول سبحانه: {اللهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 75].



الرجل الذي جاءه في الغار لم يخبره أنه رسول، وورقة يتكلم معه بثقة ويقين، حيرة وشك وقع فيهما النبي .



ولم يتركه ورقة بل قال له خبرا آخر لم يكن أقل خطرًا من الخبر السابق، فقال: يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا (شابًّا)، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟".



النبي لم يكن يعلم شيئًا عن الأمم السابقة، وهذا من الإعجاز الواضح؛ لأنه بعد ذلك سيخبر عن هذه الأمم بشيء من التفصيل لا يمكن أن تعرف إلا عن طريق الوحي، وفي ذلك يقول الله : {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49].



لم يكن النبي يعرف معاناة الأنبياء، ولا تكذيب أقوامهم لهم، ولذا قال النبي : "أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟" فقَالَ له ورقة بيقين وثبات: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِيَ.



وهذه قاعدة من ورقة بن نوفل لكل داعية فما حمل داعية هذا الدين بصدق إلا عودي، فهذه سنة من سنن الله ، تدافع الحق والباطل، صراع بين الدين وأعداء الدين، وهذه السنة باقية إلى يوم القيامة، ثم يقول ورقة: وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وقد صدّق بالنبي حتى قبل التصريح بالرسالة، روى الحاكم عن عائشة بإسناد جيد أن رسول الله قال: "لاَ تَسُبُّوا وَرَقَةَ؛ فَإِنِّي رَأَيْتُ لَهُ جَنَّةً أَوْ جَنَّتَيْنِ".



مات ورقة، لكنه سطر قاعدة أصيلة خلفته من بعده، ما دام الصراع بين الحق والباطل: ما جاء رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي.



فهذه رسالة إلى كل الدعاة أن هذا هو الطريق.


انقطاع مقلق

وبعد كلام ورقة بن نوفل أراد رسول الله أن يتيقن من صحة ذلك الكلام، فهذه قضية ضخمة جدًّا وهائلة لا يصح للنبي أن يبني فيها قرارًا أو رأيًا دون تيقن كامل أنه نبي، ولو كان نبيًّا فما المطلوب منه؟ إن الرجل الذي جاءه لم يخبره بشيء.



في تلك الأوقات تمنى النبي أن يقابل جبريل مرة ثانية، ليؤكد له أمر الرسالة، ويخبره بما يقوم به، لكن مع تعلق قلب الرسول واشتياقه لرؤية جبريل شاء الله أن يفتر الوحي.



واختلف المؤرخون في مدة انقطاع الوحي، ولكن في أغلب الظن أنها كانت أيامًا من ثلاثة أيام إلى أربعين يومًا.



كان انقطاع الوحي بمنزلة صدمة للنبي فهو لم يتيقن بعد، ويريد أن يتيقن والشك شعور قاتل، كان النبي متوقعًا أنه إذا ذهب إلى الغار سيجد هناك جبريل أو يلقاه في مكان آخر، وكان يخرج إلى الجبال، لعله يلتقي بجبريل، لكن جبريل لم ينزل.



كان هذا التأخر ليزداد النبي اشتياقًا إلى الرسالة، فالرسالة مهمة ثقيلة جدًّا، يقول سبحانه: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 5].



فإن لم يكن حامل هذه الرسالة متشوقًا إليها سيكون حملاً صعبًا جدًّا، بل لعله مستحيل، فارق كبير بين أن تبحث الدعوة عن رجل ليحملها، أو يبحث الرجل عن الدعوة ليحملها.


من هنا بدأت الرسالة

ولما كان يبلغ الحزن بالنبي المبلغ، يأتيه جبريل، ويقول له: يا محمد، إنك رسول الله حقًّا. فيسكن النبي ، لكن ليست هناك تبليغات بالرسالة، لا يزيد عن قوله: يا محمد، إنك رسول الله حقًّا.



ثم جاء اليوم الذي سيبدأ النبي فيه رحلة النبوة والتبليغ والتبشير والإنذار هذه الرحلة الصعبة، فيقول وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ عَنْ شِمَالِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ أَمَامِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ خَلْفِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، ثُمَّ نُودِيتُ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي إلى السماء، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَرُعِبْتُ مِنْهُ حَتَّى هَوِيتُ عَلَى الأَرْضِ، فَرَجَعْتُ حَتَّى أَتَيْتُ خَدِيجَةَ، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، دَثِّرُونِي دَثِّرُونِي، وَصُبُّوا عَلَيَّ ماءً باردًا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدَّثر: 1- 5].



وكان هذا هو الأمر الواضح بالرسالة وبالتبليغ وبالإنذار، فتغيرت حالة النبي من حالة الشك والارتياب وعدم التأكد من أمر النبوة إلى حالة من العزيمة والقوة والإصرار والنشاط، ولما كانت تطلب منه السيدة خديجة بعض الراحة كان يقول: مَضَى عَهْدُ النَّوْمُ يَا خَدِيجَةُ.



وجد النبي تفسيرات لما كان يحدث له قبل النبوة، من سلام الحجر عليه، وشق الصدر، وعرف الرجل الذي جاءه في غار حراء.



وبدأ النبي الرحلة الطويلة الشاقة رحلة الدعوة إلى الله التي بدأت بقول الله له: {قُمْ} وفي ذلك يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: قيل لرسول الله {قُمْ}. فقام، وظل قائمًا بعدها أكثر من عشرين عامًا، لم يسترح، ولم يسكن، ولم يعش لنفسه ولا لأهله، قام وظل قائمًا على دعوة الله، يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ولا ينوء به؛ عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض، عبء البشرية كلها، وعبء العقيدة كلها، وعبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى.



قام النبي بعد هذه الكلمات ولم يقعد إلى أن مات، وما ترك فردًا ولا قبيلة ولا صغيرًا ولا كبيرًا ولا سيدًا ولا عبدًا إلا ودعاه إلى الله.



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة مكة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة مكة - صفحة 2 Empty بدء الدعوة إلى الإسلام

مُساهمة من طرف Admin الأحد أغسطس 15, 2010 2:37 pm

كيف بدأ رسول الله الدعوة؟

كيف بدأ رسول الله الدعوة؟ وبمن بدأ؟ ومن هم الذين اختارهم الرسول ليبدأ بهم؟



كيف بدأ رسول الله الدعوة؟لم يكن اختيار النبي عشوائيًّا في اختيار من يدعوه، بل كان هناك منهجٌ واضحٌ يسير عليه النبي ، وقبل أن نعرف منهج رسول الله لا بد من سؤال. هل يؤمن الإنسان بقلبه أولاً أم بعقله؟ هل يحبك أولاً ثم تقدم له الحجة بعد ذلك أم تقدم له الحجة أولاً؟



الحب والحجة في غاية الأهمية لكن من الصعب جدًّا على الإنسان أن يقبل فكرة ما حتى ولو كانت هذه الفكرة صحيحة ومقنعة من إنسان يبغضه ولا يحبه، وقد يدخل في جدل عقيم وحوار طويل قد لا يأتي بخير، بينما على الجانب الآخر يتقبل كثيرًا من الأفكار ممن يحب وقد تكون هذه الأفكار غريبة.



إن الفكرة التي جاء بها النبي فكرة صحيحة ومقنعة، وإذا فكر فيها عقل سليم لا بد أن يقبلها، ورغم ذلك فهذه الفكرة غريبة على أهل مكة، فقد مر من عُمْر الأرض أكثر من ستمائة عام، لم يخرج فيه نبي، جاء رسول الله على فترة من الرسل.



وقد ملك الاستغراب عقول الناس من فكرة التوحيد على بساطتها ووضوحها، أو أن يكون هناك رسول من البشر، يقول : "بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ".



كانت دعوة النبي لقريش وللناس كلهم وللعالم أجمع، ولكن في هذا الوقت بمن يبدأ ؟ لا بد أن يبدأ بمن يقبل الفكرة دون تردد؛ ليكوّن قاعدة عريضة يستطيع من خلالها نشر هذا الدين بين أوساط المجتمع كله، وكان أكثر الناس حبًّا له أكثرهم قبولاً للفكرة.



وهذا منهج لأهل الأرض جميعًا، ودرسًا نتعلمه من النبي ونحن نسير في الدعوة إلى الله.


دعوته للسيدة خديجة رضي الله عنها

بحث النبي عن أكثر الناس حبًّا له وبدأ بدعوتهم، ذهب النبي أولاً إلى زوجته الصالحة السيدة خديجة فمن المؤكد أنها أول من آمن على ظهر الأرض، فهي التي كانت تتابع مع النبي أحداث الوحي، فهي التي ذهبت به إلى ورقة بن نوفل، وعرفت أن هذا جبريل الناموس الذي ينزل على الأنبياء إلى أن نزل قوله تعالى: {قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدَّثر: 2].



فآمنت السيدة خديجة -رضي الله عنها- ومن الممكن أن نقول إنها آمنت قبل التصريح بالرسالة حيث قالت: كَلاَّ وَاللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا. والسيدة خديجة أحبت النبي حبًّا لا يوصف، فكان هذا الحب هو طريق تصديق العقل والحب وحده لا يكفي، فقالت له: إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَحْمِلُّ الْكَلَّ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ.



وهذه الصفات لا يمكن أن تجتمع في كذاب أو مُدَّعٍ لهذا الأمر، وهي التي ذهبت به إلى ورقة ويؤكد ورقة بعد ذلك على أنه نبي، وينزل الملك ويخبره أنه رسول، والرسول يخبرها بذلك، وهي تعلم صدقه وأنه لا يكذب، وهذا الكلام ليس من كلام البشر، فلا بد أن هناك قوة فوق قوة البشر، كل هذا الكلام دار بخلد السيدة خديجة رضي الله عنها، وما أعتقد أن هذا الكلام كان سيدور بهذه السلاسة وهذه البساطة لو كانت بينها والنبي مشاحنات ومخاصمات، فالحب والحجة في غاية الأهمية إلا أن الحب يأتي أولاً ثم تليه الحجة.


دعوته لسيدنا أبي بكر

أبو بكر الصديق رضي الله عنهوبعد السيدة خديجة ذهب النبي إلى أحب الرجال إلى قلبه، فإذا كانت السيدة خديجة هي أحب النساء إلى قلبه، فسيدنا أبو بكر هو أحب الرجال إلى قلبه ، ولما سئل النبي عن أحب الرجال إلى قلبه قال: "أبو بكر". وما تردد أبو بكر في قبول هذا الدين لحظة واحدة، يقول : "مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى الإِسْلاَمِ إِلاَّ كَانَتْ لَهُ عَنْهُ كَبْوَةٌ وَتَرَدُّدٌ وَنَظَرٌ، إِلاَّ أَبَا بَكْرٍ، مَا عَتَّمَ حِينَ ذَكَرْتُهُ لَهُ ومَا تَرَدَّدَ فِيهِ". لم يفعل أحد من البشر مثل ما فعل هو والسيدة خديجة أجمعين.



إن سرعة إيمان أبي بكر تحتاج إلى دراسة، فمما دفعه إلى ذلك أنه كان أقرب الناس لأخلاق النبي ، وكثيرًا ما كان يختار من الآراء ما يختاره الرسول حتى في غياب أحدهم عن الآخر.



وكانت أخلاق سيدنا أبي بكر كأخلاق الأنبياء، ولم يمشِ على الأرض خير من أبي بكر إلا الأنبياء.



وكان بين سيدنا أبي بكر والنبي توافق عجيب في أمور الأخلاق، أشهرها الصدق فالرسول هو الصادق الأمين، وأبو بكر هو الصديق ، التواضع والكرم والعفة والبعد عن أماكن الفساد والمروءة وخدمة الناس، كل هذه عوامل أدت إلى سرعة إيمان الصديق .


دعوته لسيدنا زيد بن حارثة

بعد إسلام السيدة خديجة وإسلام أبي بكر تحدث النبي إلى مولاه سيدنا زيد بن حارثة .



لقد أحب سيدنا زيد بن حارثة النبي حبًّا كبيرًا، وكان بينه وبين النبي حبًّا كبيرًا لدرجة أنه عرف بين الصحابة بأنه زيد بن محمد.



زيد بن حارثةوقصة هذا الأمر هي أنه أصابه سباء في الجاهلية؛ لأن أمه خرجت به تزور قومها بني معن، فأغارت عليهم خيل بني القين بن جسر، فأخذوا زيدًا، فقدموا به سوق عكاظ، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد. وقيل: اشتراه من سوق حباشة، فوهبته خديجة للنبي بمكة قبل النبوة وهو ابن ثماني سنين.



وقيل: بل رآه رسول الله بالبطحاء بمكة ينادى عليه ليباع، فأتى خديجة فذكره لها، فاشتراه من مالها، فوهبته لرسول الله فأعتقه وتبناه.



ثم إن ناسًا من كلب حجوا فرأوا زيدًا، فعرفهم وعرفوه، فانطلق الكلبيون فأعلموا أباه ووصفوا له موضعه، وعند من هو، فخرج حارثة وأخوه كعب ابنا شراحيل لفدائه، فقدما مكة، فدخلا على النبي : فقالا: يابن عبد المطلب، يابن هاشم، يابن سيد قومه، جئناك في ابننا عندك فامنن علينا، وأحسن إلينا في فدائه. فقال: مَنْ هُوَ؟ قالوا: زيد بن حارثة. فقال رسول الله : "فَهَلاَّ غَيْرَ ذَلِكَ". قالوا: ما هو؟ قال: "ادْعُوهُ وَخَيِّرُوهُ، فَإِنِ اخْتَارَكُمْ فَهُوَ لَكُمْ، وَإِنِ اخْتَارَنِي فَوَاللَّهِ مَا أَنَا بِالَّذِي أَخْتَارُ عَلَى مَنِ اخْتَارَنِي أَحَدًا".



قالا: قد زدتنا على النصف وأحسنت. فدعاه رسول الله فقال: "هَلْ تَعِرْفُ هَؤُلاَءِ؟" قال: نعم، هذا أبي وهذا عمي. قال: "أَنَا مَنْ قَدْ عَرَفْتَ، وَرَأَيْتَ صُحْبَتِي لَكَ، فَاخْتَرْنِي أَوِ اخْتَرْهُمَا". قال: ما أريدهما، وما أنا بالذي أختار عليك أحدًا، أنت مني مكان الأب والعم. فقالا: ويحك يا زيد! أتختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وأهل بيتك؟! قال: نعم، قد رأيت من هذا الرجل شيئًا، ما أنا بالذي أختار عليه أحدًا أبدًا. فلما رأى رسول الله ذلك أخرجه إلى الحجر، فقال: "يَا مَنْ حَضَرَ، اشْهَدُوا أَنَّ زَيْدًا ابْنِي، يَرِثُنِي وَأَرِثُهُ". فلما رأى ذلك أبوه وعمه، طابت نفوسهما وانصرفا.



ولما نزل الوحي كان سيدنا زيد بن حارثة يبلغ من العمر ثلاثين عامًا، وحدثه النبي عن الإسلام، وكيف سيكون رد فعل من أحب النبي كل هذا الحب.



وما كان إيمان سيدنا زيد بن حارثة عن حب فقط فمن المؤكد أنه أعمل عقله، فترك الدين إلى دين آخر ليس أمرًا سهلاً.



ولو فكرنا مع سيدنا زيد بن حارثة لوجدنا أنه من خلال معاشرة سيدنا زيد للرسول ما جرب عليه كذبًا، أيعقل أن يترك الكذب على الناس ليكذب على الله.



هو يرى محمدًا في عون الناس جميعًا، وبدون مقابل، هل سيطلب لنفسه مصلحة ذاتية وبعد أربعين سنة مضت من عمره.



لقد رأيت هذا الرجل العظيم العفيف كان بعيدًا عن كل الموبقات والفواحش والمعاصي في فترة شبابه كلها، فهل هذا الرجل يلعب بدين الناس وبعقيدتهم؟



ولو كان هذا الرجل يريد السيادة والملك في مكة أكان يأتي بدين جديد أم يسلك أقرب الطرق وصولاً إلى ذلك، والمحببة إلى نفوس القوم وهو طريق اللات والعزى.



من المؤكد أن كل هذه الأفكار وغير هذه الأفكار جالت بذهن سيدنا زيد بن حارثة. ولا بد أن كل الإجابات كانت تفضي إلى نتيجة واحدة هي أن هذا الرجل صادق فيما يقول.



آمن سيدنا زيد بن حارثة وإن كان قد آمن بقلبه أولاً لكنه آمن بعقله أيضًا.


إسلام علي بن أبي طالب

إسلام علي بن أبي طالبإن كنا قد وقفنا مع إسلام السيدة خديجة رضي الله عنها، وإسلام سيدنا أبي بكر ، وإسلام سيدنا زيد بن حارثة . فلا بد من وقفات مع إسلام سيدنا علي بن أبي طالب ، هذا الطفل الذي آمن، وما تجاوز العشر سنوات، إن إسلام سيدنا عليّ في هذا السن هو شيء في منتهى الغرابة.



ويكمن وجه العجب والغرابة في عمره الذي ما تجاوز العشر سنوات، يستأمنه النبي ويسر إليه بهذا الدين الجديد في مثل هذه المرحلة السرية من الدعوة، وغريب أيضًا أن يفهم طفل في مثل هذا السن هذه القضية الكبيرة التي خفيت على كثير ممن يسمونهم حكماء في مكة.


وقفات مع إسلام علي بن أبي طالب

وهذا الأمر يحتاج منا إلى وقفة:

أولاً: كان سيدنا علي بن أبي طالب بمنزلة ابن النبي كزيد بن حارثة، فكان يعيش مع النبي في بيته، والسبب في ذلك هو أن قريشًا أصابتهم أزمةٌ شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة، فقال يومًا رسول الله لعمه العباس: يا عم، إن أبا طالب كثير العيال، فانطلق بنا نخفف عن عيال أبي طالب. فانطلقا إليه وأعلماه ما أرادا، فقال أبو طالب: اتركا لي عقيلاً واصنعا ما شئتما. فأخذ رسول الله عليًّا، وأخذ العباس جعفرًا، فلم يزل عليّ عند النبي حتى أرسله الله، فاتبعه.



وقال ابن إسحاق: وكان من نعمة الله عليه.



كان علي بن أبي طالب يعتقد الصواب في كل كلمة يقولها الأب الحنون النبي ، كما يعتقد كل طفل الصواب في كلام أبيه.



ولقد ترسخ في نفس علي بن أبي طالب حب كبير للنبي منذ نعومة أظفاره، فكما قلنا: إن منهج النبي في الدعوة يقوم على الحب أولاً ثم الحجة.



ثانيًا: أن النبي لاحظ نبوغًا مبكرًا، وعبقرية ظاهرة في علي بن أبي طالب، فاطمأَنَّ النبي إلى أن يخبره بأمر الرسالة مع أن هذا الأمر خطير، ولا يزال سرًّا، ولا يعلم إلى متى سيظل هذا الأمر سرًّا.



وقد يظن البعض أن النبي يخاف أن يخبره بهذا الأمر للظروف التي تحيط بالدعوة، لكن الواقع أن سيدنا عليًّا كان عبقريًّا فذًّا، وبمرور الأيام صدقت فراسة النبي ، وكان سيدنا علي من أكثر الصحابة قدرة على استنباط الأحكام والقضاء في الأمور، بجانب فراسته وعلمه وفقهه .



ثالثًا: في الحقيقة هذه وقفة مع النبي في اختياره لمن يدعوهم، فبدعوة النبي لسيدنا علي، وبإسلامه كان هناك تنوع عجيب لمن دعاهم النبي واختارهم في بادئ الأمر، وكان يوضح لنا أمرًا في غاية الأهمية، وهو أن مجال الدعوة أوسع مما قد نتخيل، فهؤلاء الأربعة الأوائل: فيهم الرجال، وفيهم النساء، فيهم السادة، وفيهم العبيد، فيهم الكبار، وفيهم الصغار، وأن هذه الدعوة لا حدود لها.



أصبح علي بن أبي طالب أول الصبيان إسلامًا، كما أصبح أبو بكر أول الرجال، وزيد أول الموالي، والسيدة خديجة كانت أول النساء، وكان ذلك في أول يوم في الإسلام.


دعوة النبي آل بيته للإسلام

ثم دعا النبي بناته للإسلام فدعا السيدة زينب وكانت في العاشرة من عمرها، والسيدة رقية وكانت في السابعة من عمرها، والسيدة أم كلثوم وكانت في السادسة أو الخامسة من عمرها، وكلهم اعتنقوا الإسلام في هذا السن المبكر، أما السيدة فاطمة فكان عمرها سنة على أرجح الأقوال.



كان هذا هو الوضع في بيت الرسول .



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة مكة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة مكة - صفحة 2 Empty الإيجابية في حياة أبي بكر الصديق

مُساهمة من طرف Admin الأحد أغسطس 15, 2010 2:38 pm

أبو بكر الصديق بين الإيجابية والتصديق

أبو بكر الصديق بين الإيجابية والتصديقفي اليوم الثاني بدأ رسول الله والمؤمنون الأوائل يتحركون من جديد بالدعوة لانتقاء عناصر جديدة.



والحق أن أبا بكر الصديق كان إيجابيًّا بدرجة لا يمكن وصفها ولا تخيلها، أبو بكر الصديق تحرّك بالدعوة وكأنها أنزلت عليه هو، لم تكن الدعوة عنده مجرد تكاليف من الرسول ، ولكن هو الحب للإسلام الذي ملأ قلب الصديق ، وحبه لحمل الخير لكل الناس، وفي الوقت نفسه حبه هو لكل الناس.



نتج عن حبه للدين وحبه للناس حماسة دعوية على أعلى مستوى تصل إليه من التفكير، وظل الصديق على هذه الروح في حمل الرسالة إلى أن مات ، وظل يحمل همّ الدعوة، ويتحمل مسئولية الإسلام، وكأنه ليس على الأرض مسلم غيره، إيجابية قصوى.



في أول تحرك للصديق أتى للإسلام بمجموعة رائعة من المسلمين الجدد، وقِفْ مع كل اسم لحظة، أو لحظات لتعرف بلاءه في الإسلام ونصرته لدين الله ، لقد أتى الصديق بعثمان بن عفان، وتفكر في سيرة عثمان ، مجهِّز جيش العسرة، ومشتري بئر رومة، وموسع المسجد النبوي، تفكر في خلافته للمسلمين اثني عشر عامًا، تفكر في حياة فيها إنفاق، وفيها علم، وفيها جهاد، وفيها صيام، وفيها قيام، وفيها قراءة للقرآن، فعثمان بن عفان رغم كل هذه الأعمال حسنة من حسنات أبي بكر الصديق .

- الزبير بن العوام.

- سعد بن أبي وقاص.

- طلحة بن عبيد الله.

- عبد الرحمن بن عوف. رضي الله عنهم أجمعين.



من المؤكد أن أغلب المسلمين يعرفون قدرهم، وما قدموه للإسلام، وهؤلاء الخمسة من العشرة المبشرين بالجنة، وكلهم في ميزان حسنات أبي بكر الصديق .



الحدث فعلاً عجيب، فهؤلاء لا يغيّرون شيئًا بسيطًا في حياتهم، لا يغيّرون طعامًا أو شرابًا، لا يغيّرون وظيفة أو سكنًا، إنما يغيّرون ديانتهم، يغيّرون عقيدتهم، يغيّرون أمرًا استمرت به مكة مئات السنين، يسبحون ضد التيار.



أي قوة إقناع كانت عند الصديق حتى يقنع هؤلاء الخمسة بأمر الإسلام؟! أي صدق كان في قلب الصديق حتى يهدي الله هؤلاء الخمسة العظام على يده ؟!



والغريب أن هؤلاء الخمسة لم يكونوا من قبيلته (بني تيم) باستثناء طلحة بن عبيد الله .



عثمان أموي، والزبير أسدي، وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف من بني زهرة، من المؤكد أن علاقات الصديق كانت قوية جدًّا، ووثيقة جدًّا بهؤلاء قبل الإسلام، من المؤكد أنهم كانوا يحبونه حبًّا عظيمًا، فالخطوة الأولى في الدعوة كما ذكرنا سابقًا هي الحب.



ثم أيضًا نظرة على الأعمار:

- الزبير بن العوام خمس عشرة سنة.

- طلحة بن عبيد الله ست عشرة سنة.

- سعد بن أبي وقاص سبع عشرة سنة.

- عثمان بن عفان ثماني وعشرون سنة.

- عبد الرحمن بن عوف ثلاثون سنة.



كل هؤلاء أخذوا قرار تغيير الدين والارتباط بالإسلام وتحمل المشاق ومواجهة أهل مكة جميعًا، أخذوا هذا القرار وهم في هذه السن المبكرة.



الزبير وطلحة وسعد لو كانوا في زماننا لكانوا في المرحلة الثانوية.



هل أولادنا في هذه المرحلة عندهم من الوعي والإدراك، وتحمل المسئولية والقدرة على الفهم والتفكير واستنباط الصحيح من الخطأ، والحق من الباطل مثل الذي كان عند هؤلاء الشباب من الصحابة؟



كثيرًا ما يحزن المرء عند رؤية بعض شبابنا في هذه المرحلة العمرية الثمينة، وقد فرغت عقولهم من كل ما هو ثمين أو قيم، لا تجد فيها إلا بعض الأغاني، وبعض المسلسلات، وبعض المباريات، وبعض قصات الشعر، وبعض ألعاب الكمبيوتر، مع أنهم نشئوا في بيوت مسلمة، وبين آباء وأمهات مسلمين، وربما عاشوا في بيئة إسلامية صالحة، ولم ينشئوا كما نشأ الزبير وطلحة وسعد في بيوت كافرين.



ولست أدري أين الخلل؟ أين تكمن المشكلة؟



لا ننكر أن هناك دورًا كبيرًا يقع على فساد الإعلام وفساد التعليم. لكن يقع على كاهلنا أيضًا جزء كبير من هذا الأمر، ولعلنا لا نعطي الشباب وقتًا كافيًا من حياتنا، لعلنا نستقلّ بإمكانيتهم، ونستصغر عقولَهم، ونستقلّ بأفكارهم.



ودائمًا ما نردد: الولد ما زال صغيرًا. أكمل المرحلة الثانوية وما زال صغيرًا، وانتهت الجامعة وهو صغير، وقد يتزوج وما زال صغيرًا.



أحيانًا بلوغ العقل عند بعضنا قد يجاوز الأربعين، ولا يعتمد على نفسه، ولا تعتمد عليه أمته إلا بعد أربعين عامًا.



الأمر يحتاج لعدة وقفات، فالشباب هم قوة كامنة، فلو منحوا تربية وجهدا، بإمكانك أن تأخذ منهم كما أخذ النبي من الزبير وطلحة وسعد وغيرهم من الصحابة.



نحن نحتاج إلى إعادة تنسيق لأفكارنا وترتيب لأوراقنا وتنظيم لأولوياتنا وأهدافنا بعد دراسة السيرة النبوية، نحتاج إلى إعادة نظر، وإلى وقفة مع أبنائنا.



نعود إلى الصديق وحركته في سبيل الله، قد نتخيل أن الصديق يأخذ قسطًا من الراحة بعد الإنتاج العظيم في يوم واحد، لكن سبحان الله، يبدو أن النشاط يولد نشاطًا، وأن الحركة تولد حركة، وأن العمل يولد عملاً، فالترس الذي لا يعمل يصدأ، في الأيام التالية جاء الصديق بمجموعة جديدة من عمالقة الإسلام، من هم؟



- أبو عبيدة بن الجراح من بني الحارث بن فهر، أمين هذه الأمة حسنة من حسنات الصديق.



- عثمان بن مظعون من بني جمح، من كبار الصحابة ومن أوائل المهاجرين إلى الحبشة.



- الأرقم بن أبي الأرقم من بني مخزوم، ست عشرة سنة.



- أبو سلمة بن عبد الأسد، زوج أم سلمة من بني مخزوم.



وعجيب جدًّا أن يأتي الصديق باثنين من بني مخزوم؛ لأن قبيلة بني مخزوم تتنازع لواء الشرف مع قبيلة بني هاشم قبيلة رسول الله ، فكأنه قد أتى باثنين من عقر دار الأعداء.



كان لدى أبي بكر الصديق قوة إقناع كبيرة جدًّا، وكان للصدق في الدعوة مكانٌ كبيرٌ في قلب أبي بكر الصديق.



وبعض هؤلاء الصحابة له علاقة مباشرة برسول الله ، وكان من الممكن أن يتركهم الصديق لرسول الله .



- الزبير بن العوام هو ابن عمة رسول الله السيدة صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها.



- وأبو سلمة بن عبد الأسد هو ابن عمة رسول الله السيدة برة بنت عبد المطلب.



- سعد بن أبي وقاص خال النبي .



لكن الصديق يشعر أن الدعوة دعوته، فهو لا يضيع وقتًا، ولا يضيع فرصة، ومن هنا سبق الصديق.



ولو شعر كل واحد منا بأن هذا الدين هو دينه وأنه مسئول عنه، وشعر بالغيرة الحقيقية على دين الإسلام كما شعر بذلك أبو بكر الصديق لاستطاع أن يصل بهذا الدين إلى قلب كل إنسان حتى ولو لم يعرفه.



هذا هو الصديق، وهؤلاء هم المخلصون الذين نتشبه بهم، ونقتفي أثرهم.



ولم يترك الصديق بيته، فالصديق لا يعاني من المرض الذي يعاني منه كثير من الدعاة، يعلمون الناس الإسلام، ويتركون دعوة أهلهم، وأحوج الناس لهم، والحق تبارك وتعالى يقول في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التَّحريم: 6].



إنما ذهب الصديق إلى بيته وأدخل في الإسلام أهل بيته فدعا زوجته أم رومان وأولاده أسماء وعبد الله فآمنوا، أما السيدة عائشة فولدت في الإسلام، والابن الأكبر عبد الرحمن تأخر إسلامه إلى عام الحديبية.



- أعتق الصديق غلامه عامر بن فهيرة بعد أن دعاه إلى الإسلام وأسلم.



- دعا الصديق بلال بن رباح إلى الإسلام فأجاب، ثم اشتراه وأعتقه في سبيل الله.



حركة دائبة، ونشاط لا يتخلله فتور، هذا هو الصديق .


وقفات مع استجابة الناس لدعوة الصديق
الوقفة الأولى

لماذا اسْتُجيب للصديق بهذه الصورة؟ المسألة ليست فقط إيجابية وحركة، كثير من المسلمين يتحرك، ومع ذلك لا يستجيب الناس لدعوته، بل إن كثيرًا من المسلمين ينفرون الناس من دين الله، وهم يعتقدون أنهم يتحركون له، حتى قال رسول الله : "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ".



لا بد أن الصديق قد اتصف بصفات لازمة لكل داعية جعلت دعوته قريبة إلى قلوب الناس، فإلى جانب الصدق والتواضع والمروءة والعفة، فقد كان يتميز بصفات مهمة ذكرها طلحة بن عبيد الله في يوم إسلامه، يقول طلحة بن عبيد الله أحد حسنات الصديق:



- كان رجلاً سهلاً محببًا موطأ الأكناف (أي ليّن الجانب)، ليس بالفظِّ ولا بالغليظ.



- وكان تاجرًا ذا خلق واستقامة.



والمال فتنة، وكثير من التجار يخسرون الناس بسبب التجارة، ولكن الصديق كان عكس ذلك، كان يكسب الناس بسبب التجارة، كان تاجرًا صدوقًا، بل صديقًا، كان تاجرًا كريمًا، كان تاجرًا رحيمًا، فيه رأفة، فيه أدب، فيه خلق حسن، كيف لا يحبه قومه؟



- يقول طلحة: وكنا نألفه ونحب مجالسه؛ لعلمه بأخبار قريش وحفظه لأنسابها.



كان الصديق عالمًا بعلم زمانه، علم الأنساب، وكانت الطبقة المثقفة في مكة ترتاد مجلسه للتباحث في هذا العلم، فالصديق لم يكن يعطي ابتسامة فقط أو مالاً فقط، إنما كان يعطي علمًا كذلك، وكان من أدبه ألا يطعن في أنساب أحد مع علمه بالنقائص في كل نسب، وهذا من حسن خلقه .



فرجل بهذه الصورة، كيف لا يستجاب له؟!



إذن الأمر لم يأت من فراغ، ولم تكن مصادفة أن يستجيب هذا العدد العظيم من عمالقة الإسلام إلى الصديق، وإذا كنت تريد حقًّا أن تصبح داعية، فعليك بدراسة سيرة الصديق .


الوقفة الثانية

هي أن الصديق أتى بهؤلاء، فهل أتينا نحن بأفراد جدد إلى الإسلام؟



ليس بالضرورة أن نأتي بغير مسلمين إلى الإسلام، وليس بالضرورة أن نأتي برجال أمثال عثمان والزبير، ولكن هل تحركنا للدين؟



هل وصلت دعوتنا إلى المسلمين غير الملتزمين بالإسلام؟



هل أتينا إلى المسجد برجل لا يعرف طريق المساجد؟



هل دفعنا إنسانًا إلى قراءة القرآن بعد هجره السنوات الطوال؟



هل شرحنا لمسلم حال المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وقد نسيهم أو تناساهم؟



هل هذبنا من أخلاق أبنائنا وأصحابنا وشركائنا وزبائننا وجيراننا؟



هل وصلنا بالدعوة إلى كل من نعرف؟



مجالات العمل لله لا تُحصى ولا تعد، أبواب الدعوة لا حصر لها، المهم أن يتولد في القلب شعور أنك أنت، وأنت وحدك الذي يحمل هَمَّ الإسلام كله على كتفه، تشعر أنك أنت المسئول، أن القضية قضيتك، وأن المهمة فعلاً مهمتك.



وهذا هو الدرس الذي نخرج به من قصة الصديق .



ولو سمعنا قصة الصديق لمجرد التمتع بها، لم نفهم الغرض الرئيسي من هذا البحث، وهو كيف نبني أمة؟
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة مكة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة مكة - صفحة 2 Empty الإسلام والدعوة إلى الوحدة والمساواة

مُساهمة من طرف Admin الأحد أغسطس 15, 2010 2:39 pm

الدعوة نحو الوحدة وجمع الشمل

الإسلام دين الوسطية .. يجمع الشملتزايد عدد المسلمين، والقاعدة الأصيلة التي تحكم الاختيار هي: خيارهم في الجاهليّة خيارهم في الإسلام إذا فقهوا.



ولم تكن تحكمهم أي قاعدة من القواعد التي اخترعها الناس للتفرقة بين الناس؛ لأن القواعد التي اخترعها الناس قواعد ظالمة، والله عادل، وعدله مطلق لا ظلم فيه، ولا تكون المفاضلة بين الناس إلا بأمور يستطيعون تغييرها، ولذلك يقول الله : {إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].



والتقوى شيء مكتسب، تستطيع أن تتحول من غير تقي إلى تقي، وكذلك الأخلاق الحسنة، فالأخلاق الحسنة شيء مكتسب، وإن كان لها جذور فطرية، أحيانًا يكون الإنسان مجبول على الصدق، مجبول على الكرم، لكنها في النهاية شيء مكتسب، تستطيع إذا أردت أن تتحول من كاذب إلى صادق، من خائن إلى وفيّ، من جبان إلى شجاع.



كذلك الكفاءة: تستطيع أن تكتسب مهارة ما أو حرفة ما، فتفضل بها غيرك، ومن الأشياء الخطيرة في الإسلام أن يوسد الأمر لغير أهله، لمن تنقصه الكفاءة، لذلك ففي هذه المرحلة الحساسة من تاريخ الدعوة لم يكن الرسول ينتقي الناس بقواعد لا دخل لهم فيها، فلا تجوز التفرقة على أشياء لا دخل لهم فيها؛ فعلى سبيل المثال: لم يكن هناك فرق بين الأحرار والعبيد.


الدعوة نحو السواسية

الكل أولاد آدم ، الكل سواسية، بل قد يسبق العبد الحر في مجال الأخلاق والتقوى والكفاءة، ولذلك وجه رسول الله دعوته إلى العبيد كما وجهها إلى السادة، وهذا شيء مستغرب جدًّا في البيئة المكية القديمة، وهو مستغرب إلى الآن.



تخيل دعوة تدعو الوزير للجلوس إلى جوار الغفير، بل قد يقدم الغفير على الوزير إذا كان أعلم وأكفأ وأقدر على إدارة الأمور، لم يعط قانون ولا دستور للإنسان حقه مثلما فعل الإسلام.



ها نحن نرى في الأوائل الذين أسلموا تباينات عجيبة، فكما رأينا من الأشراف أبا بكر الصديق وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام وعثمان بن عفان وسعد بن زيد وغيرهم وهؤلاء من أشراف مكة، رأينا كذلك العبيد والموالي أمثال بلال وعامر بن فهيرة وزيد بن حارثة وغيرهم، وليس هذا إلا في دين الإسلام.



لم يكن هناك فرق بين الغني والفقير.



فالمال لا يصلح للمفاضلة بين الناس، والله يرزق من يشاء بغير حساب، فالأوائل الذين أسلموا كان فيهم الأغنياء واسعو الثراء، كالصديق وعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان، وكان منهم الفقراء شديدو الفقر مثل عبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وسميّة بنت خياط وخباب بن الأرت.



ولكن هناك معلومة مهمة تأتي على عكس ما يتكلم به الكثيرون، فمعظم الدارسين للسيرة يعتقدون أن غالبية المسلمين كانوا من الفقراء البسطاء، ولكن بالتحليل الدقيق لكل شخصية من المسلمين الأربعين الأوائل، نجد أن الفقراء كانوا ثلاثة عشر، بينما كان الأغنياء سبعة وعشرين.



إذن لم تكن ثورة من الفقراء على الأغنياء، كما يصور بعض الاشتراكيين من المسلمين ليأخذوا سندًا شرعيًّا لاشتراكيتهم، الوضع كان على خلاف ذلك تمامًا، الأغنياء سعوا إلى هذا الدين الرائع، مضحين بثرواتهم، ومُعرّضين أنفسهم للفقر الشديد، وليس أبلغ من الأمثلة الإسلامية الرائعة كأبي بكر الصديق، الذي كان من أغنى الأغنياء، ثم أصبح لا يمتلك شيئًا بعد إسلامه، ومصعب بن عمير الذي كان من أغنى شباب مكة فأصبح من أشدها فقرًا وضنكًا وحاجة، لم تكن ثورة على الأغنياء، ولم يكن هناك أدنى فرق بين الغني والفقير.



لم يكن هناك فرق بين العرب وغير العرب.



وما ذنبي أني ولدت في مصر أو باكستان أو الهند، المهم التقوى والأخلاق والكفاءة.



دعوة الإسلام ليست دعوة قومية، حتى في هذه البيئة التي تفتخر جدًّا بعربيتها، فقد ضمت هذه الدعوة بلالا الحبشي وصهيبا الرومي، وستضم مستقبلاً سلمان الفارسي، وسيدخل بعد ذلك كل العرقيات من فرس ورومان وسلاجقة وأتراك وأكراد وغيرهم، لا فَرْقَ بَيْنَ عَرَبِيٍّ وَلا عَجَمِيٍّ إِلا بِالتَّقْوَى.



لم يكن هناك فرق بين الرجل والمرأة.



وهنا وقفة في غاية الأهمية، فإلى الذين يتكلمون عن الإسلام وظلمه للمرأة، عليهم مراجعة التاريخ وقوانين الإسلام مرة أخرى.



تخيل الانقلاب الذي أحدثه الإسلام في حياة أهل مكة، تخيل مدى التحول الرهيب الذي أحدثه الإسلام في أهل مكة، تخيل كيف نقل الإسلام في يوم وليلة أهل مكة من رجال يستحقرون النساء ويستقلون شأنهم ويهمشون أدوارهم ولا يعطونهم شيئًا من الميراث، بل يرث الرجل زوجة أبيه إذا مات، ومن رجال يئدون بناتهم ويحزنون لولادتهم، تخيل التحول من هذه الحال إلى الوضع الجديد الذي تُدْعى فيه نساء مكة إلى الإسلام كما يُدعى الرجال، حتى يصبح ربع الرعيل الأول من النساء.



تخيل أن في هذه المرحلة الحرجة من الدعوة، وفي ظل هذا التكتم الشامل والسرية التامة يعظم الرسول جدًّا من قيمة النساء ومن قيمة عقولهن، ويثق في إدراكهن لخطورة الموقف، ويعلم عن يقين احتياج الدعوة لهن، ليقفن عونًا لأزواجهن المسلمين، وليربين أبناءهن على الإسلام، وليقمن الدعوة في أوساط النساء، وليتحركن بالدين كما يتحرك الرجال.



كل هذا الانقلاب والتحول في يوم وليلة.



الفارق بين حياة الجاهلية بقوانينها الظالمة وأحكامها الجائرة، وبين العدل المطلق الذي جاء به الإسلام كان مجرد لحظات.



نزل الأمر الإلهي {قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدَّثر: 2]، فقام الرسول لينذر الرجال والنساء، قام ليحكم الأرض بقانون السماء. وصدق الرسول إذ يقول: "إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ".



كذلك لم يكن هناك فرق بين قبيلة وأخرى.



وهذا أيضًا مستغرب جدًّا في هذا المجتمع القبلي، الذي طالما دارت فيه الحروب بين القبائل على أتفه الأسباب. فبعد الإسلام إذا بالرجال من القبائل المختلفة يجتمعون معًا، ويضع بعضهم يده في يد الآخر، ويؤلف الله بين قلوبهم حتى يحاربوا غيرهم، وإن كانوا من نفس قبائلهم، وحتى يصبح الأنصاري أقرب إلى قلب مصعب بن عمير من أخيه الذي هو من أمه وأبيه.



رأينا في الرعيل الأول مسلمين من بني هاشم وآخرين من بني مخزوم على العداوة المشهور بينهما. رأينا مسلمين من كل بطون قريش، من بني تيم وبني سهم وبني أسد وبني الحارث.



الدعوة الإسلامية كانت إعلانًا لحقوق الإنسان أعظم ألف مرة من الإعلان الذي جاء بعد ذلك بثلاثة عشر قرنًا من الزمان.



كان هذا إعلانًا من رب العالمين، أن الناس سواسية كأسنان المشط، بدأ الرسول بهذا الإعلان، وأنهى حياته في خطبة الوداع بنفس الإعلان.



كل هذا العدد، وكل هذا العمل، وكل هذه الدعوة في سرية تامة، واستمرت هذه السرية لمعظم الأفراد حتى بعد الإعلان النبوي الذي سيحدث بعد ثلاث سنوات من البعثة عندما يقف فوق جبل الصفا.



وكان رسول الله حريصًا كل الحرص على الحفاظ على كل واحد من أفراد جماعته المؤمنة، سواء كان عبدًا أو كان حرًّا، سواء كان قرشيًّا أو غير قرشي، وسواء كان من قدماء الصحابة أو حديثي الإسلام.



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة مكة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة مكة - صفحة 2 Empty التربية الأمنية في حياة رسول الله

مُساهمة من طرف Admin الأحد أغسطس 15, 2010 2:41 pm

قصة إسلام عمرو بن عبسة

تأتي روايات قيمة تبين لنا الحذر النبوي، وكيف تأثر الصحابة بمنهجية رسول الله في التربية الأمنيّة لأصحابه:



محمد رسول الله صلي الله عليه وسلمسمع عمرو بن عبسة بأمر رسول الله ، وعمرو بن عبسة من قبيلة أسلم، وهو ليس من أهل مكة، وكونه سمع بأمر الرسول من بعيد فهذا يدل على أن سماع عمرو بن عبسة بأمر رسول الله كان متأخرًا، بعد إعلان رسول الله لأمر الدعوة. يقول عمرو بن عبسة : "فقعدت على راحلتي، فقدمت عليه، فإذا رسول الله مستخفيًا" (أي أن الرسول لم يكن يُعلِّم أصحابه علانية، بل يستخفي في تربيتهم، ولكنه لم يكن يستخفي بدعوته للعامة، بل كان يحدثهم في بيت الله الحرام، هذا طبعًا بعد إعلان الرسول للدعوة). يقول عمرو بن عبسة يصف حال الرسول : "جُرَآءُ عَلَيْهِ قَوْمُهُ".



وهذا دليل أيضًا على أنه بعد الإعلان؛ لأن قريشًا لم تكن تؤذي الرسول قبل إعلان دعوته.



يقول عمرو بن عبسة: "فتلطفت (توجهت إليه سرًّا) حتى دخلت عليه مكة، فقلت له: ما أنت؟ قال: أَنَا نَبِيٌّ. فقلت: وما نبي؟ قال: أَرْسَلَنِي اللَّهُ.



فقلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: أَرْسَلَنِي بِصِلَةِ الأَرْحَامِ، وَكَسْرِ الأَوْثَانِ، وَأَنْ يُوَحَّدُ اللَّهَ لاَ يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ. قلت له: فمن معك على هذا؟ (وكان مع النبي في ذلك الوقت أكثر من ستين صحابيًّا) فقال: حُرٌّ وَعَبْدٌ. يقول عمرو بن عبسة: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن به. (أراد رسول الله أن يأخذ بالحيطة والحذر، فلا يخبر عن بقية أصحابه إلى أن يستوثق من أمر عمرو بن عبسة، وخاصة أن عَمْرًا ليس من مكة، وتاريخه مجهول بالنسبة للرسول ، لكن من المؤكد في هذه المرحلة من الدعوة أن الرسول كان معه عدد كبير من الصحابة جاوز الستين، ومن المؤكد أيضًا أن هناك الكثير قد أسلم قبل بلال، لكنه آثر التكتم والحذر، مع أنه لو أخبر عمرًا أن معه عددًا كبيرًا فقد يكون هذا دافعًا له للإيمان، ولكن الاحتياطات الأمنية عند رسول الله تسبق كثرة الأنصار والأتباع).



ومع أنه قال له: معي حر وعبد، إلا أن الله ألقى الإسلام في قلب عمرو بن عبسة فقال: إني متبعك (يقصد أنه سيبقى معه في مكة ويتبعه على الإسلام). لكن رسول الله الفقيه بأمور المرحلة الحساسة التي تمر بها الدعوة قال له: "إِنَّكَ لا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ يَوْمَكَ هَذَا، أَلاَ تَرَى حَالِي وَحَالَ النَّاسَ، وَلَكِنِ ارْجِعْ إلى أَهْلِكَ، فَإِذَا سَمِعْتَ بِي قَدْ ظَهَرْتُ فَأْتِنِي".



الكعبة المشرفةإنه فقه عالٍ جدًّا، كان من الممكن أن يفرح الرسول بإسلامه، ويضمه إلى جماعته، ولكن عمرو بن عبسة ليس من مكة، وسوف يُضْطهد أشد الاضطهاد، ولا يدافع عنه أحد، فهنا يضحي رسول الله بالنصرة التي ستأتي من وراء عمرو ببقائه، ويضحي أيضًا بالعلم الذي قد يحصله عمرو ببقائه في مكة نظير أن يُؤَمِّن حياة عمرو، ويحفظه لمرحلة قادمة قد تكون الدعوة أحوج إليه.



كما أن عَمْرًا عندما يذهب إلى قبيلته أسلم، فإنه -ولا شك- سيحدّث أهله وأحبابه هناك بأمر الإسلام، وسيأتي بأقوام كان من الصعب على رسول الله أن يصل إليهم في هذه المرحلة، فهذا أدعى إلى انتشار الإسلام في وقت أسرع.



كل هذه التدابير لا تنافي مطلقًا إيمان رسول الله التام بالقدر، وأن ما أصابه ما كان ليخطئه، وما أخطأه ما كان ليصيبه، ولكنه يأخذ بالأسباب، ويعلمنا كيف نأخذ بالأسباب في كل مرحلة من مراحل الدعوة، وقد عاد فعلاً عمرو بن عبسة إلى قومه، إلى قبيلة أسلم، وكان له دور كبير في إسلام أفرادها، وأتى إلى رسول الله في المدينة عندما ظهر أمر رسول الله هناك، فانظر إلى عمرو بن عبسة كيف حول نقطة الضعف عنده -وهي أنه ليس مجيرًا أو نصيرًا في مكة- إلى نقطة قوة للدعوة، فعمل في مكان آخر حتى حان وقت الالتقاء برسول الله في المدينة، وهكذا الداعية الصادق لا يعرف الفتور ولا السكون ولا الراحة.


قصة إسلام أبي ذر الغفاري

وشبيه بقصة عمرو بن عبسة ما حدث مع أبي ذر الغفاري .



وأبو ذر هو جندب بن جنادة من قبيلة غفار، وهي قبيلة أيضًا خارج مكة، وأيضًا هو رجل غير معروف بمكة ومن ثَمَّ فلا يُؤْمن جانبه، ولا يمكن كشف أوراق المسلمين كلها أمامه، وفوق ذلك فهو من قبيلة اشتهرت بقطع الطريق فوضعه من الخطورة بمكان.



سمع أبو ذر بأمر رسول الله فجاء إلى مكة يسأل عن رسول الله ، وجلس فترة في بيت الله الحرام ينتظر الفرصة ليقابل رسول الله ، وكان واضحًا أن الرسول لا يجلس مع أصحابه علنًا وإلا ذهب إليه مباشرة، فجلس أبو ذر ينتظر.



كان علي بن أبي طالب قد أصبح شابًّا، مما يدل على أن هذه الرواية كانت بعد البعثة بست أو سبع سنين على الأقل، ولكن كانت التربية ما زالت سرية، فعندما رأى علي بن أبي طالب أبا ذر الغفاري علم أنه غريب، وقد شك علي بن أبي طالب في أمر الرجل، أتراه جاء يسأل عن الإسلام، أم هو عين على رسول الله وأصحابه؟



في البداية لم يسأله عليٌّ عن شيء، وإنما مر عليه فقط دون كلام، وهكذا مرَّ اليوم الأول والثاني، وفي اليوم الثالث ذهب إليه وكلمه قائلاً له: ألم يجد الرجل حاجته بعد؟ ثم أخذه معه إلى بيته وضيفه وعاد به إلى الحرم، دون أن يسأله عن شيء، علي بن أبي طالب يأخذ جانب الحذر لكن يريد أن يعطي أبا ذر الأمان حتى يتكلم بحرية، وأحس أبو ذر بالأمان ناحية علي بن أبي طالب، فسأله عن رسول الله ، وأحس علي بن أبي طالب بالصدق في لهجة أبي ذر، فقرر أن يأخذه إلى رسول الله ، ولكنه أراد ألا يراهم أحد حتى لا يتم تتبعهم، ويُعرف مكان رسول الله الذي سيجتمع فيه مع أبي ذر، فتأتي قريش وتفسد اللقاء، أو تعرف بإسلام أبي ذر وتؤذيه، والرجل ليس من أهل مكة، فأخذه علي بن أبي طالب في خفية وحذر، ولم يمش إلى جانبه، بل سار أمامه وجعل أبا ذر يتبعه من بعيد، ثم قال له كلمة توضح حذره واحتياطه.



قال علي: "إن رأيتُ شيئًا أخاف عليك، قمت كأني أريق الماء" (أي أتبول). وفي رواية: "كأني أصلح نعلي".



فلو رأى أبو ذر ذلك فليمض في طريقه ولا يتبع عليًّا؛ لأن الظروف لن تكون مواتية. وسار بالفعل علي بن أبي طالب ، وسار خلفه أبو ذر حتى ذهبوا إلى رسول الله ، أين ذهب علي بأبي ذر؟ لقد ذهب به إلى مقابلة رسول الله في البيت الحرام أثناء الطواف ليلاً، لم يذهب به إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم فهو لم يطمئن إليه بعدُ، وفي الوقت ذاته فإن اللقاء في الليل يقلل من فرصة اكتشاف الموعد.



وعندما قابل رسول الله أبا ذر سأله أولاً: مِنْ أَيْنَ؟ فقال أبو ذر: من غفار. فهنا شعر الرسول بالقلق، فغفار قبيلة قطاع طرق، وقد يكون أمر أبي ذر غير مأمون، وبلغ القلق برسول الله أن وضع يده على وجهه، حتى قال أبو ذر: فقلت في نفسي: كره أن انتميت إلى غفار. لكن على كل حال، بَلَّغه الرسول الدعوة وعلمه الإسلام، فهو لم يكن يترك أحدًا أبدًا دون دعوة، وسبحان الله! أسلم أبو ذر ليتحول مجرى حياته مائة وثمانين درجة، وليصبح بدلاً من الرجل المجهول المنتمي إلى قبيلة قطاع الطرق، يصبح الرجل الصحابي الجليل أبا ذر الغفاري .



وهنا أمره رسول الله كما أمر بذلك عمرو بن عبسة بالتكتم والتخفي، لكن في اليوم الثاني، ومن شدة فرح أبي ذر بالدين الجديد، ومن شدة حماسته لنشره، وقف في وسط البيت الحرام يعلن إسلامه ويدعو الناس إليه، وهذا عكس ما أراد الرسول لأنه ليس وقت المواجهة، وأبو ذر رجل وحيد، وخسارته لن تقدم الدعوة، ولن تصيب الكافرين، وحدث ما كان يخشاه رسول الله واجتمع أهل مكة على أبي ذر يضربونه، حتى أخبرهم أحد الرجال أنه من قبيلة غفار، وأنهم لو علموا بضربه في مكة فسيقطعون الطريق على قوافل قريش، فعندها كف القوم عن ضربه.



عاد أبو ذر إلى قبيلته كما أمره الرسول ودعا فيها بدعوة الإسلام وكانت دعوته شاقة جدًّا، فهو يدعو في مجموعة من اللصوص وقطاع الطريق، ولكن الله شاء لهم الهداية، وشاء له التوفيق، فآمنت نصف غفار وجاء بها أبو ذر إلى المدينة بعد الهجرة، وسُرّ بها رسول الله سرورًا عظيمًا حتى قال : "غِفَارٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا".


التربية الأمنية في دار الأرقم بن أبي الأرقم

من مظاهر السرية العجيبة في ذلك الوقت أيضًا اجتماع الرسول والصحابة في دار الأرقم بن أبي الأرقم ثلاث عشرة سنة دون أن يكتشف أمرهم.



مكة بلد صغير، وصغير جدًّا، وأهلها جميعًا يعرف بعضهم بعضًا، فكيف يأخذ المسلمون الحذر حتى لا يعرف أحدٌ مكانهم بهذه الصورة العجيبة، إنه حقًّا أمر يدعو إلى الدهشة، فلم نسمع عن مداهمة واحدة من كفار قريش للمسلمين في دار الأرقم.



ولعل سائلاً يسأل: لماذا دار الأرقم بن أبي الأرقم بالذات؟ لماذا لم يجتمعوا في بيت رسول الله أو في بيت أحد الصحابة الآخرين؟



إن التفكر في هذا الأمر يوضح لنا مدى الفقه الأمني عند رسول الله ، ومدى الوعي والفهم العميق لظروف المكان الذي يمارس فيه الرسول دعوته.



أولاً: الأرقم لم يكن معروفًا بإسلامه، فلن تتم مراقبة بيته من قريش، أما الرسول أو الصحابة الذين اكتشف أمرهم فلا تصلح بيوتهم لهذا الأمر.



ثانيًا: الأرقم من بني مخزوم، وهي القبيلة المتنازعة دائمًا مع بني هاشم، فرسول الله وكأنه يجتمع في عقر دار العدو، ولن يخطر ذلك أبدًا على أذهان زعماء أهل مكة.



ثالثًا: الأرقم كان بيته بعيدًا عند الصفا، لم يكن في قلب المدينة، ولم يكن هناك كثير من المارة في هذه المنطقة. ولم يكن هناك بيوت كثيرة حول بيت الأرقم يمكن أن يستخدمها أهل قريش للمراقبة.



رابعًا: الأرقم كان يبلغ من العمر ستة عشر عامًا فقط -الصف الأول أو الثاني من المرحلة الثانوية- فهو شاب صغير ولن يشك فيه أهل مكة، قد يعتقد أهل مكة أن الرسول سيعقد اجتماعاته في بيت رجل من كبار صحابته، في بيت أبي بكر الصديق، أو في بيت عثمان بن عفان، أو في بيت عبد الرحمن بن عوف، ولم يكن يدور بخلدهم أن تكون تلك الاجتماعات الخطيرة في بيت هذا الشاب الصغير، هذا احتمال بعيد جدًّا عن أذهان أهل قريش.



وسبحان الله! الإنسان يتعجب من قوة بأس الأرقم الذي أخذ على عاتقه هذه المهمة الخطيرة للغاية، أن يجعل من بيته مقرًّا لاجتماعات الرسول وأصحابه، مع العلم أنه لو اكتشف أمره فقد تكون نهايته، وبالذات أن زعيم بني مخزوم (قبيلة الأرقم) هو أبو جهل -لعنه الله- فرعون الأمة، وأعتى أهل قريش على المسلمين، فرضي الله عنك يا أرقم، وجزاك عن الإسلام والمسلمين خيرًا.



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة مكة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة مكة - صفحة 2 Empty تربية الصحابة في دار الأرقم بن أبي الأرقم

مُساهمة من طرف Admin الأحد أغسطس 15, 2010 2:42 pm

منهج التربية في دار الأرقم

من أبلغ النماذج الدالة على مدى الحذر الأمني والتربية الأمنية التي كان رسول الله يتبعها مع أصحابه في هذه المرحلة الحرجة من الدعوة، هو تربيته للصحابة الأوائل في دار الأرقم بن أبي الأرقم.



وهنا سؤال من الأهمية بمكان ألا وهو: ما المنهج الذي كان رسول الله يربِّي عليه أصحابه في هذه الفترة في دار الأرقم؟



أولاً: كان هذا المنهج صافيًا جدًّا، المصدر الوحيد للتلقي هو القرآن والحديث الشريف لرسول الله ، وبذلك يكون التأسيس متينًا سليمًا نظيفًا صالحًا، لا اضطراب فيه ولا غموض.



ثانيًا: كان المنهج بسيطًا جدًّا، لم تكن هناك تفريعات كثيرة ولا شرائع متعددة.


المنهج النظري

فالمنهج النظري كان يشتمل في الأساس على ثلاثة أمور:


التربية بالعقيدة

الله نور السموات والأرضأي بناء العقيدة الصحيحة والاهتمام بالجانب الروحي وتعميق البعد الإيماني، فلا بد أن يعرف المؤمنون في هذه المرحلة ربهم جيدًا، لا بد أن يعرفوا رسولهم، لا بد أن يعرفوا كتابهم، ولا بد أن يعرفوا اليوم الآخر بتفصيلاته.



وهذه قواعد أساسية لبناء قاعدة صلبة.



نزلت السور التي تتحدث عن صفات الله وقدرته وعظمته وجبروته ورحمته وتتحدث عن كونه وخلقه وإعجازه، الكثير من السور تناول هذا المجال مثل سورة الأنعام، ونزلت السور التي تتحدث عن يوم القيامة بتفصيلاته، مثل سور التكوير والانفطار والانشقاق والقارعة والحاقة والقيامة وق وغيرها، ونزلت السور التي تتحدث عن الجنة والنار مثل الواقعة والدخان والنبأ والرحمن.


التربية بالأخلاق الحميدة

أي تعميق القيم الأخلاقية في المجتمع المسلم، وتزكية النفوس، وتطهير القلوب من المعاصي والآثام، وتعظيم مكارم الأخلاق وربطها دائمًا برضا الله وبالجنة.



فخرج المسلمون من هذه المرحلة وهم يعظمون الصدق والأمانة والكرم والعدل والمروءة والرحمة والعفة وطهارة اللسان والعين والأذن وكل الجوارح.



وهذه أمور لا تصلح أمة بغيرها، حتى قصر رسول الله دعوته عليها فقال: "إِنَّمَا بُعْثِتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ".


التربية بالتاريخ

أي قصص السابقين من الصالحين والفاسدين، قصص الأنبياء وماذا فعل معهم أقوامهم، وماذا كان رد فعل المؤمنين، وكيف كانت النتيجة في النهاية.



أمر في غاية الأهمية في هذه المرحلة؛ لأن لله سننًا لا تتبدل ولا تتغير، نراها في القديم ونراها في الحديث وستكرر في المستقبل، فدراسة التاريخ تجعلك وكأنك ترى المستقبل، وهي نعمة كبيرة لأهل الدعوة، لذلك نجد أن هذه الفترة، أو الفترة المكيّة عمومًا قد حفلت بالسور المليئة بالقصص مثل الأعراف والشعراء وهود والقصص وسبأ والنمل وغافر وغيرها. وهو درس لا ينسى لمن أراد أن يبني الأمة بناءً راسخًا.



كان هذا هو الجانب النظري من المنهج النبويّ في تربية الصحابة.


المنهج العملي

أما المنهج العملي فكان يشتمل أيضًا -في رأيي- على ثلاثة أمور رئيسية ومعها أمور أخرى:


التربية بالصلاة

الصلاة في دين ربنا سبحانهفالصلاة: هي عمود الدين ومن أقامها فقد أقام الدين ومن هدمها فقد هدم الدين، ومن أوائل أيام الدعوة، والصلاة مفروضة على المسلمين، ولكنها كانت ركعتين قبل الشروق وركعتين قبل الغروب، ولم يتم فرض الخمس صلوات إلا في حادث الإسراء والمعراج في أواخر الفترة المكية.


التربية بقيام الليل

فقيام الليل هو أمر مهم جدًّا في بناء الداعية الصادق، والمسلم المخلص، لدرجة أن الله فرضه على المؤمنين عامًا كاملاً متصلاً، حتى تفطرت أقدامهم، ثم جعله الله بعد ذلك نافلة، وهؤلاء الذين أسلموا في العام الأول هم الذين حملوا الدعوة تمامًا على أكتافهم، فمدرسة الليل من أعظم المدارس الإيمانية، وأولئك الذين حملوا الدعوة بعد هذا العام ما كانوا يتركون القيام أبدًا مع أنه قد أصبح نافلة.


التربية بالدعوة إلى الله

فالدعوة إلى الله كانت مهمة جدًّا للتعريف بهذا الدين ولضم أفراد جدد، وكانت مهمة الدعوة ملقاة على عاتق كل المؤمنين، كُلٌّ بحسب الدوائر التي يستطيع أن يصل إليها، وكانوا بالطبع يبدءون بأهلهم، فمعظم المتزوجين جاءوا بزوجاتهم، وبذلك تم بناء الكثير من الأسر المسلمة في أول أيام الدعوة، وكان لهذا الأمر أعظم الأثر في استمرار المسيرة بثبات.



هل استطاعت قريش أن تكتشف أمر الدعوة في تلك الفترة؟



الواقع أنه مع كل الحذر والاحتياط إلا أن قريشًا اكتشفت الأمر، فشاهدت بعض المسلمين يصلون صلاة لم يعتادوها، فعرفت أنهم على دين جديد، شاهد رجل كان يجلس مع العباس عم الرسول -وكان العباس مشركًا في ذلك الوقت- شاهد رسول الله يصلي هو وزوجته السيدة خديجة رضي الله عنها، فسأله عن ذلك، فقال العباس: إنه يزعم أنه يأتيه الوحي من السماء.



وكذلك شاهد أبو طالب ابنه عليًّا ورسول الله يصليان، ولا شك أن هناك بعض القبائل قد شاهدت أبناءها وهم يصلون أو يقرءون القرآن الكريم، ولكن سبحان الله! مع كل هذه المشاهدات، ومع كل هذا الإدراك لأمر الإسلام لم تعترض قريش بالمرة في هذه المرحلة، بل لم تُعِرْهُ أي اهتمام، والمرء قد يتعجب لذلك عندما يرى حال قريش بعد ذلك عند إعلان الدعوة، لكن هذا الشيء طبيعي تمامًا، فقريش لا مانع عندها من أن يعبد كل إنسان ربه الذي يريد في بيته، وكانت قريش ترى رجالاً قبل ذلك على هذا المنهج فلا تهتم بهم أمثال أمية بن أبي الصلت وزيد بن عمرو بن نفيل وكانوا من الحنيفيين، أو ورقة بن نوفل وكان نصرانيًّا.



لكن أن يجاهر الدعاة بدعوتهم ويدعون إلى تسفيه الأصنام والقوانين الوضعية التي وضعها أهل مكة وبدلوا كلام الله بها، فهذا ما لا تريده قريش. إن مبدأ قريش الواضح كان "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، أما أن يأتي دين يتدخل في كل صغيرة وكبيرة في منظومة الأرض، وفي حياة الإنسان والمجتمع فهذا ما ترفضه قريش بالكُلِّيَّة.



إذن في هذه المرحلة ترك القرشيون المسلمين دون تعليق، ولكن في المرحلة القادمة، وبعد ثلاث سنوات من الدعوة السرية، سيجهر رسول الله بدعوته في وسط مكة، ويعلن توحيده لله رب العالمين، ونبذه للأصنام والأوثان.



تُرى، ما الذي سيفعله رسول الله ؟ وما ردُّ فعل أهل مكة؟ وكيف سيحاربون الدعوة؟ وما ردُّ فعل المؤمنين؟



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة مكة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة مكة - صفحة 2 Empty موقف أهل مكة من الإسلام

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:16 am

موقف أهل مكة من الإسلام

موقف أهل مكة من الإسلام

الدعوة إلى الله تعالىبعد أن صدع رسول الله بالأمر الإلهي حدث انفجار في مكة، فهذه مشاعر الغضب والاستنكار والرفض للدعوة، وهذه اجتماعات وتخطيطات ومكائد ومؤامرات، قامت الدنيا ولم تقعد، إنها -ولا شك- الحرب، ولا هوادة في الحرب.



وها هم المسلمون في مكة لم يعلنوا إسلامهم باستثناء رسول الله ، وها هو رسول الله لا أحد من البشر يدافع عنه غير عمه أبي طالب، وهو دفاع غير مشروط، ورسول الله يقبل بدفاعه مع كونه كافرا، لكنه في ذات الوقت ما فرط في كلمة واحدة من الدين، ما تنازل، وما بدل، وما غير.



كان هذا هو موقف الرسول وموقف عمه أبي طالب، وموقف مكة بصفة عامة، وقبل الحديث عن خطة مكة في القضاء على الدعوة الإسلامية نريد أن نبحث في موانع الإسلام عند أهل مكة، وبعبارة أخرى: لماذا لم يؤمن أهل مكة بدعوة رسول الله ؟



لماذا حاربوا الدعوة ولم ينصروها مع كون الرسول منهم؟ أم أنهم لم يدركوا الحق الذي جاء به رسول الله ؟!



وأعتقد أن الجواب على هذا السؤال الأخير هو: لا على الإطلاق؛ فعلى أقل تقدير كانت الرسالة واضحة جدًّا، إنما الصواب هو أنهم كانوا كما قال في كتابه الكريم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ} [النمل: 14].



فقد كان القرآن الكريم -ولا يزال- كلامًا معجزًا، وهؤلاء هم أهل اللغة والبلاغة والفصاحة، أي أنهم يعلمون جيدًا أن هذا ليس من عند البشر، وقد كانوا على يقين أن محمدًا رسول من عند الله، لكن أنفسهم لم تطب بهذا التصديق.



ومما يؤكد هذا الأمر أن أُبيّ بن خلف كان يقابل الرسول فيقول له: إني سأقتلك، فكان يرد عليه بقوله: "بَلْ أَنَا أَقْتُلُكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ". وبعد حين من الوقت خرج أُبيّ بن خلف لحرب رسول الله في موقعة أُحد، فكان أن أصابه بسهم سبَّب جرحًا طفيفًا في كتفه، فعاد أُبيّ إلى قومه يصرخ بأنه سيموت من هذا الجرح الطفيف، فكان الناس يقولون له: هوِّن عليك؛ إن هذا لأمر يسير. فكان يرد عليهم أُبيّ بقوله: إنه قال لي بمكة: أنا أقتلك، فوالله لو بصق عليّ لقتلني.



فأين كان عقلك يا أُبيّ؟! أين كان عقل الذين سمعوك ولا يزالون يقاتلون النبي ؟!



إذن فقد كان أهل مكة يوقنون أن هذا الذي جاء به هو الحق الذي لا ريب فيه، لكن السؤال هو: لماذا -إذن- كذبوا ولم يؤمنوا؟!


لماذا لم يؤمن أهل مكة ؟!
التقاليد والجبن والقبلية

في معرض الإجابة على هذا السؤال السابق فقد تعددت موانع الإسلام عند أهل مكة، فكان منهم من منعته التقاليد كأبي طالب، وكان منهم من منعه الجبن كأبي لهب كما ذكرنا، وكان منهم من منعته القبلية.



وكان أكثر مَن جسد القبلية أبو جهل، وكان من بني مخزوم، فكان يقول: "تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطْعَموا فأطعمنا وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الرُّكب وكنا كفرسي رهان، قالوا: لنا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدًا، ولا نصدقه".



ذلك التعصب وتلك القبلية أو القومية هي من شيم وصفات الجاهلية، وأعداء الإسلام ما فتئوا يستغلون هذا المدخل، ويشعلون تلك النعرة منذ القديم وإلى الآن وإلى يوم القيامة.



فالعامل الذي أسقط به اليهود والإنجليز الدولة العثمانية هو إشعال تلك النعرة، وتفريق المسلمين إلى عرب وأتراك، ومثله الذي دخل به الفرنسيون الجزائر أيضًا كان تفريق المسلمين إلى عرب وبربر، وهو العامل أيضًا الذي فرّق به شاس بن قيس اليهودي بين الأنصار حين أشعل العنصرية في قبيلتي الأوس والخزرج، وهذه كلها من شيم الجاهلية.


الكِبْر

كان من الناس أيضًا من منعه الكبر من الدخول تحت راية الإسلام، وما أكثر الذين امتنعوا عن طريق الحق بسبب الكبر، تلك الصفة التي ظهرت مع بداية قصة الخلق، ومنذ آدم ، يقول تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ} [البقرة: 34]. فاقتضى كبر إبليس هذا كفره وطرده من الجنة وإبعاده عن رحمة الله تعالى.



والكبر كما عَرّفه رسول الله هو: "بَطَرُ الْحَقِّ (أي معرفة الحق ثم إنكاره)، وغَمْطُ النَّاسِ" أي احتقارهم.



وقد جسد القرآن الكريم هذه الصفة في نفوس أهل مكة حين حكى عنهم I قولهم: {وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزُّخرف: 31]. يقصدون الوليد بن المغيرة في قرية مكة، وعروة بن مسعود الثقفي في قرية الطائف.



فكانوا يقولون: لو نزل هذا الأمر على رجل عظيم كمن في هاتين القريتين لكنا آمنا بهذا الدين، والرسول -لا شك- أعظم الخلق، لكنهم كانوا يقيسون العظمة بكثرة الأموال لا بقيم الأخلاق والدين وشرف العقيدة.



وفي آثار وسلبيات هذه الصفة فقد وضح الله أن من يتصف بها فإنه من الصعوبة بمكان أن يتبع الحق، قال الله : {سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146].


الخوف على السيادة والحكم

كان هذا الأمر أيضًا من الأسباب التي منعت بعضًا من قريش من الدخول في الإسلام، فقد كانوا يظنون أن الإسلام يسلبهم السيادة والحكم في أقوامهم.



فإن رسول الله جاء ليُحكّم شرع الله في أمور العباد، وهو ناقل عن رب العزة، ومن ثم فسيسحب البساط من تحت أقدام الزعماء كأبي سفيان وغيره إن انتشر دين الإسلام بمكة، فكان الخوف على الحكم مُعوِّقًا ضخمًا للانخراط في الدعوات الصالحة.


الخوف على المصالح المالية

كذلك كان هناك من يخاف على مصالحه المالية، فهو في الواقع مستفيد من الوضع الحالي لمكة بحالتها الكافرة الاشتراكية.



فمكة بلد آمن، وهي محط أنظار أهل الجزيرة العربية، والتجارة فيها على أشد ما تكون، ولو حارب العرب محمدًا لتحول البلد الآمن إلى مثلث فتن وحروب، وهو مما لا يساعد على الربح أو التجارة، كما أن المشركين الذين يمثلون غالبية أو كل سكان الجزيرة العربية قد يرفضون القدوم إلى مكة بعد إسلامها، بل وقد يحاصرون مكة اقتصاديا إذا آمنوا هم.



ثم ماذا لو آمن واحد من كبار التجار خارج مكة؟ ألن يمنع عن مكة الطعام والتجارة؟ وإن مثل هذا ليس ببعيد؛ فقد حدث ذلك بالفعل بعد سنوات حينما أسلم ثمامة بن أثال ملك اليمامة، وكان أن منع الطعام عن مكة، فتأذت بسبب ذلك أذى كثيرًا.



إذن كان الخوف على المصالح المالية والشخصية والمصالح التجارية، سببًا رئيسيًّا لعدم قبول بعض المشركين بفكرة الإسلام.


الخوف على الشهوات والملذات

ومثل سابقه فقد كان هناك أيضًا من أهل مكة من يخاف على شهواته وملذاته من أن تُجرّم أفعالها، أو يقضى عليها.



فالإسلام دعوة إصلاحية تدعو إلى الفضيلة ومكارم الأخلاق والبعد عن المعاصي والذنوب، وأهل الباطل لا يريدون قيودًا أو حواجز بينهم وما تهفو نفوسهم إليه، ومن ثَمَّ فإن الدعوات التي تمنع الزنا والإباحية والظلم والفساد لا بد أن تحارب، وعلى قدر انغماس الرجل في شهواته وملذاته على قدر ما يكون حربه للإسلام.


الغباء وانغلاق الفكر

وقف الغباء أيضًا وعدم إعمال الفكر والعقل حاجزًا وسدًّا منيعًا لدى البعض من أهل مكة من أن يدخلوا في الإسلام.



فقد اعتاد مثل هؤلاء الاعتقاد بأن الآلهة متعددة، فحين يأتي رجل بعد ذلك ليخبرهم أن الله واحد لا شريك له، تحجرت قلوبهم وعقولهم لقبول هذا الأمر الجديد، بل وقالوا: {أَجَعَلَ الآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5].



لكن العجيب حقًّا هو أن يعتقد إنسان -أي إنسان- أن في الكون أكثر من إله، يقول I: {مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91].



وقال أيضًا: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 22].



فكان من الغريب حقًّا أمر هؤلاء الكفار، فقد كانوا يسمعون الحق وكأنهم لا يسمعون، وكما حكى عنهم القرآن الكريم: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].



وقد وصل بهم الأمر إلى أن يناقضوا أنفسهم وعقولهم في قضية وحدانية الخالق ، يحكي حالهم I فيقول: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ * بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [المؤمنون: 84- 90].



فإذا كان الله هو المتصرف في كل شيء كما تعترفون، فلماذا تُحكّمون غيره؟! وهذه هي النقطة التي انغلقت عقولهم عن الإجابة عليها.



ومن هذه الفئة كان هناك في مكة من منعه غباؤه عن استيعاب فكرة أن الله يرسل رسولاً إلى البشر من البشر، ولم يدرك عقله الحكمة من وراء ذلك، يصور ذلك القرآن الكريم فيقول: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الهُدَى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَسُولاً} [الإسراء: 94]، وبمنطقهم ردَّ عليهم فقال: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولاً} [الإسراء: 95]. وقال أيضًا: {وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنْظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 8، 9].



كذلك كان هناك من الناس من منعه غباؤه أيضًا عن استيعاب فكرة البعث واليوم الآخر، ذلك الأمر الجديد الذي لم يخطر ببالهم، فقد كانوا يقيسون الأمور بأبعادها المحدودة المادية والملموسة، ولو أدركوا قدرة الله لعلموا أنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، يقول تعالى يحكي شأنهم: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [النحل: 38].



فقد جاء العاص بن وائل (وفي رواية: أبيّ بن خلف) إلى رسول الله وفي يده عظم رميم، وهو يفتته ويذروه في الهواء ثم يقول: يا محمد، أتزعم أن الله يبعث هذا؟ فقال رسول الله : "نَعَمْ، يُمِيتُكَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ يَبْعَثُكَ ثُمَّ يَحْشُرُكَ إِلَى النَّارِ".



ثم نزلت الآيات تخاطب العقول: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الخَلاَّقُ العَلِيمُ} [يس: 77- 81].



وهذه حقيقة؛ يقول تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [غافر: 57]. فالذي خلق السموات والأرض قادر على خلق الإنسان، ثم يكمل ذلك I مؤكدًا فيقول: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 82، 83].



بل إن من الناس من أهل مكة من كان شديد الغباء حتى اعترض على القرآن الكريم نفسه، والقرآن الكريم كلام الله لا يشبهه كلام البشر ولا يستطيعونه {لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصِّلت: 42].



وقد كان العرب في زمان رسول الله أعلم أهل الأرض باللغة، وأكثرهم إتقانًا لها، وقد كانوا يعلمون تمام العلم أن هذا النَّظْم وذاك التعبير ليس من مقدورهم، وليس في مقدور عموم البشر جميعًا، ولكن كان حالهم كما أخبر I: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].



فقد وصفوا القرآن بأنه شعر، وبأنه سحر وبأنه كهانة وغير ذلك من الصفات كذبًا وافتراءً.



ومن هنا فقد كانت هذه وغيرها موانع وقفت حائلاً أمام أهل مكة من أن يدخلوا في الدين الإسلامي العظيم، وهم لم يكتفوا بذلك، بل بدءوا يخططون ويدبرون للكيد لهذا الدين، وهي سنة ماضية إلى يوم القيامة، الحرب بين الحق والباطل {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89].



فالدعوات الإصلاحية الصحيحة لا بد أن تحارب، ولا بد أن يجتمع عليها أهل الباطل، قد تؤجل المعركة ولكن لا بد لها من حدوث، قد تأخذ صورًا مختلفة ولكن لا بد في النهاية من أن تقع.



ومن هنا فقد بدأ الكفار في الكيد لرسول الله ولمن معه من المسلمين، وقد سلكوا في ذلك السبيل نفسه الذي سلكه من قبلهم الكفار في صدر التاريخ، والذي يسلكه أمثالهم إلى يومنا هذا، والذي سيظل كذلك إلى يوم القيامة، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً} [الفتح: 23].



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة مكة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة مكة - صفحة 2 Empty محاولات كفار مكة لصد الدعوة الإسلامية (1- 2)

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:17 am

في محاولات جادة لإيقاف المد الإسلامي فقد بدأ كفار مكة يأخذون خطوات عملية ومتدرجة في سبيل ضمان وتحقيق نتائج حاسمة وسريعة، وهي -وسبحان الله- نفس الخطوات التي تتكرر في كل زمان لنفس الأغراض، يقول I: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 53].



وكانت المرحلة الأولى من مراحلهم في صد الدعوة الإسلامية ووقف المد الإسلامي هي مرحلة المحاولات السلمية، فعملوا على الآتي:


أولاً: تحييد موقف المساندين

تحييد جانب المساندين، وبمعنى آخر سلب رسول الله من كل قوة قد تسانده أو تعضد موقفه، كان هذا هو أول فعل لكفار قريش في محاولاتهم لإيقاف المد الإسلامي الزاحف، وكان الوحيد الذي أعلن نصرته لرسول هو أبو طالب، فذهبوا إليه وقالوا له: "إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا، فانهه عنا".



ورغم موقف أبي طالب الثابت من دفاعه عن رسول الله إلا أنه كان قد تأثر بعض الشيء بكلام كفار قريش له، فذهب إلى رسول الله وقال له: "إن بني عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانتهِ عن أذاهم".



وهنا رفع رسول الله بصره إلى السماء وقال: "تَرَوْنَ هَذِهِ الشَّمْسَ؟" قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: "فَمَا أَنَا بَأَقْدِرَ أَنْ أَدَعَ ذَلِكَ مِنْكُمْ عَلَى أَنْ تُشْعِلُوا مِنْهَا بِشُعْلَةٍ". فقال أبو طالب: والله ما كذب ابن أخي قط، فارجعوا راشدين.



وإن هذا ليبرهن على أن صلابة الداعية وثقته في الله وفي دينه، وتعظيمه لأمر الأمانة التي يحملها ليلقي بآثاره وظلاله على من حوله، تلك الصلابة التي ما تبرح تنتقل انتقالاً طبيعيًّا من الداعية إلى أتباعه وإلى أحبابه ومقربيه بعد ذلك، حتى لكأنها قد انتقلت إلى أبي طالب وهو لم يؤمن.



فقد كان أبو طالب منذ البداية مذبذبًا، لكنه حين رأى إصرار رسول الله وثباته على موقفه هذا جعله يرد أهل الكفر ويأبى إجابة طلبهم، رغم أنه لا يرجو جنة ولا يخاف نارًا، فكيف الحال إذن بالمؤمنين.



ثم إن هذه الصلابة من الداعية -ولا شك- تؤثر سلبًا على أعدائه، فالعدو المدجج بالسلاح صاحب القوة والسلطان والتمكين حينما يرى داعية صلبًا، مستمسكًا بمبادئه وإسلامه فإنه ما يلبث يتزلزل كيانه ويتضاءل حجمه وينكمش أمام الداعية مهما كان في هيئته الخارجية ممكّنًا، وكلما رأيت العدو الذي أمامك يكثر من الحراسة والتحصينات والجيوش فاعلم علم اليقين أنه يخافك أكثر مما تخافه؛ فلا تهتز.



ومن هنا فقد باءت المحاولة السلمية الأولى لكفار قريش في تحييد أو تخويف أبي طالب بالفشل، واستمر الرسول في دعوته.


ثانيًا: استغلال الإعلام

محاولة سلمية أخرى وهي متكررة على مر الزمان استغلها كفار قريش، وهي تعني استخدام إعلام ذلك العصر بكل أنواعه، وتطويعه لوقف المد الإسلامي في مكة، وبطريقة شبه منهجية، وقد استخدم كفار قريش تلك الوسيلة من خلال محاور عدة:


المحور الأول: تشويه صورة الداعية أمام الناس

وكان ذلك بمنزلة حرب إعلامية، كان قد قام عليها الوليد بن المغيرة وأبو لهب وغيرهم ممن هم على شاكلتهم، فقد كوّنوا تحالفًا مشتركًا من قبائل عدة يحدوهم هدف واحد، وهو حرب الإسلام، فهذا أبو لهب من بني هاشم، وذاك الوليد بن المغيرة من بني مخزوم، على ما كان بينهما من عداء ظاهر.



وفي مؤتمر كان قد ضمّ معظم الفصائل المكية، كان واضحًا أن الوليد بن المغيرة هو الذي يتزعمه؛ حيث قال: "يا معشر قريش، إنه قد حضر الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيًا واحدًا، ولا تختلفوا فيكذِّب بعضكم بعضًا، ويردّ قولكم بعضه بعضًا".

فقالوا: فأنت يا أبا عبد شمس، فقل وأقم لنا رأيًا نقول به.

فقال الوليد: بل أنتم قولوا، أسمعُ.

فقالوا: نقول كاهن.

فقال الوليد: ما هو بكاهن؛ لقد رأيت الكهان فما هو بزمزمة الكاهن وسجعه.

فقالوا: نقول مجنون.

فقال: ما هو بمجنون؛ لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو تخلقه ولا تخالجه ولا وسوسته.

فقالوا: نقول شاعر.

فقال: ما هو بشاعر؛ قد عرفنا الشعر برجزه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بشاعر.

قالوا: نقول ساحر.

فقال: ما هو بساحر؛ لقد رأينا السُّحّار وسحرهم فما هو بنفثه ولا عقده.



وسبحان الله! لم يستطيعوا أن يتبنوا قرارًا من الممكن أن يلقى قبولاً من الناس، على علمهم التام بافترائهم ما يقولون؛ إذ إن نظْمه أعجزهم أن يصفوه بما هو ليس أهل له، وكان الأولى لهم أن يعترفوا بإعجازه، وبنبوة الذي أنزل عليه ويتبعوه، ومن ثم تكون النجاة لهم في الدنيا والآخرة، ولكن انغلقت عقولهم وأفهامهم، وصاروا كمن ينفخ في رماد.



فظلوا على كبرهم وعنادهم وقالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟!



فقال الوليد بن المغيرة: "والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق (النخلة)، وإن فرعه لجناة (ما يُجنى من الثمر)، وما أنتم بقائلين من هذا شيئًا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول أن تقولوا: ساحر جاء بقول هو سحر، يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته".



فنزل فيه قول الله : {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ البَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدَّثر: 11- 26].



فمن سنن الله أن يقف الكافرون -وهم يعلمون أن هذا حق- يقفون ويحاربون الدعوة بكل طاقتهم، وإنهم -رغم هذا- لن يفلحوا في ذلك؛ لأن الله يحاربهم بنفسه.



فقد كانت الإمكانات الإعلامية لرسول الله أقل بكثير من إمكانات الكافرين، ومع ذلك كان أمر الدعوة يصل إلى الناس، وذلك لأنه كان يصدع بالحق، وشتان بين الحق والباطل، وهي رسالة إلى كل الدعاة: لا يحبطَنَّك سطوة إعلام المحاربين لدعوة الله {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} [الأنفال: 59].


المحور الثاني: تشويه الدعوة ذاتها

عن طريق الإعلام أيضًا استهدف كفار قريش تشويه دعوة الإسلام، وذلك عن طريق الطعن في أصل الرسالة، وإشاعة القول بأنه يدعو إلى خرافة ليست حقيقة، فإذا لم يكن هناك اعتراض على شخص الداعية فهناك اعتراض على ما يأتي به الداعية، فكان الإعلام في مكة يضرب تارة في شخص الرسول أو في شخص الداعية، وتارة أخرى يضرب في صلب الرسالة أو في الإسلام.



فوصفوا ما أتى به بقولهم: {إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} [الفرقان: 4]. وقالوا: {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان: 5].



مع كونهم يعلمون أنه أُمِّيٌّ لا يقرأ، ومع أنهم يعلمون سيرة حياته كلها، وأنه ما غادر مكة إلا قليلاً، وأنه في هذه المرات القلائل لم يكن يغادرها بمفرده، فكيف تعلم كل هذا العلم، وكيف أتى بهذا القرآن؟!



فقد وصف القرآن الكريم حالهم هذا بقوله I عنهم: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103].



وإضافة إلى ذلك أيضًا، فقد عملوا على تشويه فكرة التوحيد التي قد تلقي بأثرها على بعض العوام فقالوا: {أَجَعَلَ الآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5].



ومثل ذلك أيضًا عملوا على تشويه فكرة البعث {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي العَذَابِ وَالضَّلاَلِ البَعِيدِ} [سبأ: 7، 8].


المحور الثالث: تشويه الدعوة نفسها

كما قاموا أيضًا بتشويه أخلاقيات وطبائع هذا الدين، فأخذوا يشيعون عنه - على سبيل المثال - بأنه دين يفرق بين المرء وزوجه وبين المرء وأهله وهكذا، ولم يعلموا أنه ما جاء دين يجمع الناس ويوحد صفوفهم مثل دين الإسلام، دين يبغي توحيد الناس على أساس واحد متين، يستوي فيه أهل الأرض جميعًا وهو أساس العقيدة، وهذا ما كانت تأباه قريش.



وهكذا يفعل أهل الباطل دائمًا، يتهمون الإسلام في ذاته، وكما يشوهون صورة الداعية يشوهون صورة الدين، فنرى -مثلاً- من يلصقون به وبأتباعه تهمة الإرهاب وهو عنها بريء، وما جاء دين يدعو إلى الرحمة ونشر السلام كدين الإسلام.



كذلك يتهمونه بالجمود الفكري، وما جاء دين يدعو إلى التفكر وإعمال العقل كدين الإسلام، وأيضًا يتهمونه بالتخلف العقلي، وما جاء دين يدعو إلى التعلم والتفقه وعمارة الأرض كهذا الدين الخاتم.


المحور الرابع: إلهاء الناس بالباطل

وهو محور غير مباشر إلا أن تأثيره كبير جدًّا، وهو يعني شَغلَ الناس بالباطل وإلهاءَهم عن الحق بكل أشكاله.



فهم يعلمون أنه من الصعوبة على القلب المنشغل بالباطل أن يلتفت إلى دعوة إصلاحية أو إلى دعوة الحق، وأن غاية الصعوبة على الذي غرق في حياة اللهو والتفاهة والانحلال أن يهتم بدعوة جادة.



وهي خطة قديمة لأهل الباطل، فحواها أن يقدموا للناس فنونًا مختلفة من المُلهيات، فيعيشون فيها حتى لا يبقى لديهم وقت ولا عقل ولا قلب يدرسون فيه مثل هذا الدين.


محاولة النضر بن الحارث

ومن كفار قريش من التفت إلى هذه الحيلة الشيطانية، وتولى ما يسمى بالإعلام المضاد لدين الإسلام وهو النضر بن الحارث لعنه الله، فقد قام بإعلام مضاد وبصورة غير مباشرة، حيث إنه لم يطعن مباشرة في دين الإسلام، لكن فقط عمل على تقديم مشهيات وملهيات للناس تشغلهم في يومهم وليلهم ونومهم وسباتهم.



وقف النضر بن الحارث يحدث قريش عن خطته، فقال: "يا معشر قريش، والله لقد نزل بكم أمر ما أوتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلامًا حدثًا أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثًا وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب، وجاءكم بما جاءكم به قلتم: ساحر، لا والله ما هو بساحر. وقلتم: كاهن، لا والله ما هو بكاهن. وقلتم: شاعر، لا والله ما هو بشاعر. وقلتم: مجنون، لا والله ما هو بمجنون. يا معشر قريش، فانظروا في شأنكم؛ فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم".



وهي مشكلة كبيرة عادة ما يقع فيها الذين يصدون الناس عن الدعوات الإصلاحية وبالأخص عن الإسلام، فإن الدعاة إلى الله عادة ما يكونون على صورة طيبة تفوق بكثير صورة أهل الباطل، من صفات الصدق والأمانة وأدب المعاملة والمروءة وحسن المنطق، مما يجعل من الصعوبة بمكان أن يقبل الناس طعنًا في شخص الداعية، وقد يكون من الصعوبة أيضًا أن يقبلوا طعنًا في الرسالة، التي تتوافق مع فطرة الناس جميعًا، إذن فليكن الإلهاء عن الحق هو السبيل الذي لا فكاك منه ولا بديل عنه.



ومهما يكن من أمر، فقد قطع النضر بن الحارث لأكثر من أربعمائة وألف كيلو متر حيث الحيرة في العراق، وحيث البلاد الأجنبية التي يتعلم فيها فنًّا جديدًا على الناس، يستطيع به أن يلهي شعب مكة عما هم بصدده.



ذهب النضر بن الحارث إلى هناك، وبذل المال والوقت والجهد والفكر، للصد عن سبيل الله، ولنشر الإباحية والمجون {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: 36].



وفي الحيرة أخذ النضر بن الحارث يتعلم أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم واسفنديار، أخذ يتعلم أساطير فارسية، حكايات وروايات وقصص، تحمل كلها عوامل التشويق والإثارة وجذب الانتباه، وفيها تنشيط للشهوات وإباحية أحيانًا وغموض وتنطع أحيانًا أخرى، وصراع في أحيان ثالثة، ورومانسية في أحيان رابعة، وهزل وضحك أحيانًا خامسة، وهكذا فيها ما يوافق كل ذوق.



وإلى مكة عاد النضر بن الحارث بهذا التنوير وبهذا التطور وبهذه الحضارة الجديدة؛ بغرض أن يرفع الناس في مكة إلى مستوى حضارات الفرس كما يزعم، ثم بدأ في حربه ضد رسول الله .



فكان إذا جلس رسول الله مجلسًا جادًّا فيه الوقار وفيه ذكر الله وترغيب في جنته وترهيب من ناره، جلس على مقربة منه النضر بن الحارث يحدث بحديثه الهزلي، يمتّع الناس بروايته ويقول: "والله ما محمد بأحسن حديثًا مني".



وفي جهد يحسد عليه لم يكتفِ النضر بذلك، بل اشترى مطربات وراقصات، وكلما سمع أن رجلاً قد مال قلبه إلى الإسلام سلط عليه المطربات والراقصات يلهينه عن سماع دعوة الحق وداعي الإيمان، وكلما نشط رسول الله نشط النضر بن الحارث.



وقد نزل فيه وفي من على شاكلته قول الله : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان: 6، 7].



وهكذا ظل أهل الباطل يتواصون بهذا المنهج، وهو شَغل الناس باللهو والباطل، وبالأخص في مواسم الطاعة وفترات زيادة الإيمان، ولعلنا بذلك نفهم أحداثًا كانت قد خفيت على بعضنا.



نفهم مثلاً النشاط الإعلامي الرهيب الذي يتضخم في شهر رمضان المبارك، ذلك التكدس الضخم للأعمال الفنية الملهية عن أي شيء جاد في الحياة اليومية، والملهية عن الدين وغير الدين، حيث برامج حافلة على مدار الأربع والعشرين ساعة، وقنوات أرضية وفضائية لا حصر لها.



ثم يأتي التنوع غير المسبوق في المعروض، وتأتي العروض الأُوَل من الأفلام والمسلسلات والمسرحيات والأغاني (فيديو كليب)، والرياضة والفوازير والبرامج الضاحكة، كل هذا في شهر رمضان، شهر الصيام والقيام والقرآن والزكاة والصدقة، والذي من المفترض أن يكون هو أكثر شهور السنة جدية وطاعة وقربًا من الله .



فالطبيعي في هذا الشهر ألاّ يجد المؤمن وقتًا للأنواع المختلفة من العبادة والطاعة التي يريد أن يقوم بها، كما أنه من المفترض أن يكون قلب المؤمن فيه أكثر رقة واطمئنانًا وإيمانًا وقربة من الله تعالى، فالشياطين مصفدة، والمساجد ملأى، وأبواب البر والخير مفتوحة ومضاعف ثوابها، وأعوان الخير كثر.



ومهما يكن من أمر فإن مثل هذه الثروة الإيمانية في قلب المؤمن لفتت أنظار أهل الباطل، فتحركوا بنشاط أكبر وجهد مضاعف في هذا الشهر الكريم، وهو أمر لم يعد يخفى على عاقل، وعلى أهل الإيمان أن يحذروا، فخطة وحيلة النضر بن الحارث القديمة ما زالت تتجدد وترى النور بين المسلمين.


التشابه بين موقف اليهود وموقف النضر بن الحارث في العصر الحديث

وبموقف النضر بن الحارث نستطيع أن نتفهم ما فعله اليهود الآن في أرض فلسطين، فحينما شاهد اليهود تعاطفًا كبيرًا من الشعب مع الانتفاضة، وشاهدوا قربًا من الله تعالى، وشاهدوا عمليات استشهادية وإصرارًا على الجهاد، وشاهدوا دعاءً وتضرعًا وابتهالاً، عندما شاهدوا كل ذلك فكروا بعقل النضر بن الحارث، واستخدموا حيلته وطبقوا خطته، ولكن بطريقة عصرية.



فقد أذاعوا على كل المحطات في فلسطين أفلامًا إباحية جنسية مخلة، وذلك في كل فترات اليوم تقريبًا، ودونما اشتراك أو كلفة، فقد علموا أنه لو شُغل الشباب في هذا اللهو الباطل والحرام فلا شك أنهم سيبتعدون عن الله، وهم يعلمون أنهم لو ابتعدوا عن الله وعن نهج الإسلام فلا شك أنهم سيهزمون.



إذن فقد حارب النضر بن الحارث الإسلام بطريقة ما زالت تطبق إلى يومنا هذا، وستظل تطبق إلى يوم القيامة، وصدق الله العظيم إذ يقول: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 53].



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة مكة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة مكة - صفحة 2 Empty محاولات أهل مكة لصد الدعوة الإسلامية (2- 2)

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:17 am

استخدام الحرب النفسية

مكة المكرمة قديماكغيرها من الوسائل التي اتبعها الكفار في حرب الإسلام فقد شن كفار قريش حربًا نفسية على المسلمين حتى لا يشعروهم براحة أو يقر لهم قرار، وقد تمثلت هذه الحرب في أشكال ضغوط نفسية من قبل الأهل والأقارب على أبنائهم وذويهم حتى يتركوا الإسلام، فاجتمع أهل الكفر وأعلنوا في مكة أنه على كل أب وعلى كل أم وعلى كل شيخ قبيلة أن يتصدى لأبنائه وذويه ممن اتبعوا محمد بن عبد الله .



وذلك -كما يرون- من أجل مصلحة الابن الذي خرج عن دين الآباء، وأيضًا من أجل مصلحة الأب حتى يظل محتفظًا بمكانه في مكة، وقد كانت لهجة أهل السلطان في مكة تحمل تهديدًا خفيًّا وأحيانًا صريحًا.



وكان ممن حورب بذاك السلاح النفسي سعد بن أبي وقاص ، فقد حاولت أمه أن تثنيه عن الإيمان بكل طرق الترغيب والترهيب، ولكن محاولاتها باءت بالفشل.


تعذيب سعد بن أبي وقاص من أمه

فلجأت إلى وسيلة جديدة معتقدة أنه لن يجدي مع ذاك الابن الذي فارق دين الآباء غيرها، فأعلنت الإضراب عن الطعام والشراب حتى يرجع سعد عن دينه، حرب وضغط نفسي كبير على ذلك الشاب الذي لم يجاوز العشرين ربيعًا، ورغم ذلك فقد ثبت ، ووقف أمامها وقد أشرفت على الهلاك يقول لها في يقين وإصرار: تعلمين والله يا أُمَّهْ لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفسًا نفسًا، ما تركتُ ديني هذا لشيء، فكلي إن شئت أو لا تأكلي!



وأمام هذا الإصرار النابع من إرادة داخلية جادة، وليس فقط مجرد إعلان التحدي، أو مجرد رد فعل طبيعي أكلت الأم وبقي سعد مسلمًا.


تعذيب مصعب بن عمير من أمه

ومثل موقف سعد كان موقف مصعب بن عمير ، فقد استخدمت معه أمه هذا الضغط النفسي أيضًا في محاولة يائسة منها لتثنيه عن موقفه من الإيمان بالله ورسوله.



وكان مصعب من أنعم فتيان قريش، فقد كانت أمه ذات ثروة وغنى، وقد وفرت له من أسباب الرفاهية والتنعم في مكة ما لم يتوفر لغيره من الفتيان، فكانت تأتي له بالعطر من الشام، والملابس من اليمن.



وحين آمن منعت عنه كل ذلك، واضطرته إلى حياة الكد والتعب والخشونة، بل وطردته من بيتها معتقدة أن مثل هذا سيجدي معه.



وعلى هذا الحال الذي لم يكن معتادًا عليه ظل مصعب بن عمير ثابتًا على موقفه من الإيمان، حتى لقد تخشف جلده مثل تخشف الحية، وكان الصحابة يبكون لحاله التي صار عليها.



وقريب من ذلك أيضًا ما حدث مع عثمان بن عفان ، فقد كان عمه يلف حوله الحصير ثم يشعل النار من تحته حتى يكاد يختنق، لكن ذلك أيضًا لم يثنِه عن إيمانه.



وبعيدًا عن محاولات الأهل والآباء والأمهات هذه فقد كان لرءوس القوم في مكة الدور البارز في هذا المجال، فكان أبو جهل -لعنه الله- يمر بنفسه على أهل مكة مهددًا وموعدًا من كان في بيته مسلم بالخسارة الفادحة في المال والجاه.



وكان يطرد من العمال من شك في أنه أسلم، وأيضًا كان يضغط على كبراء مكة كي يضيقوا اقتصاديًّا على المسلمين، في محاولة لئلاّ يجد الرجل وقتًا للإسلام، ويظل كل همه تحصيل لقمة العيش، فمن لم تقنعه الكلمات أقنعه البحث عن اللقيمات.


رسول الله والحرب النفسية

لم يسلم رسول الله أيضًا من هذه الضغوط النفسية وتلك الحرب، فقد كان أبو لهب -لعنه الله- قد زوَّج ولديه عتبة وعتيبة من ابنتي رسول الله رقية وأم كلثوم، وحين أعلن رسول الله أمر الإسلام أراد أبو لهب أن يكيد لرسول الله ويحمّله همَّ ابنتيه، فأمر ولديه أن يطلقاهما -وهما بعدُ لم يدخلا بهن- ففعلا.



ولا شك أن فكر رسول الله سوف يُشغل بهذه القضية، كما أن صورته قد تهتز في مكة كلها، فهذا لا يرضى لأبنائه أن يتزوجوا من بنات رسول الله ، وقد كان لمثل هذا آنذاك وقع -أي وقع- على من كان في موقفه .


رسول الله وأم جميل

وقد وصل الأمر غايته حتى كان للنساء أيضًا دور كبير في هذه الحرب وتلك المضايقات التي لم يسلم منها رسول الله ، فقد كانت زوجة أبي لهب أم جميل أروى بنت حرب - وكانت امرأة سيئة - تحمل الشوك وتضعه أمام بيت رسول الله ليقع فيه.



ولم تكتف بذلك، فقد خرجت ذات مرة تريد أن تضرب رسول الله ، وكان جالسًا مع أبي بكر الصديق في الكعبة، فجاءت هذه المرأة تحمل في يدها فهر من الحجارة (ملء كفها) تريد أن تضربه بها، وحين ذهبت إليه أخذ الله ببصرها عن رسول الله فلم تر إلا أبا بكر، فقالت له: "أين صاحبك؟ قد بلغني أنه يهجوني".



وكان قد نزل قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد: 1- 5].



ثم قالت: "والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه".



وقد تعدى الأمر مداه حتى كان أهل مكة يتطاولون على رسول الله وهو في داخل بيته، فكان إذا صلى في فناء منزله قاموا بإلقاء رحم الشاة عليه من أعلى السور حتى يصيبه الأذى، حتى إنه كان يصلي وراء حجر يستتر به من قاذورات قريش.



وفي محاولات منه لوقف تصرفاتهم تلك كان رسول الله يحمل هذه الأوساخ ويخرج بها من بيته يخاطب عقول وقلوب قريش يقول: "يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، أَيُّ جِوَارٍ هَذَا؟!"



يحاول رسول الله أن يذكرهم بحقوق الجيرة والجوار، التي طالما تشدقت بها قريش، وطالما تحدثت عن حفظها لحقوق الإنسان، ثم ها هي تحارب أعظم رجالاتها وخيرة أبنائها حين أعلن كلمة الإيمان.


طلب الأمور المعجزة

من باب الجدل والمراء استخدم أهل الباطل وسيلة أخرى في محاولة منهم لحرب الإسلام وصد الدعوة الإسلامية، وهي طلب الأمور المعجزة لا من باب الإيمان أو الاقتناع، وإنما من باب الجدل والمراء.



فقد أتى لهم رسول الله بمعجزة عظيمة خالدة، يدرك قيمتها كل عربي تمكن من عربيته وهي القرآن الكريم، وكان التحدي به صارخًا حين قال : {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 23، 24].



فلم تستطع قريش -ولو لمرة واحدة- أن تعارض القرآن الكريم، ورغم ذلك ومع علمهم بصدقه ، ومع علمهم بعجزهم وضعفهم أخذوا يطلبون المعجزات الأخرى من باب الجدل.



فطلبوا -على سبيل المثال- شق القمر، وفي معجزة باهرة وقف رسول الله وأشار بيده إلى القمر فشُقَّ إلى نصفين، نصف على جبل ونصف على جبل آخر، ورغم ذلك قالوا كاذبين: سحركم محمد!



وقد حاول أحدهم أن يكون واقعيًّا بعض الشيء فطلب منهم أن يسألوا القادمين من السفر، متعللاً بأنه لو كان قد سحرنا فلن يكون قد سحر هؤلاء، وحين قدم المسافرون سألهم أهل قريش على ما رأوا، فكان الجواب أنهم رأوا القمر وقد شق في ذات الليلة وذات التوقيت الذي كانوا قد رأوه فيه، ورغم ذلك ولأنهم ما طلبوا الآيات رغبة في التصديق وإنما طلبوها لمجرد الجدل والمراء قالوا مكررين: هذا سحر مستمر.



وقد وصل الأمر إلى أن قالوا لرسول الله ما حكاه عنهم القرآن الكريم: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلاَلَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً} [الإسراء: 91- 93].



وإن كل ما أرادوه هذا منه هو أقل من معجزة القرآن الكريم إلا أنهم لم يريدوا أن يؤمنوا؛ إذ نية التصديق والاقتناع غير متوفرة، يصف حالهم هذا I فيقول: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر:14، 15].


السخرية والاستهزاء بالمؤمنين

في تنحية لجانب المنطق والعقل وإقامة الحجة والبرهان استخدم أهل الباطل واحدة من أقبح وسائلهم في حربهم ضد المسلمين، وهي تعمد السخرية منهم والاستهزاء بهم.



يصف حالهم I فيقول: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاَءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطَّففين: 29- 33].



وكان إذا جلس رسول الله وحوله المستضعفون من أصحابه استهزأ بهم المشركون وقالوا: {أَهَؤُلاَءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53].



وإذا دخل عليهم فقراء المسلمين قالوا سخرية واستهزاءً: هؤلاء ملوك الأرض؛ وذلك أن رسول الله كان يقول لهم: قولوا كلمة واحدة (لا إله إلا الله)، تملكوا بها العرب والعجم.


عقبة بن أبي معيط ورسول الله

وفي ذات مرة كان قد علم أُبيّ بن خلف أن صاحبه عقبة بن أبي معيط قد جلس إلى النبي وسمع منه، فاعتقد أُبيّ أنه قد آمن، فغضب وعاتب عقبة الذي لم يؤمن بعدُ. ولكي يصدقه في أنه لم يؤمن طلب منه أن يتفل (يبصق) في وجه رسول الله ، وفعل عقبة - لعنة الله عليه - ذلك، هكذا فعلوا مع أحب الخلق إلى الله !!


أساليب الكفار في الصد عن سبيل الله

كانت هذه هي المرحلة الأولى من المواجهة وهي المواجهة السِلْميّة نسبيًّا، ورأينا كيف تعددت فيها أساليب الصد عن سبيل الله، وهذا مجملها:



1- تحييد المساندين.



2- استخدام الإعلام لوقف المد الإسلامي على ثلاثة محاور، هي:

- تشويه صورة الدعاة أمام الناس.

- تشويه الدعوة أمام الناس.

- شغل الناس بالباطل وإلهاؤهم بالإباحية.



3- الحرب النفسية على المسلمين.



4- طلب المعجزات من باب الجدل.



5- السخرية والاستهزاء.



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة مكة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة مكة - صفحة 2 Empty سنن الله وحكمته في الابتلاء

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:18 am

سنن الله

وبشر الصابيرنبعدما رأينا صور التعذيب الوحشية التي تعرض لها المسلمون المستضعفون في مكة، يبرز سؤال يكاد يكون ملحًّا: ألم يكن ممكنًا أن يؤمن أهل مكة جميعًا ولا تحدث مثل تلك المجازر الضارية كتلك التي حدثت، ولا يعذب المؤمنون هذا التعذيب الشرس؟



إن الله قادر على نصر المؤمنين دونما ألم، وقادر على هداية الناس أجمعين، فلماذا إذن هذا الإيذاء الوحشي؟



وحقيقة الأمر أن هناك سنتين من سنن الله تبرزان أمام أعيننا عند الإجابة على هذا السؤال:


السُّنَّة الأولى

هي أن حرب الحق والباطل حرب حتمية، بمعنى أنه لا يوجد زمان يختفي فيه الباطل كُلِّيَّةً، ويصبح الحق مُمكّنًا دون منازع.



وهي سنة من سنن الله ، يقول تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التغابن: 2]. ويقول أيضًا: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118].



فمهما فعل الدعاة، ومهما بذلوا من جهد، ومهما أتقنوا الإبلاغ، سيظل هناك كافرون ومحاربون للدعوة.



مهما تغيرت الظروف، ومهما تغيرت الأزمنة، ومهما تغيرت الأمكنة سيظل هناك صدّ عن سبيل الله، وإذا فقه الدعاة هذه السُّنة فإنهم سيستريحون؛ لأنه لن تكون هناك مفاجأة، وإذا كان الأمر متوقعًا فإن الإنسان لا يصيبه الإحباط، بعكس من ينظر إلى الأمور بنظرة مثالية وردية غير واقعية؛ فإنه عندما يرى الناس يخالفون وينحرفون فإن ذلك سرعان ما يحبطه، فيدخله اليأس والفتور، وهذا داء خطير يصاب به كثير من المسلمين.


السُّنة الثانية

وهي أن المؤمنين جميعًا سيبتلون، ولن ينجو أحد من هذا الأمر، ستبتلى الأمة المؤمنة بصفة عامة، وسيبتلى كل فرد من أفراد الأمة المؤمنة بصفة خاصة، ولن يكون هناك استثناءات،



يقول تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2، 3].



ويقول أيضًا: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].



ويقول : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142].



بل إنه كلما زاد إيمان المرء زاد بلاؤه واختباره؛ وقد روى الترمذي في ذلك عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاَءً؟ قَالَ: "الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاَؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاَءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ". قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.


الحكمة من الابتلاء

إن الله إذا أحب قوما ابتلاهمإذا كان لا بد من الابتلاء، وإذا كان لا بد من الفتنة فما هي الحكمة من وراء كل ذلك؟ لماذا اقتضت سنة الله أن يُبتلى المؤمنون؟



وفي معرض الإجابة على هذا السؤال، فإن هناك ثلاثة أسباب:


السبب الأول: التنقية

ويقصد بها تنقية الصف المسلم، وانتقاء أصلح العناصر لحمل الأمانة؛ فما أسهل أن يقول المرء بلسانه آمنت وصدقت وأيقنت، لكن ما أصعب العمل!



فلا بد من اختبار لصدق الكلام، ولا بد من الابتلاء لتنقية الصف المسلم من المنافقين، مصداقًا لقوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 3].


السبب الثاني: التربية

فالله I يريد لهذه الأمة أن تقود العالمين، وحمل الأمانة بحاجة إلى رجال من نوع خاص، تمرسوا على شتى أنواع المصاعب. وقيادة العالمين تحتاج إلى طراز فريد لا يهتز أمام العواصف ولا يرضخ أمام الأهوال.



والابتلاء يربي الصف المؤمن فيجعله يُعلي قدر الله ويستهين بأعدائه، حيث الابتلاء برنامج تدريبي متدرج للمؤمنين، يرتفع بمستواهم يومًا بعد يوم، وكلما عظمت مهام المؤمن ازداد بلاؤه فيزداد إعداده، تمامًا مثل الذهب حين توقد النار من تحته، فإنه سرعان ما يخرج أنقى مما كان.



وإن هذا ليرفع كثيرًا من قيمة الدعوة في عين المسلم، فعلى قدر تضحيته يُقدّر الشيء الذي يُضحي من أجله.


السبب الثالث: التزكية

وهي التطهير من الذنوب والخطايا، فالابتلاء يُكفر الذنوب ويرفع الدرجات، وأحيانًا يحب الله عبدًا ويريد أن يرفعه إلى درجة عالية، وهذه الدرجة لا يبلغها بعمله، فيكون أن يبتليه الله فيصبر فيبلغ الدرجة العالية.



وقد روى البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: "مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ".



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة مكة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة مكة - صفحة 2 Empty رسول الله وزرع الصبر في قلوب المؤمنين

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:19 am

المستضعفون في مكة

وبشر الصابرينلم يكن أمام صحابة رسول الله إزاء تعذيبهم من قبل أهل مكة إلا الصبر وتحمل الاضطهاد في سبيل الله ، وكانت هذه هي السمة الواضحة المميزة لهم.



فلم يأمر رسول الله المؤمنين بأن يردوا عن أنفسهم ذلك الأمر؛ وذلك لأنه كان هناك نص صريح من الله ؛ حيث كان قد نزل قوله تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ} [الحجر: 94].



المشركون يُعذِّبون ويشرِّدون ويذبِّحون، والمسلمون صابرون صامدون، أُمروا ألاّ يردوا إيذاءً، ولا يحملوا سلاحًا، ولا يرفعوا ضيمًا، ولا يكسروا صنمًا، ولا مجرد أن يسبُّوا مشركًا؛ فقد قال I: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108].



فقد قُتل ياسر وقُتلت سمية رضي الله عنهما، وكان رسول يمر عليهم وهم يعذبون، فكان يكتفي بقوله: "صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ". ذكره الحاكم في مستدركه عن ابن إسحاق.



لم يمسك رسول الله بيد أبي جهل، ولم يجمع الصحابة كي يقوموا بثورة في مكة، ولم يتربص بأبي جهل ليقتله غيلة، وإنما فقط "صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ".


وسائل زرع الصبر في قلوب المؤمنين

والسؤال المهم الآن هو: كيف تَعَلّم الصحابة الصبر على هذا التعذيب؟! وما الأسلوب الرباني والهَدْي النبوي في جعل الصحابة قادرين على تحمل الأذى؟



كيف صبروا على الصَّلْب والجَلْد والحرق، مع أنهم ومثل كل البشر جسد وعظم ودم وروح ليس إلا؟!



كيف نستطيع أن نصبر صبرهم إذا كنا في نفس حالهم وموقفهم؟ وما الوسائل التربوية التي ترتقي بالمؤمن إلى درجة يستهين فيها تمامًا بتعذيب المجرمين له؟



فمن المؤكد أنه كان هناك وسائل كثيرة قد اتُّبعت في سبيل الوصول إلى هذا الهدف، ومن هذه الوسائل وتلك الطرق -فيما يبدو لي- ما يلي:


الوسيلة الأولى: تعظيم قدر الله

تعظيم قدر الله تعالىفإن من عظُم قدر الله في قلبه فمن غير الممكن أن يهمّه أي ألم قد يمر به، ومن هنا تحدث القرآن المكي كثيرًا على تعظيم قدر الله ، فتحدث عن صفاته I، وجبروته وعظمته وقدرته.



تحدث القرآن عن أن الله بيده كل شيء، وأنه لو كان سيصيبك بضرٍّ فلا بد أن يصيبك، ولو اجتمع أهل الأرض آنذاك لحمايتك فلن ينفعوك، وعلى العكس من ذلك فلو أراد الله لك رحمة فلا بد أن تحصل لك، حتى ولو اجتمع أهل الأرض على أن يمنعوها عنك.



يقول في سورة الأنعام، وهي مما نزل في مكة: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام: 17].



فمن يصدق بهذه الكلمات سيعلم أن نصيبه من الألم لن يفوته، وأنه سيأخذه حتمًا ولا محالة؛ لأن الله هو الذي أراد أن يقع ذلك الألم، يقول تعالى: {وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ} [الأنعام: 18].



وقد كتب الله على كل منا نصيبه من الألم، سواءٌ أكان ظالمًا أم مظلومًا، وسواء أكان كافرًا أم مؤمنًا، وإن لم يأخذ نصيبه هذا تعذيبًا في سبيل الله، فحتمًا سيأخذه شيئًا آخر، كمرض أو هَمٍّ أو غيره، يقول تعالى: {َقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4].



ومن الممكن أن يكون نصيبه من الألم معنويًّا، وأحيانًا يكون هذا الألم المعنوي أشد بكثير من الألم المادي، كمن أصيب -مثلاً- بولد فاشل، أو مدمن للمخدرات، أو لص، أو عاق لوالديه، أو معدوم التربية والأخلاق. أو من أصيب بزوجة وقد جعلت حياته ضنكًا وجحيمًا لا يطاق، حتى وإن كان يُظهر أمام الناس أنه سعيد أو ممكّن في الأرض، فكل الناس يشعرون بالألم، يقول تعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104].



فالمسلم يُبتلى ويعذب كل هذا التعذيب، ثم هو يصبر عليه لأنه ينتظر في النهاية جنة ونعيمًا، أما الظالم فإنه يعذب في الدنيا وبالطريقة التي أرادها له I، وفوق ذلك فهو ينتظر في آخرته أيضًا جهنم وعذابًا أليمًا!



ومن هنا فحين يعظم المؤمن قدر الله I، فإنه -لا شك- ستهون عليه التضحية في سبيله، وأول شيء يجب معرفته لتعظيمه I هو أن نعلم أن كل شيء بيده، وأن كل ما قدره لا بد أن يحدث، سواءٌ أكان ميسرة ونعمة أم مشقة ونقمة.



ولنتأمل جيدًا هذه الآيات المكية، يقول تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا القُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لاَ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 19].



ويقول أيضًا: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إلى اللهِ مَوْلاَهُمُ الحَقِّ أَلاَ لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ} [الأنعام: 59- 62].



ويقول أيضًا: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الحَقُّ وَلَهُ المُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ} [الأنعام: 73].



ولننظر إلى ذلك الصحابي الذي يستمع إلى هذه الآيات وأمثالها، فيعلم أن هذا الإله الذي له هذه الصفات يقف بجواره، ويبارك خطواته، ويرعاه ويحفظه، ويعلم تمام العلم ما يحدث للمؤمنين من تعذيب، ثم هو يؤجل هلكة الكافرين لحكمة، ويؤجل نصرة المؤمنين لحكمة أيضًا يعلمها.



لننظر إلى ذلك الصحابي وهو يقرأ ويعي قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67].



كم من المرات قرأنا هذه الآية أو استمعنا إليها، لكن تُرى كم من المرات عشنا فيها ووعيناها؟!



نتخيل أن الأرض بكاملها في قبضة الله ، الأرض بكاملها، بما عليها من بشر ومخلوقات أخرى، وما عليها من طائرات ودبابات وبوارج، وما عليها من أسلحة نووية وكيميائية وبيولوجية، وما عليها من أناس يخططون ويدبرون ويكيدون.



ولنلاحظ لفظة (قبضته) وما تلقيه في القلب من رهبة وسيطرة، وقدرة وهيمنة وجبروت، هذا الإله الذي هو بهذه الصفة العظيمة هو إلهنا الذي نعبده، وأولئك الأقزام الذين يحاربون الدعوة يحاولون أن يخرجوا عن سلطانه وعن حكمه فكيف ذلك؟!



يقول تعالى: {يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لاَ تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} [الرَّحمن: 33].



ومن هنا فكلما عظُم قدر الله في أعين وقلوب المؤمنين هانتْ عليهم صعاب الدنيا، وكلما استصغروا أعداء الله، وكلما تحملوا الأذى والتعذيب والتشويه، بل والموت، طالما هو في سبيل الله.



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة مكة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة مكة - صفحة 2 Empty الإسلام ورفع قيمة الآخرة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:19 am

رفع قيمة الآخرة

القبر أول منزل من منازل الآخرةيُعدّ هذا الأسلوب من أروع الأساليب في تربية الصف المؤمن على التحمُّل والجلد والصبر.



وهو توسيع لمدارك المسلم كي يعلم المقياس الحقيقي بين الدنيا بكل ما فيها من مصاعب ومشاق وألم وغيره، وبين الآخرة وما فيها من جنة ونعيم وخلود أبد الآبدين.



فأيُّ إنسان أحمق ذلك الذي يقدم على شراء الدنيا، حتى ولو أخذها كاملة -وهو يعلم أنها فانية- بالآخرة تلك الباقية التي لا تفنى ولا تزول؟!



فبيت القصيد هو أن يؤمن الإنسان بالآخرة، وبيت القصيد هو أن يدرك أبعادها المختلفة عن أبعاد الدنيا، ومقاييسها العجيبة وصفتها النادرة.



ولأهمية هذا الأمر فكثيرًا ما تجد في القرآن الكريم أن الله ما إن يذكر الإيمان به إلا ويجمع معه الإيمان باليوم الآخر فقط.



فإذا أدرك الناس أن هناك يومًا سيحاسبون فيه على ما يعملون، وكان هذا علمًا يقينًا منهم، وإذا أدركوا أن الذي سيحاسبهم هو إله قادر عليم حكيم جبار قاهر، إذا علموا ذلك علمًا يقينًا فإنهم -ولا شك- سيعملون لهذا اليوم.



ومن هنا كانت أول كلمة قالها الرسول في بداية دعوته هي: "وَاللَّهِ لَتَمُوتُنَّ كَمَا تَنَامُونَ، وَلَتُبْعَثُنَّ كَمَا تَسْتَيْقِظُونَ، وَلَتُحَاسَبُنَّ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ، وَإِنَّهَا لَجَنَّةٌ أَبَدًا أَوْ نَارٌ أَبَدًا".



وإننا نعاني -أحيانًا- خللاً تربويًّا خطيرًا وهو عدم التركيز على رفع قيمة الآخرة في عيوننا وعيون المؤمنين، خاصة إذا كانت الدعوة مضطهدة، وإذا كان الظلم مستفحلاً، وإذا كان الأعداء كُثُرًا، وإذا كان الظلام شديدًا!



فلنلاحظ القرآن المكي، ولننظر كم يتحدث عن الآخرة وعن الجنة وعن النار، إذ لا تكاد تخلو سورة منه من التذكير باليوم الآخر، أو بالجنة أو بالنار.



ولنلاحظ تعظيم القرآن الكريم لليوم الآخر حين يقول I: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا العِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا البِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التَّكوير: 1- 14].



وقوله تعالى أيضًا: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا البِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا القُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار: 1- 5].



ولنعشْ ولو قليلاً في تلك الجنة التي كانوا يعيشون فيها وهم ما زالوا على ظهر الدنيا، ولنتخيل وكأننا أحد الصحابة الذين يجلسون في بيت الأرقم بن أبي الأرقم يسمع هذه الآيات وبالخارج ينتظره تعذيب شديد، كم هو حجم مثل هذا التعذيب بالنسبة إلى ما يسمعه في وصف الجنة؟!

الواقع أنه لا شيء؛ فأيُّ ألمٍ يقارن بالخلود والنعيم، لا شك أنه يساوي صفرًا، يقول تعالى في وصف الجنة: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلاَ زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان: 12- 22].



ولنتخيل مؤمنًا يسمع هذه الآيات ويعيشها بقلبه، ثم يأتي عدوه ويحرمه جرعة ماء في يوم صائف، أو يجلده أو يصلبه أو حتى يقتله، فما الضرر في ذلك؟ أليس هو منتقلاً بالكلية من هذه الحياة بهمومها ومتاعبها إلى تلك الجنة العظيمة الخالدة؟!



وإذا سمعت كل آيات القرآن الكريم في مكة بهذا المفهوم، وبأذن ذلك الصحابي الذي يعذب، ستجد أن التعذيب ليس له قيمة تذكر.



لقد كان الموت خلاصًا للمؤمنين وراحة للصالحين؛ وذلك لأنهم يشتاقون إلى الجنة، ولا يصبرون طول البعاد عنها.



ومما سبق نستطيع أن ندرك ونتفهم أحداثًا عجيبة قد حدثت في سيرتهم رضوان الله عليهم، نستطيع أن نتفهم موقف عمير بن الحُمَام حين عد الدقائق التي سيأكل فيها التمر حياة طويلة، فألقاها من يده وذهب يستقبل الموت؛ وذلك أن رسول الله كان قد ذكّره بالجنة التي يعرفها، والتي يشتاق إليها، وهنا أصبح الموت في سبيل الله غاية له.



ونستطيع أيضًا أن نتفهم أحداثًا قد تكون غريبة على أسماعنا، والتي كان منها -على سبيل المثال- موقف حرام بن ملحان حين طُعن بالرمح في ظهره فخرج من صدره، فقال من فوره: "فزت ورب الكعبة".



علم أنه قد فاز؛ لأنه سينتقل مباشرة من أرض الجهاد إلى الجنة، وعلم أنه فاز لأنه سيموت شهيدًا، وقد وُعد أن الشهيد يدخل الجنة بغير حساب.



ومن خلال هذا نعلم أن تعظيم قيمة الآخرة يُصَبر المؤمنين -لا محالة- على كل ألم، وعلى كل أذى، وعلى كل مشقة في سبيل الله .



وعلى الجانب الآخر، ولكي تصبح التربية متوازنة والأمور لا إفراط فيها ولا تفريط كان الحديث عن النار، فبديل الجنة ليس عدم دخول الجنة فقط ولكن دخول النار.



ولما فقه الصحابة المؤمنون أمر النار وعلموا أنها خلق عظيم اجتهدوا في الابتعاد عنها والهروب منها، ثم إنهم لما أدركوا عذابها ولهيبها وحميمها، لما أدركوا كل ذلك هان عليهم كثيرًا ما يفعله المجرمون بهم؛ فتحملوا الألم المؤقت في دار الدنيا لينقذوا أنفسهم من الألم الدائم في دار الآخرة.



وهو تمامًا كما يقوم مريض الزائدة الدودية -مثلاً- بالسعي إلى إجراء عملية جراحية لاستئصالها، أليس في إجراء مثل هذه العملية كثير ألم؟ أوَليس في تكاليفها كثير إرهاق؟ أوَليس في الانقطاع عن العمل أثناء وبعد إجرائها كثير تعقيد؟!



غير أنه ورغم كل هذه الآلام فإنه بغيرها سيفقد المريض حياته، وهنا يعقد المريض موازنة يتحمل فيها تلك الآلام المؤقتة في مقابل الشفاء الدائم.



وهكذا أيضًا كان المؤمنون قد فقهوا أمر ما ينزل بهم، فكانوا يتحملون آلامًا قد يظنها البعض عظيمة، إلا أنها في نهاية الأمر غائية ومحدودة، بل وضئيلة جدًّا إذا ما قورنت بالعذاب الأليم والشديد في نار جهنم.



ومن هنا كان رفع قيمة الآخرة في أعين الصحابة وسيلة ربانية حكيمة في جعل المؤمنين يصبرون، ويتحملون الأذى والعذاب الدنيوي.



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة مكة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة مكة - صفحة 2 Empty معينات على الصبر وتحمل الأذى

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:20 am

دراسة التاريخ

التاريخ دروس وعبرمن وسائل تربية المسلمين على الصبر وتحمل الأذى دراسة التاريخ؛ فالتاريخ يكرر نفسه، ودراسة التاريخ تعرض لك صورًا واقعية من الماضي لأناس عاشوا تقريبًا نفس الأحداث التي تعيش فيها الآن، ثم ترى كيف تعاملوا مع هذه الأحداث، وترى أيضًا كيف كانت النتائج النهائية.



فالأحداث والملابسات واحدة، حرب بين الحق والباطل، وعلو للباطل حينًا من الدهر وفترة من الوقت، يحدث فيها تعذيب وتشريد، وقتل وإبادة، ومن المؤمنين صبر وجلد وتحمل، ثم في نهاية الأمر انتصار للحق وتمكين له، وهزيمة للباطل وهلاك له، وهي صورة مكررة في كل صفحات التاريخ، وسنة من سنن الله .



ومن جديد نرجع إلى القرآن المكي، فلا تكاد تخلو سورة من سوره من قصة أو إشارة إلى قصة من قصص المؤمنين السابقين مع أهل الباطل، وكيف صبروا على التعذيب والإيذاء، ثم كيف مُكّن لهم بعد ذلك.



كان من ذلك -على سبيل المثال- قصة موسى ، وقد تناولها القرآن الكريم من أكثر من زاوية وبأكثر من طريقة، وبإشارات مباشرة وغير مباشرة.



وكان من ذلك ما جاء في قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ} [القصص: 4].



وهي درجة عظيمة جدًّا من الألم والإيذاء كان قد تعرض لها المؤمنون على يد فرعون، وهي بعدُ لم تحدث مع الصحابة، ثم يلي هذه الآيات قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5].



ونفس أحداث السورة تتكرر، فإن كانت قد تكررت في مكة من قبل فهي تتكرر اليوم وإلى يوم القيامة، فإذا كان الصبر سيتكرر مع مثل هذه الأحداث فإن التمكين - لا محالة - سيتكرر؛ لأنه سنة من سنن الله .



وكان من هذا القصص المكي أيضًا قوله تعالى حكاية عن قوم نوح : {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر: 9]. وقد حدث هذا مع رسول الله {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالتَقَى المَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 10- 15].



وعلى هذا الغرار جاءت قصة هود ولوط وشعيب وصالح ويوسف وغيرهم، كل هذا في صورة واقعية حقيقية وبأسلوب شائق لا تمله النفوس، والله أعلم بطبيعة خلقه وما يحتاجون إليه وما ينفعهم، وهو الذي اختار لهم هذا الأسلوب التربوي الرائع.



ومن هنا فإن دراسة وفقه التاريخ وتحليله أمر غاية في الأهمية؛ وذلك لتربية الصف المؤمن على الصبر والثبات، ولوضع يده (الصف المؤمن) على كل مفاتيح النصر الحقيقية.


زرع الأمل في النفوس

ألا إن نصر الله قريبومن الوسائل التربوية الرائعة لتشجيع المؤمنين على الصبر وتحمل الأذى هي زرع الأمل في نفوسهم؛ فإذا ما أحبط الإنسان فلا أمل في صبره، ولا أمل في نصره، ولا أمل في تمكينه.



وفي القرآن المكي أيضًا نجد قوله تعالى: {وَلاَ تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف: 87]. وقوله تعالى أيضًا: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَْ} [الحجر: 56]. ومثله أيضًا: {اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128].



فالله I لكي يُعلّم المؤمنين الصبر فإنه يريهم الأمل، ومن هنا نفهم موقف الرسول حين جاءه خباب بن الأرَتّ حين اشتد عليه التعذيب يطلب منه أن يدعو الله لهم ليرفع عنهم البلاء. يقول تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105].



وإن نقطة الأمل هذه لهي من أهم النقاط التربوية في تربية المؤمنين على الصبر وتحمل المشاق والأذى، ومن هنا فلا بد أن يفرغ الدعاة أوقاتهم لزرع الأمل في قلوب الناس، وأن يربّوهم على مصداق قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج: 15].



فليس للحياة قيمة إذا انقطع الأمل، وعلى هذا الضوء نتفهم غضب رسول الله عندما جاءه خباب بن الأرت يقول له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟!



وكان خباب قد فاض به، فقد عُذّب تعذيبًا شديدًا؛ إذ كان يُكوى رأسه بالنار، وكان يوضع على الفحم الملتهب، وقد يكون طبيعيًّا لرجل مر بهذه التجارب الأليمة أن يذهب إلى رسول الله يطلب منه الدعاء والاستنصار برب العالمين، وهو يعلم أنه مستجاب الدعوة.



وإلى هذا الحد كان الأمر يبدو طبيعيًّا، لكن الذي حدث كان غريبًا جدًّا، فقد كان رد فعل رسول الله على غير ما نتوقع.



فقد غضب الرسول حتى بدا ذلك واضحًا على وجهه، يروي ذلك خباب -كما جاء في رواية البخاري- فيقول: فقعد رسول الله وهو محمر وجهه (أي غيّر من جلسته من شدة غضبه وقد احمرّ وجهه)، فقال: "كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ".



وأمام غضب رسول الله هذا لا بد لنا من وقفة تربوية مهمة؛ إذ من المؤكد أن غضبه لم يكن لمجرد طلب الدعاء، بل إن المؤمنين مطالبون بالدعاء في مثل هذه المواقف.



لكن الذي حدث هو أن رسول الله شعر أن خبابًا قد بدأ يدخله اليأس، بدأ يحبط ويفقد الأمل، وإن فقدان الأمل لأمر خطير.



شعر رسول الله أن خبابًا يستبطئ النصر، بينما الأصل أن المؤمنين يعلمون أن الله بيده النصر، ويأتي به في الوقت الذي يريده، ولحكمة يعلمها I.



لكن غضب رسول الله لم يخرجه عن أسلوبه التربوي الراقي، بل أخذ يربي خبابًا، فسلك في سبيل ذلك أكثر من طريق.


الطريق الأول: التربية بالتاريخ

ولا شك أن تربية التاريخ عظيمة الأثر، فقد ذكر له رسول الله أحداثًا من التاريخ مر فيها المؤمنون بما هو أشق مما كان قد أصابه؛ وذلك أن الناس عادة ما تصبر على مصائبها وما ينزل بها إذا ما رأت أن غيرها قد ابتلي بما هو أشد منها وصبر على ذلك.


الطريق الثاني: زرع الأمل

بعد المسلك الأول وتهوين الأمر، أخذ في زرع الأمل في قلب خباب ؛ فأقسم بالله وبيقين كامل مؤكدًا يقول: "وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ..." إلخ، وكانت النتيجة أن زاد صبر خباب ، واطمأن قلبه بنصر الله وتمكينه لدينه.


الطريق الثالث: التذكير بالله والتعظيم لقدره

وذلك في قوله : "لا يخاف إلا الله".


الطريق الرابع: الأخذ بالأسباب

وذلك من قوله : "والذئب على غنمه"، فليس معنى التوكل على الله عدم الأخذ بالأسباب، فما زالت السرية موجودة، وما زال الصبر موجودًا، وما زالت الدعوة إلى الله قائمة، وما زال انتظار التمكين يملأ القلوب. فالناس تعمل وتُربَّى في هذا الوقت، وترفع من درجات إيمانهم.



وكانت النتيجة أن خبابًا ثبت ولم يتزعزع، ولم يبدل ولم يغير، ثم لم يستعجل بعد ذلك، حتى إنه قد سأله عمر بن الخطاب عما لقيه في ذات الله تعالى، فكشف خباب عن ظهره فإذا هو قد برص (مات جلده) ففزع عمر بن الخطاب وقال: ما رأيت كاليوم. فقال خباب: يا أمير المؤمنين، لقد أوقدوا لي نارًا ثم سلقوني فيها، ثم وضع رجلٌ رِجْلَه على صدري فما اتقيت الأرض إلا بظهري، وما أطفأ تلك النار إلا شحمي.



فإذا بلغْت هذه الدرجة من الإيذاء فلا تستعجل، وكن صابرًا كخباب، وتذكر قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالبَصَرِ} [القمر: 49، 50].


وسائل أخرى معينة على الصبر

بعد هذه الوسائل الأربع -التي ذكرناها في المقالات السابقة وهي تعظيم قدر الله ورفع قيمة الدار الآخرة ودراسة التاريخ وزرع الأمل في النفوس- من الوسائل المعينة على الصبر وتحمل الأذى، كانت هناك أيضًا وسائل أخرى كثيرة تعين على زرع الصبر في قلوب المؤمنين في زمن الاستضعاف.



وهي وسائل قد استخرجتها من أوائل السور التي نزلت على رسول الله في مكة، والتي علّمت الرسول وعلمت الصحابة كيف يصبرون على هذا الطريق الطويل، حيث يقول I في سورة المدثر: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدَّثر: 7]. ويقول أيضًا في سورة المزمل: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً} [المزمل: 10].



فكان منها ما يلي:
العلم والقراءة

وذلك كما في الآيات الخمس الأُوَل من سورة العلق: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1- 5].



فمن يعرف أكثر لا شك أنه سيصبر أكثر، ويجب أن نعي أمرًا غاية في الأهمية، وهو أن القراءة ليست هواية كما يظن أو يعتقد البعض، إنما هي بالنسبة للمسلم كما الطعام والشراب؛ إذ لا حياة بدونهما.



ومن هنا فلكي تصبر يجب أن تتعلم، ولكي تتعلم يجب أن تقرأ، ومن غير القراءة فلن تُحصّل علمًا، وإن دروس العلم مهما كثرت فلن تعطيك غير جزء ضئيل من العلم الذي ينبغي عليك أن تحصله.


قيام الليل

يقول تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل: 1- 4].



فلن يستطيع أن يصبر من لم يتعود قيام الليل، ولهذا فُرض على الصحابة قيام الليل سنة كاملة، وحين نزل التخفيف لم يترك ذلك أحد منهم، فإذا أردت أن تصبر فلا بد أن تتعلم قيام الليل.


قراءة القرآن

يقول تعالى: {وَرَتِّلِ القُرْآَنَ تَرْتِيلاً} [المزمل: 4]. فالقرآن زاد، ولا يستطيع المسلم أن يصبر بدون هذا الزاد.


الذكر

يقول تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [المزمل: 8]. فالذكر أيضًا زاد، ولكي يصبر أي مسلم لا بد أن يذكر الله ، والذي نعته الله بالكثرة فقال: {وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35]. وقال أيضًا: {وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45]. فكلما كان ذكر الله I كثيرًا، كان الصبر أكثر.


ترك المعاصي والذنوب

يقول تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدَّثر: 5]. فكيف يصبر الغارق في أوحال المعاصي؟!


الأخوة في الله

يقول تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 28]. فحين ترى أناسًا يسيرون معك في نفس الاتجاه فهذا سيعينك كثيرًا، ويقوي ظهرك على الصبر.



وبعد، فهذه كلها وغيرها أمور تعين على الصبر وتحمل الأذى، نعدِّدها ثانية كما يلي:

1- تعظيم قدر الله في القلب.

2- تعظيم الآخرة.

3- دراسة التاريخ.

4- زرع الأمل في نفوس المؤمنين.

5- العلم والقراءة.

6- قراءة القرآن.

7- قيام الليل.

8- الذكر.

9- ترك المعاصي والذنوب.

10- الأخوة في الله .



فتلك عشرة كاملة، ليس هناك صبر بدونها، وكل منها يحتاج إلى دراسة جادة.



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة مكة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة مكة - صفحة 2 Empty الحكمة من النهي عن القتال في مكة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:21 am

الحكمة من النهي عن القتال في مكة

النهي عن القتال في مكةأمام هذا الثبات وذاك الصبر، وأمام هذا التحمل العظيم للأذى الشديد يبرز سؤال مهم جدًّا قد يدور في ذهن الكثيرين، وهو: لماذا أمر الله المسلمين بالكف عن القتال في مكة؟



لماذا تحمل المسلمون هذا الألم دون ردٍّ ودون تغيير؟ ولماذا لم يسمح لهم بالرد على الإيذاء وقد كان منهم من يستطيع ذلك؟ أليس في مثل هذا خنوع وسلبية؟!



وفي معرض الرد على هذا السؤال نذكر عدة أسباب، وقبل سردها نلفت الأنظار إلى حقيقتين مهمتين:



الحقيقة الأولى

أن هذا الكف كان أمرًا ربانيًّا مباشرًا، فقد قال الله I في كتابه الكريم: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94].



ومن هنا فمن المؤكد أن الخير كل الخير كان في هذا الإعراض، وأن الحكمة البالغة كانت تقتضيه، وحكمة الله لا يحيط بها أحد، ولا يقدر على ذلك بشر، ونحن بطاقتنا المحدودة نبحث فيما نعتقد أنه الحكمة من وراء الكف عن القتال في مكة.


الحقيقة الثانية

أننا أُمرنا باتباع أوامر الله حتى مع عدم تبدي الحكمة لنا من وراء ذلك؛ فليس معنى أننا لم نجد بعقولنا حكمة مقنعة تسوغ لنا فرض هذا الأمر أن نقوم بمخالفته، يقول تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِينًا} [الأحزاب: 36].



بعد وضوح هاتين الحقيقتين السابقتين فيمكننا البحث في حكمة الكف عن القتال في مكة على الوجه التالي:


البعد التربوي

البعد التربوي المهم في هذا الوضع، فلا شك أن هذه الصورة الجديدة على أرض مكة، وهي صورة التعذيب الشديد لطائفة من الناس على أيدي غيرهم، وقبول هذا الطرف المعذَّب لهذا الأمر دون ردّ، هذه الصورة الجديدة تربي في المؤمنين أمورًا من الصعب أن تُربى في ظروف غيرها، ومن هذه الأمور الصبر من نوع خاص.



فأنواع الصبر كثيرة، والعربي بصفة عامة صبور؛ إذ إنه يستطيع الصبر على آلام الجوع والحر والفقر وطول السفر، والصبر على الحروب وغيرها، وكل هذا حسن وحميد.



لكن العربي لا يصبر على تحمل الظلم؛ إذ إن طبيعته الثائرة لا ترضى بالضيم ولا بالجور، فتراه يثور ولو كان الثمن هو حياته نفسه.



أما الآن فقد أصبح من أهداف المؤمن أن يقيم أمة ودولة، ومن متطلبات بناء الأمة أن يكون البناء متدرجًا، وأن يمر بمراحل مختلفة، وألاّ ينظر الفرد إلى مصلحته الشخصية، بل يتعداها إلى مصلحة المجموع، وهذه كلها أمور ما كان للعربي أن يفكر فيها قبل ذلك.



فقد صار واجبًا عليهم عدم الالتفات إلى حظ النفس، وأن يتركوا الانتصار لذواتهم وذلك لصالح الأمة وصالح الجماعة، وهذه تربية على شيء جديد، وتحتاج إلى وقت وإلى صبر؛ إذ ليس من الممكن أن تقوم أمة أفرادها يقدمون مصالحهم الشخصية على مصالحها العامة.



ومن هنا فإن الكف عن القتال كان ضروريًّا من أجل أن يُربى المسلمون على هذا النوع المهم من الصبر، وهو الصبر على ضياع المصلحة الخاصة في مقابل إنجاح المصلحة العامة.


مبدأ السمع والطاعة

التربية على مبدأ حُسن السمع والطاعة للقيادة، وهو أمر من الأهمية بمكان، ولا تكاد تقوم جماعة إلا به، ولا تكاد أمة تقوم إلا عليه، ذلك هو: التربية على الطاعة لقيادة هذه الأمة الناشئة.



وإن المقياس الحقيقي للطاعة هو أن تطيع (في غير معصية الله I) دونما جدل أو ضجر أو اعتراض، خاصة فيما لا يوافق هواك، أما إذا كان الأمر قد وقع على هوى في نفسك فلا فضل إذن في الطاعة؛ لأنك ستطيع لأنك تهوى هذا الأمر.



وإن الطاعة الحقيقية للقائد تتطلب أن يعتقد الجندي بأن في طاعته لقائده طاعة لله ، وأنه مأجور عليها، يقول تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80]. فإذا تعامل الجندي مع قائده بهذا المنطلق، فإن سعيه إلى طاعة قائده هو تمامًا كسعيه إلى أي عبادة يتقرب بها إلى الله .



والطاعة الحقيقة للقائد تتطلب من الجندي أن يعرض وجهة نظره على القائد؛ إذ ليس من مقصودنا ما يسميه البعض بالطاعة العمياء، فنحن إنما نريد الطاعة المبصرة، والتي تدفع الجندي إلى أن يفكر فيما يوجه إليه، فإن وجد ما هو أصوب -في رأيه- ذهب إلى قائده وعرض عليه رأيه، فإن قبل فبها ونعمت، وإن كانت الأخرى فليس إلا الطاعة ودون تأفف أو ضجر ما دام في غير معصية لله I.



وهذا الأمر هو عين ما حدث من خباب مع رسول الله ، فقد رأى خباب أن استعجال النصر مصلحة في ذلك الوقت، وكان هذا اجتهادًا منه، وعليه ذهب إلى رسول الله يطلب منه ذلك بالدعاء، وكان أن أوضح له الأمر رسول الله وبيَّن له ضرورة الصبر، وهنا أيضًا سمع خباب وأطاع، وقَبِل الأمر وكفَّ اليد.



وقد تعلم خباب شيئًا غاية في الأهمية وهو الطاعة لولي الأمر؛ إذ لا جماعة بغير إمرة ولا إمرة بغير طاعة، وهذه تربية راقية.



وإن هذه الجماعة التي يتعامل فيها قائدها مع جنوده بهذا الأسلوب التربوي، وتلك التي يتعامل فيها الجندي مع قائده بهذا الاحترام وهذه الطاعة، لجماعةٌ منصورة بإذن الله.


الدعوة السلمية

أن الدعوة السلمية في هذه البيئة كانت أشد أثرا وأعظم نتيجة. وفي سبيل توضيح هذه الحكمة نود أن نسأل سؤالاً: ما غرض المسلمين في نهاية الأمر؟ هل هو حكم مكة أم هو إسلام مكة؟!



والإجابة بالقطع أن الغرض هو إسلام مكة، وليس مهمًّا من الذي يحكمها بعد ذلك، المهم أن يحكمها بكتاب الله I وبسنة الرسول ، وهذا هو المهم والمقصود.



وهذه البيئة المكية كانت قد ألفت العنجهية والشرف والعلو والعزة، فإن فُرض عليها رأي بالقوة فلن تتقبله، وكان سيحدث صراع مبكر بين المؤمنين والكافرين، وبسببه سيرفض الكافرون الدخول في هذا الدين استكبارًا وعنادًا.



ومن هنا فلا بد للداعية من أن يدرس نفسيات من يدعو؛ فمن الناس من يتأثر بمظاهر الرحمة في الداعية، ومنهم من يتأثر بذكاء العقل عند الداعية، ومنهم من يتأثر بقوة البدن عند الداعية، ومنهم من يتأثر بلطف وأدب الداعية، وهكذا، فقد خلق الله الناس مختلفين، ولا بد للداعية أن يتعامل مع كل هذه النوعيات، ولا بد أن يراعي ظروف المدعو وظروف البيئة التي يعيش فيها، وكذلك لا بد أن يكون ذكيًّا ومرنًا حتى تنجح دعوته، وبعد ذلك فالموفَّق من وفقه الله .



إذن كانت الدعوة السلمية تناسب ظروف مكة في ذلك الوقت.


تجنب الفتنة

كان أيضًا من الحِكم في كف المؤمنين عن القتال في مكة هو تجنب الفتنة الخطيرة التي كانت ستحدث في مكة، وتلك المقتلة العظيمة التي ستحل في كل بيت، وأيضًا تجنب السمعة السيئة التي كانت ستلتصق بالإسلام من وراء ذلك، والتي كانت سترمي إلى أن الإسلام يؤدي إلى فتن عظيمة.



والسبب في ذلك أنه لم يكن هناك في أرض مكة حكومة مركزية هي التي تتولى أمر تعذيب المؤمنين، بل كان قد تكفل كل زعيم بأتباعه، وتكفل كل والد بولده، وكل سيد بعبده، وكل شيخ قبيلة بأفراد قبيلته وهكذا، فكان يقوم بتعذيب مصعب بن عمير -مثلاً- أمه، وكان الذي يعذب عثمان بن عفان عمه، وكان الذي يعذب خباب بن الأرت سيدته، والذي يعذب بلال بن رباح سيده، وهكذا.



ومن هنا فلو قاتل المؤمنون دفاعًا عن أنفسهم فإنهم -لا ريب- سيقاتلون آباءهم وأعمامهم وقبائلهم، وحينها ماذا سيقول الناس عن الإسلام؟



لقد كانت فِرْية الكافرين العظمى أن هذا الدين يفرق بين الولد ووالده، وبين الرجل عشيرته، وبين المرء وزوجه، وهذه فريتهم ولم يكن قد نشب قتال بعدُ، فما البال وما الخطب لو كان قد حدث قتال؟!



فكان هذا عاملاً مهمًّا جدًّا لتجنب الفتنة الخطيرة التي كانت ستحدث داخل مكة، وللحفاظ أيضًا على الصورة النقية الصافية للإسلام كما هي.


علم الله المسبق

وهي علم الله أن كثيرًا من أهل مكة سينتقلون بعد ذلك من معسكر الكفر إلى معسكر الإيمان.



فقد كانت الدعوة الإسلامية ما زالت في مهدها، ولم تكن بعد قد أخذت الفرصة الكافية للوصول إلى قلوب الناس، وكان من الطبيعي أن يعترض عليها منذ البداية كثير من الناس، وقد يتشددون في اعتراضهم، ثم ما يلبث الحق أن يتبدى في أعينهم، فإن كان الله يريد بهم هداية استجابوا وأسرعوا إلى تصحيح أخطائهم، وهؤلاء عندما يؤمنون يتحولون إلى عمالقة في الإيمان؛ وذلك لأنهم انتقلوا من الظلام الدامس إلى النور المبين، وأنهم ذاقوا مرارة الكفر فعلموا حلاوة الإيمان.



وكان من هذا الصنف -على سبيل المثال- عمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم، وقد أصبح كل هؤلاء بعد ذلك قادة مخلصين يحملون الإسلام إلى كل ربوع الأرض.



فلو كان قد حدث قتال في أول فترة مكة، لكان من الممكن أن يموت أناس كثيرون جدًّا من هؤلاء.


النخوة التي ستتحرك في قلوب المشركين من الظلم

أن النخوة التي كانت في قلوب كثير من العرب كانت تتأثر كثيرًا بصورة المظلوم الذي لا يستطيع رفع الظلم عن كاهله، فكان من طبيعة العربي أن تحركه النخوة والشهامة ليرفع الظلم عن المظلومين، وذلك غير من فسدت فطرته أو تزايدت مصالحه، فإنه قد لا يأبه لذلك.



وقد تحرك كثير من الناس في مكة نخوةً نتيجة الظلم الشديد الذي وقع على المسلمين، وقد تجسدت مثل هذه الصورة -كما سنرى بعد ذلك- في قصة إسلام حمزة بن عبد المطلب .



وكان من صور النخوة هذه في رفع الظلم عن المظلومين ذلك الجوار الذي عرضه ابن الدغنة على أبي بكر الصديق عند هجرته إلى الحبشة، فقد شعر بأن الصديق ظُلم، فجاء وهو مشرك ليعرض الجوار عليه.



وكانت أيضًا الصحيفة التي نقضها المشركون أنفسهم بعد ثلاث سنوات من المقاطعة والحصار في شعب أبي طالب -كما سيأتي- صورة من هذه النخوة.


عدم الاصطدام بالنواميس الكونية

أن المسلمين لا يصطدمون بالنواميس الكونية، وهي حكمة غاية في الأهمية. فمن النواميس الكونية -مثلاً- أن النار تحرق، ولذلك فالمسلمون أو الناس بصفة عامة لا يلقون بأنفسهم فيها. كذلك من النواميس الكونية أن الذي يسقط في ماء عميق وهو لا يجيد السباحة فإنه لا محالة سيغرق؛ ولذلك فإن المسلمين لا يتهورون بنزول ماء عميق دون إجادة للسباحة.



كذلك فإن من النواميس الثابتة أن للباطل قوة لا بد أن تعتبر، ولا يستقيم للمؤمنين أن يقولوا: إننا على الحق وأن الله معنا، ثم يلقون بأنفسهم في حرب خاسرة ظنًّا منهم أنهم لا بد أن ينتصروا؛ لأنهم جند الله وعباد الرحمن.



فالإسلام دين واقعي، والإسلام دين عملي، ومن أجل ذلك فإنه يقيس بدقة قوة الباطل ويقدّر لها حجمها، ثم على الجانب الآخر فإنه يقدر القوة الكافية للرد، ويضع الخطة المناسبة للنصر، ويهيئ الصف الكفء للقتال، ثم يأتي بعد ذلك التوكل على الله والقتال، أي أن الإسلام وببساطة شديدة دين يحترم ويقدر الأسباب.



ماذا لو قام المؤمنون بثورة مسلحة في مكة؟



لا شك أنهم كانوا سيقتلون رجلاً أو رجلين أو عشرة أو حتى مائة رجل، لكنهم - ولا شك أيضًا - كانوا سيبادون عن آخرهم. وإذا كان الموت في سبيل الله غاية، فإن المؤمن لا يموت بغير ثمن، فإذا لم يغلب على الظن التمكين أو إحداث النكاية في العدو فلا معنى للقتال.



ولقد كان المسلمون في مكة قلة مستضعفة، وكانت القياسات المادية والتي قدرتها قيادة المسلمين أن الوقت غير مناسب للقتال، وذلك ليس جبنًا أو ضعفًا، وإنما حكمة وتدبير، وسيأتي يوم تأخذ فيه قيادة المسلمين قرار القتال في بدر وما بعدها.



فالمسلمون لا يتسرعون النتائج، والمسلمون يدركون تمامًا حقيقة ما يسمى بـ(فقه المرحلة)، فهم يدرسون الظروف بإحكام ويضعون الخطط، ويطلبون المدد من الله ، ثم يقدمون ما يناسب المرحلة التي هم فيها، فقد يناسبها كف عن القتال، وقد يناسبها دعوة سرية، وقد يناسبها دعوة جهرية، وقد يناسبها معاهدات ومفاوضات، وقد يناسبها جهاد واستشهاد.



ورسول الله قد مر بكل هذه المراحل، ووضع لنا منهجًا دقيقًا نتبعه فيه، ولم يترك لنا موقفًا إلا بَيّن كيف نتعامل معه طبقًا لنواميس الكون وطبقًا لشرائع الإسلام.



فلم يكن مجرد رجل عبقري حكيم، إنما كان رسولاً من عند رب العالمين، وناقلاً ما أراده الله منا في كل موقف، ومن هنا كانت أهمية دراسة سيرته ودراسة حياته .


لم يكن القتال ضرورة ملحة

أن القتال لم يكن ضرورة ملحة؛ فقد كانت الدعوة في مكة تسير وتتقدم، وهي وإن كانت تسير بصعوبة بالغة وبمشقة عظيمة إلا أنها كانت تتقدم يومًا بعد يوم.



وكان رسول الله يخاطب الناس ويدعوهم وهو تحت حماية سيوف بني هاشم، وكان أبو طالب قد جعل رسول الله قضية حياته، وكرَّس جهده لرد الكيد عنه.



فكانت الحكمة تقتضي أن يستغل المسلمون هذه الظروف في القيام بأمر الدعوة، وحين يموت أبو طالب أو تنتهي حمايته لرسول الله فإنه لا شك ستختلف تلك المرحلة عن سابقتها، وسيكون لها فقه مختلف، سنرى تفاصيله -بمشيئة الله-.


عدم كشف أوراق المسلمين في البداية

أنه لو حدث قتال لاضطر المسلمون إلى كشف أوراقهم، وبهذا كان سيظهر كثير من المؤمنين الذين لم يكن يُشتهر إيمانهم بعد.



وهذه المرحلة لم تكن تتطلب أيًّا من ذلك، حيث كانت تتسم بجهرية الدعوة للرسول وللقليل فقط ممن لهم منعة ولو نسبية، أما عموم المسلمين فلم يكونوا يعلنون عن أنفسهم.



ولو حدث ذلك الأمر، ولو حدث قتال في أوائل فترة مكة لاكتُشف أمر دار الأرقم بن أبي الأرقم ، ولما استطاع المسلمون أن يحادثوا الأفواج التي كانت تأتي إلى مكة وقت الحج، ولما استطاع المسلمون أن يغادروا مكة إلى غيرها أو يدخلوا إليها إذا كانوا على سفر.



فكان سيوضع عليهم قيود مشددة ستحد من حركتهم، وستؤخر أمر الدعوة لا محالة، ومن هنا كانت متطلبات هذه المرحلة أن يكف المسلمون اليد عن القتال؛ حتى لا يؤدي ذلك إلى كشف كل أوراقهم في وقت يحتاجون فيه إلى التكتم الشديد.


إظهار قدرة الله وحكمته

إظهار قدرة الله وقوته وعزته وحكمته. لقد ظهر أمام الجميع في مكة وحولها في زمانهم وفي الأزمان التي جاءت بعد ذلك كيف كان المؤمنون ضعفاء، وكيف كانوا قلة لا يملكون مقومات الرد المادية فضلاً عن مقومات الانتصار، ثم تظهر بعد ذلك آيات عجيبة، وتحدث أمور لا تخطر على عقول البشر.



فقد دبر الإله الحكيم لأوليائه، فإذا بالضعف يتحول إلى قوة، وإذا بالذل يصير عزة، وإذا بالخوف يتبدل أمنًا، وإذا بالتشريد والتعذيب والإهانة والقتل، كل ذلك يتحول إلى سيادة وتمكين.



وسيكون هناك بعد ذلك بدر والأحزاب، وفتح مكة وتبوك، وغيرها من المواقع الفاصلة.



ثم بعد ذلك أيضًا سيأتي فتح فارس والروم، وسنرى كيف انتشر الإسلام حتى عمّ الأرجاء، وكل هذا بهؤلاء الضعفاء القلة الذين كانوا يُعذَّبون في مكة {صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88].



ومن هنا، ولهذه الأسباب أُمر المسلمون في هذه المرحلة بالكف عن القتال، وسيأتي زمان بعد ذلك يُسمح فيه ويُؤمر بالقتال، وكل مرحلة لها طبيعتها.



ولكي نستطيع أن نحاكي الرسول لا بد أن نعرف المرحلة التي نعيشها، وأي مرحلة تشبه من المراحل التي مر بها .



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة مكة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة مكة - صفحة 2 Empty النهي عن القتال في مكة.. سلبيات وإيجابيات

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:21 am

الكف عن القتال.. سلبيات وإيجابيات

مكة المكرمةإزاء هذا الأمر بالكف عن القتال كانت هناك مخاطر تربوية قد تظهر نتيجة قبول مثل هذا الظلم الذي وقع على المسلمين، ولا بد أن يدركها الدعاة ويحذروا منها، كما أدركها رسول الله وتجنبها بأسلوبه التربوي الراقي، وكان منها ما يلي:


أولاً: إلف الذل

فالشعوب التي تُقاد بالسياط تألف الذل، فإذا جاء وقت يصلح للتغيير فإنهم لا يستطيعون. ومن هنا كان رسول الله يحرص دائمًا على تربية المؤمنين على الشعور بالعزة، ودائمًا ما كان يزرع في قلوبهم أن هذه مرحلة إعداد وتربية، ومن ثم فسيأتي زمان نتسلم فيه راية القيادة، ليس قيادة مكة فقط ولكن قيادة العالمين.



ولذلك لم تنكسر نفسيات الصحابة أبدًا برغم هذا التعذيب وتلك الإهانة التي كانوا يتعرضون لها، فكانوا يستعلون على الكافرين بإيمانهم، ليس كبرًا أو غطرسة، وإنما ثقة ويقينًا بوعد الله بالتمكين.



ففي هذه المرحلة المبكرة وحين كانوا في قرية صغيرة لا تُرى على خريطة العالم، قليلين مستضعفين ومعذبين يُطلعهم ربهم على الأحداث الجارية بين أكبر قوتين في الأرض، وهما فارس والروم.



ينقلهم ربهم نقلة واسعة وكأنه يخبرهم بأنهم عما قليل سيصبحون قادة هذا العالم، وكأنه يُعرّض لهم بأن فارس والروم هذه الممالك العظيمة عما قليل ستصبح مجرد أقاليم في مملكتكم الواسعة. يقول تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الرُّوم: 1- 5].



فكان المسلمون يتابعون الأحداث السياسية والعسكرية في العالم، فضلاً عن أحداث الجزيرة العربية، وهي وسيلة تربوية مهمة جدًّا ترفع من شأن المسلم المستضعف.


ثانيًا: التربية على السلبية

كذلك كان من المخاطر التربوية في أمر كف المؤمنين عن القتال أن يتربى المسلمون على السلبية. وفي سبيل عدم تسرب مثل هذه السلبية إلى المؤمنين فقد كان رسول الله -وهو القائد الفذ والمدير الناجح والمربي القدير- يربي المؤمنين على أقصى درجات الإيجابية حتى وهم يعذبون.



فلم يكن الواقع كما يراه الناظر إلى حال المسلمين في مكة وقد ظن أنهم في حالة انتظار، أو في حالة ركود في انتظار الوقت المناسب للتمكين، إنما كان الواقع أن المسلمين في عمل دائم ودءوب، وكانوا يمثلون الإيجابية في أعلى صورها.


الصحابة والتربية على الإيجابية

كانت للإيجابية التي ربّى رسول الله أصحابه عليها في تلك الفترة مظاهر متعددة:


رفع المستوى الإيماني

كان الرسول يرفع دائمًا من مستوى إيمانهم. والإيمان بالله هو القوة الأساسية لجيش المؤمنين، وهو أعظم الأسلحة، فكان من خصائص هذه المرحلة الارتقاء بهذا الإيمان، وذلك في كل يوم بل في كل ساعة وفي كل لحظة.



فكان هناك تذكير دائم بالله ، وتعظيم دائم له، وكان هناك ترغيب في الجنة وترهيب من النار، وكان هناك صلاة بالغداة وصلاة بالعشي، وقراءة مستمرة للقرآن الكريم، وتدبر عميق في آياته، وعمل دقيق بما جاء فيه.



كان هناك قيام ليل وساعات طوال يقفون فيها في مناجاة مع مالك الملك، وكان هناك تفكر وتدبر في كون الله ، في السموات والأرض، في النباتات والحيوانات والطيور، في الشمس والقمر، في الصحراء والجبال والسحاب.



كما كان هناك بُعد عن المعاصي وترك للذنوب، وزهد في الدنيا وبعد عنها، ورغبة في الآخرة وقرب منها، كان هناك تربية إيمانية عالية.



يخطئ المسلمون الذين يفتُرون في أوقات الاستضعاف، فالإيمان هو السلاح الأول للمؤمنين، والارتقاء بالإيمان هو إعداد ليوم التمكين، وبغير الإيمان لن يُمكَّن المسلمون.


رفع مستوى الأخوة

كان أيضًا من مظاهر الإيجابية في فترة مكة تنمية مشاعر الأخوة في الله بين المؤمنين على اختلاف مستوياتهم.



أخوة لا تُبْنى إلا على عقيدة، لا فرق بين غني وفقير، ولا سيد وعبد، ولا قبيلة وأخرى، لا فرق بين عربي وأعجمي، فالكل مسلمون والكل مؤمنون.



وإن زرع الأخوة في هذه القلوب المتنافرة لهو أمر شاق، لو أُنفقت فيه أموال الأرض ما كان أن يتم إلا أن يشاء الله، يقول تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63].



ونتيجة لهذه الأخوة الصادقة أصبح كل مؤمن يخاف على أخيه أكثر مما يخاف على نفسه، وإنها لتعد قوة ضخمة في جيش المؤمنين، قوة قد تمكث الأمم قرونًا من الأزمان لا تستطيع أن تزرعها في قلوب أجنادها.



وهذه القوة (قوة الأخوة) والتي تم بناؤها في هذه الفترة المكية بمجهود عظيم وتربية مستمرة هي التي دفعت رجلاً مثل الصديق لأن ينفق أمواله ميمنة وميسرة لكي يعتق إخوانه المستضعفين من المؤمنين من رقهم؛ إذ لم يعد للمال قيمة في عينه حينما قارنه بنعمة الأخوة، فتراه وكأنه ينقذ نفسه هو، فكان يشتري الضعفاء الأرقاء -رجالاً ونساءً- لا يريد منهم جزاءً ولا شكورًا.



وهو الأمر الذي جعل أباه أبا قحافة، الذي لم يكن على مثل هذه التربية، يتعجب من إنفاق ابنه لأمواله الخاصة في عتق أنفسٍ ضعاف لا تربطهم به صلة ولا نسب، فقال له ناصحًا: يا بُنيَّ، أراك تعتق رقابًا ضعافًا، فلو أعتقت رجالاً جلدًا يمنعونك ويقومون دونك؟



وفي يقين قال أبو بكر : يا أبتِ، إنما أريد بذلك وجه الله . فأنزل الله قوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 17- 21].



وإن قوة الأخوة هذه التي بنيت في مكة ظلت مع المؤمنين في كل فترات حياتهم بعد ذلك، فظلت معهم في المدينة، وظلت معهم بعد ذلك بعد وفاة الرسول ، وظلت معهم بعد التمكين، وظلت معهم بعد كثرة الأموال، وظلت معهم رغم اختلاف العناصر والقبائل، ظلت معهم لأن الأساس كان قويًّا، ولأن الأساس قد بُني في فترة الاستضعاف في مكة، فتلك إذن وظيفة مهمة وثقيلة في ذات الوقت، وعلى المؤمنين أن يعملوا على استعادتها على الدوام.


الدفاع عن النفس

مظهر آخر من مظاهر الإيجابية ظهر أحيانًا في فترة الاستضعاف وهو الدفاع عن النفس. وقد يبدو في الظاهر أن هذا الدفاع مخالف لقاعدة الكف عن القتال، إلا أن الحقيقة أنه لم يكن ثمة تعارض على الإطلاق، وهذه بعض الحوادث التي حدثت في هذه الفترة بمكة، والتي تفسر لنا كيف كان المؤمنون يدافعون عن أنفسهم أحيانًا ودون مخالفة للمبدأ العام.



فقد رأى رجل سعد بن أبي وقاص يصلي ذات يوم في الصحراء، فجعل يسخر منه ومن صلاته، فما كان من سعد إلا أن حمل قطعة عظم كانت بجواره وقذفه بها، فأريق دم الرجل، وكان ذلك أول دم أريق في الإسلام.



وهذا الذي كان من سعد بن أبي وقاص ؛ لأنه كان من بني زهرة، وله منعة وقوة في شخصه، فكان أن رد وبصورة فردية، بمعنى أن هذا الأمر لم يتطور إلى ثورة عامة في مكة، حيث لم يذهب سعد ويجمع المسلمين أو حتى يجمع قبيلته، فكان موقفًا عابرًا، اعتمد فيه على قوته وعلى منعته فانتقم لنفسه.



وفي هذا الموقف لم ينكر عليه رسول الله ؛ وذلك لأنه لم يكن هناك أثر سلبي على عموم المسلمين، بل على العكس من ذلك فقد كان لذلك الحدث أثر إيجابي عليهم؛ إذ إن المسلمين -ولا شك- أضحوا سعداء حينما شاهدوا صورة من صور الانتصار، التي أشفت بعضًا مما في صدورهم، وأذهبت بعضًا من غيظ قلوبهم.



وهكذا فإنه إذا كان لداعية منعة واستغلها بصورة فردية لرفع الظلم أو رد كيد، فإن هذا يفيد في هذه المرحلة.



ومثل موقف سعد بن أبي وقاص كان موقف الصديق ، وذلك حينما اجتمع أشراف قريش يومًا في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه سلم فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط، سفّه أحلامنا، وسبّ آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم.



فبينما هم في ذلك إذ طلع عليهم رسول الله فوثبوا وثبة رجل واحد، وأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا؟ فيقول: نعم، أنا الذي أقول ذلك. ثم أخذ رجل منهم بمجمع ردائه ، وكان قد تملك الشر منهم، وباتوا على أبواب جريمة كبيرة.



وهنا تدخل الصديق يدافع عن رسول الله ، ويصدّ الناس عنه وهو يبكي من شدة تأثره ويقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟!



ولا شك أن تدخل الصديق هنا كان من الأهمية بمكان، ولا يتعارض مع طبيعة المرحلة؛ فالرسول رأس الأمة، والقائد الذي لا يعوض، ولا بد أن يفتديه أبو بكر بنفسه، فتحرك لذلك.



إلا أن الملاحظ أن تحرك أبي بكر كان تحركًا فرديًّا، فهو لم يسعَ إلى تحفيز المسلمين ولم يجمعهم، وإنما كان تحركًا فرديًّا لكنه كان مدروسًا.



فكان أبو بكر رجلاً ذا مكانة في قريش، وكان تحركه قد يغير من الوضع ومن الموقف، وهو بالفعل قد غيَّر وأفاد، وانتهى الموقف دون تطور، وأنقذ رسول الله .



وهذا الموقف يجعلنا نعرج على موقف آخر كان قد تعرض له رسول الله في غياب الصديق وفي حضور عبد الله بن مسعود ، الذي ليست له منعة وقوة، والذي لن يأبه له أحد، فكان تحركه هنا لن يفيد، بل كان من الممكن أن يقتل وفي نفس الوقت سيظل الموقف كما هو، فكانت الحكمة إذن تقتضي ألاّ يتدخل.



يقول عبد الله بن مسعود كما جاء في صحيح البخاري ومسلم: "إِنَّ النَّبِيَّ كَانَ يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ، إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض: أَيُّكُمْ يَجِيءُ بِسَلَى جَزُورِ بَنِي فُلاَنٍ فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ فَجَاءَ بِهِ، فَنَظَرَ حَتَّى سَجَدَ النَّبِيُّ وَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ لاَ أُغْنِي شَيْئًا، لَوْ كَانَ لِي مَنَعَةٌ".



وهنا تتبدى الحسرة في كلام ابن مسعود ؛ إذ لو كان تقدمه لحماية الرسول سيفيد لما تردد، ولكن بغير منعة سيصبح التقدم مخالفة؛ لأنه كشف لأوراق المسلمين وإشعال فتنة في مكة، وكل ذلك دون نتيجة ملموسة، ولذلك اجتهد عبد الله بن مسعود وآثر ألاّ يتحرك، وسكت رسول الله على ذلك، وسكوته هذا يعني رضاه.



قال عبد الله بن مسعود: "فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ، وَيُحِيلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ سَاجِدٌ لاَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، حَتَّى جَاءَتْهُ فَاطِمَةُ فَطَرَحَتْ عَنْ ظَهْرِهِ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ رَأْسَهُ، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ" ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إِذْ دَعَا عَلَيْهِمْ. قَالَ: وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الدَّعْوَةَ في ذَلِكَ الْبَلَدِ مُسْتَجَابَةٌ. ثُمَّ سَمَّى "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ، وَعَلَيْكَ بِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ". وَعَدَّ السَّابِعَ فَلَمْ يَحْفَظْ. قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ عَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَرْعَى فِي الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ.



ومن هنا فإن المسلمين وإن كانوا مأمورين بالكف عن القتال في هذه المرحلة من مراحل الدعوة، غير أنهم كانوا يتمتعون بإيجابية عالية في إطار الإمكانات المتاحة والحدود المسموح بها في هذه الفترة، والتي تمثلت في:



- إيجابية الارتقاء بالمستوى الإيماني.



- إيجابية الارتقاء بمستوى الأخوة.



- إيجابية الدفاع عن النفس أو عن الغير في ظروف معينة.



- أضف إلى ذلك أيضًا إيجابية الدعوة؛ فإن الدعوة في هذه الظروف لم تعرف التوقف، وقد استمر عدد المسلمين في الارتفاع، وقد عمل المسلمون جميعًا في هذا المجال كل بحسب طاقته.



بل إن الدعوة خرجت من نطاق مكة إلى خارجها، وسيأتي يوم يستحيل فيه استئصال المؤمنين؛ وذلك لكثرتهم وتوزعهم على أماكن كثيرة وقبائل متعددة.



كل هذه كانت مظاهر للإيجابية، ولا يستقيم أبدًا للمؤمن العاقل الفاهم الواعي أن يشكو الفتور أو الكسل أو ضعف الهمة، حتى في أشد فترات الاستضعاف.


الدعوة تنتقل إلى مرحلة جديدة

أما ما كان بعد ذلك، فقد زاد تهور أهل الباطل في مكة، وزاد التعذيب، وضُيِّق الأمر بشدة على المؤمنين.



وهنا انتقل رسول الله من هذه المرحلة التي باتت وكأنها أوشكت على الانتهاء إلى مرحلة أخرى جديدة، تناسب الحرب الضارية التي يشنها أهل الباطل في مكة.



لقد بدأ أهل الإيمان يتزايدون، وأصبح من الصعوبة بمكان أن يختفي كل هؤلاء في البلد الصغير مكة؛ لأنه سينكشف أمرهم لا محالة، والمصير هو التعذيب والتقتيل، والمسلمون بعدُ ليست لهم طاقة بحرب أهل الباطل، فماذا يفعلون؟!



لقد أخذ الرسول القرار الجديد الجريء، إنه قرار الهجرة إلى الحبشة.



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة مكة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة مكة - صفحة 2 Empty الهجرة الأولى إلى الحبشة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:22 am

لماذا الحبشة دون غيرها؟

الهجرة إلي الحبشةكانت الهجرة إلى الحبشة من أجل إنشاء مركز جديد للدعوة، يضمن لها الاستمرارية والبقاء، وكانت وسيلة جديدة في مواجهة أساليب البطش في أرض مكة، لكن السؤال الآن: لماذا اختار رسول الله الحبشة بالذات ليهاجر إليها المسلمون؟!



إن رسول الله -ولا شك- قد فكر كثيرًا في المكان الذي يمكن أن يرسل إليه المسلمين، ولعل أقرب الأماكن التي بدرت إلى ذهنه هو أن يرسلهم إلى إحدى قبائل الجزيرة العربية الكثيرة.



لقد كان في جزيرة العرب تجمعات قبلية كبيرة وكثيرة، فكانت هناك ثقيف في الطائف، وهوازن في حنين، وبنو حنيفة في شرق الجزيرة، وعبس وذبيان في شمال المدينة، وغيرها كثير مثل غطفان وبني بكر وبني عامر، وهذه القبائل لها الميزة والأولوية في كونها تعيش في ظروف مقاربة تمامًا لظروف المسلمين في مكة؛ ومن ثَمَّ فلن يشعر المسلمون بتغير كبير في طبيعة الحياة، وهذا بالإضافة إلى كونهم يتكلمون العربية، وقرب مكانهم من مكة؛ وعليه فإنه إذا احتاج رسول الله إلى المسلمين فإنهم ما يلبثون أن يقدموا سريعًا، لكن العقبة في هذا التوجه كانت تكمن في أن هذه القبائل جميعها مشركة، وهي وإن لم تعلن العداء السافر للمسلمين إلا أنها كلها كانت تعظّم قريشًا، وعلى هذا فإنه إذا طلب القرشيون المسلمين فلن تتردد مثل هذه القبائل أن تدفع المسلمين إليهم، إذن فلم يكن هذا الخيار صائبًا.



ولعل الرسول قد فكر في يثرب -المدينة المنورة- لكن يثرب في هذه الآونة لم يكن بها مسلم واحد، كما أنها بلد متقلب جدًّا، حيث الحروب ما زالت على أشدها بين الأوس والخزرج، كما أن اليهود ومنذ زمن بعيد يسكنون هذه البلاد، وكان تاريخهم فيها وفي غيرها لا يبشر بخير.



ولعل رسول الله فكر في العراق أيضًا، حيث القبائل العربية الكثيرة التي تعيش في هذه المناطق، مثل بني شيبان وغيرها، لكن هذه القبائل -إضافةً إلى كونها مشركة- كانت على ولاءٍ شديد وتحالف مع الفرس، وعادة ما يكره الملوك الدعوات الإصلاحية، فلم يكن كسرى فارس ليرحب بمثل هذا القدوم للمسلمين.



ولعل الرسول أيضًا قد فكر في الشام، حيث القبائل العربية مثل قبائل الغساسنة، لكنها وعلى الجانب الآخر كانت موالية للروم، ولن ترحب أيضًا باستقبال هذه الدعوة الجديدة.



ولعله كذلك قد فكر في مصر، لكن مصر وبرغم أن بها ملكًا معتدلاً وهو المقوقس إلا أنها كانت محتلة من قِبل الرومان ولا تملك من أمرها شيئًا.



ولعله أيضًا قد فكر في اليمن، لكن اليمن أيضًا كانت محتلة من قِبل فارس، ولن يقبل الفرس بقدوم المسلمين...



لا شك أنه قد فكر في كل هذه الأماكن؛ لأنها قريبة ومنطقية، وغالبها عربية باستثناء مصر، لكنه لم يجدها مناسبة، وهنا بزغ في ذهن رسول الله الاختيار الأخير، الذي بدا اختيارًا عجيبًا في نظر الكثيرين، حتى في نظر المعاصرين له وهذا الاختيار هو الحبشة، وكان اختيار الحبشة اختيارًا عجيبًا حقًّا، وهو إن دل على شيء فإنه إنما يدل على سعة اطلاعه وعلى حكمته في ذات الوقت، فرغم أن بالحبشة بعض العيوب الملموسة، إلا أن مزايا اختيارها كانت تفوق عيوبها كثيرًا.



وقد كان من أهم عيوب اختيار الحبشة هو أنها بعيدة عن مكة، ومن ثم فقد تصعب عملية الاتصال أو المراسلات، كذلك أيضًا كان من هذه العيوب اختلاف لغتها (لغة الحبشة) عن لغة المهاجرين؛ حيث لم يكونوا يتكلمون العربية، وأيضًا كانت العادات والطبائع لأهل الحبشة مختلفة كثيرًا عن عادات وطبائع العرب والجزيرة العربية؛ مما قد يؤدي إلى صعوبة نسبية في الحياة هناك، كانت هذه هي عيوب اختيار الحبشة مكانًا لهجرة المسلمين، لكن إذا نظرنا إلى مزايا هذا الاختيار كمكان للهجرة نجد فيه الكثير.



انظر خريطة متحركة توضح اختيار الرسول الحبشة مكانًا للهجرة


مميزات الهجرة إلى الحبشة
أولاً: عدل حاكم الحبشة

قال رسول الله لأصحابه: "لَوْ خَرَجْتُمْ إلى الْحَبَشَةِ؛ فَإِنَّ بِهَا مَلِكًا لاَ يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ". فلم يعلق رسول الله على شيء في حياة هذا الرجل ولا دينه، إنما فقط علق على عدله.



وما حدث للمسلمين في مكة كان نتيجة ظلم بيّن من أهل مكة، والظالم لا ينظر ولا يهتم ولا يكترث بحقوق غيره، أما النجاشي ملك الحبشة فقد كان عادلاً؛ وهو بذلك يحفظ حقوق الآخرين بصرف النظر عن ديانتهم، بل بصرف النظر عن حبهم وكراهيتهم، حيث العدل من أُسس الحكم، وبغيره لا تستقيم الدنيا، وبدونه لن ينجو الإنسان في الآخرة.



وكان من سعة أفق الرسول وشمول نظرته وعمق تفكيره أن اختار البلد الذي يحكمه حاكم عادل، فضمن بذلك حماية كبيرة لأصحابه، وهو درس للدعاة في أن يستفيدوا من الذين يتصفون بالعدل من الناس، وأن يطلعوا على أحوال البلاد المحيطة بهم حتى في زمان الاستضعاف؛ فقد يكون من الفائدة أن يستعينوا برجل من هؤلاء بصرف النظر عن ديانتهم أو توجهاتهم، وكانت تلك من المميزات الرئيسية في اختيار الحبشة.


ثانيًا: أهل الحبشة هم أهل كتاب

فقد كان المسلمون يشعرون بقرب من النصارى؛ حيث إنهم أهل كتاب أيضًا، وقد ظهر ذلك جليًّا في تعاطف المسلمين مع الروم في حربهم ضد فارس الوثنية، وقد شعر رسول الله والمؤمنون أن قلوب النصارى ستكون أقرب إلى الدعوة من غيرهم، وسبحان الله! فقد نزل القرآن بعد ذلك بسنوات عديدة مؤكدًا لهذه المعاني، فقال I: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82].



ومع الأسف، فإن معظم النصارى في أرض الحبشة في ذلك الوقت كانت لهم اعتقادات منحرفة؛ وذلك نتيجة التحريف في التوراة والإنجيل، لكن كان بعضهم ما يزال صحيح الاعتقاد، وكان النجاشي رحمه الله من هؤلاء، وقد أفاد هذا كثيرًا كما سنرى في التعامل مع المهاجرين المسلمين.


ثالثًا: الحبشة بعيدة عن مكة

ومع أن هذا يعدّ عيبًا؛ لأن البعد عن مكة يجعل الاتصال بين الرسول وبين المهاجرين صعبًا وشاقًّا ومكلفًا إلا أنه في ذات الوقت يوفر جانبًا كبيرًا من الأمن للمهاجرين بعيدًا عن بطش أهل الباطل في مكة وما حولها من الأماكن التي يمتد إليها نفوذهم.


رابعًا: الحبشة بلد مستقل

كانت الحبشة مملكة مستقلة ليس لأحد عليها سلطان، ورغم أنها كانت تتبع الكنيسة المصرية في الإسكندرية، إلا أن هذه التبعية كانت تبعية دينية وليست سياسية، فليس هناك خطورة إذن من أن يملي قيصر الروم أو كسرى فارس أو غيرهم رأيًا على أهل الحبشة.


خامسًا: الحبشة بلد قوي في المنطقة وعليها ملك عظيم

فقد كان للحبشة اسم قوي في ذاك الزمن، وكان أهل مكة يعظمون ملكها كثيرًا، وكان بينهم وبينه سفارات ومراسلات وهدايا، ومثل هذا الأمر كان من الممكن أن يكون عيبًا لكن في حال إذا كان ملك الحبشة ظالمًا، أما وإن اتصف بالقوة والعظمة مع العدل؛ فهذا يوفر حماية كبيرة وأكيدة للمهاجرين.



وإن هذا ليضع على عاتق قريش أن تفكر ألف مرة قبل أن تقدم على غزو الحبشة لمطاردة المهاجرين منها كما فعلت بعد ذلك في المدينة في غزوة الأحزاب، فكانت قوة الحبشة وقوة ملكها إضافة إلى حاجز البحر وبُعد المسافة من العوامل المهمة التي تحول دون هذا التفكير في الغزو، وكان أقصى ما يمكن أن تفعله قريش هو أن ترسل سفارة رسمية تطلب فيها تسليم المهاجرين، وإن كان الملك عادلاً فإنه -ولا شك- سيرفض تسليم زوّاره وضيوفه.


سادسًا: الحبشة بلد تجاري وصاحب قوة اقتصادية

كانت الحبشة في ذلك الوقت ذات قوة اقتصادية معقولة، ولا يخشى عليها من حدوث أزمات اقتصادية، وذلك نتيجة قدوم المهاجرين، وهذا - ولا شك - سيعمل على توفير الأمان والاستقرار للمؤمنين، وفي ذات الوقت فلن يغير من نفسيات أهل الحبشة؛ فهم لم يشعروا بأزمة تذكر نتيجة هجرة المسلمين إليهم.



لهذه الأسباب مجتمعة -وقد يكون لغيرها- كان اختيار الحبشة اختيارًا موفقًا جدًّا، وقد بدأ المهاجرون بالفعل يتجهون إلى هناك، ليبدأ ما يسمى في السيرة بالهجرة الأولى إلى الحبشة.


المهاجرون إلى الحبشة

بعد هذا الاختيار السابق أمر رسول الله أربعة عشر مؤمنًا بالهجرة إلى الحبشة، عشرة رجال وأربع نسوة وكانت النسوة أزواج أربعة من المهاجرين، فكانت هذه هي الطليعة الأولى من المهاجرين، وأمام هذه الطليعة نود أن نقف وقفتين في غاية الأهمية.



انظر خريطة متحركة توضح الهجرة الأولى إلى الحبشة


الوقفة الأولى: مَن أول من هاجر من المسلمين؟

في مطالعة للأسماء التي هاجرت، كان الاسم الأول هو: عثمان بن عفان الأموي وزوجته السيدة رقية بنت رسول الله ، ويا لهذا من موقف وتعبير، وإن لهذا الأمر أبعادًا عظيمة تجعل بل تزيد من التأكيد أن أعمق وسيلة من وسائل التربية هي وسيلة التربية بالقدوة، فلقد أصدر رسول الله أوامره بالهجرة وترك الديار، ثم لم يعزل نفسه ويجعلها بمنأى عن الأذى من جراء هذه الهجرة، وها هي ابنته السيدة رقية، حبيبة قلبه، وقطعة من جسده، تهاجر إلى الحبشة مع المهاجرين، بل تسبق المهاجرين، وها هو رسول الله يذوق ألم الفراق كما يذوقه أصحابه من المؤمنين.



إن من المستحيل أن يتأثر الجنود بقائدهم إلا إذا شعروا أنه معهم في خندقهم، فما أسهل أن تأمر بالتقشف! وما أسهل أن تأمر بالإخلاص! وما أسهل أن تأمر بالتضحية! وما أسهل أن تأمر بالجهاد! وما أسهل أن تأمر بالهجرة! بل ما أسهل أن تأمر بالموت! لكن ذلك كله لن يتأثر به أحد إلا إذا قُرن بعمل، وها هي التربية بالقدوة رسالةٌ من رسول الله إلى كل قائد: إذا أردت أن تملك قلوب شعبك وأتباعك فانزلْ إليهم، وعشْ معهم وخالطهم، افرح بما به يفرحون، وتألم مما منه يتألمون، شاركهم في طعامهم وشرابهم وسفرهم وسعيهم وقتالهم، عندئذ اعلم أنك امتلكت قلوبهم.



وقد كان الاسم الثاني في هذه الهجرة أيضًا من بيت رسول الله إنه: جعفر بن أبي طالب ابن عم رسول الله الهاشميّ القرشي الشريف، حيث هاجر هو وزوجته السيدة أسماء بنت عميس رضي الله عنها. وكذلك كانت بقية الأسماء التي هاجرت، كان غالبيتها من بيوتات الشرف والمكانة والمنعة في مكة، فكان منهم:



عبد الرحمن بن عوف من بني زهرة، والزبير بن العوام من بني أسد، وأبو سلمة بن عبد الأسد من بني مخزوم، وأبو حذيفة بن عتبة من بني عبد شمس، ومصعب بن عمير من بني عبد الدار، وعثمان بن مظعون من بني جمح، وهكذا.


الوقفة الثانية: المسلمون وأسباب نجاح الهجرة

المطلع على حال الهجرة يَرى أن المسلمين قد أخذوا بكل الأسباب الممكنة لضمان نجاح عملية الهجرة التي هي في أيديهم، فعملوا على ما يلي:



أولاً: خرج المسلمون في سرية كاملة، ولم يُعلموا أحدًا بهجرتهم.



ثانيًا: لم يخرجوا مجموعة واحدة، بل خرجوا متفرقين حتى لا يلفتوا الأنظار إليهم.



ثالثًا: ولضمان عدم الاختلاف ولتوحيد الصف اختار لهم رسول الله أميرًا عليهم من أنفسهم، اختار لهم عثمان بن مظعون .



رابعًا: التنوع الملموس من قبائل مكة، فقد أخرج الرسول من كل قبيلة رجلاً؛ وبذلك فلن تستطيع مكة أن تتحزب ضد قبيلة معينة، وأصبح الموقف صعبًا جدًّا عليهم، وكانت هذه هي الخطة نفسها التي استعملها بعد ذلك أبو جهل عند محاولته قتل رسول الله عند هجرته إلى المدينة؛ وذلك ليتفرق دمه بين القبائل.



هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه سوف يكون لهذا الوفد - الذي يضم خليطًا من قبائل مكة - تأثيرٌ واضح على ملك الحبشة، وكأنه يمثل سفارة رسمية تمثل شعب مكة، ومن ثم فلا يخطر على ذهن النجاشي أن هذه حركة قبائلية بحتة، إنما يعلم أنها دعوة دينية أخلاقية، لا تفرق بين قبيلة وأخرى، وهذا سيكون أدعى لرد كيد قريش إذا حاولت أن تكيد للمسلمين عند ملك الحبشة.



تخطيط وإبداع في الهجرة فعله رسول الله وأخذ فيه بكل الأسباب المادية؛ وذلك حتى يعلمنا كيف نسير على دربه وعلى طريقه . وبعد أن أخذ المسلمون بكامل الأسباب وخرجوا من مكة خفية، واجتمعوا عند ساحل البحر.



مع كل هذا، وسبحان الله! استطاع أهل مكة أن يعرفوا وجهتهم ويلحقوا بهم، وهكذا؛ فحرب الحق والباطل ليس لها نهاية إلى يوم القيامة، وعند هذا الحد كان من الممكن أن تجهض محاولة الهجرة تمامًا، لكن المسلمون ابتهلوا إلى الله أن ينجيهم مما لحق بهم، وفي هذه اللحظة وجدوا سفينتين في البحر متجهتين إلى الحبشة، فركبوا فيهما وانطلقوا باسم الله في وسط البحر، ولم يستطع المشركون أن يلحقوا بهم، لقد استنفد المسلمون ما في وسعهم وأخذوا بكامل الأسباب، ورغم ذلك أدركهم المشركون، تُرى لماذا أدركوهم؟!



الحق أن المشركين لحقوا بالمسلمين ليلجأ المسلمون إلى الله، وليعلموا أن الأخذ بالأسباب لا ينفع إلا إذا أراد الله ، وليدركوا حق الإدراك أن الكون كله بيد الله يُصرّفه كيف يشاء.



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة مكة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة مكة - صفحة 2 Empty مكة وأحداث ما بعد الهجرة الأولى إلى الحبشة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:23 am

إسلام البطلين حمزة وعمر رضي الله عنهما

كما توقع رسول الله وصل المسلمون بأمان إلى أرض الحبشة، واستقبلهم النجاشي خير استقبال، وجلسوا عنده في أكرم دار، ولم يلقوا عنتًا ولا إيذاءً ولا مشقة، وقد مرت الأيام والشهور، ثم حدث في مكة أمور عظام، وأحداث في ظاهرها بسيطة لكنها محطات تغيير مهمة، لا نقصد تغيير أوضاع مكة فقط، بل وتغيير خريطة العالم بعد ذلك، فماذا حدث في مكة؟إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما



أولاً: آمن حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله .



ثانيًا: بعد إسلام حمزة بثلاثة أيام فقط آمن عمر بن الخطاب ، وستحمل الأيام مفاجآت عظيمة لأهل الأرض جميعًا، يرون فيها كيف أن هذا الرجل الذي آمن في هذه البلدة الصغيرة (مكة) سيوجه جيوش المؤمنين ليكسر شوكتي فارس والروم، وليوحد أطراف العالم في خلافة واحدة تحت ولاية خليفة واحد، آمن الفاروق عمر بن الخطاب في مكة، وبعد إسلامه حدثت تغييرات جذرية في سياسة المؤمنين، سنفصلها لاحقًا بمشيئة الله، ونعلق هنا فقط على ما كان له من أهمية في قضية الهجرة إلى الحبشة.



فما إن آمن عمر بن الخطاب حتى ظهر الإسلام في مكة، وأعلن كثير من المسلمين إسلامهم بعد أن أذن لهم رسول الله ، وكان كما قال عبد الله بن مسعود : "ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر ". وقد قَلّ إلى حد كبير التعذيب الوحشي التي كانت تقوم به قريش للمؤمنين.



وعاش المسلمون في مكة لحظات عظيمة من السعادة لم تمر بهم منذ زمن طويل، سعادة بإسلام البطلين العظيمين الجليلين، حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وسعادة بالإحساس بالأمان النسبي الذي شعر به المسلمون للمرة الأولى منذ أكثر من خمس سنوات، وسعادة بشعور العزة والفخر بهذا الدين وأتباعه. وما إن طارت أنباء هذه السعادة إلى الحبشة حتى تواصلت قلوب المؤمنين في الحبشة مع قلوب المؤمنين في مكة، وشعروا معهم بنفس السعادة التي شعروا بها، الأمر الذي زادهم حنينًا في العودة إلى أرض الوطن، وإلى أرض الأجداد والعشيرة، وإلى الكعبة والبيت الحرام والبلد الحرام، شعر المسلمون في الحبشة أنه في هذا التوقيت ستكون عودتهم ممكنة وسيكون الرجوع قريبًا.


الكفار يسجدون لله تأثرا بالقرآن

ومع هذا الحدث العظيم -حدث إسلام البطلين حمزة وعمر رضي الله عنهما- تزامن حدث آخر عجيب في مكة وفي ساحة البيت الحرام، وكان في رمضان في السنة الخامسة من البعثة، فقد كان من أساليب الكافرين لمنع الناس من التأثر بكلام الله أن يمنعوا أنفسهم من السماع أصلاً؛ لأنهم يعلمون أنه لو سمع أحدهم القرآن فقد يؤمن به، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصِّلت: 26]. لكن الذي حدث في رمضان في السنة الخامسة من البعثة هو أن المشركين كانوا مجتمعين في البيت الحرام، وكان معهم المؤمنون أيضًا، وكان معهم رسول الله ، وقد شاهد رسول الله هذا الجمع الكبير من الناس (من الكافرين والمؤمنين)، فوقف فيهم ومُفاجِئًا لهم بدأ يقرأ سورة من سور القرآن الكريم، فقرأ عليهم سورة النجم كاملة:



{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إلى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النَّجم: 1- 12].



وقد أُخذ المشركون بروعة الآيات والكلمات، وقد بُهروا بهذا الكلام الغريب العجيب، الذي لا يقدر عليه بشر، فلم يحركوا ساكنًا، ونزلت الآيات كالقوارع على قلوبهم، خرست الألسنة، وتسمرت الأقدام، وتعلقت العيون برسول الله ، وأخذ رسول الله يكمل قراءته بصوته العذب، حتى إنه بدأ يقرأ آيات تُسفّه أصنامهم وآلهتهم المزعومة:



{أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النَّجم: 19- 23].



ومع أن الآيات تهين آلهة قريش وتحقر من شأنها إلا أن المشركين لم ينبسوا بكلمة واحدة، بل ظلوا يستمعون القرآن مبهورين انبهارًا كاملاً، وأكمل رسول الله السورة بكاملها، وحين وصل إلى آية السجدة: {أَزِفَتِ الآَزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا للهِ وَاعْبُدُوا} [النَّجم: 57- 62].



سجد رسول الله وسجد المؤمنون معه، لكن المفاجأة الكبرى أن المشركين أيضًا لم يستطيعوا أن يمنعوا أنفسهم من السجود لله رب العالمين، سجدوا جميعًا مع رسول الله ، وقد طارت قلوبهم وذهلت عقولهم، ثم قاموا بعد السجود وقد أرعبتهم المفاجأة، لقد لمس الإيمان قلوبهم لحظة، ثم ما لبثوا أن نكسوا من جديد على رءوسهم متعجبين: ماذا فعلنا؟! {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14].



وقد اجتمع المشركون في مكة ممن لم يحضر المشهد في البيت الحرام، وأخذوا في إلقاء اللوم والتأنيب على المشركين الذين سجدوا مع رسول الله وأُسقط في يد المشركين، ولم يدركوا ماذا يفعلون، ثم غلب عليهم شيطانهم وأوحى إليهم أن يفتروا الكذب على رسول الله ، فما كان منهم إلا أن أشاعوا أن رسول الله قد قرأ آيات معينة تعظم من شأن اللات والعزى؛ ولذلك لما جاءت آية السجود سجدوا تعظيمًا لآلهتهم، افتروا مثل هذه الفرية ليخرجوا بها من الإيمان الذي دخل قلوبهم رغمًا عن أنوفهم.


العودة الأولى لمهاجري الحبشة إلى مكة

خريطة الهجرة الي الحبشةما يهمنا فيما سبق هو أن هذا الأمر قد طار إلى الحبشة بصورة مختلفة عما كان قد وقع، فلقد وصل إلى أسماع المسلمين في الحبشة أن مكة قد آمنت ودخل أهلها في الإسلام، وحدثتهم مخيلتهم بأنه قد آمن حمزة وعمر رضي الله عنهما وظهر المسلمون بوضوح وصاروا أعزة، ثم سجد المشركون مع رسول الله إيمانًا بما يقول، وقد أصبحت مكة الآن مسلمة، وهكذا ظن المسلمون في الحبشة، وكان موقفهم: ما الفائدة إذن في البقاء فيها بعد إيمان مكة؟!



وحيال هذا الأمر نتعجب: كيف حدث هذا الخطأ في فهم المسلمين في أرض الحبشة؟! لا بد أن هناك من أخطأ في نقل الأخبار من مكة، أو أن هناك من أخطأ في فهم الخبر الصحيح، وفي كلتا الحالتين فقد ترتب على هذا الخطأ إرهاق شديد جدًّا للمسلمين في الحبشة، لقد قرروا أن يعودوا أدراجهم إلى مكة على إثر هذه الإشاعة غير الصحيحة، وكم من الأثمان يدفعها المسلمون ثمنًا للشائعات! وكم من الوقت والجهد والمال يضيع من جرَّاء مثل هذه الشائعات!



لذا فعلى المسلمين دائمًا أن يتبينوا قبل أخذ القرار، وإني لأرى أنه كان من المفترض على المهاجرين في الحبشة أن يرسلوا أولاً رسولاً واحدًا منهم إلى مكة يستوثق صحة الخبر قبل أن يجمعوا أنفسهم ونساءهم وأطفالهم، قاطعين مثل هذه المسافات الطويلة والمرهقة عبر البحار والصحاري، أو كان عليهم أن ينتظروا رسالة واضحة من قائدهم المحنك رسول الله الذي كان -ولا شك- سيرسل إليهم بالخبر لو أن مكة كانت آمنت حقًّا، وأن من المصلحة أن يعودوا، لكن هذا لم يحدث.



وركب المسلمون البحر وقطعوا تلك المسافات الطويلة، وجاءوا إلى مكة وقلوبهم تطير فرحًا لما كانوا يعتقدون، ثم كانت الصدمة القاسية، لقد اكتشفوا أن الخبر كان إشاعة، ولا حول ولا قوة إلا بالله!



معاناة كبيرة مر بها المسلمون في طريق هذه الدعوة، لكن بفضل من الله كان المسلمون على حذر كافٍ عندما اقتربوا من مكة، فقد انتظروا حتى الليل، وقد أرسلوا رسولاً ليجيء لهم بالخبر وانتظروا هم خارجها، وقد أتى الرسول: ما زال أهل مكة مشركين. صدمة قوية ومشكلة ضخمة، وحيالها اجتمع المسلمون وعقدوا مجلسًا للشورى، وخرجوا من اجتماعهم بثلاث توصيات، واستقروا على أن يقسِّموا عليهم هذه التوصيات الثلاث.



التوصية الأولى فهي: أن يعود غالبيتهم مرة ثانية إلى الحبشة دون دخول مكة، وهو أمر شاق على النفس، ولكنه أكثر أمنًا.



التوصية الثانية هي: أن يدخل بعض المسلمين مكة سرًّا مستخفين لقضاء بعض المصالح لهم ولبقية المهاجرين، ثم العودة بعد ذلك. ومعلوم أنهم لن يبقوا في أرض مكة إلا فترة قليلة؛ لأن مكة مدينة صغيرة، ومن المستحيل أن يختبئ فيها رجل عن عيون الناس لمدة طويلة.



التوصية الثالثة فكانت: أن يدخل بعضهم إلى أرض مكة جهارًا، ولكن في جُوارٍ واضح وحماية معلنة؛ حتى لا يتعرض للقتل أو التعذيب الشديد، وهؤلاء سوف يقومون بشرح أحوال الحبشة لرسول الله ويتبادلون الخبرة مع مؤمني مكة بخصوص أمر الهجرة.



وبالفعل تم تطبيق هذا الاتفاق وتلك التوصيات، وعاد الغالبية إلى الحبشة دون دخول مكة، ودخل بعضهم مكة سرًّا ثم عادوا بعد ذلك أيضًا إلى الحبشة، ودخل بعضهم أيضًا مكة في وضوح.



أما الذين دخلوا مكة فكانوا: عثمان بن عفان وزوجته السيدة رقية بنت رسول الله ، وأيضًا عثمان بن مظعون ، وقد دخل عثمان بن عفان الأموي مكة في حماية قبيلته القوية، قبيلة بني أمية، أما عثمان بن مظعون فقد دخل في جوار الوليد بن المغيرة المشرك، وهو من قبيلة بني مخزوم؛ وذلك لأن قبيلة عثمان بن مظعون (بني جمح) كانت من أشد القبائل محاربة له بشخصه، وكان من أشدهم عليه أمية بن خلف الجمحي -لعنه الله- فدخل عثمان بن مظعون في إجارة الوليد بن المغيرة، لكنها كانت إجارة غير مشروطة.



انظر خريطة متحركة توضح عودة مهاجري الحبشة الأولى إلى مكة



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة مكة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة مكة - صفحة 2 Empty وفد قريش إلى النجاشي

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:23 am

وفد قريش في الحبشة

وفد قريش إلى النجاشيوصل وفد قريش إلى الحبشة، وهناك وبشيء من الحنكة والذكاء لم يدخل عمرو بن العاص على النجاشي مباشرة، بل ذهب أولاً إلى بطارقته، وإلى رجال الدين والوزراء وكبار القوم، والذين يجلسون عادة في مجلس النجاشي يشيرون عليه بالرأي، ذهب إليهم وقد ملأ أيديهم جميعًا بالهدايا العظيمة، ثم بدأ يطرح عليهم طلبه مرفقًا به حجته الدامغة؛ وذلك بهدف الوقوف معه ضد المسلمين أمام النجاشي.



وقد نجح عمرو بن العاص في هذه المهمة خير نجاح، وقبلوا منه جميعًا الهدايا، وسمعوا لرأيه واقتنعوا بفكرته، وبذلك يكون قد مهَّد الطريق تمامًا للحوار مع النجاشي.


خطاب عمرو بن العاص أمام النجاشي

دخل عمرو بن العاص على النجاشي، وكان لقاءً حارًّا بين الصديقين، وقد أتى بالهدايا العظيمة وأهداها إليه، وقبلها منه النجاشي، وبعد أن اطمأنَّ عمرو بن العاص إلى وجود جميع البطارقة والوزراء معه، بدأ يعرض أمره ومهمته عليه، وكان ينتقي كلماته بدقة شديدة وبحكمة عظيمة، فقال: "أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء".



وكانت هذه سقطة من عمرو بن العاص، وكذبة كذبها على النجاشي؛ فكل المهاجرين كانوا من الأشراف العقلاء وليسوا من الغلمان السفهاء، لكنه أراد أن يحقر من شأن المسلمين اعتقادًا منه أنه من غير المعقول أن يقدم النجاشي كلام الغلمان السفهاء على كلام سفارة قريش الرسمية.



وبعد هذا السهم رمى بالسهم الثاني فقال: "فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدينٍ ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت".



وهذا فيه من الذكاء الشديد ما فيه؛ فهو يريد أن يوغر صدر النجاشي على المسلمين الذين لجئوا إلى بلده، فهم قد فارقوا دين قومهم ومع ذلك لم يدخلوا في دينه، فهم لم يراعوا حق الأهل ولا راعوا حق المضيف لهم.



ثم كان السهم الثالث: "وقد بعثَنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم؛ فهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوهم فيه".



وفي هذا السهم الأخير أكثر من إشارة خفية، لكنها لا تخفى على ذكاء النجاشي.



أولاً: من وراء كلماته، وفي إشارة خفية بالتهديد بقطع العلاقات بين مكة والحبشة، ووقف المعاملات الاقتصادية والهدايا بين أشراف مكة وبين النجاشي يبعث عمرو بن العاص برسالة إلى النجاشي، وهي أنه أُرسل من قبل أشراف مكة ورؤسائها.



ثانيًا: وفي إشارة واضحة في أن لأشراف قريش وحدهم الحق في المهاجرين وعليهم، أعلمه أن آباء هؤلاء المهاجرين وأعمامهم هم هؤلاء الأشراف (أشراف مكة)، ومن ثَمَّ فإن لهم ما للآباء على الأبناء، والحال إذن كما لو أخطأ ولد في حق أبيه ثم جاء إلى بيتك هاربًا، ثم جاء أبوه بعد ذلك يطلبه، فالطبيعي هو أن تعيد الولد لأبيه، وأقصى ما في الأمر أن توصيه به خيرًا.



ثالثًا: يشير أيضًا عمرو بن العاص إلى أن النجاشي قد ينخدع في الحكم عليهم؛ بسبب حلاوة منطقهم وطلاقة لسانهم، لكن الذين يعلمونهم حق العلم هم الذين عاشوا معهم دهرًا طويلاً، فهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.



وهكذا يكون عمرو بن العاص قد تكلم فأحسن الكلام، وأوجز فأحسن الطلب، وقد ضمّن كلامه حججًا وأدلة منطقية وقوية، وهي في الوقت ذاته لا تكاد تخلو من أدب جم وخلق رفيع، والمطلوب فيها واضحٌ وهو ردُّ المسلمين إلى مكة.



وفي محاولة لإتمام نجاح هذه المهمة ووفق خطة عمرو بن العاص المنهجية، ما إن انتهى من كلامه وقبل أن يتكلم النجاشي حتى أقبل البطارقة قائمين بدورهم أيضًا قائلين: "صدقا أيها الملك، فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى قومهم وبلادهم".


عدل النجاشي وفقه المرحلة عند المهاجرينعدل النجاشي ملك الحبشة

لأنه ملك لا يظلم عنده أحد، ولعلمه أنه من العدل والإنصاف قبل الحكم في القضية أن تسمع كلا الطرفين المتخاصمين، مهما كانت حجة الطرف الأول قوية، ومهما كانت العلاقة مع الطرف الأول وطيدة، ومهما كانت التبعات لأخذ القرار، كان ردُّ النجاشي على عمرو بن العاص وعلى بطارقته:



لا والله، لا أسلمهم إليهما، ولا يُكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوَهم فأسألهم مما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولون أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني.



ثم أرسل النجاشي -رحمه الله- إلى المسلمين ليرى ردهم فيما قاله عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، وما إن وصلت الرسالة إلى المسلمين حتى عقدوا مجلسًا سريعًا للشورى، وقالوا: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ فكان أن اجتمعوا على أن يقولوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا، كائنًا في ذلك ما هو كائن.



لا تبديل لكلمات الله، وإن النجاة لفي مثل هذا الثبات، ثم أجمعوا على أن يتكلم منهم رجل واحد باسمهم، ولهذه المهمة العظيمة اختاروا جعفر بن أبي طالب ، ولعل ذلك كان للأسباب التالية:



1- أنه رئيس الوفد والممثل الرسمي له، ولا شك أنه قد التقى قبل ذلك بالنجاشي، وتحدث معه وأَلِف حواره.



2- أنه كان خطيبًا مفوهًا، ويتميز ببلاغة وفصاحة عظيمة وطلاقة لسان رائعة.



3- أنه كان من أشرف أشراف الوفد؛ فهو هاشمي قرشي، وهم بذلك يبطلون قول عمرو بن العاص: "إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء".



هذا، وقد ذهب المسلمون يتقدمهم جعفر بن أبي طالب حيث طُلبوا، وهناك وجدوا النجاشي وقد جلس على كرسيه ومن حوله أساقفته وقد نشروا أناجيلهم، وعلى الناحية الأخرى كان يقف عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، وقد كرها أن يتكلم المسلمون؛ لأنهم يعلمون حلاوة منطقهم.



افتتح النجاشي الاجتماع المهيب المرتقب بسؤال للمسلمين قد حمل كثير من علامات الاستفهام، قال النجاشي: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من هذه الأمم؟!



فكانت المفاجأة بالنسبة لنا أننا اكتشفنا أن المهاجرين لم يعلنوا عن هويتهم، ولم يذكروا شيئًا البتة من قبل عن دينهم عندما دخلوا أرض الحبشة!!



وكان تفسير هذا الأمر هو أن الهدف المرحلي للمسلمين في هذه الفترة كان الحفاظ على الدين ممثلاً في المهاجرين، فقد أدرك المهاجرون أن قوتهم ضعيفة وقدراتهم محدودة، ولم يريدوا أن يفتحوا على أنفسهم جبهات جديدة، وكذلك أيضًا كانوا يتخوفون من أن أهل الحبشة النصارى قد يعترضون على دينهم، ومن هنا فقد آثروا كتمان أمرهم والمحافظة على سريتهم، وبمعنى أدق: اهتموا بالناحية الأمنية على حساب الناحية الدعوية في هذه المرحلة الحرجة من بداية الدعوة، فكان هذا هو فقه المرحلة الذي برع فيه المسلمون، وساعدهم في ذلك أن النجاشي لم يسأل عن أشياء لم تبد له، بل اكتفى باستقبالهم بالمبرر الأوحد الذي ذكروه له، وهو أنهم قد ظلموا في بلادهم فلجئوا إليه، أما كيف ظلموا ولماذا؟ فهذا لم يدخل فيه.



أما الآن فهناك مشكلة سياسية قد تحدث، وقد يكون كلام عمرو بن العاص صحيحًا ولا بد حينها من السؤال، وبالنسبة للمسلمين أيضًا فقد تغيرت المرحلة؛ حيث هم الآن يمثلون دين الإسلام، ولو قالوا كلامًا مغايرًا للحقيقة فقد يفهم الإسلام بصورة خاطئة، فلا بد إذن من ذكر الحقيقة كاملة ولكن بلباقة وكياسة، وهذا ما سنفرد له مقالاً خاصًّا إن شاء الله.



انظر خريطة متحركة لوفد قريش المتجه إلى الحبشة لرد المسلمين



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة مكة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة مكة - صفحة 2 Empty خطاب جعفر بن أبي طالب أمام النجاشي

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:24 am

خطاب جعفر بن أبي طالب وقوة الحق

خطاب جعفر بن أبي طالب أمام النجاشيفي ثبات وثقة عالية تقدم جعفر بن أبي طالب وألقى خطابًا جليلاً مهيبًا، إن دل على شيء فإنما هو الحق وقد أجراه الله على لسانه. وفي خطابه قَسّم جعفر بن أبي طالب كلماته إلى مقاطع عدة، يحمل كل مقطع منها معنى معين، ويصل به إلى هدف خاص.


المقطع الأول
جعفر يقبح صور الجاهلية

"أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف".



فقد بدأ جعفر بن أبي طالب بتقبيح الحالة التي كانوا عليها قبل الإسلام، وتصوريها بصورة تأنف منها النفوس الكريمة، وتأباها العقول السليمة، وهو بهذا يرسل إشارة واضحة أيضًا تتضمن أن هذين الرسولين (عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة) ما زالا على هذه الصورة الخبيثة وتلك الأخلاق الفاسدة.



ونلاحظ أيضًا أن كل مساوئ الجاهلية التي صورها جعفر لا تبعد كثيرًا عن صفة الظلم؛ فكان هناك إما ظلم مع النفس وذلك بعبادة الأصنام {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، أو ظلم مع الرحم بقطع الأرحام، أو ظلم مع الجار بالإساءة إليه، أو ظلم مع الضعيف بأكل حقه.



ولنتخيل مثل هذه الصور من الظلم وهي تعرض على ملك عادل لا يُظلم عنده أحد، فكان تصدير جعفر بن أبي طالب بذكر مساوئ الجاهلية -ولا شك- قد ترك أثرًا عظيمًا في قلب النجاشي، بل في قلب أساقفته، فكان هذا المقطع من كلام جعفر سهمًا قد أُطلق في مقتل لقريش ووفدها.


المقطع الثاني

محمد الصادق الامينقال جعفر: "فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه".



وهنا يشير جعفر إلى أن الذي جاء بهذا الدين الجديد والمخالف لما هم عليه جميعًا ليس رجلاً أفَّاكًا كذّابًا يريد خداع الناس من أجل مصلحة ما، بل هو صادق أمين، وطاهر عفيف، ومن أعرق أنسابنا، وقد جاء بالحق الواضح.



وإزاء هذه النعوت لم يستطع عمرو بن العاص ولا عبد الله بن أبي ربيعة أن يردّا بكلمة واحدة؛ فقد كان رسول الله فوق كل شبهة، هذا إضافةً إلى أن النصارى يؤمنون بالرسل بصفة عامة، فما أكثر الرسل التي تحدثت عنها التوراة والإنجيل.


المقطع الثالث
جعفر يمجد من صور الإسلام

وهذا المقطع في غاية في الروعة، فبعد أن عرض لصورة الجاهلية الحقيقية، أخذ في عرض الصورة المقابلة لها وهي صورة الإسلام، التي جاء بها هذا الرجل الصادق الأمين ، فقال جعفر بن أبي طالب:



"فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام". تقول السيدة أم سلمة رضي الله عنها -وهي راوية القصة-: "فعدَّد عليه أمورَ الإسلام".



وفي ذلك التصوير لم يكذب جعفر ولم يتجمل، وإنما هي الحقيقة، فالباطل بطبيعته قبيح مقيت كريه، والإسلام بطبيعته حسن جميل محبوب، فقط عليك أن تعرض الصورة بوضوح، وستختار الفطرة السليمة دين ربها.


المقطع الرابع
جعفر يكيد من الكافرين

وهو غاية في الذكاء والتوفيق، قال جعفر: "فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئًا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا".



ثم أتبع ذلك فقال: "فعدَا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث".



وهنا يبرز جعفر بن أبي طالب الدور القبيح للكافرين، وكان منهم آنذاك عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، ولا شك أن موقفهما أصبح ضعيفًا جدًّا، ولا ننسى هنا أن صور التعذيب والابتلاء تستهوي قلوب النصارى كثيرًا؛ فهي تذكرهم بالحواريين الذين عُذِّبوا من قبل، وبالذين كانوا يفتنونهم عن دينهم بأبشع الأساليب، بل تذكرهم بصورة المسيح .



وهكذا سيطر جعفر تمامًا على مشاعر النجاشي، بل وعلى مشاعر الأساقفة من حوله، وقد ختم بيانه هذا بمقطع سياسي حكيم قال فيه: "فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألاَّ نظلم عندك أيها الملك".



وهنا -وفي صدقٍ تام وفي غير نفاق ولا كذب- يرفع جعفر من شأن النجاشي، فيذكر أفضليته على من سواه في مثل مكانه، ويرفع من قيمة العدل عنده، وهو بذلك يكسب قلبه، فيلين جانبه وتهدأ نفسه؛ فلا يتسرع بحكم، ولا يجور في قضاء.



انتهى البيان المختصر من سفير المسلمين وقائد المهاجرين جعفر بن أبي طالب ، وكانت النتيجة هي خمسة سهام قوية في صدور الكافرين، وسكون -إلى حد كبير- في جوارح الأساقفة الذين كانوا يتربصون بالمسلمين بعد أخذهم هدايا عمرو من قبل.


جعفر يقرأ أمام النجاشي سورة مريم

أمام خطاب وبيان جعفر وقد بدا عليه وكأنه بدأ يقتنع بكلامه ويهتم بأمر هذا الدين الجديد، سأله النجاشي قائلاً: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟



قال جعفر: نعم.



قال النجاشي: اقرأه عليَّ.



وفي الآيات التي سيقرؤها على النجاشي فكر جعفر، ثم هداه الله إلى اختيار موفَّق، فبرغم كثرة السور التي نزلت في مكة، إلا أنه اختار صدر سورة مريم.



اختار السورة التي تتحدث عن عيسى وزكريا ويحيى -عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم- اختار السورة ذات السياق العذب اللطيف، تلك التي تجذب قلوب السامعين وتأخذ بألبابهم وأفئدتهم، فتنشرح صدورهم لما جاء من عند الرحمن الرحيم، فقرأ جعفر:



{كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا * يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا * قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا * قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا * يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا * وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا * وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاَمًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا * فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} [مريم: 1- 22].



لم يتحمل النصارى أثر تلك الكلمات المعجزة، فما تمالكوا أن انهمرت دموعهم غزيرة فياضة، وبكى النجاشي حتى ابتلت لحيته، وبكى الأساقفة، ولم تقف هدايا عمرو حائلاً بين كلام الله وبين قلوب السامعين، وهنا وبوضوح أخذ النجاشي القرار وقال:



"إن هذا والذي جاء به موسى (وفي رواية: عيسى) ليخرج من مشكاة واحدة". وإن هذا ليعد إقرارًا منه بصدق الرسالة، وصدق رسول الله وصِدق جعفر ومن معه. ثم التفت إلى عمرو وعبد الله بن أبي ربيعة وقال لهما: "انطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكم أبدًا".



وبهذا يكون الوفد الإسلامي قد نجح أعظم نجاح، ولم ينجح في إقناع عقل النجاشي وأساقفته فقط، بل تعدى ذلك حتى وصل إلى قلوبهم، وكانت هذه الجولة بكاملها في صفِّ المؤمنين، وهُزم سفيرا قريش هزيمة منكرة، وذلك في أول تجربة لقريش مع المؤمنين على أرض محايدة.



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة مكة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة مكة - صفحة 2 Empty مكيدة عمرو بن العاص للمسلمين بالحبشة

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:24 am

الباطل لا يمل

لا إله إلا اللهبعد هذه الهزيمة المنكرة التي رأيناها في المقال السابق لم تنتهِ المعركة بعدُ، وكما ذكرنا فإنَّ الحرب بين الحق والباطل حرب أبدية، ومهما كان من أمر فإن عمرو بن العاص لم يستسلم، وقد قرر استئناف الهجوم من جديد؛ وذلك في محاولة منه لسحب البساط من تحت أقدام الوفد الإسلامي، أو على أقل تقدير يحفظ ماء وجهه.



في أول الأمر كان يريد من ملك الحبشة أن يعيدهم إلى مكة، إلا أنه الآن وبعد الهزيمة المُرَّة والضربة القاصمة له كداهية العرب في ذلك الوقت ممن هو في مثل سن أبنائه (عمرو بن العاص كان يبلغ من العمر خمسًا وأربعين سنة، وكان جعفر يبلغ من العمر سبعًا وعشرين سنة)، فكر في جولة انتقامية شرسة تدفع النجاشي إلى قتل المسلمين، ولم يكن هذا الإقدام من المهام التي كان عليه القيام بها من قِبل قريش، ولكن الضربة التي تلقاها جعلته يتصرف بهذه الطريقة المنفردة.


مكيدة عمرو بن العاص للمسلمين أمام النجاشي

قال عمرو بن العاص لعبد الله بن أبي ربيعة، وقد تمكّن الشر منه: "والله لأنبِّئَنه (النجاشي) غدًا عيبهم عنده، ثم أستأصل به خضراءهم".



وهنا يريد عمرو بن العاص أن يدفع النجاشي إلى قتلهم لا أن يردهم إلى مكة، وهذه مرحلة أبعد من الشر، وعمرو هذا هو الذي تحول لما أسلم بعد ذلك إلى قائد مسلم محنك، يحافظ على كل نقطة من دماء المسلمين، ويصل بالإسلام إلى بقاع كثيرة من بقاع الأرض، فالقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.



وقد أرعبت هذه اللهجة من قبل عمرو بن العاص عبد الله بن أبي ربيعة رفيقه في السفارة، وقد ردَّ عليه متخوفًا وملطفًا: "لا تفعلْ؛ فإن لهم أرحامًا وإن كانوا قد خالفونا".



لكن عمرو بن العاص وقد جُرح جرحًا كبيرًا أصر على رأيه، وما صرح به لعبد الله بن أبي ربيعة، وقال: "والله لأخبرنه (النجاشي) أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبدٌ".



وإن مثل هذا الخبر ليعد أمرًا عظيمًا في الحبشة، فقد كان أهل الحبشة يتبعون كنيسة الإسكندرية، وكانوا يعتقدون أن المسيح هو إله تجسد في جسد بشر -تعالى الله عما يصفون- وهو وإن دل على شيء فإنما يعكس دهاء عمرو بن العاص، ومدى اطلاعه؛ إذ كان يعلم رأي المسلمين في عيسى ويعلم رأي أهل الحبشة أيضًا فيه.



وهنا تكمن الخطورة؛ فإن عمرو بن العاص سيخبر النجاشي أن هؤلاء المسلمين يطعنون مباشرة في إلههم. وبالفعل مضى في تنفيذ خطته، فذهب من الغد إلى النجاشي وقال له: "أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيمًا، فأرسِل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه".



لا يستطيع النجاشي أن يتجاهل مثل هذا الأمر، فقد يكون صحيحًا. ومن ناحية أخرى فالأساقفة وكبار رجال الدولة لن يعذروا النجاشي إذا أظهر تعاطفًا مع موقف المسلمين دون تمحيص، ومن ثَمَّ فقد أرسل النجاشي إلى المسلمين يسألهم عن قولهم في عيسى بن مريم .



تقول السيدة أم سلمة -رضي الله عنها- في وصف حال المسلمين هناك في تلك اللحظة: "ولم ينزل بنا مثله".



وهي حقًّا مشكلة خطيرة يتعرض لها الوفد الإسلامي وقد تعصف به، فإن رأيه (الوفد الإسلامي) في عيسى بن مريم يتعارض كلية مع رأي أهل الحبشة فيه، وهم (المهاجرون) ضعفاء زائرون لاجئون، وليس هناك مكان آخر في انتظارهم.



ما كان من المسلمين إلا أن عقدوا مجلسًا سريعًا للشورى، وماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ تشاوروا ثم قالوا: "نقول والله فيه ما قال الله، وما جاء به نبينا، كائنًا في ذلك ما هو كائن".



في عُرف السياسيين كان رد فعل المسلمين عجيبًا، ويعدُّ في نظرهم انتحارًا سياسيًّا، ولكن هناك فرقًا كبيرًا بين السياسي الداعية، وبين السياسي الذي ليس له مرجعية من الشرع، فالمسلم السياسي الداعية له رسالة واضحة، وهي أن يصل بدعوته نقية إلى الناس، والسياسي الذي ليس له مرجعية من الشرع لا تهمه الوسائل، بل إنه يريد أن يصل إلى النتيجة ولو على حساب الشرع، ولو على حساب الأخلاق، ولو على حساب الفضيلة، فالغاية عندهم تبرِّر الوسيلة.



كانت الموازنة سهلة بالنسبة للمسلمين، فالرؤية عندهم واضحة، ولا شيء يقدم على العقيدة، ولا شيء يقدم على الحق والصدق، ولا شيء يقدم على الدعوة الصحيحة، ولم يرد المسلمون أن يتسلقوا على وسائل خادعة أو طرق ملتوية أيًّا كانت النتائج.


قول المسلمين في عيسى بن مريم

وبهذه العقيدة دخل جعفر بن أبي طالب على النجاشي ومن معه من الأساقفة، وبصورة مباشرة سأله النجاشي: "ما تقولون في عيسى بن مريم؟"



وفي ردٍّ موجز وملخص لعقيدة المسلمين في شأن عيسى بن مريم ، رد جعفر بن أبي طالب قائلاً:



"نقول فيه الذي جاء به نبينا نقول: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول (العذراء هي البكر، والبتول هي المرأة التي لا شهوة لها في الرجال)".



ومع كونه ردًّا يرفع كثيرًا من عظم شأن وشرف عيسى بن مريم إلا أنه لا يكاد يُخرج عيسى عن كونه عبدًا لله ورسولاً من الرسل الذين أرسلهم الله إلى الناس، فقد وصف جعفر بن أبي طالب عيسى أولاً أنه عبدٌ لله، ثم أثبت بعدها نبوته؛ وذلك حتى لا يلتبس على الأفهام اعتقاد أنه إله لأنه وُلد بغير أب أو أنه يُحيي الموتى، فقال جعفر في ترتيب جيد: هو عبد الله ورسوله، وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.



ولم ينسَ أيضًا أن يثني على أمِّه السيدة مريم، ويوضح أن عقيدة المسلمين فيها مخالفة لعقيدة اليهود الذين يفترون عليها الافتراءات، ويكيلون إليها الاتهامات البشعة، فلم ينافق جعفر ولم يداهن، وقد ذكر الحق مجردًا، وعرضه بأسلوب لطيف لا إفراط فيه ولا تفريط، لكن الجميع يعلم أن هذا الطرح الذي طرحه جعفر ليس مقبولاً في بلاد الحبشة، تلك التي تعتقد في ألوهية المسيح .



تُرى ماذا كان ردّ فعلهم؟!



في موقف مهيب فاجأنا النجاشي وفاجأ فيه أهل الحبشة، بل وفاجأ عمرو بن العاص وصاحبه، بل ولعله أيضًا فاجأ جعفر نفسه، حين ضرب الأرض بيده، وأخذ منها عودًا (عود رفيع وصغير من النبات يكاد لا يرى) ثم قال: "ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود".



أي أن النجاشي رأى أن الفارق بين كلام جعفر بن أبي طالب في وصف حقيقة المسيح، وبين وصف المسيح نفسه لحقيقته هو فارق ضئيل جدًّا، يكاد لا يذكر، أو يكاد لا يرى، وهذا أيضًا يعني أن النجاشي يعترف بعبودية المسيح ونبوته. وبالطبع لم يلق مثل هذا الكلام قبولاً لدى البطارقة والأساقفة وكبار رجال الدولة، فكان أن تنافرت البطارقة (أي أصدروا أصواتًا عالية تنمُّ عن الغضب والنفور من إسلام النجاشي)، وكان أن صاح النجاشي فيهم وفي حزم قائلاً: وإن نخرتم والله (يعني هذه هي الحقيقة المجردة برغم اعتراضكم)، ثم قام على الفور بإصدار ثلاثة قرارات غاية في الأهمية.


قرارات النجاشي
القرار الأول

استضافة المسلمين بالحبشة في أعلى صورة من صور تكريم الوفود، وهو قرار خطير لأنه -وكما هو واضح- ليس على هوى كبار الأساقفة، وهذا قد يؤدي إلى فتنة داخلية في الحبشة، وإلى قلاقل قد تزعزع مُلْكَ النجاشي نفسه، وقد حدث هذا بالفعل، وقامت عليه ثورة نتيجة هذا القرار، لكن النجاشي -رحمه الله- كان من الشجاعة والعدل بحيث إنه أصدر هذا القرار دون اعتبار لعواقبه الوخيمة على ملكه.


القرار الثاني

قطع العلاقات الدبلوماسية مع مكة، فالبلاد التي تؤذي المؤمنين لا يجب أن يعقد معها الصالحون علاقات، والنجاشي رجل صالح، ومكة بلد تؤذي المؤمنين، فلا معنى إذن لإبقاء العلاقة قائمة بين البلدين، وقد عبر النجاشي عن ذلك بوضوح حيث قال: "ردوا عليهما -على عمرو وصاحبه- هداياهما؛ فلا حاجة لنا به".



وهكذا أغلق النجاشي باب المفاوضات كُلِّيَّة مع المشركين من أهل مكة، حتى إن أم سلمة -رضي الله عنها- نفسها تصف هذا الموقف فتقول: فخرجا (عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة) من عنده مقبوحين مردودًا عليهما ما جاءا به.


القرار الثالث

وهو أخطر من القراريْن السابقيْن، وكان قرارًا سريًّا، لم يجهر به النجاشي لأحد، وهو قرار الإسلام، أخطر قرار في حياة إنسان.



لقد أيقن النجاشي يقينًا دفعه إلى أخذ قرار شجاع بترك النصرانية والتحول عنها إلى الإسلام، تحول عنها وهو على رأس دولة نصرانية لا زالت متمسكة بنصرانيتها، لكنه كان رجلاً عادلاً، وعدله يمنعه من أن يضيع حق الله في أن يعبد ولا يشرك به، وعدله يمنعه من أن يضيع حق المؤمنين في أن يدافع عنهم، وعدله يمنعه من أن يظلم نفسه ويضيع حقها في أن تؤمن بالله وتهتدي إلى الصراط المستقيم، لكن النجاشي لم يعلن إسلامه وآثر أن يظل محتفظًا بإيمانه في صدره، مظهرًا أمام الناس ديانته القديمة، النصرانية.


النجاشي يخفي إسلامه

ولكن لماذا هذا التخفي وهو في هذه المكانة؟! هل جزع النجاشي أو خاف على ملكه أو على نفسه؟! ولماذا أعلن جعفر بن أبي طالب أمر الدعوة دون مواربة ولا مداهنة، بينما أخفى النجاشي أمر إيمانه؟!



وحيال هذا الوضع، فإن الموقفين مختلفان، فقد كان لجعفر بن أبي طالب وظيفة دعوية، وللنجاشي وظيفة أخرى مختلفة عنه، وكان من وظيفة جعفر بن أبي طالب كرئيس للوفد الإسلامي أن يعرِّف الإسلام كما هو؛ حيث كل كلمة من كلماته ستحسب على الإسلام، فلم يكن هناك مجال للتورية أو الإخفاء، حتى وإن فقد جعفر حياته؛ فالموازنة كانت محسوبة، أما النجاشي فلم يكن محسوبًا بعد على الإسلام والمسلمين، فكان الأمر هنا يقاس من وجهة نظر أخرى، هل الأفضل للإسلام والمسلمين أن يظهر النجاشي إسلامه أو أن يخفي إسلامه؟!



وكانت الإجابة أنه لو أظهر النجاشي إسلامه لاقتلعه الشعب النصراني من مكانه، وليست هذه هي المعضلة، إنما المعضلة ماذا يحدث لو تم ذلك؟ والإجابة أيضًا -ولا شك- كان سينتهي دور المكان الآمن الذي يحتفظ بكوكبة المسلمين إلى حين قيام دولة لهم في مكان آخر، أما إن كتم النجاشي إيمانه فإنه سيحتفظ بمكانه غالبًا، وفي هذا ما فيه من توفير أقصى حماية للمؤمنين هناك.



إذن كانت الوظيفة الدعوية لجعفر تقتضي أن يعلن إسلامه بوضوح، في حين كانت تقتضي الوظيفة الدعوية للنجاشي أن يكتم إسلامه بحذر، وكل ميسر لما خلق له.



وما كان من أمر فقد عاش المسلمون فترة طويلة في رعاية النجاشي رحمه الله، وذلك منذ العام الخامس من البعثة منذ بداية الهجرة الأولى إلى الحبشة، وحتى العام السابع من الهجرة النبوية، أي قرابة خمس عشرة سنة، ما قصر فيها النجاشي في حقهم مرة، وقد عبرت عن ذلك أم سلمة -رضي الله عنها- فقالت: "وأقمنا عند النجاشي بخير دارٍ مع خير جار".



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة مكة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة مكة - صفحة 2 Empty قصة إسلام أسد الله حمزة بن عبد المطلب

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:25 am

إسلام أسد الله حمزة

إسلام أسد الله حمزةفي أثناء هجرة الحبشة أو بتعبير أدق: بين الهجرتين الأولى والثانية إلى الحبشة، كان قد حدث في مكة أمر جلل، كان بمنزلة حجر زاوية تَغيّر بعده مسار الدعوة تمامًا، واختلفت بسببه استراتيجية المؤمنين في جهادهم ضد أهل الباطل في مكة المكرمة، زادها الله تكريمًا وتعظيمًا وتشريفًا.



هذا الحدث كان إسلام حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله ، ثم إسلام عمر بن الخطاب بعده بثلاثة أيام، حدث ضخم، كان له رعد وبرق، وصدى مدوٍّ، ووقع مجلجل، فقد أسلما -رضي الله عنهما- في أواخر السنة السادسة من البعثة، وفي شهر ذي الحجة على الأرجح، وكانت قصة إسلامهما غاية في العجب، تظهر فيها بوضوح معاني الآية الكريمة: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56].



لقد أسلم كلا البطلين في أحوال لا يتوقع أحد من المسلمين أن يدخل الإيمان في قلب أيٍّ منهما.



أسلم أولاً حمزة بن عبد المطلب القرشي الهاشمي الشريف، وكان فارس قريش، وكان من أكثر الناس عزة ومنعة، وأقواهم بأسًا وشكيمة.


أبو جهل يتطاول على رسول الله

كعادته خرج حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله إلى الصيد، وفي مكة وفي ذات هذا اليوم مر أبو جهل على رسول الله وهو عند الصفا وحيدًا، فما كان من أبي جهل إلا أن تطاول على رسول الله بلسانه وسبه سبًّا مقذعًا، ورسول الله صامت لا يجيبه أو يرد عليه سبابه {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا} [الفرقان: 63]، لكن أبا جهل لم يزده حلم رسول الله إلا اغترارًا وجهلاً، فما كان منه إلا أن حمل حجرًا وقذف به رأس رسول الله الشريفة، فشجَّه حتى نزف منه الدم -بأبي هو وأمي - بعدها انصرف أبو جهل -لعنه الله- إلى نادي قريش عند الكعبة، مفاخرًا يحكي ما فعل، وما تم بينه وبين رسول الله .


مكر الله وعينه التي لا تنام

كان لعبد الله بن جدعان أَمَة (وكانا كافريْن)، وكانت تلك الأمة قد رأت وسمعت ذلك الذي حدث بين رسول الله وبين أبي جهل لعنه الله، وبعد انتهاء الحدث جاء حمزة عم رسول الله من صيده، وبترتيب إلهي وقفت الجارية تقص ما حدث لحمزة، الجارية كافرة، ومولاها مثلها أيضًا، والذي تحكي له حمزة -أيضًا- كافر، لكن {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدَّثر: 31]. قالت الجارية:



"يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفًا من أبي الحكم بن هشام؟ وجده هاهنا جالسًا فآذاه وسبه، وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه محمد لم يكلمه".



كان حمزة هو الوحيد الذي يدافع عنه من بين أعمامه، لكن أين بقية الأعمام؟ أين أبو لهب؟ إنه من أشد المحاربين له، لا أحد منهم يتذكر أخاه عبد الله والد محمد ، فهل إذا كان حيًّا كان سيحدث مثل هذا الموقف؟! وأين بنو هاشم وبنو عبد مناف؟ وهل يصل الموقف لأن يَضرب أبو جهل أشرف شرفاء بني هاشم وأشرفهم على الإطلاق؟! أوَ يصل الوضع إلى هذا الحد ونحن نشاهده بأعيننا؟!



الظلم الشديد الذي تفاقم ووصل إلى هذه الدرجة كان قد حرك هذه العواطف وتلك المشاعر والأفكار في قلب حمزة وعقله، مشاعر الحب لمحمد ، ولأبيه عبد الله الذي مات وترك محمدًا، وأيضًا مشاعر القبلية الهاشمية الشريفة، وكذلك مشاعر الغيظ والغضب من زعيم بني مخزوم، وأيضًا مشاعر النخوة تجاه نصرة المظلوم.



بعد سماع كلام الجارية تلك لم يجد حمزة نفسه إلا متجهًا نحو فعل غريب، ومدفوعًا وبقوة عجيبة تجاه عمل لم يفكر ولم يخطر ببال أحد أبدًا أن يقدم عليه، بل لم يفكر هو نفسه في أن يفعله، لقد انطلق حمزة -وهو الذي ما زال على دين قومه- إلى أبي جهل، حيث يجلس بين أصحابه وأقرانه وأفراد قبيلته في البيت الحرام، وقد نظر إليه ثم أقبل نحوه لا يقوى أحد على الوقوف أمامه، وأمامه تمامًا كانت نهاية خطواته، ثم ودون أدنى ارتياب أو تفكير رفع قوسه وقد هوى به على رأس أبي جهل في ضربة شديدة مؤلمة، شجت على أثرها رأسه وأسالت الدماء منها، لقد كان قصاصًا عادلاً، ضربة بضربة، ودماء بدماء، لكن فوق ذلك فإن الإهانة كانت غاية في الشدة لأبي جهل؛ حيث كانت هذه الضربة أمام أفراد قبيلته وعشيرته، بينما كان الذي حدث مع رسول الله بعيدًا عن أعين الناس.



لقد كان مثل هذا الرد في عرف الناس كافيًا لأن يُشفي الغليل ويريح الصدر ويسكن القلب، لكن حمزة ما زال ثائرًا، لم يُشف غليله بعدُ، ولم يُرح صدره ولم يسكن قلبه ولا سكنت جوارحه، أراد حمزة أن يكيد لأبي جهل بكل ما يستطيع، أراد أن يلقي في قلبه حسرة تدغدغ جوانبه وتشل أركانه، فكر حمزة، ما أشد ما يغيظ أبا جهل؟ وفي نفسه علم أنه الدين الجديد، إنه الإسلام، وعلى الفور ودون سابق تفكير أو تَرَوٍّ قال حمزة: "أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول؟! فرُد عليَّ ذلك إن استطعت".



انطلقت هذه العبارة من فم حمزة فوقعت كالقذيفة على قلب أبي جهل، لم يستطع بعدها أن يحرك ساكنًا، ألهته عن التفكير في الانتقام، وقد تضاءل حجمه حتى كاد أن يختفي وهو كبير الكافرين، حينها قام رجال من بني مخزوم يريدون أن ينتصروا لأبي جهل، لكنه خيفة منعهم ذلك، بل وهدأ ثائرتهم وقال: "دعوا أبا عمارة؛ فإني والله قد سببت ابن أخيه سبًّا قبيحًا".



لكن، ما الذي حدث من حمزة؟! أبهذه السهولة يدخل في دين الإسلام؟! أبهذه السهولة يقول وفي لحظة واحدة الكلمة التي لطالما رفض أن يقولها سنوات وسنوات؟!



سنوات ست كان يسمع حمزة عن الإسلام، سنوات ست لم تنقل حمزة من حال الكفر إلى حال الإيمان، بينما نقله هذا الحادث غير المقصود في عرف الناس، لقد دخل حمزة دين الإسلام رغمًا عن إرادته، لم يتروَّ في التفكير كعادته، خرجت الكلمة من فمه فما عرف كيف يستردها.


إسلام حمزة وسنن الله

يظن البعض أن حمزة قد أسلم مصادفة، لكن الحقيقة أن إسلامه ليس بالمصادفة، إنما هي سنة من سنن الله ، فالظلم الشديد إذا تفاقم أمره وطال ليله أعقبه نصر من الله ، ولا شك أن إيمان حمزة بن عبد المطلب كان نصرًا للدعوة، وإذا لم يكن هذا الظلم الذي وقع شديدًا ما لفت نظر حمزة، وما استطاع أن يحرك أشياء كثيرة جدًّا ما تحركت منذ سنوات ست، فهو تدبير رب العالمين، فكما يخلق من بين الفرث والدم لبنًا خالصًا سائغًا، يخلق من وسط الظلم عدلاً ونورًا، ومن وسط الاضطهاد والقهر والبطش نصرًا وتمكينًا، ولو كان أبو جهل يعلم أن مثل هذا سيحدث ما فكر ولو مرة واحدة في سب أو ضرب رسول الله ، لكنه تدبير رب العالمين {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].



فهي رسالة إلى كل الدعاة: لا تحبطوا من الظلم الشديد، فلعله الظلم الذي يسبق نصرًا عظيمًا للدعوة، ولعلها أحلك لحظات الليل سوادًا التي يأتي بعدها ضياء الفجر، فحين يتفاقم الظلم ما يلبث أن يولد النصر للإسلام والمسلمين.


صدق النفس وتحقيق الإيمان

الصدق في القولبعد كلمته الكيدية السابقة لأبي جهل، وكرجل صادق مع نفسه ومع مجتمعه، لا يستطيع أن يرجع في كلمته، وفي الوقت ذاته لا يستطيع أن يدخل في دعوة لا يؤمن بها حقًّا، عاد حمزة إلى بيته وهو في صراع حميم مع نفسه، ماذا أفعل؟ ولمن ألجأ؟!



ولأن فطرته سوية وسليمة لجأ إلى الله ، فقد كان العرب في جاهليتهم يؤمنون بالله، وأنه خالق ورازق وقوي وقادر، يؤمنون بذلك كله لكنهم كانوا لا يحكّمونه في أمورهم، ويشركون به بعبادتهم الأصنام يتقربون بها إليه I زُلْفَى، لجأ حمزة إلى الله بما يشبه صلاة الاستخارة قائلاً: "اللهم ما صنعتُ إن كان خيرًا فاجعل تصديقه في قلبي، وإلاَّ فاجعل لي مما وقعت فيه مخرجًا".



ولأن الله يريد به خيرًا هداه لأن يذهب إلى رسول الله خير طبيب ليعرض عليه أمره وما أهمه، وعنده قال حمزة: "يابن أخي، إني قد وقعت في أمر ولا أعرف المخرج منه، وإقامة مثلي على ما لا أدري ما هو، أرشد أم هو غيٌّ شديد؟ فحدثني حديثًا؛ فقد اشتهيت يابن أخي أن تحدثني".



وهنا أقبل عليه رسول الله وحدثه بما كان يحدثه به من قبل، فذكّره رسول الله ما كان يذكّره إياه، ووعظه ما كان يعظه به، وخوفه ما كان منه يخوفه، وبشره ما كان به يبشره، اللغة هي اللغة، والحديث هو الحديث، لكن الوعاء الذي يستقبل الفيض قد اختلف وتغير، وإنها للحظة هداية يختارها الله بحكمة بالغة. سمع حمزة الكلمات التي طالما كان يسمعها كثيرًا، لكن هنا انبسطت أساريره، وانشرح صدره، وآمن من ساعته بصدق، وقال لرسول الله وبيقين صادق من قلبه:



"أشهد أنك الصادق، فأظهر يابن أخي دينك، فوالله ما أحب أن لي ما أظلته السماء وأني على ديني الأول".



وسبحان الله! هكذا وفي لحظة واحدة أصبحت الدنيا كل الدنيا لا تساوي شيئًا في مقابل دينه الجديد الإسلام، ومن بعدها أصبح حمزة أسد الله.



انتقل بعدها حمزة ومن فوره من رجل مغمور في صحراء الجزيرة العربية يعيش فقط لحياته وملذاته، يخرج للصيد ثم يعود للطعام والنوم، إلى رجل قد أصبح كل همه أن يُعبّد الناس لرب العالمين، وأن يدافع عن دين الله وعن رسول الله وأن يُظهر الإسلام ويحمي المستضعفين، ولننظر كيف ترقّى في القدر من كونه سيدًا لمجموعة من الرجال في قرية لا تكاد ترى على الخريطة في فترة من عمر الدنيا لم تتجاوز سنوات معدودات، إلى كونه سيِّدًا للشهداء في الجنة، فقد أصبح حمزة سيدًا لكل الشهداء على مر التاريخ وإلى يوم القيامة، وقد خلد ذكره في الدنيا وخلد ذكره في الآخرة، وبحق لو نريد أن نعرف قيمة الإسلام، فلننظر إلى حمزة قبل الإسلام، ولننظر إليه بعد الإسلام.



فهذا هو الإسلام الذي صنع حمزة، وصنع أيضًا أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا وغيرهم على مر التاريخ. إذا كنا حقًّا نحتاج إلى رجال مثل حمزة فيجب علينا أن نأخذ الإسلام كما أخذه، ويجب أن نعيش الإسلام كما عاشه حمزة ، وعاشه كذلك كل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة مكة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة مكة - صفحة 2 Empty موقف عتبة بن ربيعة مع رسول الله

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:26 am

قريش تستأنف المفاوضات مع الرسول

قريش تستأنف المفاوضات مع الرسولكانت أحداث ضخمة جدًّا قد حدثت في مكة، تغييرات محورية في مسار الدعوة، أسلم حمزة ثم أسلم عمر رضي الله عنهما، تغيرت موازين القوى في مكة تغيرًا ملحوظًا، ولم يكن ذلك يخفى على مشركي قريش وعلى زعمائها، فها هم الأحرار الأشداء وقد باتوا يسلمون، وها هي الدعوة الإسلامية وقد باتت تتسلل إلى داخل بيوتاتهم.



وإزاء تلك الأحداث وتلك التطورات الخطيرة، دعا المشركون إلى اجتماع عاجل على مستوى قادة وزعماء مكة؛ وذلك لمواجهة الأزمة الجديدة، والمشكلة الخطيرة التي باتت تهددهم. وفي هذا الاجتماع تقدم عتبة بن ربيعة زعيم بني أمية وأحد حكماء قريش باقتراح، فعرض يقول:



يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورًا لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟



وكان هذا تنازلاً جِدّ خطير من زعماء قريش، وهو وإن دل على شيء فإنما يفسر الوضع الذي أصبحت فيه مكة بعد إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما، ومع أن هذا العرض كان على غير هوى الكثيرين إلا أنهم وافقوا مضطرين، فقالوا: بلى يا أبا الوليد، قم إليه فكلمه.


قصة عتبة بن ربيعة مع رسول الله

وفي المسجد الحرام حيث كان رسول الله يجلس بمفرده ذهب عتبة، وجلس معه وبدأ حواره، ولأنه كان ذكيًّا فقد بدأ عتبة بن ربيعة الكلام وقد رتبه ونظمه، ونوّع فيه بين الإغراء والتهديد، وبين مخاطبة العقل ومناجاة القلب. ولا غرو فهو كما يقولون كان من الحكماء، ابتدأ عتبة كلامه يرفع من قدر رسول الله بقصد إحراجه نفسيًّا قائلاً:



يابن أخي، إنك منّا حيث قد علمت من السطة -أي المنزلة- في العشيرة والمكان في النسب.



ثم أتبع ذلك بالتلويح بما يعتبره جرائم ضخمة، لا يجب في رأيه أن تأتي من هذا الإنسان رفيع القدر قائلاً: إنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فَرَّقت به جماعتهم، وسفّهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم.



يريد وبمنتهى الوضوح أنك متهم بزعزعة نظام الحكم في مكة، فما لك أنت والدين؟! دع الدين لأهل الدين، كان عليك أن تدعه للكهّان ومن يخدم الأصنام، أنت قد أقدمت على هذا العمل، وقد تسبب عنه لقومك كذا وكذا وكذا، وقد يكون ما أقدمت عليه هذا مجرد خطأ غير مقصود، ومن ثَمَّ -ولمنزلتك عندنا- سنعرض عليك أمورًا فاختر منها ما شئت.



بهذه الطريقة الثعبانية يريد عتبة أن يخبر رسول الله أن هذه الاقتراحات التي سنطرحها عليك ليست مجرد اقتراحات مغرية فقط، بل إن مجرد رفض هذه الاقتراحات معناه توجيه وإثبات التهم الخطيرة عليك، والتي عقابها أنت تعلمه ولن أذكره لك.



حرب نفسية شديدة، وإن كانت مغلفة بابتسامة واحترام كبير، وكان رسول الله يتفهم مثل هذا الأسلوب جيدًا، وكان يعلم أن هذه مساومة على الدين، لكنه كان في غاية الأدب مع عتبة المشرك الكافر، فقال له في سعة صدر وفي رقة قلب مدللاً له ومناديًا إياه بكنيته وبأحب الأسماء إليه:

"قل يا أبا الوليد".



يريد رسول الله أن يستوعب عتبة بن ربيعة، ويريد أن يعطيه فرصة للحديث حتى يعطيه بعد ذلك بدوره فرصة للسماع، قال عتبة يعرض لأمور غاية في الإغراء لأهل الدنيا:


العرض الأول

يابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً.


العرض الثاني

وإن كنت تريد به شرفًا سَوّدناك علينا، حتى لا نقطع أمرًا دونك.


العرض الثالث

وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا.


العرض الرابع

وهو عرض غير مؤدب -لكنه حاول أن يخرجه في صورة مؤدبة- قال: وإن كان هذا الذي يأتيك رِئْيًا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُداوى منه.



وهذا العرض الأخير فيه من التلميح من أن الذي لا يقبل العروض السابقة، فإنه -ولا شك- في عرف قريش مجنون.



وكانت هذه عروض أربعة من ممثل قريش الرسمي في المفاوضات مع رسول الله ، وكان عتبة يقدم هذه العروض وهو يرى أنه يقدم أكبر تنازل قد حدث في تاريخ مكة كلها.



وإن هذا التنازل الكبير لا بد أن يكون في مقابل، وقد كان المقابل هو: السكوت عن الحق، ترك أمر الدعوة، عدم الخوض إلا فيما يرضي الزعماء والأسياد في مكة أو في غير مكة.



وهي -لا شك- عروض لشراء الضمائر والذمم، ولا شك أن من يقبل بمثلها فإن عليه أولاً أن ينحي الضمير جانبًا. ومن هنا فإن التنازلات الضخمة في حياة الدعاة يكون مبدؤها -عادةً- تنازلاً صغيرًا، ولأن الرسول لم يكن ليخفى عليه مثل هذا، فكان لا يمكن أن يتنازل.



كان رسول الله سياسيًّا بارعًا محنكًا، يحاور ويفاوض، لكن وفق ضوابط شرعية قد سنَّها وحددها، فما قبله صلى الله عليه سلم فهو الحد الذي يجب أن يأخذ به الدعاة من بعده، وما رفضه فهو الأمر الذي لا يجب أن يقبل أو يتخطاه أي داعية بعد ذلك.



ومع أن الرسول كان يعلم منذ أول كلمة تفوه بها عتبة أن كل ما سيعرضه عليه ما هو إلا مساومات لا قيمة لها، ومنذ أول حديث له (لعتبة) وهو عازم تمامًا على رفض كل العروض الدنيوية المغرية والسفيهة جدًّا في نظر الدعاة الصادقين، مع كل ذلك إلا أنه -وسبحان الله- لم يقاطع عتبة مرة واحدة، وقد تركه حتى فرغ تمامًا من حديثه، وبعد أن انتهى من حديثه وفي هدوءٍ تام وعدم انفعال قال له : "أقد فرغت يا أبا الوليد؟"



أجابه عتبة: نعم.



وهنا قال له رسول الله : "فاسمعْ مني".



قال عتبة: أفعل.



قصة عتبة بن ربيعة مع رسول اللهوكان هذا هو الذي يريده ، ولم يكن عتبة ليستطيع أن يرفض السماع بعد كل هذا الأدب العظيم من رسول الله ، فكان مضطرًّا لأن يسمع حتى وإن كان على غير مراده، وفي محاولة جادة لتطويع الهدف بدأ رسول الله في الحديث، فلم يتكلم بكلامه هو، إنما تكلم بكلام الله ، تكلم بالقرآن، فقرأ قول الله تعالى:



بسم الله الرحمن الرحيم {حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصِّلت: 1- 7].



كلمات معجزة عجيبة تتنزل عليه كما الصاعقة، تكشف كل ما بداخله، وهو يزداد خوفًا ولا يستطيع القيام.



قرأ رسول الله قول الله I: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصِّلت: 8- 12].



ثم يرتفع التحذير والتهديد فيبلغ أقصاه حين يقرأ رسول الله : {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصِّلت: 13].



وهنا لم يتمالك عتبة نفسه عن عدم السماع، وقد أخذ به الرعب والهلع كل مأخذ، وكاد قلبه ينخلع، وشعر وكأن صاعقة ستنزل عليه في لحظة أو في لحظات، وفي حالة نسي فيها أمر عدائه، ونسي أمر المفاوضات، بل نسي مكانته وهيبته، قام فزعًا وقد وضع يده على فم الرسول وهو يقول: أنشدك الله والرحم، أنشدك الله والرحم.



ومن فوره قام عتبة يجرُّ ثوبه يتبعثر فيه مهرولاً إلى قومه، لا ينظر خلفه، عيناه زائغتان، أنفاسه متقطعة، حتى دخل على زعماء قريش.



لم يكن الأمر يحتاج إلى كثير ذكاء حتى يعرف الجمع ما حدث، لقد كان وجهه ينطق بشيء، حتى لقد قال بعضهم: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به.



وحين جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟!



وبلسان عجيب وفي غاية الصدق، بدأ أبو الوليد عتبة يحكي تجربته، بدأ يتحدث وكأنه أحد الدعاة للإسلام فقال: ورائي أني سمعتُ قولاً والله ما سمعت مثله قَطُّ، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر، ولا بالكهانة. يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكونَنَّ لقوله الذي سمعت منه نبأٌ عظيمٌ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به.



وفي ذهول تام ردوا عليه وقالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه.



فأجابهم برأيه متمسكًا: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.


فشل المفاوضات وانقسام مكة

كان الذي حدث بين عتبة بن ربيعة ورسول الله نهاية الأمر إيذانًا بفشل المفاوضات بين المشركين وبين رسول الله ، كان المشركون يسعون إلى حل سلمي في رأيهم، لكن رسول الله يعلمنا أن الحل السلمي ليس معناه التنازل، بل إن السلام لا يكون إلا بحفظ الحقوق، وأول حق يجب أن يُحفظ هو حق الله ، فلا يجوز لمفاوض ولا معاهد أن يبني عهده وميثاقه على مخالفة لحق الله .



وهكذا فشلت المفاوضات، وتوقع كل المراقبين للأحداث أن تحدث أزمة كبيرة في مكة بعد هذا الانهيار للمباحثات بين الطرفين، وكان أبو طالب عم رسول الله يراقب الموقف، وقد أدرك أن قريشًا لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء ما حدث، فخشي أبو طالب أن يثور زعيم أو سفيه من زعماء أو سفهاء قريش فينطلق إلى رسول الله ويقتله، ففكر فيما يفعل كي يحمي من يحبه أكثر من أولاده، وهو محمد ، وفي هذا الموقف أخذ أبو طالب قرارًا حاسمًا، لقد قام بدعوة بني عبد مناف بشقيها (بني هاشم وبني المطلب، والمطلب هو عم عبد المطلب جد الرسول ) ثم طلب منهم أن يجتمعوا جميعًا لحماية ابنهم محمد ، وأجاب جميع القوم، مسلمهم وكافرهم، حمية وقبلية، وطاعة لكبيرهم أبي طالب.



وبهذه الصورة بات من المؤكد أن مكة أصبحت على أعتاب أزمة خطيرة، وأصبحت المواجهة بين بني عبد مناف وبين بقية قريش حتمية لا مناص منها، وإذا كان أبو طالب يخشى ما قد يقدم عليه زعماء مكة، فكذلك كان زعماء مكة يخشون المسلمين، ولا يدرون ماذا يفعلون، فقد أسلم حمزة ، وقد كان من فرسان قريش الأشداء، وأسلم عمر بن الخطاب، وكان السفير الرسمي لمكة، ومن الخطورة بمكان أن يكون في صف الرسول ، ثم ها هي المفاوضات السلمية بينهم وبين رسول الله قد باءت بالفشل، وزاد الطين بلة أن اتحد بنو عبد مناف مسلمهم وكافرهم كي يحموا الرسول .



ثم هم في الوقت ذاته لا يستطيعون أن يقتلوا الرسول ، ولا يستطيعون حرب بني عبد مناف بكاملها، فماذا يصنعون؟!



ومن جديد عقدوا اجتماعًا طارئًا وعاجلاً، خرجوا منه في نهاية الأمر بقانون جديد، فقد ابتكروا وسيلة جديدة لحرب أهل الإيمان، وقرروا بالإجماع أن ينفذوا هذا القانون.



فيا تُرى ما هذا القانون، الذي اجتمعت عليه عصبة الكفر ضد المسلمين؟ هذا ما سنعرفه في المقال القادم إن شاء الله.



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة مكة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة مكة - صفحة 2 Empty المقاطعة والحصار الاقتصادي في شعب أبي طالب

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:26 am

المقاطعة وسياسة الحصار الاقتصادي

خريطة شعب أبي طالباجتمع كفار مكة اجتماعًا طارئًا وعاجلاً، بعدما رأوا من اجتماع بني عبد مناف للدفاع عن رسول الله ، وخرجوا منه في نهاية الأمر بقانون جديد، فقد ابتكروا وسيلة جديدة لحرب أهل الإيمان، وقرروا بالإجماع أن ينفذوا هذا القانون، كان هذا القانون هو "المقاطعة"، تفعيل سياسة الحصار الاقتصادي لبني عبد مناف، وإعمال سياسة التجويع الجماعي لهم، سواءٌ أكانوا كفارًا أم مسلمين.



واجتمع الكفار يعملون على صياغة القانون الجديد، القانون الذي يخالف كل أعراف وتقاليد وقيم مكة السابقة، ولا يهم أن يتغير الدستور؛ طالما أن ذلك لمصلحتهم الخاصة، وطالما أنه من عند أنفسهم، وفي الوقت ذاته هو في أيديهم، لكننا في شهر ذي الحجة وهو من الأشهر الحرم، أيضًا لا ضير.



لكننا -أيضًا- في مكة البلد الحرام، لا ضير أيضًا، المصالح تتقدم على الأعراف والقوانين، فليس هناك مبدأ يُحترم، ولا قانون يُعظّم، ولا عهد يبجل، فماذا صاغوا في هذا القانون؟!


بنود المقاطعة

أبرموا فيه أنه على أهل مكة بكاملها في علاقتهم مع بني عبد مناف ما يلي:



أن لا يناكحوهم -لا يزوّجونهم- ولا يتزوجون منهم، وأن لا يبايعوهم، لا يبيعون لهم ولا يشترون منهم، وأن لا يجالسوهم، ولا يخالطوهم، ولا يدخلوا بيوتهم، ولا يكلموهم، وأن لا يقبلوا من بني هاشم وبني المطلب صلحًا أبدًا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يُسْلموا رسول الله لهم للقتل.



هكذا في غاية الوضوح: السبيل الوحيد لفك هذا الحصار هو تسليم الرسول حيًّا ليقتله زعماء الكفر بمكة.



وقد صاغوا قانون العقوبات هذا في صحيفة، ثم علقوها في جوف الكعبة، وقد تقاسموا بآلهتهم على الوفاء بها، وبالفعل بدأ تنفيذ هذا الحصار الرهيب في أول ليلة من ليالي المحرم في السنة السابعة من البعثة، وقد دخل بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم إلى شعب أبي طالب وتجمعوا فيه، ومعهم رسول الله ؛ وذلك ليكونوا جميعًا حوله كي يحموه من أهل مكة.


المعاناة والألم.. وصور الباطل تتكرر

ومن حينها تكون قد بدأت مرحلة جديدة من المعاناة والألم، تلك التي عاشها المسلمون في بداية الدعوة الإسلامية، فقد قُطع الطعام بالكلية عن المحاصرين، لا بيع ولا شراء، حتى الطعام الذي كان يدخل مكة من خارجها وكان يذهب بنو هاشم لشرائه، كان القرشيون يزيدون عليهم في السعر حتى لا يستطيعون شراءه، ومن ثَمَّ يشتريه القرشيون دون بني هاشم.



وقد بلغ الجهد بالمحاصرين حتى كان يسمع أصوات النساء والصبيان يصرخون من شدة وألم الجوع، وحتى اضطروا إلى التقوت بأوراق الشجر، بل وإلى أكل الجلود، وقد ظلت هذه العملية وتلك المأساة البشرية طيلة ثلاثة أعوام كاملة، ثلاث سنوات من الظلم والقهر والإبادة الجماعية، وهي وإن كانت صورة جاهلية من اختراع أهل قريش في ذلك الوقت، إلا أنها -وللأسف- تكررت بعد ذلك كثيرًا، وللأسف أيضًا فإنها في كل مرة كانت تتكرر مع المسلمين فقط.


المقاطعة والحصار الاقتصادي بين التاريخ والواقع

فهي وإن كانت قد حدثت في شعب أبي طالب، فقد تكررت بعد ذلك بقرون في العراق وفي ليبيا وفي السودان وفي أفغانستان وفي الصومال وفي إيران وفي لبنان وفي فلسطين، وما حصار غزة منا ببعيد! الكثير من المسلمين يحاصرون في شتى بقاع الأرض كما كان العهد، وكما كان الاتفاق بين أهل الباطل.



ومع هؤلاء المحاصرين فإنا نتفهم حقيقة أن يضحي المؤمنون من بني هاشم وبني المطلب بأنفسهم وبزوجاتهم وأولادهم؛ وذلك لأنهم بصدد قضية غالية جدًّا، إنهم يصمدون ويضحون من أجل العقيدة، لكن الغريب حقًّا هو كيف يصبر الكافرون من بني هاشم وبني المطلب على هذا الحصار؟!



هؤلاء الكفار لا يرجون جنة ولا يخافون نارًا، بل إنهم لا يؤمنون بالبعث أصلاً، ورغم ذلك فقد وقفوا هذه الوقفة الرجولية مع مؤمني بني عبد مناف.



وفي تفسير واضح لهذا العمل الرجولي والبطولي فقد كانت الحمية هي الدافع والمحرك الرئيسي له، حمية الجاهلية، ولكنها في النهاية حمية، حمية الكرامة حين يهان رجل من القبيلة، حمية لصلة الدم والقرابة، حمية العهد الذي كانوا قد قطعوه على أنفسهم قبل رسالة محمد على أن يتعاونوا معًا في حرب غيرهم، حميّة واقعية يدفع فيها الرجل بنفسه وأولاده وهو راضٍ، حمية بالفعل وليست بالخطب والمقالات والشعارات، ويا ليت هذه الحمية تعود، بعد أن ماتت الذمم، وإخواننا يموتون جوعا!!


هشام بن عمرو ومشاعر الفطرة السليمة

مرت الأيام والسنوات عصيبة على المحاصرين، مرت تحمل الآلام والأحزان، حتى جاء شهر المحرم من السنة العاشرة من البعثة، وشاء الله أن تنقضي في هذا الشهر الكريم تلك الصحيفة الظالمة، وأن يُفك الحصار البشع عن بني هاشم وبني عبد المطلب بعد ثلاث سنوات كاملة.



وكانت البداية حين شعر أحد المشركين من بني عامر بن لؤي وهو هشام بن عمرو، وهو ليس من بني هاشم ولا بني المطلب، شعر هذا الرجل بشيء حاك في صدره، وشعر بشيء من الغصة في حلقه، إذ كيف يأكل ويشرب وهؤلاء المحاصرون لا يأكلون ولا يشربون؟! وكيف ينام أطفاله شبعى وينام أطفال هؤلاء عطشى وجوعى؟!



وإزاء هذه المشاعر وتلك الأحاسيس التي تولدت بداخله، ورغم أنه كان كافرًا، فقد بات يحمل الطعام بنفسه سرًّا إلى شعب أبي طالب يقدمه لهم، وعلى هذا الوضع ظل هشام بن عمرو فترة من الزمان، لكنه وجد أن هذا ليس كافيًا، وأنه لا بد من عمل أكبر، ولأنه كان وحيدًا، وقبيلته لم تكن بالحجم الذي يخول لها أن تمده وتناصره، فقد عمد إلى أن يجد لنفسه معينًا -ولو من خارج قبيلته- ليساعده على نقض الصحيفة وإلغاء العهد الذي كان قد قطعه زعماء قريش على أنفسهم بقطيعة بني هاشم وبني عبد المطلب.



وفي نهاية الأمر فقد اهتدى هشام بن عمرو إلى أن يستعين بقبيلة بني مخزوم؛ وذلك لأنها كانت من أكبر القبائل القرشية، كما أنها كانت قد اعتادت أن تعارض قبيلة بني هاشم، وأن تنافسها، فقد رأى أنه إذا قبلت هذه القبيلة بفك الحصار على بني هاشم؛ فإن بقية القبائل -بلا شك- سترضى بفك هذا الحصار أيضًا، وإذا كان هشام بن عمرو قد وجد ضالته في قبيلة بني مخزوم، فإنه لم يجدها بعد فيمن يذهب إليه من بني مخزوم، فمَنْ مِنْ بني مخزوم يَقْوَى على أن يقف مع بني هاشم ضد بني مخزوم، ويعارض بذلك أبا جهل نفسه زعيم القبيلة، الذي كان من أشد المتحمسين لأمر القطيعة؟!



الأمر وإن كانت غاية في الصعوبة، فقد وجد هشام بن عمرو ضالته في زهير بن أبي أمية المخزومي، وذلك لأن أمه (أم زهير) من بني هاشم، وهي عاتكة بنت عبد المطلب بن هاشم، بل إن أم زهير هي أخت أبي طالب نفسه، أي أنها عمة رسول الله ، وبذلك يكون هشام بن عمرو قد لعب على وترين حساسين، هما الدوافع الفطرية من جهة، والدوافع العصبية وروابط الدم من جهة أخرى، مما يكون له كبير الأثر في نفس زهير بن أبي أمية المخزومي.


هشام بن عمرو.. وجهد لا يعرف اليأس ولا الملل

ذهب هشام بن عمرو إلى زهير بن أبي أمية المخزومي، وفي محاولة مخلصة لكسب مشاعره واستمالة عواطفه، واستثارة لنزعة الكرامة عنده قال له:



يا زهير، أرضيت أن تأكل الطعام وتشرب الشراب وأخوالك حيث تعلم؟! ثم بعد ذلك يضرب على وتر الحمية والتحدي لأبي جهل فيقول:



أما إني فأحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام (يعني أبا جهل)، ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم، ما أجابك إليه أبدًا.



وهنا قال زهير: ويحك! ما أصنع وأنا رجل واحد، أما والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها.



وعلى الفور كان أن فاجأَه هشام بن عمرو بأن قال له: قد وجدت رجلاً، فقال زهير: فمن هو؟ قال: أنا.

ولأن الموقف جِدُّ عسير، فقد رد زهير بقوله: أبغنا رجلاً ثالثًا.



لم ييئس هشام بن عمرو، وقد ترك زهيرًا وذهب إلى رجل آخر، ذهب إلى رجل صاحب أخلاق وإن كان كافرًا، ذهب إلى المطعم بن عدي من بني نوفل، وقد ذكّره بأرحام بني المطلب وبني هاشم، ولامه على موافقته للظلم الذي وقع عليهم، وهنا قال له المطعم: ويحك، ماذا أصنع؟! إنما أنا رجل واحد.

قال هشام: قد وجدت ثانيًا.

قال: من هو؟

قال: أنا.

قال المطعم: أبغنا ثالثًا.

وهنا فَاجَأَهُ أيضًا هشام وقال: قد فعلت.

قال: ومن هو؟

قال: زهير بن أبي أمية.

ولأن المهمة -ولا شك- صعبة، قال المطعم: أبغنا رابعًا.



لم يدخل اليأس قلب هشام بن عمرو، ومن فوره ذهب يبحث عن رابع حتى وجده في شخص أبي البختري بن هشام، ذهب إليه هشام وقال له مثل ما قال للمطعم.



فقال أبو البختري: وهل من أحد يعين على هذا؟



قال هشام: نعم، زهير بن أبي أمية، والمطعم بن عدي، وأنا.



وكسابقه رد أبو البختري أيضًا بقوله: أبغنا خامسًا.



إنه في الحقيقة مجهود ضخم يقوم به هشام بن عمرو، وهو ليس بمسلم، وليس من بني هاشم أو بني عبد المطلب، ولكن لشيء كان قد تحرك بداخله، ولمشاعر كانت ما زالت نقية أصيلة.



أسرع هشام بن عمرو من جديد وكله حمية يبحث عن خامس، فذهب إلى زمعة بن الأسود (من بني أسد).



فقال له زمعة: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟



قال: نعم. ثم ذكر له الأربعة السابقين، فوافق زمعة بن الأسود الأسدي.



اجتمع الخمسة رجال، وأخذوا القرار الجريء الذي سيعارضون به أكابر القوم، القرار الذي قد يؤدي إلى انقسام حاد في المجتمع المكي، وقد يؤدي إلى نصرة دين لا يقتنعون به، يفعلون كل ذلك لشيء كان قد تحرك في صدورهم جميعًا، إنه حمية النخوة، النخوة المتمثلة في أن تجد إنسانًا -أي إنسان- مؤمنًا كان أو كافرًا، أن تراه يعذب، أن تراه يظلم، أن تراه يجوع أو يعطش، ثم تقول بملء فيك: لا، إنها النخوة التي زرعت في قلوب أناس ما عرفوا الله ، وهي نفسها (النخوة) التي لم نرها من مسلمين كثيرين، قد رأوا بأعينهم جرائم الحصار والقتل لآلاف وملايين من المسلمين، في العراق والبوسنة وكوسوفا والشيشان وكشمير وفلسطين وغيرها، ثم لم يتحرّك لهم ساكن.



كيف أن هشام بن عمرو الكافر ومن معه من الكفار لم يهدأ لهم بال والمسلمون يعذَّبون؟! وكيف أن الكثير من المسلمين اليوم يأكلون وينامون ويتمتعون، وليس في أذهانهم ما يحدث لإخوانهم وأخواتهم في أماكن كثيرة في العالم؟!



أين النخوة التي تحركت في قلوب الكافرين الخمسة؟!



أين النخوة التي دفعتهم لمعاداة قريش دون مصلحة شخصية محققة؟!



أيأتي على المسلمين زمان نرجو فيه أن تكون أخلاقهم كأخلاق الكافرين؟!



إننا نحتاج إلى وقفة مع النفس!



اجتمع الرجال الخمسة واتفقوا على القيام بنقض الصحيفة، وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم.



ولما كان الصباح ذهبوا إلى المسجد الحرام، ونادى زهير على أهل مكة فاجتمعوا له، فقال: يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى، لا يباع ولا يبتاع منهم؟! والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.



هنا قام له أبو جهل زعيم مكة وزعيم بني مخزوم، قام يرد عليه وكله حماسة وغلظة، فقال: كذبت، والله لا تشق.



فقام زمعة بن الأسود وقال: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها حين كتبت.



ومن بعده قام أبو البختري بن هشام فقال: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها ولا نقرّ به.



ومن بعده أيضًا قام المطعم بن عديّ وقال: صدقتما وكذب من قال غير ذلك (يقصد أبا جهل)، نحن نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها.



وهنا قام الرجل الخامس هشام بن عمرو، الذي جمع كل هؤلاء فقال مثل ما قاله المطعم، وصدّق المطالبين بنقض الصحيفة.



وقد حدث كل هذا في دقائق معدودة، ووجد أبو جهل نفسه محاصرًا بآراء خمسة من الرجال، حينها أدرك أن هذا لم يكن قدرًا ولا مصادفة، فقال: هذا أمر قُضِي بليل.


وكانت معيّة الله

أصبح الموقف متأزمًا، فإذا كان رقم الخمسة رجال كبيرًا، فإن على الناحية الأخرى أبا جهل، وهو زعيم مكة، ومعه كثير جدًّا من زعمائها، ومن هنا فقد لاح في الأفق بوادر أزمة ضخمة في مكة، لكن الله أراد أن تنتهي هذه المعضلة ويفك الحصار، فحدث أمر آخر قد تزامن مع هذه الأحداث، فقد أوحى الله إلى نبيه أن الأرضة (دودة الأرض) قد أكلت الصحيفة، ولم تترك فيها إلا ما كان من اسم الله . وبنبأ الأرضة أخبر رسول الله عمه أبا طالب، فما كان منه (أبي طالب) إلا أن أسرع إلى نادي قريش، وهناك رأى الحوار الذي دار بين الرجال الخمسة وبين أبي جهل، ولما انتهوا من حوارهم تدخل أبو طالب في الحديث وقال:



إن ابن أخي قال كيت وكيت، فإن كان كاذبًا خلينا بينكم وبينه، وإن كان صادقًا رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا.



قال زعماء قريش في المسجد الحرام: قد أنصفت يا أبا طالب.



وذهبوا إلى الصحيفة في جوف الكعبة، فإذا هي تمامًا كما ذكر رسول الله ، أُكلت بكاملها إلا ما كان فيها من اسم الله : "باسمك اللهم"، ظلت آية واضحة.



هنا لم يعدْ أمام زعماء مكة أي خيار، لم يجدوا بدًّا من نقض الصحيفة وإنهاء المقاطعة بعد ثلاث سنوات كاملة كانت قد مرت من الحصار والتجويع.


إسلام هشام بن عمرو

من دأب هشام بن عمرو مع كونه كافرًا، فإن المرء ليتعجب، فلم يضع الله مجهوده سدى، ولم يُذهب عمله هباء، فقد فك الحصار، وأزيلت الصحيفة، وخرج بنو هاشم وبنو المطلب من شعب أبي طالب تغمرهم الفرحة، وما ضاع حق وراءه مطالب.



وقد أسلم بعد ذلك هشام بن عمرو، أسلم بعد فتح مكة، بعد أكثر من عشر سنين من هذا الحدث، وأسلم أيضًا زهير بن أبي أمية، أما بقية الخمسة فقد ماتوا على الكفر.



ولحكمة كان يعلمها فإن الله شاء أن يتأخر هذا الإنقاذ إلى مدة ثلاث سنوات، ولو شاء سبحانه لحدث مثل هذا الاجتماع من الرجال الخمسة أو من غيرهم بعد شهر واحد أو شهرين من بداية الحصار، لكن لا؛ فقد كان هذا التأخير مقصودًا، لقد خرج المؤمنون من هذا الحصار أشد شكيمة وأعمق إيمانًا وأقوى تمسكًا بدينهم وعقيدتهم، لقد وقع الابتلاء والامتحان، ونجح المؤمنون فيه، فإنه لا بد أن يثبت الصادقون صدقهم بالتعرض للبلاء والثبات على الحق، فقد قال الله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ} [الرعد: 17].



لا بد أن يُصهر المؤمنون في نار الابتلاء للتنقية وللتربية وللتزكية؛ للتنقية من الكاذبين والمنافقين، وللتربية على الثبات والتضحية في سبيل الله، وللتزكية لتطهير النفوس من الذنوب والخطايا.



ومن هنا كان هناك الحصار، ومن قبله كانت الهجرة إلى الحبشة، ومن قبله كان الإيذاء والتعذيب، وكل هذه مراحل تربوية غاية في الأهمية، حيث صنعت جيلاً من الصحابة يستطيع أن يواجه الأهوال دون أن تلين له قناة، أو تخور له عزيمة، أو يهتز له قلب أو عقل أو جارحة.. {صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل: 88].



د. راغب السرجاني
Admin
Admin
Admin
Admin

عدد المشاركات : 13407
البلد : هنـا .. في مكـاني
تاريخ التسجيل : 01/07/2010
المود : قصة مكة - صفحة 2 Innocent

http://www.shamsology.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة مكة - صفحة 2 Empty عام الحزن - وفاة أبي طالب بن عبد المطلب

مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء أغسطس 17, 2010 3:27 am

عام الحزن

عام الحزن وفاة حدثت للمسلمين مصيبتان كبيرتان في وقت محدود، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وتوقيت هاتين المصيبتين صعب جدًّا، فالدعوة الآن في فترة من أحرج فتراتها، ولكن تلك هي حكمة الله ، وسنحاول معًا -إن شاء الله- بعد طرح ما حدث في هاتين المصيبتين أن نستنبط طرفًا من حكمة الله في هذا الأمر.



المصيبتان كانتا وفاة عم رسول الله أبي طالب السند الاجتماعي المهم لرسول الله ، ووفاة السيدة الفاضلة العظيمة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها زوجة رسول الله والسند العاطفي والقلبي المهم جدًّا لرسول الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.



اختلف المؤرخون في تحديد أي المصيبتين حدث أولاً، منهم من قال قد تقدم موت أبي طالب لأنه حدث بعد الخروج من الشعب بستة أشهر، أي أنه حدث في رجب من السنة العاشرة، ثم وفاة السيدة خديجة -رضي الله عنها- لأنه اشتهر أنه حدث في رمضان من السنة العاشرة للنبوة. ومنهم من قدم وفاة السيدة خديجة رضي الله عنها وجعل موت أبي طالب في شوال بعد السيدة خديجة بخمسة وثلاثين يومًا في بعض الروايات.



والمسألة فيها تفصيل وبحوث وإن كانت لا تهم كثيرًا؛ لأن المصيبتين حدثتا في وقت قريب جدًّا من بعضها البعض، وكانت آثارهما مشتركة.



والموت مصيبة كما سماه الله في كتابه حيث قال: {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة: 106]. ولكن إن كان الموت بصفة عامة مصيبة فموت السيدة خديجة وأبي طالب كان مصيبة كبيرة جدًّا، وخاصة لقربهما من بعضهما البعض، مما جعل رسول الله -وهو الذي اشتهر بالتفاؤل والتخفيف عن أصحابه- يطلق على هذا العام الذي مات فيه أبو طالب والسيدة خديجة وهو العام العاشر من النبوة، يطلق عليه عام الحزن.


وفاة أبي طالب

مَن كان أكثر من يدافع عن رسول الله ويساعد المسلمين؟ إنه أبو طالب؛ لذا يجب أن يختفي أبو طالب من مسرح الأحداث كي لا يظن أحد أن الدعوة قائمة عليه، وليعلم الجميع أن الدعوة مستمرة؛ لأنها دعوة الله .



أما موت أبي طالب فكان مأساويًّا إلى أبعد درجة، لا لأنه مات فقط، ولا لأنه كان ناصرًا للدعوة حاميًا لرسول الله ، دافعًا لكيد أهل قريش من الكافرين، جامعًا لبني هاشم وبني المطلب حول رسول الله ، مؤيدًا لرسول الله باللسان والسنان، مات كافرًا، مات على غير الحق الذي طالما دافع عنه.



لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي وعنده أبو جهل. رسول الله يعلم الحق بكامله وبكل أبعاده، يعلم أنه سيأتي يوم يحاسب فيه أبو طالب على أعماله، فإن كان مشركًا لم تنفعه أعماله، وإن آمن بدلت سيئاته حسنات، وهو قادم على الموت لا رجعة بعده، وهي إما نار أبدًا، وإما جنة أبدًا، فرسول الله يدخل عليه وقلبه يتفطر ألمًا عليه، أبعد كل هذا الدفاع والكفاح والتعب يخلد في النار؟ كان رسول الله يحب عمه حبًّا جمًّا، وكان يسابق الزمن ليذهب إليه قبل أن يموت يدعوه إلى الإسلام للمرة الأخيرة، ودخل عليه فعلاً قبل أن يموت وتنفس الصعداء لما وجده ما زال حيًّا، ولكن وجد بجواره فرعون هذه الأمة، يزوره في مرضه الأخير، لا للاطمئنان على صحته ولكن للاطمئنان على وفاته كافرًا بإله محمد ، فلو آمن أبو طالب حتى قبل موته بلحظات فإن هذا سيكون ضربة قاصمة للكفر بمكة، وقد تؤمن قبيلة بني هاشم وبني المطلب إما اقتناعًا برأي أبي طالب وإما حمية له؛ ولذلك فأبو جهل يقف على رأس أبي طالب، يبذل مجهودًا ووقتًا وعرقًا من أجل الصد عن سبيل الله.


رسول الله مع عمه قبل الموت

دخل رسول الله على عمه أبي طالب، فقال -كما جاء في صحيح البخاري-: "أَيْ عَمِّ، قُلْ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ". فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، تَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟



يذكره بالتقاليد الموروثة وبديانة الأب، وكم أهلكت التقاليد من البشر، وأبو طالب يقف حائرًا بين الداعيتين، داعية الخير وأعظم الخلق وأبلغ البشر رسول الله ، وداعية الشر فرعون هذه الأمة وإمام الضلال أبي جهل لعنه الله.



فَلَمْ يَزَالاَ يُكَلِّمَانِهِ حَتَّى قَالَ آخِرَ شَيْءٍ كَلَّمَهُمْ بِهِ: عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.



أي عبادة الأصنام، لا حول ولا قوة إلا بالله! غصة شديدة في حلق رسول الله ؛ فهو يرى مدى الجهد والنصب الذي تعرض له أبو طالب من أجله ولحمايته وإعطائه حرية التبليغ.



فَقَالَ النَّبِيُّ : "لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ". فَنَزَلَتْ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113]. لا حول ولا قوة إلا بالله!!



وأصبح أبو طالب من أصحاب الجحيم، خلود ولا موت وأين؟ في الجحيم.



روى البخاري عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ لِلنَّبِيِّ : مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ؟ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ. قَالَ: "هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ (في جزء قليل، فُسِّر في حديث آخر بأن النار تصل إلى كعبيه فقط، ولكن يغلي دماغه من هذه النار، نسأل الله العافية)، وَلَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ".



وطبعًا رسول الله شفع له لا لقرابته ولكن لعمله، بدليل أنه لم يشفع لأبي لهب مثلاً وهو أيضًا عمه.



ونحمد الله I على نعمة الإسلام، وهي نعمة لا يقدرها ولا يشعر بها كثير من الناس الذين يرددون كلمة التوحيد دون فهم.


بعد وفاة أبي طالب

كان موت أبي طالب سببًا في تغير الموقف في مكة تغيرًا كبيرًا، فقد كان لأبي طالب مكانة كبيرة في مكة خاصة وأنه كان على دينهم، فقد تجرأ الكفار على رسول الله تجرُّؤًا غير مسبوق، حتى إن رسول الله قال: "مَا نَالَتْ مِنِّي قُرَيْشٌ شَيْئًا أَكْرَهُهُ حَتَّى مَاتَ أَبُو طَالِبٍ".



فمع أن الرسول قد تعرض قبل ذلك لإيذاء من أهل مكة في حياة أبي طالب إلا أنه اعتبره وكأنه لم يكن، بالقياس لما حدث بعد وفاة أبي طالب.



اعترض سفيه من سفهاء قريش طريق رسول الله فنثر على رأسه التراب، فدخل بيته والتراب على رأسه الشريف، فقامت إليه إحدى بناته، وجعلت تغسل التراب وهي تبكي ورسول الله يقول لها: "لاَ تَبْكِي يَا بُنَيَّةُ، فَإِنَّ اللَّهَ مَانِعٌ أَبَاكَ".



بل حدث ما هو أشد، فكما روى البخاري ومسلم عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ، وَقَدْ نُحِرَتْ جَزُورٌ بِالأَمْسِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى سَلاَ جَزُورِ بَنِي فُلاَنٍ فَيَأْخُذُهُ فَيَضَعُهُ فِي كَتِفَيْ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ (وفي رواية أنه عقبة بن أبي معيط)، فَأَخَذَهُ، فَلَمَّا سَجَدَ النَّبِيُّ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ. قَالَ: فَاسْتَضْحَكُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَمِيلُ عَلَى بَعْضٍ وَأَنَا قَائِمٌ أَنْظُرُ، لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَةٌ طَرَحْتُهُ عَنْ ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ (ولاحظ الحسرة الشديدة في كلام ابن مسعود ، عبد الله بن مسعود ليس له منعة في مكة ولن يبكي عليه أحد، ولو قام يدافع عن رسول الله لقتل، وسيصبح تقدمه مخالفة واضحة؛ لأنهم مأمورون بالتكتم وتجنب إثارة الفتن أو الحرب، ولذلك اجتهد عبد الله بن مسعود في أن لا يتحرك، وسكت رسول الله على ذلك، وسكوته يعني رضاه على تصرف ابن مسعود ) وَالنَّبِيُّ سَاجِدٌ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ حَتَّى انْطَلَقَ إِنْسَانٌ، فَأَخْبَرَ فَاطِمَةَ فَجَاءَتْ وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ، فَطَرَحَتْهُ عَنْهُ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَشْتِمُهُمْ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلاَتَهُ رَفَعَ صَوْتَهُ، ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمْ -وَكَانَ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلاَثًا، وَإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلاَثًا- ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ" ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتَهُ ذَهَبَ عَنْهُمْ الضَّحْكُ، وَخَافُوا دَعْوَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ"، وَذَكَرَ السَّابِعَ وَلَمْ أَحْفَظْهُ. (وفي رواية أخرى أنه عمارة بن الوليد)، فَوَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ، لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ سَمَّى صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ.



ولا يخفى علينا مدى الألم الذي كان يشعر به رسول الله عند هذه الحادثة، فمع كل ما حدث له وللمؤمنين في السنوات العشر السابقة إلا أنه للمرة الأولى يقف ويدعو على قريش، ثم هو يسمي أسماء بذاتها قد تأكد عنده أنهم لا أمل في إيمانهم، فدعا عليهم بالهَلَكَة، ودعوة الأنبياء مقبولة ومجابة، وهذا أمر لا يتكرر في حياة رسول الله كثيرًا، حتى في موقف الطائف رفض رسول الله أن يدعو على أهل الطائف بالهلكة، مع شدة إيذائهم له، ولعلَّ ذلك يرجع إلى أنه لم يدعهم للإسلام إلا لمدة عشرة أيام فقط هي التي قضاها في الطائف بينما ظل يدعو في مكة عشر سنوات، وقد ثَبَتَ هؤلاء الكفار على كفرهم ولم تردعهم الآيات المتتالية، وحتى بعد هذا الدعاء من رسول الله والذي كان بمنزلة إعلان الحرب عليهم، وغلق باب الدعوة لهؤلاء فإنهم لم يرتدعوا وصدق فيهم قول الله : {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء: 60].



د. راغب السرجاني

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

صفحة 2 من اصل 3 الصفحة السابقة  1, 2, 3  الصفحة التالية

الرجوع الى أعلى الصفحة


 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى